في عام 1889 نشر شيخوف قصة قصيرة بعنوان الرهان ، أنطون تشيخوف الروائي والقاص الروسي العظيم يتجاور إلى جانب باقي عظماء الأدب الروسي كمكسيم غوركي ، تولستوي ،...
تبدأ القصة في حفل بقصر مصرفي ثري ؛ وأثناء نقاش بين الحاضرين حول أيهما أكثر جدوى ؛ عقوبة الاعدام ، أم السجن المؤبد ، يقرر الصيرفي أن الاعدام أفضل في حين يتخذ محام شاب الموقف المقابل. يراهن المصرفي على أنه سيدفع مليون روبل للمحامي إن استطاع تحمل السجن لخمسة عشر عاما. ليفاجأ بقبول المحامي للرهان.
وبدلا عن أن ينتهي الحفل بدعابة انتهى بوضع تدابير جدية لسجن المحامي لخمسة عشر عاما داخل غرفة خارجية في القصر مع توفير مستلزمات الحياة للمحامي من طعام وشراب وخلافه.
في الأشهر الأولى يتغلغل شعور بالاكتآب في نفس المحامي وليتغلب على ذلك يبدأ في طلب الكتب وتعلم العزف. وخلال سنواته اللاحقة ينهمك المحامي في قراءة الكتب ، علمية وأدبية ، في الوقت الذي يعاني فيه المصرفي من صعوبات مالية متمنيا أن يتراجع المحامي عن الرهان ويخرج من السجن قبل المدة. غير أن المحامي يستمر في حالة شغف مستمر نحو القراءة وهكذا يتجاهل آلام الوحدة ، مما يدفع بالصيرفي إلى اتخاذ قرار بقتل المحامي قبل يوم واحد فقط من انتهاء فترة الرهان... إلا أنه يكتشف أن المحامي وقبل نهاية الفترة ببضع ساعات غادر السجن طوعا..تاركا رسالة بذلك للصيرفي.
وربما تكون قصة تشيخوف واضحة المغزى الذي لا يختلف كثيرا عما قاله أفلاطون حين اعتبر أن غاية الإنسان هو الحب وأن أسمى أنواع الحب هو حب المعرفة... فالمحامي تلقى المعرفة حتى سفه المال ، والصيرفي شرع في القتل بهدف المال.
إن هذا الخطاب المثالي يعطنا لمحة عن تلك النزعة المثالية في الأدب ، والتي بدأت في التلاشي منذ أواسط القرن العشرين ، لتحل الواقعية محلها ، ثم الواقعية السحرية بعد ذلك والتي تعكس تمردا على المادية اللصيقة بالإنسان تلك التي سلبته كل ما هو مثالي. والواقعية السحرية منطقة مشتركة بين الماضي والحاضر ، أرض تبحث عن استقلالها من احتلال الحاضر بكل قسوته ونفعيته دون أن تسقط في الماضي بكلياتها فتوصف بالرجعية والتخلف.
لذلك لم تعد المعرفة اليوم على النحو الذي انتهجه المحامي ؛ النهج الموسوعي ؛ بذي قيمة أمام المعرفة التي يتقزم نطاقها لتمتلك ذاتيتها كحقيقة تجهل ما عداها. لأنها بغير ذلك تفقد اتصالها بالواقع المادي ، الذي لا يعبأ إلا بالمعنى الملموس ، هذا الأخير الذي لا يعترف إلا بالمعرفة المنتجة للثروة. إن محض المعرفة في ذاتها تنهزم الآن ، الثقافة نفسها انهزمت ، خرجت قبل أوان خروجها فخسرت الرهان. فهل تنبأ تشيخوف بذلك؟
ألم يكن امتلاك المحامي للمال عند كسب الرهان ليكون انتصارا للمعرفة ، وافلاس الصيرفي جراء ذلك هزيمة ساحقة للرأسمالية التي لا تحترم أي قيمة للمعرفة المجردة؟ فلماذا لم ينتصر تشيخوف للمعرفة؟ فعلى عكس ما تصوره الكثيرون ، لقد انهزمت المعرفة في ذلك الرهان.... وانتصرت الثروة. وإن كان ذلك ما أتصوره فإن تشيخوف لم يكن مثاليا بل كان في أكثر حالات الواقعية...حيث تنزوي المعرفة مفضلة عزلتها عن الواقع وملقية رايتها في معركتها مع ثقافة الرأسمالية الفجة باستسلام مخز..إن المحامي لم يستفد من معرفته شيئا بعد أن خرج هائما على وجهه بجمجمة ممتلئة وجيوب خالية. ظل المحامي يكتسب - طوال خمسة عشر سنة- معرفة بلا طائل ، لم تعنه حتى على انتاج معرفة جديدة سوى إحساس أجوف بالتفوق على الحياة. وهكذا يسخر تشيخوف من تلك المعرفة ، ويعتبرها مدعاة للبله عندما تفضي للسقوط خارج دائر الواقع وداخل عتمة التأله الزائف. ماذا يقول تشيخوف؟ إنه في الواقع ينكر أسطورة التوراة ، تلك التي اعتمدت على المعرفة كمعيار لتميز المخلوق البشري على الملائكة. لأن ذلك المخلوق لم يكن فاعلا ، لم يكن منتجا ، ولأن الملائكة ما كانت لتستفيد من معرفته شيئا. الملائكة هنا هي تعظيم للفاعلية ، الأداء المجود لاستحقاقات الخلود الفردوسي ورضى الرب. العبادة حيث الملائكة تفعل ولا تسأل.
المحامي تفه كل شيء سوى المعرفة ؛ وبالتالي تفه المعرفة نفسها لأن كل شيء هو موضوع معرفي بما في ذلك الثروة. وهذا مستنقع وهم المثقفين النرجسيين. كان الصيرفي أكثر حيوية من المحامي ؛ إنه ليس فقط متفاعلا مع الحياة بل يبلغ تفاعله حد القدرة على القتل في سبيل أن يبقى حاضرا في حيزها. أما المحامي فهو الذي يجرد الحياة من كل قيمة ، وليس من يجرد الحياة من قيمتها هو من يفيدها بشيء لأنه حينئذ يكون عدميا. لذلك خرج المحامي ، ليؤكد ذلك كله ، ليؤكد هزيمة المعرفة المحضة ذات الجسد الأجوف كالطبل.
تبدأ القصة في حفل بقصر مصرفي ثري ؛ وأثناء نقاش بين الحاضرين حول أيهما أكثر جدوى ؛ عقوبة الاعدام ، أم السجن المؤبد ، يقرر الصيرفي أن الاعدام أفضل في حين يتخذ محام شاب الموقف المقابل. يراهن المصرفي على أنه سيدفع مليون روبل للمحامي إن استطاع تحمل السجن لخمسة عشر عاما. ليفاجأ بقبول المحامي للرهان.
وبدلا عن أن ينتهي الحفل بدعابة انتهى بوضع تدابير جدية لسجن المحامي لخمسة عشر عاما داخل غرفة خارجية في القصر مع توفير مستلزمات الحياة للمحامي من طعام وشراب وخلافه.
في الأشهر الأولى يتغلغل شعور بالاكتآب في نفس المحامي وليتغلب على ذلك يبدأ في طلب الكتب وتعلم العزف. وخلال سنواته اللاحقة ينهمك المحامي في قراءة الكتب ، علمية وأدبية ، في الوقت الذي يعاني فيه المصرفي من صعوبات مالية متمنيا أن يتراجع المحامي عن الرهان ويخرج من السجن قبل المدة. غير أن المحامي يستمر في حالة شغف مستمر نحو القراءة وهكذا يتجاهل آلام الوحدة ، مما يدفع بالصيرفي إلى اتخاذ قرار بقتل المحامي قبل يوم واحد فقط من انتهاء فترة الرهان... إلا أنه يكتشف أن المحامي وقبل نهاية الفترة ببضع ساعات غادر السجن طوعا..تاركا رسالة بذلك للصيرفي.
وربما تكون قصة تشيخوف واضحة المغزى الذي لا يختلف كثيرا عما قاله أفلاطون حين اعتبر أن غاية الإنسان هو الحب وأن أسمى أنواع الحب هو حب المعرفة... فالمحامي تلقى المعرفة حتى سفه المال ، والصيرفي شرع في القتل بهدف المال.
إن هذا الخطاب المثالي يعطنا لمحة عن تلك النزعة المثالية في الأدب ، والتي بدأت في التلاشي منذ أواسط القرن العشرين ، لتحل الواقعية محلها ، ثم الواقعية السحرية بعد ذلك والتي تعكس تمردا على المادية اللصيقة بالإنسان تلك التي سلبته كل ما هو مثالي. والواقعية السحرية منطقة مشتركة بين الماضي والحاضر ، أرض تبحث عن استقلالها من احتلال الحاضر بكل قسوته ونفعيته دون أن تسقط في الماضي بكلياتها فتوصف بالرجعية والتخلف.
لذلك لم تعد المعرفة اليوم على النحو الذي انتهجه المحامي ؛ النهج الموسوعي ؛ بذي قيمة أمام المعرفة التي يتقزم نطاقها لتمتلك ذاتيتها كحقيقة تجهل ما عداها. لأنها بغير ذلك تفقد اتصالها بالواقع المادي ، الذي لا يعبأ إلا بالمعنى الملموس ، هذا الأخير الذي لا يعترف إلا بالمعرفة المنتجة للثروة. إن محض المعرفة في ذاتها تنهزم الآن ، الثقافة نفسها انهزمت ، خرجت قبل أوان خروجها فخسرت الرهان. فهل تنبأ تشيخوف بذلك؟
ألم يكن امتلاك المحامي للمال عند كسب الرهان ليكون انتصارا للمعرفة ، وافلاس الصيرفي جراء ذلك هزيمة ساحقة للرأسمالية التي لا تحترم أي قيمة للمعرفة المجردة؟ فلماذا لم ينتصر تشيخوف للمعرفة؟ فعلى عكس ما تصوره الكثيرون ، لقد انهزمت المعرفة في ذلك الرهان.... وانتصرت الثروة. وإن كان ذلك ما أتصوره فإن تشيخوف لم يكن مثاليا بل كان في أكثر حالات الواقعية...حيث تنزوي المعرفة مفضلة عزلتها عن الواقع وملقية رايتها في معركتها مع ثقافة الرأسمالية الفجة باستسلام مخز..إن المحامي لم يستفد من معرفته شيئا بعد أن خرج هائما على وجهه بجمجمة ممتلئة وجيوب خالية. ظل المحامي يكتسب - طوال خمسة عشر سنة- معرفة بلا طائل ، لم تعنه حتى على انتاج معرفة جديدة سوى إحساس أجوف بالتفوق على الحياة. وهكذا يسخر تشيخوف من تلك المعرفة ، ويعتبرها مدعاة للبله عندما تفضي للسقوط خارج دائر الواقع وداخل عتمة التأله الزائف. ماذا يقول تشيخوف؟ إنه في الواقع ينكر أسطورة التوراة ، تلك التي اعتمدت على المعرفة كمعيار لتميز المخلوق البشري على الملائكة. لأن ذلك المخلوق لم يكن فاعلا ، لم يكن منتجا ، ولأن الملائكة ما كانت لتستفيد من معرفته شيئا. الملائكة هنا هي تعظيم للفاعلية ، الأداء المجود لاستحقاقات الخلود الفردوسي ورضى الرب. العبادة حيث الملائكة تفعل ولا تسأل.
المحامي تفه كل شيء سوى المعرفة ؛ وبالتالي تفه المعرفة نفسها لأن كل شيء هو موضوع معرفي بما في ذلك الثروة. وهذا مستنقع وهم المثقفين النرجسيين. كان الصيرفي أكثر حيوية من المحامي ؛ إنه ليس فقط متفاعلا مع الحياة بل يبلغ تفاعله حد القدرة على القتل في سبيل أن يبقى حاضرا في حيزها. أما المحامي فهو الذي يجرد الحياة من كل قيمة ، وليس من يجرد الحياة من قيمتها هو من يفيدها بشيء لأنه حينئذ يكون عدميا. لذلك خرج المحامي ، ليؤكد ذلك كله ، ليؤكد هزيمة المعرفة المحضة ذات الجسد الأجوف كالطبل.