قبل الفين وخمسمائة عام تقريبا وردت هذه الجملة بمسرحية من أعظم مسرحيات الشاعر اليوناني سوفوكليس (496 - 405 ق.م.) وهو من أهم التراجيديين اليونان إلى جانب ايسخيلوس ويوربيديس.
وتلخص هذه الجملة تفاصيل شائكة جدا عن الإنسان ، ككائن متشارك غير قابل للانعزال ، وحيث تكون للكلمة أثرها الأقوى من الفعل حيث يأتي هذا الأخير كمخرج نهائي للفكر واللغة هي بيت الفكر. وإذا كانت عزلة فيلوكتيتس الجبرية في تلك الجزيرة النائية هي مناط هذا العمل المسرحي العظيم ، فإننا نرى إذن ذلك التقابل اللازم بين حكمة التشارك ومعضلة العزلة. كما تكشف لنا تلك الحوارية بين أوديسيوس وفلوكتيتس تأثير الأقوال الذي يحرف الأفعال من مسار إلى مسار كموج مضطرم لا هدأة له.
وهذه الحكمة اليونانية القديمة رددها العرب بعدذلك في أشعارهم فلسان الفتى (نصف) ونصف (فؤاده).
ولو تلمسنا في هذه الحكمة معيارا لدائرة تفاعلاتنا البشرية فسنجد أن كل فعل يبدأ قولا ولو كان قولا على مستوى الاستبطان. فالحرب تبدأ بكلمة والسلام يبدأ بكلمة والهدنة كلمة والدين كلمة والآيدولوجيا كلمة ، والقضايا والأحكام كلمات ، ..الخ ثم تليها الأفعال. فحياتنا تدبرها الأقوال وأما الأفعال فهي ليست أكثر من تفعيل تدابير القول.
وإن كان الأمر كذلك فليس الفعل بلا تأسيس قولي سوى عبث أو جنون.
إن البشرية تنفق في القول جل وقتها ، ثم تنفق على الفعل أقل من ذلك بكثير. ولا سبيل أبدا إلى عكس هذه المعادلة إن كان الإنسان يسعى نحو تحقيق غاياته المحددة على نحو وثيق ومأمون.