علجية عيش - العقيد محمد الصالح يحياوي دعا إلى بناء مجتمع تتكامل فيه كل الطاقات البشرية

(ورقة خاصة في الذكرى الأولى لرحيل المجاهد محمد الصالح يحياوي)

كانت خطابات العقيد تحمل في مضمونها فكرة التنوير و الإصلاح، تناول فيها قضايا معاصرة بجرأة تمثلت في تبجيل العقل و تسييد العلم و تحرير الإنسان و تكريم المرأة و التحاور مع الآخر و غيرها من القيم الإنسانية التي هي جديرة بالدراسة و البحث، و إبراز دور النخب في الحراك الثقافي و نشر الوعي السياسي
سنة تمر على رحيل المجاهد محمد تاصتلح يحياوي، و برحيله خسرت الجزائر رجلا لم يتخل عن خدمة وطنه وفق افكاره ألصلية و المبادئ التي ناضل من أجلها، و الفقيد من الرجال الذين لم يستسلموا للإغراءات و المساومات، و من يصمد في وجه الإستعمار له القدرة على مواجهة الصعاب و تجاوز العقبات، لم يكن العقيد محمد الصالح يحياوي رجل كفاح فقط و هو صاحب الـ: 18 رصاصة ، و إنما كان رجل فكر و قلم، و عنصر فعال من عناصر النخبة الوطنية، ظل شامخا مستعصيا على الترويض السياسي، و ظل وفيا لمبادئه و ثوابت الهوية الوطنية، و الدليل أن من يقف على خطاباته يلتمس في كلماته المناضل الوفي المحب لوطنه، و يستنتج أن هذا الرجل رغم المهام السياسية و العسكرية التي أوكلت إليه فهو رجل ثقافة بامتياز، مثقف ملتزم بقضايا أمته، بحيث لم يترك مسألة إلا و تطرق إليها بشيئ من الوعي الفكري و النضالي، و أعطاها ابعادها الأخلاقية و الإنسانية، فقد تحدث عن المناضل، عن الشباب، و المرأة و إشراكها في التنمية و البناء ، عن المجاهد، و حتى عن الفلاح في أرضه، أراد أن ينقل المواطن الجزائري من موقع التابع إلى موقع الحرّ، ليحقق ذاته، كما أعطى لأفكاره بعدا عربيا و هو يدافع عن اللغة العربية و وحدة الأمة، و حق الشعوب في تقرير مصيرها، و هذه الرؤية لا تنبع إلا من رجل "رسالي" يحمل على عاتقه أمانة ثقيلة.
و يكفي ان نتأمل في تقاسيم وجهه، لنلمس فيه كل الصفات الحميدة، و هي طريقة انتهجها علماء النفس و هم يختبرون الشخصية من خلال الصورة، في صوره نقرأ فيها آيات التواضع، و علامات الهيبة و الوقار، التسامح، الصدق ، الصبر على المظالم، و غير ذلك، و هذه الخصال هي من لوازم القوة في حياة الرجال و هم يحملون هذه الرسالة النبيلة، رسالة تحرك عاطفة الآخر، و تجذبه إليه، لأنها قوة روحية لا يمتلكها كل الناس، بل ملتصقة برجال كبار، و لا شك أن العقيد محمد الصالح يحياوي واحد منهم، فعندما نقرأ خطابات و مقالات هذا الرجل تلتصق بذهنك صور من يماثلونه في الأخلاق و الطيبة، مهما اختلفت اهتماماتهم ( الشيح سحنون رحمه الله)، و لما لا و هو الذي تربى في بيت محافظ محب للعلم، مطبقا لتعاليم الدين، ما جعل الفقيد ينشأ و يكبر على هذه المبادئ، كحب الحق و رفع الظلم و هذا ما جعل بعض خصومه يتآمرون عليه و يكيدون له المكائد، لتصل إلى حد محاولة اغتياله.
إنهم أولئك الذين يعيبون عليه "الصمت"، و لم يدركوا أن الفقيد كان يكبت غضبه و يكظم غيظه، و هو الذي عايش الأحداث قبل و بعد وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين، و المراحل الصعبة التي مرت بها البلاد و الحزب العتيد معا، و كيف جيئ بالشاذلي بن جديد، و الظروف النتي ادخلت البلاد في دوامة، انطلاقا من أحداث أكتوبر 1988 ، أو كما سماها الدكتور العربي الزبيري باسبوع الإجهاض في كتابه "المؤامرة الكبرى أو إجهاض ثورة"، و كيف اتسعت دائرة التخريب للممتلكات العامة و لم تستطع أجهزة الدولة التحكم فيها، حيث لجات إلى استخدام القوة المسلحة للسيطرة على الوضع، ثم الماساة الوطنية التي اتسمت بالعنف و التطرف، إلا أن العقيد محمد الصالح يحياوي لم يشارك في عمليات التخريب و تدمير البلاد و مؤسساتها، و لم تلمس يده المال الحرام، أو تمتد إلى خزينة الدولة و تهريبها نحو الخارج، كما لم يشارك في عمليات التقتيل في بني جلدته، كان من المدافعين عن اللغة العربية، و الثقافة الجزائرية، في وقت كانت الثقافة في الجزائر تعيش أزمة، و وقعت أسيرة صراعات بين تيارين العروبي و الفرنكفوني، و كان يرى أن تجاوز كل أزمة لا يكون من دون تشخيصها بمعايير الثقافة لا بمقاليد السياسة و في عالم مفتوح و متناقض في نفس الوقت، وضع الإيديولوجيا مقابل النتكنولوجيا دون سؤال عن المخرج الحقيقي.
يرحل الفقيد عن الدنيا دون أن يحضر الحراك الشعبي، و لم تكتب له الأقدار أن يرى شباب الصحوة الوطنية و هو يخرج في مسيرات سلمية يطالب بالتغيير الجذري للنظام، و لا شك طبعا أن خطب و مقالات هذا الرجل بعد مرور سنوات، ظهرت ثمارها و تجسدت في الحراك الشعبي، لأنه جعل همه الوحيد تربية النشء، و غرس فيه روح النضال و البناء، و هو يخاطب الشباب عندما كان مسؤولا تنفيذيا في حزب جبهة التحرير الوطني، و هذا إن دل على شيئ فإنما يدل على أن "المسيرة" مستمرة، يمضي رجال و يأتي آخرون، ياتي جيل و يخلفه جيل آخر، جيل أراد أن يؤسس دولة لا تزول بزوال الرجال، لقد كانت خطابات العقيد تحمل في مضمونها فكرة التنوير و الإصلاح، تناول فيها قضايا معاصرة بجرأة تمثلت في تبجيل العقل و تسييد العلم و تحرير الإنسان و تكريم المرأة وو التحاور مع الآخر و غيرها من القيم الإنسانسة التي هي جديرة بالدراسة و البحث، و إبراز دور النخب في الحراك الثقافي و نشر الوعي السياسي.
إن صمت العقيد ترجمه في خطبه التي تخنزن الخبرات و المعارف و التجارب، الغنية بالمعاني التربوية و الحماس النضالي، نقرأ بين سطورها فنفهم ان المعركة دائمة و لا تنتهي، و لكن لكل جيل معركته الخاصة، قد يستشهد فيها المئات من الرجال في سبيل الحرية المشتركة و تحقيق العدالة الإجتماعية و الديمقراطية التشاركية، و من أجل التقدم من المستقبل بثقة تامة، ولا تتحقق هذه الأهداف، إلا إذا كان هناك حوار جاد و قبول الآخر، و هذا ما كان الفقيد يدعو إليه في خطبه، بأن الحوار هو القيمة الثابتة في كل عملية تواصلية و رصد بما عند الآخر من افكار و تبادلها و وضعها تحت المجهر للتشخيص بل تشريحها إن تطلب الأمر، رحل المجاهد محمد الصالح يحياوي و لا شك أن رحيله يطرح تساؤلات عدة، و هو الذي حمل معه أسرار الثورة و الحزب العتيد، هذا الحزب الذي اصبح خصومه و حتى بعض أبنائه يطالبون وضعه في المتحف لما شهده من هزات عنيفة، رحل العقيد عن الحياة و لا شك ايضا ان خصومه اليوم نادمون على ما فعلوه برفيق النضال مثلما ندم أبناء يعقوب على ما فعلوه بأخيهم يوسف.
علجية عيش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...