"سيدة الوشم" تبدأ بالشهقة الأخيرة لأفروديت

يبدو أن قدر قصص الحب عندنا ألا تكتمل إذا اختلفت ديانة الحبيبين، فمساراتها تكون محددة سلفا بحيث يفترقان كل في اتجاه. الروائي المصري مصطفى البلكي في أحدث رواياته “سيدة الوشم” (القاهرة 2019 _ دار النسيم) يعرض لواحدة من هذه القصص، وعلى غير العادة تُوج الحب بالزواج بين مسلم (ضياء) ومسيحية (أفروديت) وهي صاحبة الوشم أو سيدته، امتلكا شجاعة مواجهة الرافضين وتمسكا بحقهما في العيش معا، لكن قدرهما ألا يلتقيا إلا لقاء عابرين، فماتت الحبيبة في لحظة عشق لتبدأ الرواية.
في الرواية لم يشأ مصطفى البلكي أن يتعرض للواقع الاجتماعي الضاغط على الشخصيات، والرافض لعلاقات الحب بين مختلفي الدين، فهذا لم يكن موضوعه، هو أراد تقديم رواية عن "الحب"، لذا جعل ضياء الفنان يعتنق الحب كـدين واقعي، يجد في أفروديت جنته، لكنه يخرج من جنته مبكرا، فقد ماتت.
الرواية التي تحكي قصة الحب بين طرفيها، وتصور ارتباطهما بالزواج كانتصار على الواقع وقيوده، تدين الواقع فهو رغم هزيمته في مواجهة العاشقين إلا أنه ينشب مخالبه في قلبيهما، فكان انتصارهما قصير الأجل. وكثرت في الرواية مفردات الفقد والقتل والموت. وفي ذلك إدانة أو بحسب قول الروائي "حفر تحت الجلد" من أجل تعرية مجتمع لا يقيم وزنا لقيمة الإنسان، ولا يتعامل مع الآخر من منطق الندية ولا كونه معادلا أو مكملا له.
لا أعلم لماذا التقينا يا ضياء ولا أؤمن بالصدف، هناك من يرتب لنا كل شيء لسبب من الأسباب وليس عبثًا
حوار ذاتي
شخصيتا ضياء وأفروديت (تأمل دلالتي الاسمين) تناوبتا على الحكي، فقد خصص الكاتب لكل منهما أحد جزئي الرواية، لكن البنية السردية عند البلكي لم تكن تبادلا للحوار بين صوتيهما، إذ مثل حديث كل صوت منهما فيضا من الخطاب أحادي الاتجاه، إذ وجه كل منهما حديثه للآخر، مستخدما ضمير المخاطب "أنت" في نوع من المناجاة السردية الحميمة. وهي تختلف - بحسب ما يذهب إليه خيري دومة في كتابه ضمير المخاطب في السرد - عن الحوار بين الصوتين في أن قوة الكلام ومصدره تنتقل من الشخصيات المتحاورة إلى الراوي السارد، وأيضا لأن الكلام يفيض في اتجاه واحد من الراوي المتكلم إلى المخاطب، وفي ذلك تفسير لارتباط "الأنت" باستخدام الفعل المضارع الدال على الحضور، وكذلك ارتباطه بنوع من الشعر الغنائي الذي يعلو فيه صوت المتكلم المغني على صوت المخاطب الحاضر دون قدرة على الرد، كما يفسر أيضا ارتباط هذا الضمير بسلطة المساءلة والاعتراف وغير ذلك من أمور تنبع كلها من قدرته على الفيض في اتجاه واحد دون إمكانية للرد.
وهو ما يعني إيقاف حركة السرد إلى الأمام في الزمن كما يعني قدرا من التركيز على اللحظة. فالضمير "أنت" يضع الراوي في مواجهة نفسه مستحضرا التذكر والتأمل والاعتراف، كما يتعامل مع ما حدث للأنا وكأنه حدث لشخص آخر، فتبدأ الرواية بأفروديت تتبع ضياء في طريقهما إلى قسم الشرطة، يحكي ضياء بحيادية مشيرا إلى ما تواجهه قصة حبهما من حصار، فزوجته أفروديت أم لديها أبناء من زوج راحل، وابنها غير راض عما حدث، يتوجس ضياء من المواجهة المحتملة "فأي أرض ستكونين عليها حينما تجدين ولدك أمامك؟".
يشعر بحاجتها إلى دعمه في تلك اللحظة، يخاطبها متذكرا "اقتربتِ مني، لدرجة الالتصاق"، وكأن هذا الالتصاق جعلها جزءا منه فعرف ما يجول بخاطرها، وما يحدث بداخلها، لذلك يضيف "وسمحتِ لأذنيك أن تلتقطا حفيف الأقدام على البلاط المؤدي للدرج الممدد أمام بوابة قسم الشرطة"، وهناك وجدا الكاهن الذي يريد استعادتها وإنهاء تلك العلاقة، عندئذ يحكي ضياء "شعرتُ بأنك تحتاجين لعيسى، في اللحظة التي انطفأ فيها الأمل بداخلك"
عيسى هو ابنها الذي رسمت صورته، بعد موته، وشما على ذراعها الموشوم أيضا بالصليب، هكذا تجد أفروديت نفسها مصلوبة بين وشمين، أما ابنها الآخر الذي يرجمها فهو نبيل، وقد رشق زجاج شرفتها فيما بعد بحجر أعقبه التهديد "ستموتين يا عاهرة".
هكذا يذبحها ابنها الثاني بنصل لسانه، ويعيد رشقها بالحجارة، فتؤجل منح نفسها لزوجها ضياء حتى تلتئم جراحها، فلما تظن أنها برأت، تبلغ ضياء الذي انتشى قائلا "الليلة سأكون كذكر النحل، يولد من أجل أداء مهمة واحدة، وبعدها يلفظ أنفاسه".
كل فقد هو إطلاق عقال شيء آخر
لكنه نجا بينما هي التي لفظت أنفاسها، ويجد نفسه متهما بقتلها، الطبيب يبرئه، يكشف للضابط عن ضعف قلبها الذي لم يحتمل، فماتت من ممارسة الحب. وبعد ثبوت براءته يتجدد الصراع، هذه المرة على الجثة ومن الأحق بدفنها الزوج المسلم أم ابن الزوجة المسيحي، الاثنان في قسم الشرطة كل منهما يؤكد للضابط أحقيته في الجثمان، القانون في صف الزوج، لكن تليفونا يصل للضابط فيخبرهما: سنتكفل بدفنها إذا لم تتفقا. ويتم إيداع الجثة بثلاجة المستشفى إلى أن يفاجئه الضابط باختفائها، ثم تزوره أماني ابنة أفروديت لتخبره بأنها رشت حارس ثلاجة الموتى ليسمح لها برؤية جثمان الأم، ثم غافلته وسرقتها، وأن نبيلا سيدعها له.
دفتر أفروديت
لم يأخذ ضياء من متعلقات زوجته إلا لوحة زيتية وأيقونة وصورة لها ودفتر مذكراتها، ذلك كل نصيبه من تركتها، وينتهي الجزء الأول بإمساكه للدفتر، أما ما سجلته أفروديت في دفترها فيشكل الجزء الثاني من الرواية، تعترف أنها كانت تكتب وهي مستحضرة ضياء، وكأنها كانت تبوح له وليس لنفسها، تقول "لا أعلم لماذا التقينا يا ضياء ولا أؤمن بالصدف، هناك من يرتب لنا كل شيء لسبب من الأسباب وليس عبثًا"، وحينما تبحث في ذاكرتها عن تفاصيل حياتها، يكون التذكر لأجله، لتحكي له عن حياتها قبله، "حبستُ كل شيء بداخلي، وأنا أعرف أن أشد ما يعانيه المرء حبسه لحلمه، حيث الوقت وعداوته".
ثم تعترف بما يخص علاقتها بزوجها مدحت "أصبح ما بيننا يدور روتين ممل، لم يتغير حتى دخلتَ حياتي، وفي ليلة الاحتفال بميلاد عيسى، ولد بداخلي حبك"، تعود ثانية لذكرى اللقاء وقد استدعته ليعزف في ذكرى ميلاد عيسى، يومها توقفت أمام كلمة العمر، وتأملت ملابسها، وتغير إحساسها بجسدها، فلما مات مدحت لم تشعر بفقده، كانت توقن أنه جعل من جسدها سجنا للحب، وأن ظهور ضياء في حياتها حرره، وينتهي الدفتر بما دونته عن أول نقطة ابتدأ منها سرد ضياء، يوم ذهابهما إلى قسم الشرطة، هكذا يستدير الروائي بالزمن عائدا إلى نقطة مفصلية، لعلها هي التي أوهنت قلب أفروديت فلم يحتمل حبا ظلت تنتظره طوال حياتها، فلما جاء غادرت هي الحياة، بينما ضياء يوصد الباب ليكتب عليه "كل فقد هو إطلاق عقال شيء آخر".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...