أدب السجون حامد فاضل - نقرة السلمان مرآة رمل مقعرة

مرأى من كتاب مرائي الصحراء المسفوحة
صحراء السماوة ، سجادة مسفوحة بلا إطار ،منسوجة من الرمل ، والحصى ، والحجارة ، والزواحف ، مفروشة في خيمة الله ألتي لا يعتلي أسكفتها إلا جناح براق ، ولا تكشف أسرارها إلا أنفاسُ روح ٍ مقدسة . هناك في ألأعالي السامية ، النائية ، بؤرة ألإيحاء ، ومكمن الغيب ، ومؤل ألأرواح ، وسر الوجود ، يكمن لغز نقرة السلمان ، سرة صحراء العراق الجنوبية ، مرآة الرمل المقعرة ، ألتي تعكس وجه السماء ، وهي تتمرأى على أديم النقرة الكائنة بين السعودية جنوبا ، والسماوة شمالا ، وبصية شرقا ، والنجف غربا .. في صباح صحراوي ، يطل عليّ بثوب رملي موشىً بالندى ، أرى وجه الله يطلع من الأفق الفاصل بين الزرقة ، والغبرة ، أحسه في قشعريرة الخشوع التي تدب في أوصالي ، في فيض النور الذي يغمر الآماد المفتوحة .. في الصحراء أنى يرعى بصر الرائي ، فليس ثمة إلا وجه العابد ، والمعبود ، عينا المخلوق الناظرة إلى جمال الخالق ، إحساس الكائنات الصحراوية بيده الكريمة وهي تجس مسامات الرمل ، وبروحه العظيمة وهي تنفخ الروح في الواحات ، فتنهض الكائنات الحية من التي لاتُرى بالعين ، والتي يملأ العين منظرها ، تسّبح باسم ألإله الذي يبارك الصحراء.. كم هي رحيمة وعطوفة تلك السماء ، إذ تنحني فوق تلك الأرضين الممتدة من أذيال ثوب السماوة حتى زنار النفود الفاصل بين الأراضي النجدية ، والعراقية . تأخذها بين ذراعيها ، تَلُمُ قصائب آمادها السارحات ، تلفعها بشال سماوي ، وتطبع على خد أفقها قبلة الخصب ، والنماء .. في الربيع ، تطلع العشائر المحيطة بالسماوة إلى باديتها ، تأتي من كل قرية ، وريف بعيد ، سائقة حلالها من ألإبل ، والأغنام ، والماعز. الهوادج محمولة على الأباعر ، الخيام والمؤن على الحمير المتبوعة بالكلاب التي تشم الأرض ، وتتفرس في الوجوه ، وربما أدرك الصباح ديكاً ظل جاثياً طوال الليل على ظهر بعير أو حمار، فأطلق العنان لصوته ، لتجاوبه الديكة الداجنة في بيوت السلمان .. قوافل الإبل القاصدة إلى البر تترى ، تمر بنقرة السلمان ، تطبع صورها على مرايا الرمال ، وتترك آثارها فوق الدروب .. تلك ثلة من الأطفال ، دشاديش مقلمة ، وضفائر رفيعة ، تهرع كصغار القطا نحو وشم الخفوف ، تجثو بقربها ، تفرد أصابع أكفها الصغيرة ، الخنصر الأيمن يلامس الرمل ، الاِبهام الأيسر يقّبل ألإبهام الأيمن ، الفم يطبق على أنملة الخنصر الأيسر، ويمصه ، فيتسرب إلى الصغار ألإِحساس بطعم حليب النياق . وفي البر الواسع ، المفتوح ، المفروش بسجاجيد الربيع ، تلوح للعين قطعان ألأنعام السارحة ، وهي ترعى في حضن (( الفيضات1 )) ، وتقتات من خير البادية ، حيث تكثرالحشائش ، والأعشاب ، كالكبة /النميص / الصمعة / الشعيرة / الحنيطة / الزريع / الكرط / البختري / الجريد / الخباز / لسان الجمل / الربلة / البابونك / الزباد / وتُرى مجاميع (( المكهور2 )) المبثوثة قرب الذلول ، وبيوت الشَعرِ، فيأنس الساري بالليل الى نارالمواقد ،التي تضّمخ أجنحة النسيم برائحة القهوة الفائحة من أفواه الدلات ، ويأنس الضارب بالنهار إلــــــى
رائحة الخبز وفيء الخيام .. هناك في الأفق البعيد ، هناك ، تحت السماء الزرقاء ، ، خيمة الله العالية ، المرفوعة بلا أعمدة ، المشدودة إلى الآفاق بلا أوتاد ، المنصوبة فوق الصحراء ، الصفراء ، الخضراء ، الحمراء ، مرآة الرمل الممتدة ، التي سفحتها يد الخالق في لحظة خلق .. على تلك الأرضين ، هناك ، تطلع الصحراء في غرة النهار بحلة باهرة خاطتها يد الطبيعة الساحرة ، لتخلعها على نقرة السلمان .. في لحظة إنبهار البصر، أقف متسربلاً بثوب الدهشة ، وأنا أتملى جسد نقرة السلمان . حتى إذا ما إنفتحت البصيرة ، وتخّلقت الفكرة ، تسنى للمخيال أن يصفها لا كما وصفها الحموي في معجمه :( منخفض مستدير ، محاط بسلسلة من الهضاب ، يوجد فيها ما يقارب (( 300 )) بئر بعمق (( 5 -ـ 6 )) أمتار ، ماؤها مج ، مالح .) كيف أصفها ؟ وقد خرجت بزينتها / تجلت في يوم صاف / رائق / شفاف /سابحة في فيض الضوء / أتأمل خصرها المزنر بزنار التلال الحمر / أتملى قلادة الآبارفي جيدها / وشم زغب العشب في بطنها / صبغة شفاه الطل إذ يقّبل رمالها / أتذوق طعم الكمأ من راحتيها / أدخل بأمان في مضاربها / أنغمس ببساطة أهلها / أُطعم في مضايفها / أسمر مع الدلال في مواقدها / أرتشف القهوة من شفاه فناجينها / أغذي الذاكرة بحكاياتها / أترع المخيلة بالخوف / الجن / السحر/ الذئاب / الأشباح / أية حال من الجزع / ألإشمئزاز / الغضب / الحقد / الثورة / تنتاب ألإنسان وهو يستمع إلى حكايات أهلها عن سجنها الرهيب ، الجاثمة آثاره كقبر خرافي في الصحراء .. تلك الحكايات العصية على التصديق لفرط غرائبيتها .. عين السماء لا ترى نقرة السلمان كما رأتها عين ياقوت ، وعيناي كذلك ، في الليل أهتدي بالنجم ، أتبع آثار أدلاء السماء ،وأنا أسري بليل لا يشبه ليل المدن المخنوق بالدخان / الضاج بالصخب / المملوء بالأكاذيب / المترع بالخمر ، والميسر ، والبغاء / المسكون باللغو / الهامس بالدسائس / المفتون بالأقنعة .. هذا ليلٌ آخر/ ليلُ النجوم المعلقة كالمصابيح / مطارح الرمال الناعمة كالفراء / ليل الصمت البليغ / الهمس الدافيء / النسيم البارد / ليل الفطرة والبراءة / ليل النداء البعيد / ليل الأبار / الآثار / الكارات3 / الظهرات4 / الكهوف / الأخاديد / الكثبان /الحصى / الحجارة / ليل الحداء / القصيد / الحكايات /المواقد / الدلال / الفناجين / القهوة / الشاي / أكياس التبغ / اللفائف / ليل بيوت الشَعرِ السود الذائبة في الحلكة / ليل الجن الأحراربلا قماقم / ليل كائنات الليل / الأكل منها والمأكول / ليل الذئاب / الضباع / الثعالب / الضباء / الأرانب / الضب / الأرول / الأفعى / الكلاب التي تنبح حتى الفجر / ليل الأنعام التي تجتر طعام النهار / هذا ليل الصحراء .. وفي ليل الصحراء ، ترسل السماء مكتشفيها ، أدلائها ، من غابة النجوم ، قمر صحراوي ينزل حين يكتمل . يجوس خلل عباءة ليل نقرة السلمان ، يفترش الرمل الناعم المبترد بنسيم الشمال . بنور شفيف ، يمزق لثام البيوت ، يتلصص على طقوس ليل النقرة ويفضح أسرارها لعيون النجوم ، يسترق السمع / للنأمة / الهمهمة / التأوه / التنهد / الدبيب / الهسيس / الوشيش / الحفيف / الزحف / العض / ألإلتهام .. يعقبه غبش يستغشي بغلالة شاحبة ، يتعثر فوق الهضاب ، فتضحك منه نجمة الصباح المستلقية على محفة الأفق ، مستهلة فجر يوم صحراوي جديد .. شمس شقراء / تستيقظ / تتمطى / تحل جدائلها الشقر / تطل من وراء خباء المشرق بوجه كرغيف خبز محمص / تضعن محمولة على هودج النهار فوق سنام التل الأحمر من مشرق نقرة السلمان الى مغربها حيث تصبغ وجنة الغسق الخجول بحمرة شفيفة ، قبل أن تنزل من هودجها المحمول فوق ظهور الهضاب ، تاركةً المساء يتقدم وئيدا ، ليلقي بعباءته المطرزة بالنجوم على بيوت نقرة السلمان ، وقلعتها ، وآبارها ، ورمالها ، وحجارتها ، وآثار سجنها الموحشة ، التي تظل تزفر طوال الليل آهات السجناء الذين رحلوا ، وأنينهم ، وحشرجة أحلامهم المنخنقة ، في زمن عنكبوتي ضب شباكه ، وطوى أشرعة أحلامه ، وولى .
******
في مضيف بيت من بيوت نقرة السلمان ، أُجالس آخر حكاء من سلالة حكائي الصحراء المهددة بالانقراض ، شيخ وقور ، جبين واسع مغضن كدرب صحراوي ، عينان أتعبتهما سنوات طوال من النظر في الآفاق ألامحدودة ، فاستظلتا بخيمتين خالط البياض سواد شعرهما ،نرتشف القهوة التي قدمها لنا رجل فتي ، ثم إنسحب ليرتكن قرب الموقد مراقباً الدلال التي تلحس جلدها ألسنة النار .. عيناي مشدودتان بخيط من النور إلى فم الحكاء المختبيء بين دغل لحيته ، وعشب شاربه ، أجفل إذ تدخل علينا معزى ، أضلت باب الحوش ، للحظات ، ظلت تتفرس في وجوهي ، ربما بحثاً عن سمات البداوة ، خيبت ملامحي ظنها ، فاحتجت نافضة التراب عن شعرها الأسود الكثيف ، ثم هرعت نحو باب المضيف ، دون أن ينهرها الشيخ الذي تبدو سيماء الماضي في وجهه المتواري خلف ستارة دخان لفافته .. تنحنح الشيخ الحكاء ، ثم سعل بقوة ، فعرفت أنه يتهيأ لاستهلال حكايته : في باديتنا على وسعها ، أنى تذهب لاتدوس قدماك درباً لم تدسه قدم العرب قبلك ، ترك الوسادة التي تفصل بين ظهره والحائط ، ظغط وسادة رخوة في حجره ، أسند اليها ساعديه ، وترك للسانه مهمة إفراغ ذاكرته : كانت القبائل العربية قبل ظهور الاسلام تجوب في البادية العراقية الجنوبية ، يوم كانت حرفة الرعي هي الحرفة الأكثر شيوعا ، ومنها قبائل / ربيعة / بكر بن وائل / بنو تميم / بنو عجل / بنو لخم / بنو يشكر / بنو شيبان / أياد / تغلب / ربما اختلطت آثار أقدامنا بآثار أقدام أعلام العرب ، ورجالاتهم ، كالداهية أكثم بن صيفي ، وربما حللنا في مضارب منصور بن عمرو ، أو رحلنا في قافلة عمرو بن ثعلبة ، أو جلسنا في فيء سدرة هي سليلة سدرة إستظل بظلها النابغة الذبياني ، أو إتكأنا الى صخرة الأعشى ، أو سرنا في درب الحارث بن عباد ، أو غفونا في مطرح قيس بن مسعود ، أو إستسقينا من بئر إستسقى منها هاني بن مسعود الشيباني ، قبل أن يقود رجاله إلى منطقة (( الحنو )) عند نهر ذي قار لملاقاة الجيش الساساني وقائده الهامرز، وربما أوقدنا من غضا مالك بن الريب ناراً ، أو حفرت إطارات سيارتنا آثار حوافر فرس النعمان بن المنذر.. فلنتذكر إذا ما سرينا بليل البادية ، أو ضربنا في نهارها، أن أجدادا لنا ، كانوا هنا ، على هذه الرمال عاشوا ، وفيها دفنوا ، ومنها سيبعثون ، تشهد لهم الآبار المنحوتة في الحجر ، وألسنة الحكائين التي أذاعت أخبارهم ، ومتون الكتب التي دونت سيرهم ، كأغاني أبي فرج الأصفهاني .. في عشرينات القرن العشرين ، كانت القوافل البدوية تحل في السلمان ، وترحل ، كشَمَر ، وعنِزَة ، وصلُبَه ، أما العشائر التي تجوب اليوم في بادية السلمان فهي / آل زَياد / آل غِليظ / الجَشعَم / الرواوشَة / آل عَبَس / آل بُلحَة / المِراشدَة / ما بين سعلة ، وأخرى ، يصمت الشيخ الحكاء ، يبدو لي أنه إرتحل إلى أيام العرب قبل الاسلام ، برغم أن جسده مايزال ماثلا أمامي على ألإيزار الجنوبي المحاك من خيوط الصوف الملونة .. لفافة أخرى تمتد بها يدي اليه ، وفنجان قهوة مطيب بالقرنفل ، يعيدانه إلى الحكي : أرأيت التل الأحمر ؟ .. تلك أطلال قصر عمران بن الحارث التميمي ، ملك بني تميم ، الذي إمتنع عن دفع الجزية الى شمريرعش ملك اليمن ، فأرسل اليه جيشاً جراراً بقيادة سلمان الحميري الذي هدم القصر ، وقتل الرجال ، وسبى العيال ، وساقهم أسرى عبر النقرة ، وقد دعي ذلك اليوم بيوم سلمان ، وفيه قال الشاعر:
( بئس الحماة بيوم سلمان يوم به شلت يدا عمران )
وسميت المنطقة بنقرة سلمان ، وبمرور الزمن أضيفت الألف واللام ، فعرفت باسم نقرة السلمان .. هل أنت معي ؟ كان الحكاء يلهث في دروب الحكاية ، وأنا ألهث خلفه : في عهد الخلافة العباسية كان نفر من قطاع الطرق ، قيل أنهم من القرامطة الذين سكنوا السلمان ، يغيرون على قوافل الحجاج التي تسلك درب زبيدة الذي انشأته الست زبيدة زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد ، إبتداءً من النجف حتى منطقة الجمجمة على الحدود السعودية ، حيث يكمنون بانتظار الحجاج في كهوف عقبة الشيطان على رأس جبل البطن الكائن على الحدود العراقية ، السعودية .. أسأل الحكاء عن حقيقة بئر الوجاجة ، الذي يبعد 14كم عن قلب نقرة السلمان ، والذي أسميته بئر اليمام ، لكثرة ما شاهدته من أعشاش اليمام في فجوات حجارة جدرانه ، أحقا ما يقوله الأهالي من أن نجمة حفرته ؟ بعدما خرت من السماء لترجم الشياطين الذين كانوا يسترقون السمع ، لكنها لم تستطع العودة إلى مدارها ، فسقطت لتتلقفها أرض السلمان وتحتظنها ، وتظمها بقوة ، فاندمجت معها ، وغارت في باطنها الى عمق مجهول .. يكتسي وجه الحكاء بمسحة من الخشوع : بئر الوجاجة ، قدر رباني ، خسف طبيعي ، ليس له بداية ، أو نهاية ، فهو بحر من الماء ، يجري في أعماق الأرض ، تحت الصخورالمتلفعة بالرمال ، يسيرمع خط الرحاب من الوجاجة الى عين صيد ، أو عين آل عساف كما كانت تُدعى ، والكائنة قرب مدينة الخضر ، ويقولون أن (( بوشي )) أو فلقة قشر ثمرة جوز الهند بحسب قاموس الحكاء ، سقطت من وارد قافلة في ماء بئر الوجاجة ، ليجدها ذلك الوارد نفسه عندما وصلت القافلة قرب عين صيد طافية في ماء العين .. غريبة هي القصص التي يقصها أهالي نقرة السلمان عن بئر الوجاجة ، وأغرب تلك القصص على واقعيتها ، قصة منخي ، وهو رجل من عشيرة آل عِصيدة العائدة إلى آل زَياد ، وقد حدثت حسب تقويم البادية أيام (( الحدارات5 )) .. فقد الرجل إبلاً له ، فراح يبحث عنها عنها في بادية السلمان ، حتى إذا أحرقته شمس الصيف المبكرة ، وجف حلقه من العطش ، ترجل عن فرسه ، وربطها إلى سدرة قرب البئر، ونزل ليشرب ويجلب لها الماء ، فزلت قدمه ، وإنكسرت رجله ، وسقط في البئر، ولبث فيه أربعة عشر يوما ، يتغذى على بيض اليمام الذي يملأ ثقوب جدران البئر ،وقد ربط رجله إلى عصاه بكوفيته .. وجاءت سيارة ، فأرسلوا واردهم ، فأبصر فطيسة الفرس التي إقتلعت النسور عينيها ، وعرفها ، فنادى في أعماق البئر : مَنخي .. أحَيٌ أنت يا مَنخي ؟ وجاءه الجواب من غيابة الجب متقطعا بالأنين : إي .. حَي .. إي . فتناخى رجال القافلة ، ونزلوا اليه وأخرجوه .. أما البئر الآخر الذي ينافس بئر الوجاجة من حيث العمق ، والماء ، والحكايات ، فهو بئر لوذان ، بحر آخر من الماء الجاري تحت الأرض ، الذي يختزن في داخله حزن غيوم البادية التي تجهش بالبكاء طيلة فصل الشتاء ، ويظم تحت ردائه قوافل المياه الجوفية ، لاأحد يعرف متى حفره أسلاف البدو ، ليضع الأهالي عليه ناعوراً في الأيام الخوالي ، ثم كان من نصيب الحكومة التي نصبت عليه ماكنة سحب تعمل بالنفط الأسود ، وهو يستغل حالياً في سقي أشجار منتزه السلمان الذي أُنشأ عليه . بينما يستفاد من الآبار الأخرى المبثوثة في بادية السلمان في سقي المزروعات ، وتوفير الماء للرعاة (( وأذواد 6)) الابل وقطعان الماعز والأغنام التي تجوب في البادية بحثا عن المراعي .
******

في كتاب البادية ، يصف عبد الجبار الراوي الغزو بالزاد الروحي للبدوي ، الذي تقوم نشأته على عنصرين هما الشجاعة المادية ، والشجاعة الأدبية ، ثنائية الشجاعة تلك ، هي التي تحدد علم نفس نمو البدوي ، وتشعره بالهيبة ، والزهو ، والروح الباسلة في مجتمع الصحراء .. فالغزو هو ما تحتاجه روح البدوي لسد حاجته الأدبية ، وإستكمال رجولته ، وإكسائه بثياب الهيبة ومنعة الجانب ، وليس الغزو هو ما تتطلبه حاجته المادية فقط . وتزخر ليالي سمر الصحراء بحكايات الغزو الذي هو كالنزهة للبدوي . وهي مترعة بأسماء ، وأنساب ، الرجال الشجعان الكرام ، الذين وشموا بأفعالهم ذاكرة الصحراء ، فكم من مكين قوي يتطوع للغزو فَيُلقي بنفسه وقومه في بُئََرْ الردى ، ويبذل من ماله أضعاف ما يسوق من الغنائم التي يفرقها في طريقه الى مضارب أهله ، ليكتسب ألإباء والمجد ، وينفح مخيلة الرواة بحكايات جديدة عن الرجولة الكاملة .. وترك الغزو ، مذهب للحمية ، مكبل للشجاعة ، محفز للخمول ، ولذا فقد إستمرت عادة الغزو في عشائر البادية من قبل الانتداب اليريطاني على العراق سنة 1918م حتى سنة 1929م ، حيث صدر قانون منع الغزو ، وعقدت الاتفاقيات الخاصة بمنع الغزو بين عشائر العراق ، ونجد . فاختفت مظاهر الغزو من البادية العراقية الجنوبية ، وتحولت إلى نسغ حكايات المواقد ، لتستمر في ذاكرة الحكائين .. حدث ذلك أيام الغزوات الكبرى ، وأخطرها الغزوة التي حصلت في منطقة (( إرفيفات نصاب7 )) سنة 1923م على الشريط الحدودي مع السعودية ، والتي ذُبح فيها 300 من رعاة الأغنام من عشائر شبل ، وشلال ، وبني حجيم ، مما حدى برؤساء عشائر/ الناصرية / السماوة / الديوانية / النجف / كربلاء / الى تنظيم مذكرة أحتجاج ضمت سبعين ألف توقيع ، رفعت الى الملك فيصل الأول ، والمندوب السامي البريطني في العراق ، السير بيرسي كوكس ، حيث أوفدت الحكومة بعد ذلك وزيراً ليمثلها في مؤتمر كربلاء ، الذي عُقد في عام الغزوة نفسه ، والذي أوصى بانشاء مراكز حدودية لصد الغزوات وحماية البادية الجنوبية ، كما تم أرسال 7 الى 8 من مشاة الجيش مع رؤساء العشائر لجمع ، ونقل المعلومات عن الغارات القبيلية ، ولأن تلك الغارات التي كان يشنها الإخوان بزعامة فيصل الدويش من قبيلة المطير ، صارت تصل إلى بعد أميال قليلة عن مقر القوة الجوية البريطانية في الشعيبة ، فقد بادر السير غلوب باشا المعروف في البادية باسم (( أبو حنيج )) سنة 1926م إلى ارسال توصياته ببناء حصون للشرطة عند آبار بصية ، والسلمان ((3)) .. في سنة 1927 تم تكليف حسن فهمي المدفعي ، بإدارة أول مديرية أمن للحدود الجنوبية التي إتخذت من نقرة السلمان مقراً لها حيث نصبت خيامها قرب بئر لوذان ، وفي العام 1928م إستقدمت الحكومة سرية جيش من ثكنة النجف العسكرية لحماية البنائين الهنود الذين قاموا ببناء حامية السلمان التي ستكون فيما بعد نواتاً لسجن نقرة السلمان الذائع الصيت .. بُنيت الحامية على شكل دائري من الجص ، والحجر ، بحيث يتاح للرامي حرية الرمي من جميع الجهات ، وقد تكونت الحامية في بدء إنشائها من ربيتين دائريتن ، إحتوت كل منهما على ثلاث غرف متداخلة الواحدة في بطن الأخرى ، الغرفة الأرضية على شكل سرداب لخزن الطعام والمياه في حالة الحصار ، الغرفة الثانية للمراتب ، الغرفة الثالثة للتجهيزات والأسلحة ، فكانت الربية تبدو للناظر من بعيد كهضبة بسيطة .. ولآن ذكر أسم نقرة السلمان ، ظل منذ بدايات القرن العشرين ، وحتى الثمانينيات منه ، يستدعي إلى الذهن / البداوة / المتاهة / العواصف / الذئاب / العقارب / الأفاعي / الغربة / الوحشة / النسيان / الضياع / العطش / الموت / كما أن القاصد من السماوة إلى السلمان ، كان يتوجب عليه في ذلك الزمن الغابر، بعد التزود بالماء والطعام ، أن يجد دليلاً مشهوداً له في قراءة خارطة البادية غير الموجودة إلا في أذهان الأدلاء ، كما يحتاج إلى إثنتي عشرة ساعة ، يقضيها في طريق من الرمل المسفوح ، ألعصي على الأثر، والعلامات ، التي لايعرفها إلا القوافون المتمرسون .. كانت الحكومة ترسل شفرة مورس من السماوة عند إنطلاق سيارة لها في مهمة رسمية ، وتنتظر الأخبار عن الوصول بشفرة مورس مماثلة من السلمان ، فاذا لم يأت الرد ، أعتبرت السيارة مفقودة ، فتنطلق سيارات أخرى من السماوة ، ومن السلمان للبحث عن السيارة التائهة ، وقد يستعان بعد بضعة أيام من البحث ألامجدي بطائرة هيليكوبتر لتمسح المنطقة من حدود السماوة إلى الحدود السعودية ، وكثيراً ما تبصر الطائرة جثث الضائعين في الصحراء ، وقد تشابهت هياكلهم العظمية ، من سجناء هاربين ، أوسياسين ينشدون الأمان ، أو جوابي آفاق ، أومهربين .. ولهذا فقد اختارت حكومة العهد الملكي في العراق ،السلمان ، لإنشاء سجن يكون منفى لكل الوطنيين الذين يتصدون لسياسة تلك الحكومة ، ويدعون إلى الثورة عليها ، فسعت عام 1949م إلى تطويرحامية السلمان ، وذلك بالتوسع في البناء خلف الحامية ، وعلى شاكلتها من حيث طراز الربايا ، وعلى مساحة واسعة ، أحاطتها بسور عالٍ من الحجر ، وببوابتين كبيرتين أمامية ، وخلفية ، وبنت في داخلها عشرة (( قواويش )) خمسة على الجانب الأيسر ، وخمسة على الجانب الأيمن ، مع ساحة للرياضة ، ومخبز ، ومخزن ، وبئر خارج البوابة الأمامية ، بين الحامية ، والسجن الذي إشتهر باسم سجن نقرة السلمان .. أتجول في أطلال السجن الذي تخلى عن بوابتيه الحديديتين الكبيرتين / الريح تأن في الأبراج / البئر الغائر تنبعث منه رائحة كلب نافق / الربايا مسلوخة الجلد متهرئة / المخزن مليء بالجرذان / السحالى / العقارب / مشجب السلاح بلا سلاح / غرفة مأمر السجن متداعية بلا أبواب ولا نوافذ / غرفة السجان غاطسة في الأرض كأنما ضربتها صاعقة / قوافل النمل تسعى في الساحة المملوءة / بالحفر / الكثبان / العاقول / العرد / الحجارة / أسياخ الحديد الصدأة المتآكلة / بقايا أعمدة من خشب خاو غزته الأرضة / القواويش المكشوفة لعين السماء غارقة بنور شمس الصحراء / أذرع الزمن التي تلوي أذرع الأقوياء/ كسّرت الأقفال / اقتلعت الأبواب / حطمت القيود / فلم يبق من أولئك السجناء الذين أُحتجزوا فيه ، غير أسمائهم المحفورة في جلد الحيطان ، وذكرياتهم المركونة في الزوايا .. إبتدأت الظهيرة بشحذ شواظها ، وفي رأسي تتناسل حكايات فسيفسائية عن سجناء عراقيين من جميع / القوميات / الأديان / المذاهب / الطوائف / مناضلين وحدهم حب العراق ، والتضحية في سبيله ، كل شيء هنا في نقرة السلمان يتحدث عنهم / الناس / الدروب / التلال / الآبار/ العشب / السدر / الرمال / الحجارة / في كل ورقة من تأريخ سجن النقرة لهم بصمة عميقة لاتمحى .. أغادر أطلال السجن ، وأنا أستمع إلى النشيد الذي كانت تصدح به حناجر السجناء يوم كانت قوافلهم تمر من أمام بيتنا في مدينة السماوة ، وهي راحلة إلى صحراء السلمان ، ها أنذا أستمع اليه يتردد في حجارة الجدران ، ورمال الساحة ، وحصاها ، وأشواكها ، ووجدت نفسي أردد ذلك النشيد الذي تصدح به حنجرة الصحراء في كل حين .
******
عصر يوم ربيعي ، وفي بيت بسيط عتيق من بيوت عروس البادية ، مدينة السماوة ، أصغي هذه المرة ، إلى سجين سابق من سجناء نقرة السلمان .. وجه مدور ، ما تزال نضارته تشهد على وسامة الرجل الذي نيف على السبعين ، عينان صافيتان تتمترسان بزجاج شفيف كماء النبع ،إبتسامة سماوية أليفة ، فكرمتقد كموقد بدوي يتوهج بنارالغضا ، كل ما في هيئة الرجل يدخل القلب بلا إستئذان ، بين كرسيي وكرسيه ، طاولة بسيطة ، متلفعة بشرشف وردي ، عليها زجاجة ماء بارد ، وعلبة بيبسي مثلجة ، وصحن من النبق الناضج ، يبدو أن الرجل جمعه من السدرة العجوز الجاثمة وسط الحديقة ، يبتسم الرجل ، وهو لاينقطع عن نثر كلمات الترحيب ، فتطير فراشات الالفة الملونة بأقواس قزح ، محلقة في دوحة المحبة التي نمت بين قلبينا ، لنبدأ ألإرسال ، والتلقي ، يهز الرجل جذع الذاكرة ، فألم مايتساقط من رطبها الجني .. لأتركه يحكي ، ينفض غبار الزمن عن نسيج فكره النقي الذي سيق من أجله إلى سجن النقرة ، هذا رجل شاهد ، عليم ، يروي لللأجيال قصة عن نضال العراقيين : إحكي ياصديقي .. خذ راحتك في الحكي .. إحكي . فلا فضل لي سوى جمع ما يهمي من غيث ذاكرتك عن سجن نقرة السلمان ، لأروي به عطش الملهوف لمعرفة ذلك السجن الذي كان يجثم على حافة عالم منسي .. إبتسامة أخرى يتهيأ بها السجين السابق لقص حكايته التي يستهلها بمحاولة الهروب الفاشلة من سجن بعقوبة سنة 1954م : كنا ثلة من السياسين المحتجزين في سجن بعقوبة ، نقلنا اليه في أعقاب المجزرة التي حدثت في سجن بغداد سنة 1953م ، في ذلك الزمان كانت أشهر السجون المهيأة لإحتجاز السجناء السياسيين هي سجن الكوت / بغداد / نقرة السلمان / أرادت الحكومة في العهد الملكي إرسال السجناء اليهود من سجن بغداد إلى سجن نقرة السلمان ، وبقية السجناء إلى سجن بعقوبة ، فرفضنا ذلك ، وأعلنا التمرد والعصيان ، فحدثت المجزرة التي حصدت سبعة شهداء وتسببت في جرح خمسين من السجناء العزل ، بعد أن هاجمنا حراس السجن ، وفتحوا علينا النار ، في سجن بعقوبة ، إتفقنا على الهروب بواسطة حفر نفق من غرفة المخزن الذي كنت أنا مسؤوله ، كادت الخطة أن تنجح لولا أنها وإدت بوشاية من أحدهم . بعد إلقاء القبض على الهاربين ، قررت السلطة نقلنا إلى سجن نقرة السلمان ، كنا ثلاثين سجينا كبلوا أرجلنا بالسلاسل ، وحشرونا في سيارتي باص من الخشب ترافقنا سيارتين مسلحتين للشرطة ، حين وصلنا إلى النجف ، إنعطفت قافلتنا عن طريق الرحية إلى ناحية الشبجة ، ومنها سلكنا الطريق الصحراوي إلى السلمان ، كان فصل الربيع قد خلع على الصحراء حلة سندسية خضراء ، وطرزها بألوان الأزهار البرية ، وراحت طيور الحبارى تمرح على تلك السجاجيد الربيعية ، برغم مخالب الصقور ، والنسور المحلقة في أجواء البادية ،وكانت قطعان الغزلان تنفر بعيدا من السيارات ، المئات من الغزلان تقفز وتركض مذعورة من سيارات الشرطة ، وكانت بصمات أمطار الشتاء تبدو واضحة في (( الارفيفات )) التي ترد منها الغزلان الماء ،وكان رجال الشرطة يطلقون النار على (( جميلة8 )) غزلان لاهية بشرب الماء فيرْدونها في الحال ، وينزل بعضهم فيحزون رقابها بحرابهم ، ويحملونها إلى سياراتهم المسلحة .. حين وصلنا السلمان ، توقفت السيارت أمام القلعة التي أسسها الكابتن كلوب باشا وفيها مقر مأمور، السجن ، وألإدارة ، وقاوش الشرطة ، ثم تحركت السيارات إلى البوابة الخلفية لسجن النقرة ، كنا نطلق حناجرنا بالنشيد ، فيتعالى ألإنشاد من داخل السجن . حين فتحت البوابة ، هجم علينا رفاقنا الذين سبقونا إلى سجن النقرة ، كسّروا السلاسل التي كانت تقيد أرجلنا ، والتي كانت تتناسب طرديا مع مدة الحكم ، لقد أُستقبلنا إستقبالاً رائعاً يعجز لساني عن وصفه الآن ، بعد أن شبعنا من العناق ، والقبلات ، وألإنشاد ، والهتاف ، زج السجانون بنا في القسم الأيسر من السجن ، المخصص للسجناء السياسيين ، حيث وزعنا على قواويشه الخمسة ، بينما كانت قواويش القسم الأيمن مقسمة إلى ثلاثة أقسام ،الأول لليهود المتهمين بالصهيونية ، الثاني للمجرمين العادين ، والخطرين ،الثالث لأصحاب المواقف الضعيفة ممن كانوا محسوبين على الشيوعين ، وقد حافظنا على العلاقة الطيبة مع نزلاء القسم الأيمن ، فكلنا سجناء في الآخر .. تناول زجاجة الماء البارد ، رطب حلقه ، ثم عاود الحكي : في أول يوم لي في النقرة ، ومع أول نفس للصباح ، إستيقضت على صوت سجين طبيب ، كان مسؤولاً عن الرياضة الصباحية . تجمعنا في ساحة السجن ، وبعد الهرولة ، قمنا بممارسة بعض التمارين السويدية ، وأذكر أني تناولت شوربة العدس في أول فطور لي في سجن النقرة ، ثم إنضممت إلى بقية السجناء للاستماع إلى محاضرة في ألإقتصاد لسجين متخصص في الاقتصاد السياسي .. في ذلك اليوم أرسل المسؤول السياسي في إدارة السجن ، والمعين من قبل حكومة نوري السعيد في طلبي ، ويبدو أن سمعتي في إدارة مخازن السجون قد وصلت اليه ، فاستلمت مسؤولية مخزن السجن ، كانت المواد الغذائية ، وأكثرها تعين ناشف ، تأتي إلى المخزن عن طريق (( القنطرجي )) المتقاول مع إدارة السجن ، ولأن هدفه كان ماديا ، فقد حرصت دائماً على إرضائه ، وإستطعت بذلك إدخال المواد التي لاتسمح إدارة السجن بوصولها إلى السجناء ، كان هناك فرن ، وكان الخبازون من بين السجناء ، كما تصلنا المساعدات والأخبار عن طريق العوائل التي تزورنا ، وكانت هناك بيوت في السماوة ، تُضَيفْ تلك العوائل ، وتسهل لها عملية الوصول إلى السلمان ، كما تصل إلى السجن ولمرتين في السنة ، شتاءً ، وصيفاً ، مساعدات رئيسية من الجمعية اليهودية العراقية للسجناء من اليهود ، وكانت هذه المساعدات تحتوي على الكثير من المواد الغذائية المتنوعة ، والملابس .. الأيام في السجن على ما فيها من القبح ، والمرارة ، لاتخلو من السعادة ، والجمال . في النهار نطهو الطعام ، أونغسل الملابس ، أو نكتب المذكرات ، عصراً نلعب كرة القدم ، أو الطائرة ، في الليل الشتائي نسهر على ضوء اللوكسات ، والفوانيس ، فلم تكن الكهرباء في العهد الملكي قد وصلت إلى السلمان ، الليل في الصيف هو أروع ما يكون في الصحراء ، نفرش مطارحنا أمام القواويش ، تحت أعين سماء السلمان ، ومن بعيد نسمع عواء الذئاب ، ونحن نتبادل الأحاديث والنكات ، ثم نغفو في حضن نسيم الليل البارد .. تنهد محدثي ، وصمت ، فعرفت أن خيل ذاكرته تداهم الآن قلاع الألم ، ألهيت نفسي بحبة من النبق ، وتركته يلاحق آثار حوافرها وهي تخب في صحراء السلمان : في احدى الليالي أسر لي صديق سجين كان ظابطا في الجيش العراقي أنه يفكر بالهرب وهو يحتاج الى مساعدتي قلت له : في صيف الصحراء ، الموت يتربص بك أنى تذهب ، قال : الموت في الصحراء أفضل من الشنق على يد الجلاد .. في غروب اليوم التالي ، أخرجته مع السجناء المكلفين باستسقاء الماء ، فنزل الى البئر واختبأ في غيابته ، حتى إذا أتى الليل ، سرى تحت جنحه ، آملا بالخلاص . مرت ثلاثة أيام ، كنا نغطي عليه في التعداد ، وندعوا له بالسلامة .. حسرة حرى ، وأوف ، أفلتت من بين شفتي محدثي ، ومن خلف زجاج النظارة ، أبصرت خيال سحابة حزن بدأ يعكر صفاء عينيه : بعد تلك الأيام الثلاثة ، جاءنا خبر موته عن طريق قافلة البدو التي عثرت على جثته ، وعرفنا أنه مات عطشانا ، بعد أن قطع ((55كم )) مبتعدا عن سجن نقرة السلمان ، ولكنه ضل طريقه الى بئر الشيخه .. شعرت أنه يتوجب عليّ أن أقدح قبساً من البهجة ، طالباً منه الانتقال الى الجانب المشرق من ذكرياته في سجن نقرة السلمان .. أزاح نظارته ، مسح عينيه ، وأشرقت في وجهه إبتسامته التي ألقت محبته في قلبي : مرةً حصلنا على راديو كبير بجسد من الخشب ، أحضرته عائلة بغدادية ميسورة ، جاءت لزياة إبنها السجين ، وأصر مأمور السجن على بقاء الراديو في ألإدارة ، ذات يوم أضرب الراديو عن الكلام ، فتطوع أحد السجناء اليهود لإصلاحه ، وقد ظل ذلك السجين طوال الليل يصنع أحشائا مزيفة ليضعها في بطن الراديو بعد أن إستولى على الأحشاء الحقيقة التي تمكن من إصلاحها فيما بعد ، كما وضع حجراً في داخل الجسد الخشبي للمحافظة على الثقل الأساسي للراديو ، ثم أبلغ ألإدارة عجزه عن تصليح الراديو ، ولم يتطرق الشك إلى المأمور ، وبهذا فقد إستلمت اللجنة ألإعلامية في القاووش رقم (( 3 )) أحشاء الراديو الحقيقة ، ولكن بدون غطاء ، وصار بامكان أعضائها فقط ألإطلاع بالخفية على الأخبار من إذاعات العالم ،ثم كتابتها ، وتوزيعها على بقية القواويش . ذات ليل من ليالي سنة 1956م ، وفي واحد من البرامج الثقافية ، سمعنا من إذاعة بغداد أن الجواهري سيسافر إلى سوريا للاستجام ، ثم وصلنا بعد أيام خبر آخر يقول أن الجرائد نشرت بأن الجواهري سافر الى سوريا بدعوة من الجيش السوري للمشاركة في الحفل المهيب الذي يقام إستذكاراً لمصرع الشهيد عدنان المالكي .. في ليلة الحفل عقدنا إجتماعاً نحن هيئة السجن مع أللجنة ألإعلامية ، وقررنا أن يكون صوت الراديو عاليا بحيث يصل إلى آذان جميع السجناء .. بعد العشاء ومن ألإذاعة السورية ، جاء صوت المذيع الذي كان ينقل الحفل من ملعب العباسيين ، يعلن عن الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري .. ضج الملعب في سوريا ، وضج السجن في نقرة السلمان ، والصوت الجهوري للجواهري ، يتسلق جذوع النجوم التي فوقنا ، وهو يصدح منشدا :
( خلٍّفتُ غاشـــيةَ الخنــــوعِ ورائـــــي وأتيت أقبــس جمرة الشـــــــهداء
ودَرَجْتُ في دربٍ على عنت السرى ألق بــنور خطـــاهم وضــــــــاء
خلفتها وأتيت يعتصــــر الأســـــــــى قلبي وينتصـب الكفــاح إزائـــــي
أنا لا أرى العصـــــماء غير عقيــــــدة منســـــــابة في فكـــرة عصــماء )
حتى اذا قال :
( آمنـــت إيمــــان الدمــــــاء بنفســــها فأنا الصـــبيغ بــها صباح مســـــاء )
صفق الشاعر محمد صالح بحر العلوم -ـ وكان سجينا معنا -ـ كفيه وصاح : ( سواها أبو فرات ! ) وقد أُضطر الجواهري إلى البقاء في سوريا قرابة عام ونصف ، جراء حنق المسؤولين عليه بسبب هذه القصيدة .. في تلك الفترة كانت العلاقة بين الحزب الشيوعي العراقي ، والجواهري على شيء من الفتور ، لكنه عندما قرأ ما كتبته عنه جريدة إتحاد الشعب من كلام طيب قال : الآن يحلو الرجوع إلى العراق .. نظر إليّ محدثي السجين السابق في سجن نقرة السمان بعينهيه الصافيتين ، وقال : ما أحلى الرجوع إلى العراق . فقلت : صدقت ، ما أحلى الرجوع إلى العراق .
هامش
ـــــــــ :
1- الفيضات : أماكن منخفضة تتجمع فيها مياه الأمطار .
2- المكـهور : الأباعر الصغيرة حديثة الولادة والتي تترك قريبة من بيوت الشعر حتى لاتبتعد أمهاتها وتتشتت في البر فهي تبقى قريبة من صغارها حتى يتسنى لها إرضاعها بين حين وآخر.
3- االكارات : أماكن مرتفعة .
4- الظهرات : أماكن مرتفعة أقل إرتفاعاً من الكارات .
5- الحدرات : عودة العشائر بعد موسم الربيع من البادية إلى أطراف السماوة .
6-أذواد : الذود مجموعة من ألإبل .
7- إرفيفات نصاب : هي فيضات في منطقة نصاب في البادية الجنوبية .
8- جميلة غزلان : مجموعة غزلان ما بين 20 الى 50 غزال .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...