عبدالعاطي طُلْبَة - التَّعافِي بالمرض على طريقة نيتشه: كيف يكون المرضُ قرينًا للإبداع/العبقرية؟

كأني به معصوب الرأس، تبكي عينُه الغائصة بكاءً مفروضًا، يترنَّح في مِشيَتِه المُخَاتِلَة، ويُملي كتاباته على أحدهم كنهر مندفع أو بحر هائج، متألمًا، خائفًا، يلفه الوجع من جميع أنحائه؛ فيصيح، ويصرخ شاتمًا وهازئًا، ناقدًا وناقضًا، مُلوِّحًا بيمينه؛ كاسرًا كل صنم، قالبًا كل قيمة. قد كان نيتشه يَعْرف نفسَه معرفةً ثاقبةً أكثر من أيِّ إنسان آخر عاش أو مِن المحتمَل أن يَعيش، كما قال فرويد عدة مرات عَنه.

كان يعرف أنه وحيد، وأنه محروم من الحب والصداقة. لم يكن وحيدًا بالمعنى الحرفيِّ، بل كان له رفيق ليس من البشر، ولا من الحيوان، ولا من جملة الكائنات المحسوسة، إنه صديقٌ مجرد، لا يستطيع أن يُحِسَّه أو يلمسَه، وإنَّما يُحِسُّ آثارَه، ويلمس أفاعيلَه في جسمه القوي المُمْتَلِئ في أوَّلِ الحياة، النَّحِيل كالشَّبَح عندما بلغ الأمرُ منتهاه.

إنَّ شِدَّة المرض التي لازَمَتْ نيتشه في كل أطوار حياته كانت هائلةً لا تُطَاق، فقد كان يزروه بادئ الأمر لمامًا، فلم يكن يزعجه إزعاجًا شديدًا حتى استوثق منه ولازمه ملازمةً شديدة، فما لبث نهايةً إلا أن ازدادتْ سيطرتُه عليه حتى تمكَّنَ منه؛ فافترسه وقضى عليه القضاء الأخير.
نيتشه مريضًا: الأطوار المَرَضيَّة التي مرَّ بها نيتشه
إلحاحُ العَمَى:

ورث نيتشه قِصَرَ النَّظَرِ عن أبيه طفلًا، فعانى منه طوالَ حياتِه الأَمَرَّيْنِ، حتى كان الأساس الأول لمعظم الأمراض التي قاسى آلامَها. كانتْ عيناه تتورَّمانِ لأَقَلِّ مَجهودٍ تبذلانِه، أو تبكيان بكاءً شديدًا، وإذا استمرَّ في عمل أصابهما التهابٌ شديدٌ يحرمه من القراءة الأشهر الطوال، حتى اضطر وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره أن يلجأ لمن يقرأ له أو يكتب تحت إملائه، وانتهى به الأمر كذلك حتى أصبح لا يستطيع البقاء في النور مدة طويلة.

الدوسنتريا وآلام أخرى!

يزورُ المرضُ نيتشه مرةً أخرى عندما كان يؤدي الخدمة العسكرية، فيقع من على فَرَسِه؛ فيُصاب في صدره وجنبه الأيسَر، مما يضطره إلى مغادرة الخدمة العسكرية، ولمَّا يقضِ فيها خمسةَ أشهر. ثم يشترك في حرب السبعين متطوِّعًا؛ لا جنديًّا، ولكن مُمَرِّضًا، فيُصَاب هذه المرة بالدوسنتريا، وكان هذا أول مرض خطير في حياته من بين أمراضه هو الخاصَّة، لا تلك التي ورثها عن أبيه وأجداده.

اضطربت صحتُه اضطرابًا عنيفًا، فكان يأتيه المرض أشكالًا وأنواعًا؛ مرةً في صورة أوجاع في رأسه وصداعٍ يصحبه إبراقٌ في عينيه، ومرةً يأتيه في صورة إغماء يُفْقِدُ صاحبَه الشعور لمدة غير قصيرة. ثم بلغ المرضُ أوجَه بعد ذلك درجةَ أن كان نيتشه ينتظر فيه نهايتَه، ويصيح في نفسه قائلا: “ألا فَلْتُخَفِّفْ من عناء مصيرِكَ بأن تموت“.

كان نيتشه ينتظر نهايتَه إذن ويشعر أنَّ وجودَه قد جاوز حدَّه، وفجأة.. إذا بانقلاب ضخم يناقض الحالة السابقة تمام المُناقَضة؛ فيه يشعر بأنَّ وجودَه فيَّاضٌ ممتلئ، وأن مزاجَه في درجة عالية مرتفعة. نعم، كان المرضُ يزوره أحيانًا في هذه الفترة، ولكن كان أخف وطأةً عليه، وأكثر شفقةً عليه ورحمةً به.

وسمَّى نيتشه أحواله الروحية التي أنتج فيها أسمى ما كتب (الفجر- العِلْم المَرِح- هكذا تكلَّمَ زرادشت) في هذه الفترة إلهامًا ووحيًا. يخبرنا نيتشه عن هذا الوحي فيقول: “إنَّ عبارة الوحي بما تعنيه من أن شيئًا يغدو فجأةً مرئيًّا ومسموعًا بدقةٍ ووثوقٍ يستعصيان على الوصف؛ شيءٌ يهزنا ويرجنا في الأعماق، لهو التعبير البسيط عن واقع الأمر. يسمع المرء، ولا يبحث. يَتَسَلَّم، ولا يسأل من هو المانح”!

وفي هذه الأحوال السامية، كان نيتشه مشحونًا بالمرض؛ لأنَّ شدة الوجدان وقوته غير طبيعية، وكانت مضغوطةً فيه بشكلٍ يُهدِّد بالانفجار السريع.

بركان الجنون

خفَّتْ شِدَّةُ الوحي تلك التي أشرنا إليها، وفي هذه الأثناء، بدأ نيتشه يشعر أنَّ تلك المشكلات التي تؤرِّقه تحاصره آناء الليل وأطراف النهار، بل وتعذبه كذلك. إنه يشعر أخيرًا بذاته شعورًا مفرطًا، بل نراه يعتد بنفسه اعتدادًا كبيرًا درجةَ أن أصبح يعتقد أنه قادرٌ على التأثير في العالَم كلِّه تأثيرًا حاسمًا، وحسب نفسه في النهاية أنه الإله ديونيزوس، وتحدَّث عن نفسه أنه أكبر فيلسوف، وأنَّ فلسفته تقسم تاريخ الإنسانية قسمين!

وفي هذه المرحلة من حياته، كانت الأفكارُ تتدافع في ذهنه تدافعًا عجيبًا، وتغلي غليانًا مرعبًا، وأصبحتْ لهجته لهجة مناظر عنيف، يحمل على خصومه حملات قاسية شعواء، بل كان يكتب بسرعة عجيبة أيضًا؛ فلا تأخذ الكتب الأخيرة (قضية فاغنر- نقيض المسيح) من وقته إلا جزءً قصيرًا. لم يبق نيتشه كثيرًا في هذه الحالة الشعورية التي لازمته آخر حياته حتى انفجر بركانُ جنونه وأصابه اختلالٌ عقليٌّ تامّ، وغاب عن وعيه بالكليَّة!

عندما يكون المرضُ لازمًا

حيث يكون السُّمُوُّ العقليُّ كبيرًا، يكون الألمُ كبيرًا أيضًا.

-جوته

يرى جوته أنَّ المرضَ والضعف الجسمانيَّ لازمان عند العباقرة حتى يشعروا بالوجدانات النادرة، ويقدروا على سماع الأصوات السماوية. فإذا رأيتَ كائنًا من الكائنات قد امتاز امتيازًا خاصًّا؛ فابحث سريعًا عن الناحية التي منها يتألم بحثَ الفاحصِ الدقيق؛ فعن طريق الضعف الجسماني، يستطيع العبقريُّ أن يحوز ما لا يمكن أن يحوزه وهو في حالة القوة الجسمانية.

يخبرنا نيتشه أنَّ مُؤَلَّفَه (الفجر) كان واضحًا هذا الوضوح التَّامِّ مع هذا التَّوَهُّجِ الفكريّ، لا بسبب الحالة القصوى للضعف الجسدي فحسب، بل وكذلك مع أقصى درجات الألم.

يقول: “وفي خضمِّ محنة العذابات التي سبَّبَتْها لي ثلاثةُ أيام من الصداع الحادِّ المرفق بغثيان متواصل مُجْهِد، كنتُ أتمتَّع بوضوحٍ جدليٍّ خالص، وأفكر ببرودة في أمور ما كنتُ في حالة العافية لأمتلك لها ما يكفي من البرودة والرهافة والقدرة على تَسَلُّقِ الأعالي”.

بل إنه يرى أنَّ كلَّ الخصال التي تُميَّزه كنيتشه، مثل إجادة فن اللمس والفهم بشكلٍ عام، وذلك الحِسِّ المُرْهَف للفوارق الدقيقة، وتلك الخبرة النفسيَّة بفن المُدَاوَرَة، هي مما تعلَّمه أثناء حالاته المرضية، بل هي الهبة الحقيقيَّة لتلك الفترة الزمنية التي غدا فيها كلُّ شيء أكثر رهافة: المعاينة وكذلك أعضاء المُعايَنة. والفنان من وجهة نظره لا يمكن أن يكون فنانًا إلا في الحالات الشاذَّة وثيقة الصلة بالظواهر المرضيَّة.

ويُعَلِّلُ نيتشه كونَ الإنسان هو الأكثر مرضًا وتغيُّرًا وهزالًا من بين الكائنات درجة أن يكون في جوهره الحيوانَ المريض، لأنه أكثر جرأةً وتجديدًا ووقاحةً من بين الكائنات؛ فهو كثير القيام بالتجارب على نفسه، ولا يرضى بشيء، ولا يُشْبِعُ نَهَمَهُ شيء، وهو دائم الكفاح من أجل السيطرة النهائية التَّامَّة، ضد الحيوان والطبيعة الإلهية، وهو المستقبل الخالد.

إنَّ المرضَ قد طبع فكر نيتشه بطابعٍ جديدٍ، ما كان يُتاح له لولاه؛ إذ جعله ينظر إلى الأشياء في برودٍ هائل؛ فيُشَرِّحُها في قسوة، وينقدها دون رحمة أو إشفاق. فالمرض هو الذي جعل منه عالِمًا بأخفى خفايا النفس الإنسانية، وبأدق ما تحتويه من انفعالات ورغبات، وما يُسَيِّرُها من دوافع وغرائز.

والآن، فلنتركِ المجال لنيتشه، يشرح لنا كيف أنَّه أخذ عن حالة المرض/الضعف/الوهن ما لم يأخذه عن حالة القوة/الصحة/ الشدة، وأنه على المرء أن يَخبر الأشياء، ليس في حالة القوة فقط، وإنما في حالة الضعف كذلك.

يقول:

في حالة المرض يغدو الإنسانُ عاجزًا عن التَّخَلُّص من أيِّ شيء، عاجزًا عن الحسم في أي شيء، وعاجزًا عن ردِّ أيِّ شيء، كل شيء يُصْبِحُ جارِحًا. تتقاربُ الأشياء مع الإنسانِ بصفةٍ وَقِحَةٍ مزعجةٍ حدَّ التَّلاصُق؛ الأحداث تصيب في العمق، والذكرى تغدو جرحًا مُتَقَيِّحًا.

ولكن، ليس المرضُ مطلبًا لذاته، بل هو في حقيقته ليس إلا محاولة ثقيلة للوصول إلى الصِّحَّة؛ فالمرض في نظر نيتشه له شاطئان: شاطئ الألم المُظْلِم، والآخر شاطئ الشِّفاء الباهر النور. وهذه الصحة الجديدة المكتسبة بعد الألم أسمى بكثير من الصِّحة السابقة عليه؛ ففي المرض كسب جديد، وزيادة في الروحيَّة، وسموّ في العقل، لا يستطيع أن يحصل عليها إلا من مرَّ بالمرض.
أن تكون معافى في الجوهر

امنعوا المرض الذي يجعل صاحب الصحة مريضًا.

-نيتشه

يرى نيتشه أنَّه كان معافى في كُلّيته رغم تدهوره من جهة أجزائه وتفاصيله. كان يدرك إدراكًا تامًا تدهور حالته الصحية، ولكنه في نفس الوقت كان يعرف علاجه المناسب دومًا في مواجهة حالاته الصحية السيئة.
يقول نيتشه:

بقطع النظر عن كوني متدهورًا، أنا أيضا نقيض المُنْحَطّ.. إن تلك الطاقة التي سمحت لي بالانعزال والتَّخَلُّص من كل شروط الحياة المعتادة، وتلك الصرامة مع النفس التي جعلتني أرفض أن أكون مكفولًا ومخدومًا ومُطَبَّبًا.. لقد أخذتُ مصيري بيدي، وعالجتُ نفسي بنفسي؛ الشرط الأساسي في ذلك: أن يكون المرء معافًى في جوهره.

ولكن، كيف يكون المرء معافى في جوهره؟

ينبغي على المرء أن يتعافى من المفاهيم المدمرة، تلك المفاهيم التي لا تنتمي إلى واقعنا الذي نعيشه، تلك المفاهيم التي ظل العقل البشري يثمنها ويُعْلِي من شأنها على شاكلة (الله)، (الفضيلة)، (الما وراء)، (الحقيقة)، (الروح)، كل هذه الخيالات والأوهام التي سيطرتْ على العقل الإنساني على مدى دهور علينا التخلص منها، والانتقال منها إلى العالم الواقعي الذي نحياه. يرى نيتشه أن الأشياء الصغيرة، مثل الغذاء والأمكنة والمناخ والاستحمام، مما يعده كثيرون من الأشياء الصغيرة التافهة، لهي أثمن من تلك الأوهام التي يُثَمِّنُها العقلُ البشري؛ لأنها تنتمي إلى واقعنا الذي نعيشه ونحياه.
ينعي نيتشه الحال الذي وصلت إليه البشرية؛ فيقول:

هكذا تم تزوير كل مسائل السياسة والنظام الاجتماعي والتربية من الأساس، بحيث تم تكريس أشد الناس ضررًا كعظماء [رجال الدين]، وتعلَّم الناس إبداء الاحتقار تجاه الأشياء الصغيرة.. الشؤون الجوهرية للحياة.

على الإنسان إذن حتى يكون معافى في جوهره، أن يتخلَّى عن تلك المفاهيم، وأن يمارس حياته بشكلٍ واقعي، وأن يحاول فهم ما يحياه دون النزوع إلى أوهام الماورائيات التي تجعل الإنسان يعيش حالةً من الوهم، وحالةً من عدم الفهم، وغيابًا عن الحياة التي ينبغي أن يحياها أصلًا.

وبجانب هذه المفاهيم، عليه أن يبتعد عن أخلاق نكران الذات؛ أخلاق العبيد والمُنْحَطِّين، هذه الأخلاق التي ما زالتْ تُلَقَّنُ حتى الآن تحت عنوان: (عليكم أن تهلكوا جميعًا)! على الإنسان أن يتخلى عن تلك الأخلاق النازلة التي تميل به إلى كل ما هو دنيّ، تلك الأخلاق التي تُسَوِّي الأعلى بالأدنى، وتُحَقِّر الحياة، والجنس، والجسم، والعقل، وكلَّ شيء ينتمي إلى الواقع الإنساني من أجل الروح. إنها أخلاق تدعونا إلى ازدراء هذه الدنيا بأسرها من أجل عالَمٍ وَهميٍّ آخر. إنه بالتخلي عن هذه الأخلاق المنحطة، يستطيع الإنسان أن يصبح معافى في جوهره.
نرشح لك: فيلسوف الشر الذي صنع قيمة للوجود.. كيف أثر نيتشه في العامة؟

المصادر:
1- هذا هو الإنسان، فريدريش نيتشه، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الثانية، 2006.
2- نقيض المسيح، فريدريش نيتشه، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، 2010.
3- خلاصة الفكر الأوروبي- سلسلة الفلاسفة- نيتشه، عبد الرحمن بدوي، الطبعة الخامسة، 1975، وكالة المطبوعات- 27 شارع فهد السالم- الكويت.
4- الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الإنجليزية فؤاد كامل- جلال العشري- عبد الرشيد الصادق، راجعها: زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلو المصرية، 1963.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...