الإهــــداء
إلى روح والدي الطاهرة....
.... تغمده الله فسيح جناته.
***
المحتويات
الصفحة
* الإهداء 3
* المحتويات 5
- المقدمة 9
- مقدمة الباحثة 13
* الفصل الأول
- التمهيد
لمحة موجزة عن واقع القصة القصيرة 17
- حياته ورؤيته الفكرية 21
أ- مفهومه السياسي 25
ب- المواطنة 35
جـ- الحرية 38
د- النقد والنقاد 39
هـ- التراث 43
* الفصل الثاني:
- المضامين:
أ- الموقف من المجتمع من خلال خصصه 49
1- الفروق الطبقية 52
2- صراع القيم 57
3- الصراع مع السلطة الآبوية 60
4- الاغتراب الذاتي والاجتماعي 62
ب- الموقف من المرأة 75
1- صورة الأم 77
2- صورة الزوجة 81
3- صورة الحبيبة 82
4- صورة المومس 84
جـ- الموقف من المدينة 87
1- صورة المدينة الكبيرة (المعقد) 89
2- صورة المدينة – الرمز 95
3- صورة المدينة الماضي 97
3- صورة المدينة الرؤيا 99
د- الموقف من التراث 103
1- الموروث التاريخي 105
2- الموروث الأدبي 110
3- التراث الشعبي 111
4- التراث الشعبي الشفهي 113
هـ- الموقف من السلطة 116
* الفصل الثالث:
- البناء الفني 129
أ- الشخصية القصصية 131
- الشخصية المحورية 135
- الشخصيات الثانوية 140
- الشخصية التاريخية 144
- الشخصية الشعبية 145
ب- اللغة والسرد والحوار 146
جـ- المكان 171
د- الزمان 179
* الخاتمة 188
* المصادر والمراجع 191
المقــــــدمة
عندما عرضت علي السيدة امتنان الصمادي فكرة تسجيل أُطروحة ماجستير في زكريا تامر، لم أُبد حماسة في بداية الأمر لقبول المشروع لأكثر من سبب، فامتنان فتاة محافظة، وكاتبنا متطرف في السياسة وفي المفاهيم الاجتماعية والدينية، يحلو له أن يضرب بفأسه في ثوابت الناس الاجتماعية والدينية... وامتنان راسخة الجذور الدينية، وكاتبنا لا يتورع أن يصدمنا بما نؤمن به أو نعتقده أو نسلّم به.. وامتنان ما تزال طرية العود، وكاتبنا حائر محيّر في مدارسه ومذاهبه واتجاهاته، ولذلك حاولت إقناعها بتغيير الموضوع، ولكنها أبدت حماسة له، فلم أجد مناصاً من مكاشفتها عما يعتمل في صدري من خوف عليها.
وهكذا خاضت الباحثة التجربة وأنا مشفق عليها، لأن زكريا تامر يعد من أشهر كتاب القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث، وهو كاتب متعب محيّر يستعصي على التأطير، ليس من السهل مقابلته لأنه يعيش في لندن، ولا يجيب على رسائل الباحثين والدارسين، ولا يفتح قلبه للناس.
سارت الباحثة في طريق بكر، فحاولت أن تجمع شذرات عن حياته من بعض أَصدقائه ومعارفه، بعد أن يئست من استجابته لرسائلها المتعددة، وقرأت كل ما كتب من قصص ومقالات، بتأن ودقة وسعة أفق، وخرجت مما قرأت بشيء عن ملامحه وثقافته ورؤيته
ومواقفه وصلته بالمفكر الحر عبد الرحمن الكواكبي، وأنا اعتقد أنها كانت سباقة في ما وصلت إليه.
لقد خاضت الباحثة في عالم قصص زكريا تامر ومقالاته، وكنت أحسّ من مقابلاتها، ان في نفسها شيئا من الخوف والتحفظ وهي تنقل لي آراءه في السياسة أو الدين أو الجنس، أو وهي تسألني عن بعض مغازيه في بعض القصص، فكنتُ أهدئ من روعها بقولي: ناقل الكفر ليس بكافر، وأنت باحثة تقدمين رسالة أكاديمية، وهذا يوجب عليك أن تكوني موضوعية في ما تطرحين، حتى لو كان يخالف قناعاتك ومعتقداتك وقيمك، وليس بالضرورة أن تتبنى آراءه، فأنت اخترت زكريا تامر، وزكريا غابة بريّة كثيفة الأشجار، وعليك أن تدخليها وتخرجي منها بصورة مبينة، وبأقل الأضرار على نفسك.
وهكذا سارت الباحثة في طريق مليء بالأشواك والحفر، وكان زكريا محكّاً لها اختبرت فيه قدراتها الأدبية والنقدية. فخرجت بهذه الرسالة (الكتاب) الذي تراه- عزيزي القارئ- في حلته الأخيرة... وهذا الكتاب الذي ستجد فيه جهداً خارقاً، وتتبعاً دقيقاً، ورصداً كاملا لكل ما ما انتج زكريا، كما ستجد فيه تحليلا دقيقاً للقصص، وآراء نقدية موضوعية.. فالباحثة لم تُبهر بالاسم فتغمض عينيها عن كل سلبية عنده، ولم تقف منه موقفاً معارضاً لما يهزّه من قيم في كتاباته، بل نراها تتعامل معه انساناً مظلوماً مقموعاً، وفناناً بارعاً يمتلك أدواته الفنية ويتنقل بين المدارس والاتجاهات دون أن يسلك نفسه في أي منها.. تتعامل معه بوعي وإدراك، وتضع أيدينا على مواطن الجمال والروعة عنده.
لا أغالي إذا قلت أن القارئ لهذا الكتاب، وأجد فيه مادة غنية في السيرة والتحليل، وهو أوفى الدراسات عن زكريا تامر، وقد قدّم بأسلوب جيد، فلا غرو في ذلك فالباحثة هي قاصة ورسامة، وقد انعكس هذا على كتابتها... كما ان هذا الكتاب يقدم فائدة جلّى للقارئ العربي، لما قامت به الباحثة من اختيار لمجموعة من قصص ومقالات لزكريا تامر لم تنشر في كتاب.
عزيزي القارئ، بين يديك كتاب جدير بالقراءة والاقتناء. وهو من الكتب الممتعة، تستحق مؤلفته التهنئة، ويستحق ناشره الشكر الوفير.
د. سمير قطامي
الجامعة الأردنية
عمان 14/6/1995
***
مقدمة الباحثة
بدأت صلتي بالقصة القصيرة منذ كنت طالبة في المرحلة الإعدادية، إذ كانت لي محاولات لكتابة هذا الفن، فقرأت من القصص الشيء الكثير، وكانت نفسي تلح عليّ أن أقرأ المزيد، ويسّر الله لي الطريق.. فاستقرت بي الرغبة على اختيار القاص زكريا تامر موضع بحث ودراسة.
ومن مقولة الكاتب صبري حافظ عن زكريا تامر بأنه "شاعر الرعب والجمال" كانت الانطلاقة بالتحديد، وكان الموضوع "زكريا تامر والقصة القصيرة" لأحاول من خلاله استقصاء البحث في حياة القاص، ورؤيته الفكرية التي أضاءت أعماله القصصية.
ولم يتطرق الباحثون للقصة عند زكريا تامر- في حدود ما أعلم- بشمولية واستقصاء دقيقين، بل اقتصر على منثورات، وآراء نقدية موزعة بين الكتب، ودراسات تتناول القصة السورية.
وتوزعت الدراسة على تمهيد، وثلاثة فصول: تناولت في التمهيد واقع القصة السورية بلمحة موجزة، لتضيء جو الدراسة، ولتمكن من رصد موقع زكريا من خلال ذلك الواقع.
وخصصت الفصل الأول لإلقاء الضوء على حياة القاص، ورؤيته الفكرية، باتباع المنهج التاريخي الاجتماعي، من خلال مقالاته التي نشرها في عدد غير قليل من الدوريات الثقافية، والأدبية داخل الوطن العربي، وخارجه.
أما الفصل الثاني، فقد تناولت فيه مضامين المجموعات القصصية الخمس، التي دارت حول موقف أبطاله من المجتمع، والمرأة، والمدينة، والتراث في ضوء الحياة السياسية، آخذة بعين الاعتبار أثر التيارات الأجنبية
في رؤية القاص، وأعماله، ممثلة بفرانز كافكا على وجه التحديد، وذلك لأنه من أكثر الكتاب الأجانب الذين لمست تأثيرهم في أعمال زكريا تامر.
كما تناولت في الفصل الثالث البناء الفني، منطلقة من التحليل الجمالي لبنية القصة، في محاولة لتسليط الضوء على صورة الشخصية القصصية، وكيف عني زكريا برسمها رسماً دقيقاً، عاكساً حالتها النفسية، ووضعها الاجتماعي، بلغة إيحائية، شعرية مكثفة، وفي حركة ضمن الزمان والمكان.
وتعتمد الدراسة على مصادر متعددة منها: مجموعات القاص الخمس (صهيل الجواد الأبيض، وربيع في الرماد، والرعد ودمشق الحرائق، والنمور في اليوم العاشر). إضافة إلى عدد كبير من مقالاته التي نشرت في الصحف والمجلات.
وقد واجهت صعوبة غربية من نوعها في أثناء دراستي هذه، يتمثل في عدم تعاون القاص- القاطن في لندن- معي رداً على رسائلي المتكررة، والملحّة، أو على المهاتفة التي قمت بها لمكان عمله؛ لذا، راسلت عدداً من أعضاء رابطة الكتاب السوريين غير مرّة، إضافة إلى مقابلة عدد من النقاد والشعراء، أمثال د. حسام الخطيب، وشوقي بغدادي، من أجل الحصول على معلومات أسدُّ بها رمق هذه الدراسة، إلا أنني استعضت بقلَّة المعلومات الشفوية العكوف على الدوريات المختلفة أتتبع من خلالها مسيرة حياة القاص.
وبعد:
فإن الكمال لله وحده، وهذا مبلغ جهدي، وحسبي أنني بذلت فيها ما استطعت من جهد. وبه أستعين.
امتنان الصمادي
***
الفصـــــل الأول
تمهيـــد
لمحة موجزة عن واقع القصة السورية
لقد وفدت القصة القصيرة إلينا بمفهومها الحديث في نهاية القرن التاسع عشر من الغرب، فلم تصدف مكاناً خالياً في روح الأمة. وذلك لأننا عرفنا النفس القصصي ممثلاً بفن الخبر، والحكايات والمقامات، ابتداء بناصيف اليازج (1800- 1871)، وأحمد فارس الشدياق (1805- 1887)، ورفاعة الطهطاوي مروراً بسليم البستاني وجرجي زيدان وميخائيل نعيمة. وقد ظهرت البذور الأولى للقصة القصيرة الحديثة في لبنان، ثم ترعرعت ونضجت في مصر على يد محمد حسين هيكل، ومحمد ومحمود تيمور وإبراهيم المازني وتوفيق الحكيم، وطه حسين، وغيرهم( ).
تأثرت القصة السورية بنتاج كل من مصر ولبنان، وظهرت محاولات قصصية مبكرة عند نعمان قساطلي (1883)، ورزق الله حسّون وغيرهما. واستمرت القصة بالظهور إلاّ أنها كانت تُعدّ بدايات تمهيدية، رافقت التأثر بالموروث (شكل المقامة) من جهة، وحركة الترجمة التي أخذت تنشط من جهة أخرى خلافاً لبساطة الموضوعات المطروقة وسذاجة الشكل الفني لها( ).
وقد نمت القصة السورية فنياً في فترة الثلاثينات، وعلى وجه التحديد عام 1937 بظهور قصة "نهم" لشكيب الجابري، فأخذت القصة تعيش حياة النضج الفني محاولة التوفيق بين متطلبات البيئة المحلية، والتطورات العالمية، كما تخلصت من أسلوب الوعظ والإرشاد والمباشرة في الطرح.
واستمر الشكل الفني بالتطور بموازاة التطور الاجتماعي وزيادة الانفتاح على الغرب، فتأثر الأدباء العرب بعامة والسوريون بخاصة بالآداب العالمية التي تعبر عن النزعات الإنسانية ممثلة بـ موباسان وبلزاك، وإلبيركامو، وفرانزكافكا، وكولن ولسون، وغيرهم. فاختصروا بذلك مراحل زمنية طويلة كان قد استغرقها الغرب في تطوير فنه القصصي وبخاصة الإنتاج الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية( ).
وبدخول عهد الاستقلال عام 1946م تفتّحت آفاق الانتعاش الوطنية، وشاع التعليم، ودخلت البلاد عصر الآلة والطباعة، وتحررت المرأة، وظهرت طبقة جديدة من الوسط المثقف (البرجوازية الصغيرة)، كما ظهرت رابطة الكتاب السوريين عام 1951م التي تعدّ أبرز معلم لقيام النهضة الأدبية، وما لبثت أن توسعت عام 1954م لتشمل أدباء الوطن العربي عامة( )، رافعة شعار "الفن للشعب". وقد كان معظم أعضاء الرابطة من كتاب القصة القصيرة الواسعة الانتشار آنذاك بسبب طاقتها التعبيرية، وقدرتها على التحرك بحرية في الحياة الإنسانية عبر الزمان والمكان( ).
كما ظهرت في هذه الفترة الاتجاهات والتيارات المختلفة التي انضم إليها الأدباء لتعبّر عن آرائهم وأفكارهم، وكان من أبرزها الواقعية الفنية التي عنيت بتصوير الحياة بأمانة وموضوعية مع الاهتمام بالتفاصيل ودقائق الأمور، ممثلة بعبد السلام العجيلي. ثم تطور الفن القصصي ولم يقف عند حدود التصوير الفوتوغرافي للواقع، بل عمد إلى التحليل مركزاً على الجوانب السلبية في العلاقات الاجتماعية فتحدّث الأدباء عن الفلاحين والعمال والطبقة الكادحة وهذا ما أسماه الباحثون بالتيار الواقعي الاشتراكي ممثلا بـ شوقي بغدادي، وحنا مينة وغيرهم، فقويت بنيته وكثر حاملوه حتى أعلنت رابطة الكتاب العرب تبنيها لهذا الاتجاه( ). ولم يتفلّت بعض كتاب هذا الاتجاه من معالجة القضايا القومية المصيرية من مثل الوحدة الوطنية، والقضية الفلسطينية حتى سمُّوا بأصحاب الاتجاه الواقعي الاشتراكي القومي.
كما ظهر عدد من الأدباء ممن لم يروا في الاشتراكية مثالاً ينطلقون منه لتدعيم مبادئهم، وشعروا بافتقارهم إلى عقيدة ذات بعد فكري وفلسفي يواجهون بها التيارات التقليدية، والماركسية، لذا تأثروا بدعاة التيار الوجودي أمثال سارتر، وكامو وغيرهم، ممن تركوا بصماتهم على الآداب المعاصرة في أوروبا، وذلك بعدما أضحى الاهتمام بالحياة الفردية ذاتها، وبالعالم الباطني الخاص بكل فرد كبيرا( ). وقد لوحظ في نهاية الخمسينات انتشار مفهوم جديد للقصة شمل التجديد في الشكل والمضمون بسبب الحساسية القوية تجاه معطيات الواقع المضطرب وتناقضاته، واستطاع الكتاب تفجير اللاشعور الإنساني متحدّين بذلك القيم السائدة، فعكس نتاجهم الكثير من الظواهر النفسية التي يعاني منها جيلهم في صور مليئة بشعور الضياع والتمزق والشك والحيرة والاشمئزاز من الواقع، والاغتراب الذاتي والاجتماعي.
وتضخمت النزعة الفردية في العقدين السادس والسابع من هذا القرن عندما وجد الأدباء أنفسهم بين عالمين متضادين، عالم التمسك بالقيم والموروثات القديمة، والوعظ الديني، وعالم القيم الوافدة المسلحة بالتقنية الحديثة فأخذوا يعانون ويلات الاغتراب، وتشكلت قاعدة لمخاض العصر النفسي التي سميت بحساسية العصر الحاضر. ونستطيع القول إنها تيار عام مشترك بين جميع الأدباء شجعت النزعة الفردية لديهم. ويقول نعيم اليافي بهذا الصدد: "ولعل أهم ظاهرة من ظواهر هذا القلق هي الفردية أو الانتصاف إلى الكيان الفردي في القضايا. وقد انتهى منها الكتاب نهايتين مختلفتين: قسم منهم انتهى إلى الالتزام بالدلالة القومية مرّة بالوجودية أخرى، وانتهى القسم الآخر إلى الضياع والعبث"( ).
وعلى الرغم من ذلك فإن قصة الستينات تعتبر مرحلة النضج الفني والإتقان، فوجد جيل السبعينات في ذلك طريقاً ممهداً أمامه( )، كما اعتبر جيل الستينات صاحب الفضل في ترسيخ دعائم فن القصة. ويرى الدكتور حسام الخطيب بأن كتّاب أدب الضياع ممثلا في زكريا تامر، ووليد إخلاصي وجورج سالم وغيرهم، جيل فقد العلاقة مع الحياة، وهم ثوار على كل شيء، ولكن في سبيل لا شيء تقريباً، فلا يؤمنون بالأسرة ولا بالمجتمع ولا بالمؤسسة. ونتيجة لذلك يصبح الحل الوحيد أمام البطل، الضياع، والشرب، والجنس، والأحلام. كما يعرف هذا بأدب اللامعقول( )، وسنورد تفصيلاً عن ذلك في الفصل الأول.
واستمر – حتى يومنا هذا – تناول الذات الإنسانية الحسيّة والروحية بجرأة وصراحة، وقويت النزعة التجريبية في تكنيك القصة ولغتها والمزاوجة بين لغة القص التقريرية ولغة الشعر المجازية، حتى أصبح ذلك أمراً مألوفاً وتياراً عاماً لا يخبو عند أدباء الثمانينات( ).
حياته
ورؤيته الفكرية
ولد زكريا تامر عام 1931م في دمشق، لأسرة بسيطة، وتلقى تعليمه الابتدائي فيها، ولم تطل فترة انتظامه في سلك التعليم بسبب قسوة محاولته للتخلص من الواقع الصعب، والإحساس بالفاقة.
عمل زكريا في مهن يدوية بسيطة في صغره، واستمر يعمل حدّاداً في معمل للأقفال في حي البحصة الدمشقي مدة تزيد على اثنتي عشرة سنة. ثم تحول إلى الحقل الصحفي عام 1960 بعد أن نشر أولى قصصه عام 1956( ). أما عن توجهاته الفكرية فيقول د. عبد الرازاق عيد بأن زكريا قد "قاده وضعه الطبقي إلى الانتماء للحزب الشيوعي السوري إذا أتيحت له فرصة الاحتكاك بالمثقفين والأدباء الذين جرفتهم موجة النضال الوطني الحاد، والتي كان نواتها الرئيسية الحزب الشيوعي، الذي كان له دور أساسي في قيام رابطة الكتاب السوريين..... وفي عام 1956م طرد زكريا من الحزب الشيوعي السوري...." ( ).
ونحن بدورنا لا ننكر تحرّك الحزب الشيوعي السوري في هذه الفترة، لكننا لا نستطيع الجزم بأن القاص زكريا تامر- وقد كان شاباً في هذه الآونة- قد انتسب إلى هذا الحزب أم لا، وذلك لندرة توافر المعلومات الشخصية من الكاتب نفسه أو ممن يحيطون به، كما أن د. عيد أغفل أسباب طرد زكريا من الحزب.
ومن الجدير بالذكر أن القومية العربية كانت متأججة في منتصف الخمسينات وبخاصة في مصر بزعامة جمال عبد الناصر الذي قاد الأمة لمحاربة الغرب المستعمر. والتاريخ لا يغفل الكثير من الحوادث التي قلبت موازين القوى في الشرق الأوسط بين الكتلة الغربية والشرقية، ففي خضم هذه الظروف التي تدفع الشباب إلى التشكيك في المبادئ السائدة حاولوا نبذ كل الاتجاهات التي تنادي – وهمياً- بتحرر الإنسان والوطن. كما صدم الأدباء بواقع مبادئ الاشتراكية النظرية، وواقع الوعي القومي الناصري اللذين لم يثبتا فاعليتهما أمام الأزمات القومية وبخاصة بعد حرب حزيران، مما دفعهم إلى التخلي عن الالتزام بأي حزب.
وزكريا تامر – بخاصة- من الأدباء الذين لا يمكن قولبتهم في أي اتجاه أو تحت راية أي حزب، ولا يمكن لامثاله- بحكم طبيعتهم المتحررة من كل القيود- أن يلتزموا بتعاليم أي حزب، وإنما يرون أن قضيتهم هي في صراع الإنسان مع الحياة، وفي أزمة الوجود الإنساني، وذلك بدليل ما يراه زكريا في إحدى مقالاته التي صرح من خلالها أنه انضم إلى جمعية الأدباء العرب 1958م وقد كانت هذه الجمعية محاولة لجمع الأدباء المؤمنين بالعروبة وتوحيد صفوفهم، كما كانت رداً عملياً على نشاط رابطة الكتاب السوريين، ويقول: "وكنا آنذاك مجموعة من الأدباء الشباب الضالين الكارهين لكل قيد سواء أكان أدبياً أم اجتماعياً، والحالمين بتغيير العالم والأدب تغييراً يجعل من كل إنسان سيداً، كما يجعل الأدب يبدع حراً، ويهدم سجوناً شيدت قديماً باسم الأدب الرفيع الراقي"( )، وقد ضمت هذه الجمعية أدباء من مختلف الأعمار والطبقات، لكنها لم تدم طويلاً بسبب الظروف السياسية والانقلابات العسكرية المتكررة. ومن هذا النص يظهر لنا موقف زكريا وزملائه من القيود، والحد من الحريات حتى وإن كانت تلك القيود حزبية.
وعلى الرغم من توقف تحصيل تامر العلمي عند المرحلة الابتدائية، إلا أنه لم يستسلم للواقع الصعب، فكان قارئاً نهماً( ) عكف على تثقيف نفسه تثقيفاً جيداً، فلم يستثن التراث الأدبي الإنساني، كما لم يستثن تمثل الأعمال الأدبية العالمية المعاصرة فقرأ لسارتر، وكافكا، وكامو وغيرهم، ممن أثروا مسيرة الأدب العالمي، كما قرأ في المذهب الوجودي والأدب التعبيري، والعبثي والانطباعي والسريالي، وقد أثّرت هذه القراءات في نهجه وأسلوبه ومستوى أعماله مقارنة مع أعمال غيره من الأدباء في فترة ازدهاره نفسها، مما دفع كثيراً من النقاد إلى عدم الاعتراف بأدب زكريا القصصي في البدايات.
وكما أسلفنا سابقاً بأن زكريا ذو طبيعة خاصة فلا نعلم عن أسرته شيئاً لا من قريب ولا من بعيد، وذلك لأن القاص منغلق على نفسه تماماً، حتى إن أقرب أصدقائه لا يملكون المعرفة الدنيا عن حياته الشخصية، ويبدو أن ذلك يعود إلى إحساس القاص بالاستلاب والشعور بالاغتراب والانفصال عن العالم المحيط إلاّ أن ومضة يتيمة ظهرت في إحدى مقالاته نستنتج من خلالها أنه متزوج وله أطفال().
تقلّب زكريا في أعمال مختلفة، فمن عامل في معمل الحدادة إلى موظف في وزارة الثقافة (مديرية التأليف والترجمة، دمشق) وكان ذلك بين 1960- 1963م( )، وشغل منصب رئيس تحرير عدد من المجلات السورية، أمثال المعرفة( )، كما عُيّن مديراً للنشر ثم سكرتيراً لتحرير مجلة الاتحاد (الموقف الأدبي) ( ) ثم عُيّن نائبا لرئيس اتحاد الكتّاب في الفترة 1973- 1975، وترأس كذلك تحرير مجلة أسامة للأطفال، وتجدر الإشارة إلى أن زكريا كان قد توجه للكتابة للأطفال منذ عام 1968 فتميز إسلوبه، وأثار الانتباه للغته ومفاهيمه الخاصة بالطفولة وقد قال عنه أحمد محمد عطية "... بالإضافة إلى عدد كبير من القصص القصيرة جداً للأطفال، تجاوز صداها الوطن العربي إلى أوروبا بل وإسرائيل أيضا، فقد ترجمت إلى اللغات العالمية وشكلت قصصه بداية الطريق الصحيح لأدب أطفال عربي جديد يبث القيم الإنسانية والقومية والنضالية... ومن خلال قالب فني عصري، ولغة عربية بديعة، ليسهم في تكوين الإنسان العربي الجديد"( ). وترأس كذلك مجلة رافع منذ عام 69- 1970( )، هذا وقد ابتعد عن الاسلوب التقليدي السائد، القائم على الموعظة والإرشاد (إفعل ولا تفعل) والتلقين الذي لا ينمي عند الطفل الاّ مزيداً من الإذعان والرضوخ يقول: "ولا بد من التنويه بأن جيل الأطفال لا يمكن أن ينمو النمو السليم في مجتمع يعاني الآباء والأمهات فيه الظلم والقهر والهوان، والعوز؛ لذا فإن الاهتمام الحقيقي بالأطفال يتطلب في الوقت نفسه الاهتمام بالكبار أيضاً، فتحرير الكبار مما يشوّه إنسانيتهم، ويحول دون تطورهم هو الخطوة الأولى التي لابد منها..." ( ).
لقد كتب زكريا ما يزيد على مائة وخمسين قصة للأطفال، ويرى أن تقديم كتاب رديء للأطفال لهو جريمة تتضح آثارها السلبية في شخصية الطفل حينما يكبر، كما أنه على المؤسسات الثقافية أن تساهم في تنمية ثقافة الطفل ووعيه. أما مؤلفاته التي قدمها للأطفال فهي المجموعات: "لماذا سكت النهر" 1973 و "البيت" 1975 و"قالت الوردة للسنونو" 1977، و "بلاد الأرانب" 1979، وعدد من القصص التي نشرها في دار الفتى العربي (يوم بلا مدرسة، الطفل، المطر، بيت للورقة البيضاء وغيرها...) ( ).
لن نخوض في عالم الأطفال عند زكريا. ولن نتوسع في تناوله هنا، وذلك نظراً لما له من خصوصية ومميزات أسلوبية لا يمكن إيجازها أو المرور عنها مروراً سريعاً إضافة إلى أنها تستحق دراسة مستقلة مفصّلة.
انتقل زكريا للعيش في لندن عام 1981- ولا يزال حتى يومنا هذا- عمل في مجلة الدستور الأسبوعية( ) ثم نشر مقالاته السياسية والأدبية في معظم المجلات العربية وكان من أبرزها مجلة التضامن( )، ومجلة الناقد اللندنية التي نشر خلالها مجموعة من الأقاصيص والحكايات تحت زاوية "قال الملك لوزيره" يحاكي التاريخ من خلالها فينقل القارئ- بالحلة التراثية- إلى الواقع بهمومه وسلبياته وكان ذلك منذ آب/ 88- حزيران/ 1989. كما نشر في مجلة الدوحة عدداً لا بأس به من المقالات في زاوية "خواطر تسرّ الخاطر" كرر خلالها الأسلوب الحكائي السالف( ).
تراوحت مقالات تامر الأدبية بين المقالة القصصية والشخصية، وجاءت عفوية سريعة خالية من التكلّف، وعبّرت تعبيراً صادقاً عن شخصيته وتجاربه الخاصة والرواسب التي تتركها إنعكاسات الحياة نفسها، فتمتاز بروعة المفاجأة، وتوقد الذكاء وتألق الفكاهة والسخرية اللاذعة في انتقاد العادات الاجتماعية البالية والتقاليد السقيمة، والسياسات العقيمة التي تمارس ما يشوه إنسانية الإنسان، فسخر من الحكومات، وسخّف عقول المسؤولين وسخر من تقاعس الناس الانهزامي...
والجدير بالذكر أن تامر ما زال يكتب في صحيفة القدس العربي اللندنية، فلا يتوانى عن شتم السلطات العربية، وتقريع الممارسات الثقافية والأدبية والنقدية التي لا تسير وفق مناهج واضحة، ورؤى صادقة، كما أنه دائم التساؤل عن ماهية الوجود الإنساني، كل ذلك مصبوغ بطابع قصصي جميل، ولا نستغرب ذلك لأنه يقول: "أنا باختصار أعشق القصة القصيرة عشقاً لن يزول بسهولة، فجذوره متغلغلة في شراييني"( ).
ويقول عن سبب امتهانه الكتابة "في المرحلة الأولى التي ألفيت نفسي مندفعاً إلى الكتابة، كنت أحس أني أسقط في هوة لا قاع لها، وكانت الكلمات تنقذني آنذاك... في تلك المرحلة كانت الكلمة الواحدة تبدو لي عالماً كاملاً غنياً له أرضه وسماؤه... وبشره وسجونه... وصيحاته الغاضبة التي تقول لا... الكتابة بالنسبة لي هي الآن أهم ما في الحياة، والمبرر الوحيد لوجودي... وتزداد أهميتها عندي يوماً بعد يوم..." ( ).
وعن اختياري لفن القصة القصيرة تحديداً يقول: "أما اختياري للقصة القصيرة فيرجع لكنها أداة فنية غنية التعبير، تتحدى كاتبها، وتتيح له المجال لتقديم الدليل على أصالته، وموهبته، ومدى إخلاصه لبيئته وإنسانها"( ).
وقد بدأت مسيرته القصصية من مجلة الآداب، فنشر عدداً من القصص، ووجهت له انتقادات كثيرة على أسلوبه الذي لم يكن مقبولاً في أواخر الخمسينات وبداية الستينات، وذلك لأنه كسر حواجز فن القصة التقليدية السائدة، وتجاوزها إلى التجريب، كانوا يرون في قصصه "شيء" لا يمكن وصفه بالقصص.
ولم يتوقف زكريا عن نشر قصصه، كما لم يكترث للآراء المناهضة لأدبه الجديد( ) ونشر في عدد من المجلات الأدبية والثقافية أمثال: المعرفة، والموقف الأدبي، وشعر، والهلال( )، وحوار، والنقاد، والثقافة السورية، وأقلام، والأقلام البغدادية، والدوحة، والتضامن، وغيرها.
وبسبب ما يمتاز به أدب زكريا من سمات تدعو لنبذ الظلم الواقع على الإنسان أينما كان، فقد ترجمت أعماله إلى الفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية والروسية( ) وعن التي ترجمت إلى الروسية فقد جاءت ضمن مختارات قصصية لأدباء من سورية بعنوان: الصمت والموت، إصدار دار المؤلفات الأدبية، موسكو، 1977 إذ طبعت بخمسين ألف نسخة فترجمت قصة "الشمس للصغار" على اعتبار أنها دعوة للمساواة الاجتماعية، كما ترجمت قصة "العرس الشرقي" التي تنتقد العادات الاجتماعية والقيم البالية().
وعن تجربته في كتابة القصة يقول زكريا: "عندما كتبت لم اعتمد على آراء النقاد، ولو عملت بآرائهم في بدايتي لهجرت الكتابة، أو كنت نسخة مشوهة لأدباء آخرين، لكني قبل أن أكتب القصة يخيل إليّ أني عشت جيداً واطلعت على معظم القصص العربية وعلى ما أتيح لي من القصص العالمي، ثم ابتدأت أكتب محاولاً إيجاد صوت ما لم أعثر عليه في قراءاتي"( ). وبذلك ينكشف سرّ تميّز أدب زكريا وطليعيته.
عرفنا سابقاً أن زكريا لم يتلق تعليماً منظماً، بل تعلّم من الحياة والكتب أكثر مما يمكن أن يتعلمه من المدارس. فقد صهرته نار الحدادة في بوتقة الحياة العمالية، فكوّن نفسه بنفسه، وتطلّع إلى التكامل الذاتي بعدما ذاق مرارة العوز، فشحذته الحدادة وشحذت إرادته وزادت من رغبته في التوغل والثبات فقرأ وقرأ كل ما يمكن أن يزوده بشعور الشبع المعرفي. الا أنه مع ذلك لم يستطع أن يبلور نفسه في قالب واضح محدد. ومما ساهم في عدم بلورة موقفه هو عدم معرفة المراد من الإنسان العربي في فترة مليئة بالاضطرابات السياسية، والشعور بمرارة الهزيمة التي خلفها فشل الصراع العربي الإسرائيلي، كل ذلك أدى إلى تولّد الشعور بضرورة الانطواء والتجريد والانبعاث لصالح الفرد عند الأدباء بعامة، وبسبب هذا التأزم، تفاقم الظلم الاجتماعي الذي اتخذ شكل القمع المباشر والاعتداء على الحريات، فعمد الأدباء إلى إيجاد وسائل أكثر فنية وقوة تعبيرية ترسم الوضع العام بشكل جيد( ).
لذا فقد فشل جيل الستينات في خلق الانسجام بين القيم والأفكار التي يؤمن بها، ويطمح إلى تحقيقها، وازداد الشعور بالضياع والقلق والتمرد والغربة، وغدا هذا الجيل يتساءل لم العيش بلا هدف سام تحت رحمة سلطة خيبت الآمال؟ بذلك ظهر ما يسمى بأدب الضياع.
ولا نجد ضيراً من القول بأن هذا النمط كان قد ظهر في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب سيطرة الآلة على الإنسان وتغلب المشاعر الصناعية على المشاعر الإنسانية، والوجود الإنساني مما أدى إلى شيوع روح العبث والضياع أمام دمار العالم وصراع البقاء. وعلى الصعيد العربي فقد أثّرت نكبة فلسطين والشعور بالعجز أمام السلطة والتغيرات السياسية المتسارعة وانفتاح المجتمع العربي على الحياة الغربية منذ رحيل رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق إلى الغرب، وظهور المترجمات ذات النزعة الذاتية. كل ذلك ترك أثراً بالغاً في أنفس الشباب العربي. فتأثر الأدباء
العرب بالأعمال الأدبية العالمية. تلك التي قادتهم بدورها للتأثر بالفلسفة الوجودية والشعور بالضياع، وقد ظهر ذلك جلياً عند أديبنا زكريا الذي أفاد من مختلف المؤثرات الفكرية والفنية، وسخرها في سبيل معالجة القضايا العربية المحلية، فأضحت هذه المؤثرات وسائل فعالة بيده وعلامة على انتمائه لعالمه، وقدرته على استيعاب عناصر الثقافة الحديثة. على أننا لا نجزم بالتزامه في أي اتجاه أو مذهب إلاّ أن رؤيته الفكرية كانت قد تكونت من مجمل ما قرأ وهضم واستوعب، لذا حاول أن يكتب مالم يكتبه غيره متلمسا المراوحة بين التيارات المختلفة، ابتداءً من الاهتمام باللاشعور وبالإنسان الداخلي الذي فصّل القول فيه سيجموند فرويد من قبل في أبحاثه ودراساته للتحليل النفسي من حيث الكشف عن رواسب الطفولة والعقد النفسية والأحلام( ) ومروراً بالسريالية التي ظهرت تجسيدا لمنهج فرويد والتي تبنت فكرة التلاحم العضوي بين الحلم والواقع وكل ما هو فوق الواقع، وتدمير الذات والهروب، كما أنها حلقة اتصال بين عالم الشعور واللاشعور وبين حلم النوم وحلم اليقظة، وتعمل على تشابك الرؤى ودمج المتناقضات حتى توقظ الإنسان على رؤية جديدة للأشياء( ).
كل ذلك جاء في خضم البحث عن ماهية الوجود ومحاولة الكشف عن معنى الوجود وبخاصة بعد أن أثبتت الحروب وأنماط القمع المختلفة أن الإنسان لا شيء، وأنه كالسلعة التي يمكن الاستغناء عنها في أي وقت، فولدت بذلك روح الهزيمة والغربة والتمزق فازداد الإحساس بالعبث والضياع، فما معنى سلوك الإنسان وتصرفه حيال أمر ما إذا فقد الإحساس بالثقة والانسجام والتوافق؟ وتجدر الإشارة هنا إلى أن أدباء هذا العصر ممن هم على شاكلة فرانز كافكا، وصموئيل بيكيت، أمثال زكريا تامر، وإدوار الخراط، ومحمد الماغوط لم يطرحوا حلاً في أدبهم، بل تناولوا الداء كما هو، وعرضوه على سبيل الإشارة للقارئ كنوع من الخلاص آخذين بعين الاعتبار أن الرفض والتغيير أمران لا يمكن تلقينهما( ). حتى انتهى الأدباء إلى الوجودية فاعتبر القلق، والاغتراب، وعرضية الوجود الإنساني، وقيود الوجود، ووشوك الموت، والعزلة من أهم العناصر التي ترتكز عليها الفلسفة الوجودية. وكل ما ورد ذكره كان قد ظهر في خضم العالم العصري المتجدد بسرعة هائلة حتى أحسّ الفرد بالضياع وهدر كرامته، إلى أن سمي هذا الجو العام المشترك بين حضور كافة الاتجاهات والمذاهب في آن واحد بالاتجاه التعبيري، الذي يتكئ على تيار الوعي في التغلغل إلى أعماق الإنسان الدفينة( )، كما أن التيار العام في الأدب الحداثي يتضمن الخروج على الواقع، والتخلص من سيرة العالم الواقعي، وتجاوز حدوده، ومحاولة خلق عالم ذاتي خيالي خاضع لقوانين خاصة لا يعرف من خلالها وجه الإنسان أو اسمه أو مكانه؛ لأنه بات يعالج قضية إنسانية بحتة.
ومن الجدير بالذكر أننا لا نستطيع أن نحسب زكريا على أي مذهب من المذاهب كالوجودية مثلاً وبخاصة إذا اختار من الوجودية- كما اختار من غيرها- دون الالتزام بحرفية مبادئها؛ لأنه لا يستطيع أن يراهن على هذا العالم المشوب بالعبث والقمع. حتى إنه لا يرى في الهروب والسلبية والرغبة الجامحة – أحيانا- بتدمير العالم سوداوية ويقول في ذلك: "وإذا كان أبطال القصص خاضعين لظل أسود، فليس هذا مبعثه سوداوية مريضة انما هو تعبير صادق عن واقع غير إنساني يعيشه بشر معذبون يحاولون الظفر بالسعادة( ).
ولزكريا أفكار وآراء متميّزة بثها في مقالاته كما قد بثها في قصصه من قبل( ) فأعاد استنطاق الشخصيات التراثية، وكررها في أعماله من مثل شخصية جنكيزخان، وعباس بن فرناس مقيماً حوارات معها ومع غيرها من الشخصيات. ولم تكن السياسة بالأمر الصعب الذي لا يخترق، فقد جذبته السياسة وأضحى ناقداً ومحللاً سياسياً يكتب وفق فهم جديد للسياسة، وعني بأزمة الإنسان وقضاياه المصيرية أمام القوى السياسية السلطوية، لذا نراه أحياناً ينقسم على هذا الإنسان (على ضعفه وعجزه) وأحياناً أخرى ينصفه، مؤكداً أن الإنسان واحد لا يتغير، وان تغيّر اسمه أو مكانه، وأن مشكلته التي تعذبه هي قسوة التقاليد المترسبة في المجتمعات ورؤوس الآباء. والإنسان الذي يراه زكريا دائم البحث عن شيء ليس له ظل حقيقي على أرضه، كما يعتبر الإنسان أوّل اهتمامات زكريا وكل شيء ما عداه يأتي لاحقاً، ولا يرى حلا للوضع الراهن بتسلطه وقسوته. كما أنه لا يقترح حلا لذلك بل يكتفي بعرض الحال ويترك أمر التغيير للزمن. وقد انطلق في التعبير عن آرائه الفكرية والفلسفية والسياسية والاقتصادية بعدما عكف على تثقيف نفسه، وتعهد بأن يسلخ نفسه من الطبقة الدنيا بمجهوده وعصاميته، فانفصل عن الطبقة العمالية التي نشأ فيها، وآلت حاله إلى مستوى الطبقة البرجوازية الصغيرة (التي نشأت في أواخر الخمسينات على أنقاض الإقطاع)، إلاّ أنه وجد نفسه غريباً عنها، وظل عيناً عليها يهتك أسرارها ويكشف ضعفها.
يرى زكريا تامر أن الناس باتوا يستمرئون الظلم "فالظلم أمر عادي، والاحتلال عادي، والهوان عادي، والجوع عادي، والقتل اليومي عادي، ودخان البيوت المحترقة عادي... "( ). ولا ينسى أن لسياسة التجويع دوراً هاماً في خلق رعية مطيعة مشيراً بأصابع الاتهام إلى طبيعة السياسة التي ينتهجها حكام العالم وبخاصة العالم العربي، فيقول: "إن الانقلابات العسكرية ما هي إلا إطاحة بحاكم شبع واحلال محله حاكما آخر ين يشبع..."( ). ويعمق رؤيته السياسية لأنماط القمع والتسلط الذي تمارسه السلطة ضد الشعب، فلا يترك فرصة تخلو من توجيه اللوم والقذع للسلطة، والسخرية من رجالها، وهو يعلم تماماً أن العالم العربي الآن هو عالم يملؤه الضباب، وتسوده السوداوية التي ظهرت كنتيجة حتمية لتلك النظارات السوداء التي يضعها الحكام على عيونهم حتى لا يرو الشمس (لاحظ الأسلوب الرمزي) فإن العالم كله قد رضخ للملوك الا الشمس، بقيت تشرق وتغرب ولا تستسلم لأوامر الملك، لذا يجب أن يرتدي العالم نظارات سوداء حتى يقنع الملك بأن الشمس قد أصاخت لأوامره...، فزعماء الأمة يتخبطون، "فهم يمارسون الاستبداد أحياناً عن علم ودراية ووعي بنتائجه، وذلك تحقيقاً لجبروت يقبع داخل أنفسهم المريضة وأحياناً أخرى يصورهم زكريا أنهم أغبياء ينقادون لحاشية ملوثة خبيثة تسعى لتحقيق مصالحها الشخصية فقط على حساب الشعوب. ويرى كذلك أن الحكومات لم تنزل من السماء وأن الناس هم الذين أوجدوها لتخدمهم لا ليخدموها( ).
والقارئ لأعمال زكريا يستطيع أن يتلمس الدرب نحو الكثير من مباديء الكواكبي( ) المنددة بالاستبداد والداعية لرفع الظلم والقمع والتسلط، وزكريا بدوره يندد بالاستبداد بأسلوب ساخر لاذع ناقد لحال الأمة المستسلمة لعدد من الأفراد.
مفهوم المواطنة:
أما مفهوم المواطنة عند زكريا فقد جاء بعدة صور، إذ لم ينسلخ يوماً عن قضايا مجتمعه وهموم المواطن العربي، بل لا يملّ تعداد مظاهر البؤس في الحياة العربية، مصرّا على أن سبب مشكلات العالم ناجمة عن السلطة، حتى أن السلطة العالمية صيغة أخرى للاستبداد ويقول: "قالت الوردة البيضاء بهزء: أنت تتكلم كمجلس الأمن الدولي الذي لا عمل له سوى أن يقدم الاحتجاج تلو الاحتجاج بينما الشعوب تخرّ صرعى في معتقلات الدول الكبرى"( ).
فمواطن زكريا لا يحب الرضوخ لقوانين وأنظمة أو حتى لروتين ما، ويتمرد على كل النظم التي تقيد حرية الإنسان وانطلاقه، يقول: "والضاحك الباكي مواطن عربي عادي يتصف بأنه لا يستطيع أن يكون مختلفاً عن غيره من عباد الله المواطنين الذين يشكلون أغلبية مبعثرة من المحيط إلى الخليج، وهذه الصفة أدت إلى اهتمامه فقط بما يسمى بقضاياه المصيرية"( ). ولا يترك فرصة تمكنه من الاعتداد بعروبته وموروثه العظيم الا ويتحدث فيها فيقول: "أوشكت جارتي العجوز الانجليزية أن تبيع بيتها في مزاد علني بأبخس الأسعار هرباً من ومن اعتدادي بعروبتي ومآثرها"( ).
كما أن وطنيته وشعوره بالانتماء لا يقفان عند حد، فيرى في فلسطين قضية قومية عربية ينبغي الدفاع عنها، كما أن إسرائيل هي العدو اللدود للأمة العربية، ويسخر من الموقف العربي اللاهث وراء السلام مع إسرائيل قائلاً: "إن العدد (2) لم يحدد العطور الصالحة للناس الذين يستخدمون من المقابر بيوتاً لهم... وتحدث عن عطر يتيح للمرء أن يعرف من هو صديقه ومن هو عدوه، ولو ذكر اسم العطر لاشتريت كميات كبيرة وأهديت إلى الوفود العربية التي تفاوض اسرائيل".
إضافة إلى أنه يرى أن المواطن العربي يفضل الرضوخ والانسحاق – نتيجة الخوف من السلطة- فيقول ساخرا من هذا الجبن " والمواطنون العرب في معظم أقطارهم حريصون على أن يكونوا صالحين، فالعنق الأعزل لايلام إذا تهرب من مواجهة سكين عطشى إلى الدم"( ). لذا فنجد زكريا مهموما دائما، وهمه نابع من خوفه على مصير الإنسان المسحوق بسبب جهله وتبعيته وتخلفه ورضوخه للذل، والجوع المزمن، يقول: ".... ولكن هؤلاء الأطباء لو تابعوا بحثهم في بقية جسم ذلك المريض العربي فسيجدون الآتي: سيجدون في قلبه مخافر للشرطة، وتلالاً من الخيبات والآمال المنتحرة، سيجدون في رئتيه دخان المعارك الخاسرة، سيجدون في عينيه خوفاً له أوثان تعبد، وفي أذنيه خطباً تقاتل وتنتصر وفي يديه تاريخاً عريقاً لتصفيق يؤازر الجلاد، وفي معدته جوعاً أقدم من أهرامات مصر، وفي رأسه سجوناً وأشباحاً ومشانق..."( ). وهذا النمط من المواطنين نمط ناقم على العالم حاقد على كل القوى. التي لم تخترع شيئاً يجعله يستغني عن الطعام فيتحرر من قيود ترغم المعد الخاوية على الخضوع لها، فتظهر صورة المقهور المستلب الذي ما عاد يفكر بالتغيير وذلك لأنه لا يستطيع ان يملك قراراً، فالسوء والظلم لا يأتي إلا من السلطة (المجتمع، والشرطة...) ولا بد للعربي أن يعيش سعيداً لو أنه يملك رزقه وحريته.
أشرنا سابقاً إلى أن زكريا قد انسلخ عن الطبقة الكادحة بجهده وتحول إلى البرجوازية الصغيرة، إلا أنه شعر بالاغتراب في هذه الطبقة، وحدّق مليّاً بأنماط الناس فيها ووضع يده على أناس منافقين متسلقين، يلهثون وراء الملذات، يقول: "يجود الشجاع بنفسه وماله في سبيل قومه، فيسارع البخيل إلى المتاجرة بتضحية الشجاع فيربح الشجاع قبراً... ويربح البخيل ثروة جديدة بلا تعب..."( ).
فالاستغلال لا حدود له – من وجهة نظره- وأصحاب النفوس المريضة يتاجرون بالوطن والمواطن، حتى صار المجتمع بلا هوية، وبلا وجود محترم، فالمناضل لا مكان له في عالم زكريا، ليس لأنه غير موجود بل لأن المجتمع بعامته يصطبغ بالضياع والانهزام والجوع. وها هو الوزير يحاور الملك بحوار مغلف بالغش والخداع "قال الملك:.... وأريد وزيراً للمالية نزيهاً أميناً نظيف اليدين، قال الوزير: هذه الوزارة ليس لها سوى ابني السادس، فهو يغسل يديه بالصابون والماء الحار عشرات المرات في اليوم الواحد"( ).
أما عن مفهومه للحرية يقول " الحرية التي يريدها الإنسان العربي هي أن يستطيع التعبير عن أفكاره وآرائه في أمور تتعلق بمصيره، ومصير بلده من غير أن يخلد في سجن أو يتدلى من مشنقة... ولا ننظر إلى تلك الأفعال على أنها شائنة، وخيانة للوطن والأمة، وهي أن يتاح له خدمة وطنه، لا خدمة حاكمه فقط...، ولكن فاقدي الحرية هم المسؤولون عما حلَّ بهم"( ).
والحرية ليست ترفاً يطالب به الإنسان العربي، بل هي حق ينبغي أن يناله كي يصبح ارتباطه بوطنه ارتباطاً عضوياً، إلا أنه لا يدافع عنها حاضا عليها، بل يكتفي بإعلان تشاؤمه. ويعود عام 1987 ليقف هازئاً ساخراً مما يمارس من قمع وكبت لكنه لا يصرح بالتغيير حتى بات البحث عن الحرية أخيراً غير مجد لأن مفهوم الحرية يقتصر وجوده على القاموس. لذا أخيراً غير مجد لأن مفهوم الحرية يقتصر وجوده على القاموس( ). لذا لا يجد بداً من التمرد، والتمرد نوع من الالتزام إلا أنه التزام بمرارة، والالتزام والاخلاص صفتان لا تفارقان أديبنا، كما أنه لا يترك فرصة إلا ويحض عليهما، ويدعو للتواصل معها، فيرى "أنه عندما يقدم على الكتاب إنسان يتميز بإخلاصه لوجوده وفنه وأرضه، فلا بد أن ثمة صوتاً ملحاً عميقاً يحفزه لقول شيء ما عن حياة البشر، وسيكتسب هذا القول- بشكل عفوي- طابعاً مميزاً نابعاً من رؤية الكاتب الخاصة للعالم والناس، وهذه الرؤية هي التعبير الخفي عن الأصالة والموهبة"( ).
ولا يقف عند هذا الحد بل يرى أن ثمة امتحاناً لإخلاص المثقف لشعبه، ويتجلى ذلك في تقويمه للحاكم من خلال ما يقدمه لشعبه، لا من خلال ما يظهفر به من مغانم شخصية، بذلك يلقي زكريا على عاتق الأديب هماً كبيراً يتمثل بالاتزام تجاه قضايا الشعب، فلا يرى في الانسلاخ مهرباً "فالتزام الأديب بمشكلات وطنه أمر مطلوب ومهمن وضروري، كما أن ثقة الأديب بنفسه صفة حسنة لا بد من توافرها ليستمر العطاء والتطور...." ( ). بذلك تقع مسؤولية تمهيد سبل الوعي لدى الأمة على عاتق المثقف لأن المخلوق الجائع المتعب اليائس لا يستطيع رؤية الورد الجميل والسماء الزرقاء( ).
أما موقفه من النقد والنقاد، والأدب والأدباء، فقد توصلنا من خلال مقالاته إلى أنه ناقم على مستوى الأدب في الوطن العربي وحاقد كذلك على الأدباء الذين باعوا الكلمة لمن يدفع أكثر، فجردوها من الصدق الموضوعي والفني، حتى فقدت هويتها. إلا أننا نجد في نقده وعرض آرائه شيئاً من الاندفاع والقسوة، فيرى أن النقاد لا يعرفون من أصول النقد شيئاً، ويصفهم بأنهم يتأرجحون ويميلون حيث مالت الريح، لكن رأيه هذا ليس على إطلاقه بل يرى- أحياناً- ومضات حقيقية مضيئة وصادقة لبعض النماذج على صعيد الأدباء والنقاد. ويصنّف، الأدباء عدة أصناف منها "أدباء طاعنون في السن، يؤمنون أن الأدب المبدع الأصيل لا ينتجه إلا من كان يحمل لقب دكتور، وينتمي كذلك إلى أسرة ثرية. وأدباء يعتبرون النتاج الأدبي وسيلة للشهرة الاجتماعية. وأدباء يملكون دكاكين يبيعون فيها بأسعار لا تزاحم شتى الأفكار والقيم والمبادئ والشعارات( ).
ويرى كذلك أن الأدباء مراوغون، إذ يتكلمون خمسة آلاف كلمة كي يقولوا إن الذبابة هي ذبابة، مشيراً إلى عيوب تلك الفئة المكتسبة وهذا ما دفعه فيما بعد إلى هجر المنتديات الأدبية والصالونات النقدية وكذلك المؤتمرات. وعلى الرغم من موقفه السابق إلا أنه يرى وفي موضع آخر أن هناك من الأدباء من يكتب كي يحصل على لقمة العيش فيضطر إلى ابتذال نفسه للوصول إلى ذلك إلا أنه نهاية يتعجب كيف يمكن لأديب عربي أن يعيش مرفوع الرأس منذ لحظة خروجه من بطن أمه وحتى لحظة غيابه في باطن الأرض وذلك لأن من عليه أن يختار حرفة الكتابة الصادقة التي لا تجامل لا يحتاج إلاّ إلى ذكاء واحد الا وهو أن يتعلم كيف يحفر قبره بقلمه( ).
وينتقد زكريا حديث الشعر والشعراء بأُسلوب ساخر، فيقول: "إنه لحدث تاريخي جلل أن يترجم الشعر العربي إلى لغات أجنبية، ولكن الخطوة الأولى الذكية المتصفة بالواقعية تقضي بأن يترجم ذلك الشعر إلى اللغة العربية أولاً"( ). ولا يهزأ بغموض الشعر وإبهامه بسبب من التكلف والإغراق في الغموض فقط بل يسخر من كتّابه أيضاً، فيوقظ الشاعر أحمد شوقي الذي يصدم بمستوى ما يقدم من أشعار، ويعدها مهاترات جهلة، لذا يرى زكريا بأنه يتوجب تنصيب شوقي ملكاً للشعراء لا أميرا فقط( ). بهذه الجرأة وقوة الصراحة الممزوجة بحس السخرية المتضمن نقداً لاذعاً متزمتاً في بعض الأحيان يرى زكريا أن الأديب يقف أمام تحديات حضارية عظيمة، وعليه أن يحدد انتماءه بصدق، فإما أن ينتمي إلى عالم مدعوم بالجلادين والخونة والسجون، وإما أن ينتمي إلى عالم آخر لم يظهر بعد، وما زال في الأحلام، إلا أنه قادر على منح الإنسان العربي كل ما يفقده من حرية، وفرح، وعدالة، وكرامة... وفي اختيار الأديب لأحد هذين الخيارين برهان على مدى أصالته وإخلاصه لوطنه وإنسانها( ).
ويعد النقد ضرباً من ألوان الحرية، وغيابه يعني ضرباً للتطور والتقدم حتى الموت. ومعركة زكريا مع النقد والنقاد أشد وطأ، لذا يقسّم النقاد إلى زمر، زمرة تنتقد الكتب نقداً مراً من غير أن تقرأها، وزمرة تمتدح الكتب قبل أن يكتبها مؤلفوها، وزمرة متقيدة بالحكمة القائلة إن السكوت من ذهب. وهذه الزمر جميعها تحب الذهب والفضة( )، من ذلك يرى زكريا بأن النقاد تجار كبار، يعتبرون الأعمال الأدبية صفقات مالية مربحة كما لا يغفل أولئك النقاد الذين ينحازون للأدباء بناء على معرفة شخصية مسبقة. وعن تجربته مع النقاد يقول "تجربتي الخاصة في الكتابة علمتني ألا أحترم – كثيرا – آراء النقاد في قصصي، ففي سنوات بدايتي كنت ما إن أنشر قصة حتى يشتمها النقاد، ثم أنشر قصة ثانية فيسارعون إلى مدح الأولى وشتم الثانية، لذا فقد اقتنعت بالسير في عام يخلو من النقاد( ). فالمجتمع العربي بحاجة ماسّة إلى النقد الصارم الذي لا يشفق ولا يهادن ولا يساوم، ولا يبقي نفعاً مادياً( ). وحتى يتحقق ذلك فقد قاطع زكريا المؤتمرات الأدبية التي تقام بيم الحين والآخر في أرجاء الوطن وذلك لأنه يرى فيها تكايا تتيح الفرصة لأكبر عدد من الأدباء كي يأكلوا الطعام مجاناً ويناموا في فنادق فخمة، في حين يخرجون بتوصيات تنشر في الصحف وملعون من ينفذها( ). فالفجوة كبيرة بين الواقع الحياتي، والمثاليات، والنظريات والشعارات التي ترفع بين الحين والآخر.
وكثيرا ما يجلس زكريا للكتابة وهو في حالة هياج، وثورة عارمة، عندها لا يجد أملاً ولا حرية ولا مستقبلاً، فتطل النظرة السوداوية على قلمه لتشحنه فلا يعود يرى في الحياة بصيصاً من نور، فكلما تقدم الزمان تعقدت الحياة وتحول الناس إلى آلات مبرمجة لا تملك حريتها، ولا وطنها، ولا يجد الفرد صديقاً يأنس به الا اللحد وحده( ). كيف لا وقد وصف أبو نواس – منذ مئات السنين- زمانه بأنه زمان القرود، فيتساءل زكريا لو أنه عاش في زماننا، فماذا كان سيطلق عليه من أوصاف؟ لا شك أنه سيعجز عن ذلك.
لذا يظن العالم أسود ممسوخاً، ويعتبر العالم العربي من أشد العوالم بشاعة، فيعمد إلى قلب الموازين وتجميل البشاعة، وذلك حتى يكون انعكاس هذه الصورة على الناس غير مقلوب، كما المرأة، فالغربان من – وجهة نظره- تغرّد، والحمائم تنعم، والإنسان الذي يسأل عن أمنيته سيتمنّى لو يصبح حصاناً؛ لأن الحصان لا يركبه إلا واحد بينما المواطن العربي فمركوب من الكثيرين دفعة واحدة، لذا نجد زكريا يرتاح لفكرة الشنفري الذي استبدل عالم الإنس بعالم الحيوان كي يكونوا أهلا له في وقت عزّ فيه الأهل، ويكررها كثيراً.
ويدخل زكريا في عوالمه الخاصة مغلّفاً برؤية ساخرة، مركزاً على المفارقات بروح الدعابة التي لا تخلو من الحدة، واللذغ، والإيلام أحياناً كثيرة. وبما أن الفن الساخر (الهجاء) قائم على فكرة التشويه فإن الأديب المصاب بعاهة خلقية مثلا يعكس نفسيته تلك على أدبه ويتحدد بذلك سير أبطاله كما الجاحظ والمعري مثلاً. وعادة ما يكون المهجو نموذجاً مأساوياً يمثل مأساة الإنسانية بأسرها، ويمثل جور الزمان كله، وكأن الكاتب يريد أن يلذع الآخرين قبل أن يلذعوه، وزكريا حين يقذف حممه على من حوله إنما يقذفها قاصداً الإنسانية كلها.
وغالباً ما تجد المأساة طريقها من خلال المهزلة والسخرية فهو ساخر لاذع لكل من يبيع نفسه للشهوات، ولكل انتهازي مريض، ولمعنى الحياة ومفهوم الوجود. كما استخدم زكريا عنواناً لافتاً للنظر لزاويته في مجلة التضامن وهو " الضاحك الباكي" وكثيراً ما استخدم هذه الزاوية كي يستتر خلفها أثناء كتابة مقالاته الساخرة اللاذعة لأنظمة الحكم العربية وجهل الناس وقسوة الحياة عليه وعلى أمثاله، يقول:" والضاحك الباكي مجهول مغمور، لاتنشر الجرائد والمجلات صوره، فصوره تصلح للنشر فقط في صفحات الوفيات والجرائم"( )، ويعلل زكريا أُسلوبه اللاذع هذا بقوله:" والضاحك الباكي مهذب جداً... غير أنه لا يجسر على تجاهل الحقائق العلمية القائلة إن الشتيمة – أحياناً- هي من أرقى أنواع التهذيب حيث تكون موجهة إلى من يجعلون حياة الإنسان شقاء يستمر من المهد إلى الحد"().
ومن خلال هذه النظرة التشاؤمية يطل علينا زكريا في حلته السوداوية الساخطة على العالم، والتي تتمنى الإطاحة بالكون كي ينمو كون جديد خالٍ من الشوائب.
ويعتبر زكريا التراث الإنساني منبعاً لتعميق مفهوم الأصالة عند كل أديب "وأن الأديب لا يستطيع أن يبلور مفاهيم جديدة للعمل الأدبي دون الاطلاع على التراث الأدبي الإنساني، وهضم ذلك التراث والتفاعل معه التفاعل الحي الايجابي"( ).
لذا فقد استنطق التاريخ القديم، وأحيا الشخصيات التراثية العربية، وأتاح لها الفرصة كي تتلمس معالم هذا الواقع الجديد مقيماً معها حوارات مختلفة نستنتج من خلالها أن الكاتب لم يلجأ لهذا الأسلوب إلا بعد تشبع إحساسه بالهزيمة أمام الواقع، فما كان منه إلا أن أعاد صياغة التاريخ من جديد وعكس البطولات إلى مواقف إنهزامية وبرع في توظيف شخصياته، فابن بطوطة في عصرنا مثلاً، يؤثر، يؤثر السلامة ويعزف عن الترحال، لأن البلاد العربية أضحت حدودها فنادق( ).
والمُتنبي – في أكثر من مقالة أدبية- يقرر الإضراب عن نظم الشعر( ). والشنفري غير راضٍ عن وضعه المعيشي فيتسكع ويسعى لتأمين عيشه من خلال طرق الأبواب، فيسرق وينافق( ).
أما أبو حيان التوحيدي، فنتيجة لعجزه وانهزامه أمام الواقع يقرر الهروب ناسباً نفسه إلى شعب أوغنده، ناسفاً كل صلة له بالعروبة( ). كما أن عباس بن فرناس يبرر سبب طيرانه في كل مرّة تختلف عن سابقتها، الاّ أنها تشترك جميعاً في أن فكرة الطيران قد ولدت كنوع من خلاص الفرد من مجتمعه وحكامه. وتجدر الاشارة إلى أن شخصية عباس بن فرناس تكررت كثيراً جداً في مقالات زكريا الأدبية، وفي قصصه( ).
أما عبد الرحمن الكواكبي فنجده بين يدي زكريا قد اتخذ من بيع السجائر مهنة له، وتنكّر لمؤلفاته ومبادئه التي تعمد زكريا أن يسرد بعضا منها( ). فعلى كل إنسان – يعيش في هذا العصر- أن يتنكر لنفسه، وعقله، ووجوده، وعليه أن يسبح مع التيار الخانع، أو أن يتيه في الضباب.
لقد كرر زكريا تامر العديد من مقالاته وقصصه في مجلات مختلفة داخل الوطن وخارجه، دون أن تجد الباحثة أية إضافة أو تعديل على تلك المقالات، ولا ندري ما سبب التكرار هذا، ونذكر على سبيل المثال: المتنبي يغزو لندن( )، وشجرة البؤس( )، والنار والعقرب( ) نبوءة كافور الإخشيدي( )، وقصة النهر ميت( ).
لقد اتسم أسلوب زكريا بالخفة والبساطة والسخرية المغلّفة بالطابع التراثي في مجلة الدوحة القطرية، بينما ركز على أسلوب المواجهة والصراحة في الطرح ونقد واقع الطبقة البرجوازية في مجلة التضامن اللندنية، فعبّر من خلال هذه المجلة عما يجول في نفسه، وعن وجهة نظره بصراحة مطلقة ينتقد من خلالها الوضع الاجتماعي القائم على النفاق، والرياء، والسمعة. ويعود سبب الاختلاف في النهج بين المجلتين اللتين رأسلهما في الوقت نفسه إلى اختلاف المكان وطبيعة الجو العربي الذي لا يحتمل الصراحة والجو الغربي القائم على الصراحة والحرية المطلقة. كل ذلك ظهر بأسلوب جميل جداً يشدُّ القارئ إلى قوة اللغة وحسن السبك، وتكرار الألفاظ، والمترادفات، والعناية بالاطالة غير المخلّة كي تترسخ أفكاره ومبادؤه.
الفصل الثاني
موقفه من المجتمع (من خلال قصصه)
تدور أسئلة كثيرة حول رؤية زكريا تامر وتصوره للمجتمع الذي يرسمه فأي مجتمع يقصد؟ وأي عالم يرسم؟ هل هو مجتمعنا ببساطته وتخلفه؟ أم أن الكاتب يعيش في عالمه الخاص جداً؟ أم أن ملامح الوسط الذي يضع الكاتب أبطاله فيه ينطبق على مجتمعات غير مجتمعاتنا العربية؟
وفي هذا الصدد طرح الأديب حنا مينة موقفه من مجتمع زكريا فقال: "عندما نقرأ قصص زكريا تامر... فإننا لا نعرف هوي هذا الإنسان ولا قمعية هذا الشرطي ولا الزمان أو المكان، لذلك يقوم التجريد مقام التعميم... ثم إن الإنسان في الوطن العربي كله، ورغم السجون والمعتقلات، ليس مذلاً ولا رعديداً، ولا يحمل أكفانه ليدور ميتاً في قلب الحياة، لذا نفتقد الموضوعية... والصدق... وكأنه لا عالم.... وكأننا نبرئ ذمتنا أمام جميع الحكام لأننا لا نقصد أياً منهم بالذات"( ).
لكننا، ومن جراء البحث والتقصي الدقيق نستطيع القول بأن قصص زكريا تامر تشكل تعبيراً حياً عن المجتمع الشرقي، فترسم واقعه رسماً دقيقاً كما تكشف النقاب عن حقيقته بشخوصه وعاداته الشعبية، ويتضح ذلك من خلال النصوص المليئة بالإشارات الصريحة الواضحة التي تدلل على مجتمعنا الشرقي. وقبل أن نثبت ذلك نعرض طرحاً لزكريا تامر فيه رد على أصحاب الفكرة التي يتبناها حنا مينة وغيره فيقول:" ثمة مخلوق مضطهد مسحوق هالك بائس، لا يضحك ومحروم من الفرح والحرية، وهذا المخلوق له وجود حقيقي في بلدنا، ولكنه كان مهملاً منبوذاً. فمن يسمون أنفسهم كتاباً ملتزمين، كانوا منهمكين في تصوير المتسولين وبائعي اليانصيب، وتقديمهم على أنهم الطبقة المسحوقة في بلدنا روحياً ومادياً"( ). فزكريا تامر يعبر عن هموم مجتمع الطبقة البرجوازية الصغيرة، وقضاياها ويرى أنه بات لزاماً على الأدباء مراعاة قضية هامة تخص قراء الأدب؛ لأن الكتابة التي لا توجه إلى أصحابها ليست ذات قيمة أو فائدة على اعتبار أن تفشي الأمية يحول دون كتابة هموم المتسول وبائع اليانصيب فقط فضلاً عن اعتبارها هي الأصل في هموم الإنسان العربي؛ لهذا السبب عُني زكريا بالإنسان العربي المثقف لأنه بدوره هو الذي يعنى بقراءة الأداب، وهو الذي يعاني صراع إثبات الوجود في مجتمع لا يعترف إلا بالمادة، فجاء أدبه ليعبر عن هؤلاء الذين يملأون الوطن ويعانون من التشرد الروحي قبل الجسدي، بصورة الفرد النموذج الذي يكاد يتكرر في معظم أعماله والذي يتصدر بطولة قصصه دون منازع.
لذا علينا ألاّ نغالي أو نشتط في مثل تلك التساؤلات. فندع النصوص هي التي تنطق وتعبر عن مجتمع زكريا تامر. هذا المجتمع الذي يمارس جانباً من القمع- إن لم يكن كله- على الإنسان (الفرد) فيحطمه ويجعله تائهاً غريباً حتى وهو بين أهله ووطنه. وليس هناك من عيب أو خطأ في تناول كاتبنا لمثل هذا النمط من الأفراد، حتى وإن كان هذا النموذج يملأ الغرب الرأسمالي، فنحن في عصر فرض نظمه القمعية على كل إنسان أينما حلَّ، وهموم الإنسان كإنسان غالباً ما تكون متشابهة وعامة وبخاصة إذا لامست هذه الهموم الكرامة الإنسانية والجوع والحرية والحب.
لقد أبرز لنا زكريا تامر مظاهر القمع التي يمارسها المجتمع الشرقي على أبنائه النخبة ممثلة بتوضيح موقفه من الفروق الطبقية، وهيمنة سلطة الأخلاق والقيم والعادات، والاغتراب الذاتي والاجتماعي، والسلطة الأبوية، وسنتناول هذه الأنماط بشيء من التفصيل:-
أولاً- الفروق الطبقية:
لم يتساءل زكريا تامر في قصصه عن سبب وجود الفقراء والأغنياء، وكذلك لم يتساءل عن الفارق بينهم، ولم يدعُ إلى حلٍّ ما بل اكتفى بالرصد، إذ رصد ظاهرة الفقر والجوع رصداً دقيقاً، أبرز من خلاله معاناة الفرد الذي لا عمل له فيقتله الجوع. وتفنن برسم المجتمع الغني بمنازله الحجرية الفخمة، وبهرجة سكانه، أصحاب السيارات الفارهة.
وتتجسد أزمة البطل في وحدته، وشعوره بتخلف طبقته الفقيرة الشعبية، فينسلخ منها لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع الانخراط في عالم الأغنياء، فيرفض طبقته ويرفض فقره وبؤسه.
ويستغل زكريا همّ الجوع عند أبطاله ليعبر به عن هموم إنسانية كبيرة بل تتحول هذه الهموم – أحياناً- إلى ملحمة سريالية مفجعة كما يرى الكاتب رياض عصمت فالجوع في قصصه نوعان: نوع مادي وآخر معنوي، وهذا النوعان يتشابكان معاً من أجل إضاءة حياة الفرد التعسة( )، حتى يصل بهم إلى إنكار القيم الخيّرة كلّها، ويدفعهم إلى هوّة اليأس والقهر والإحباط فيلجأون إلى ارتكاب أعمال قد تكون عنيفة أو يلجأون إلى عالم الأحلام والكوابيس، فالجوع مثلاً كان قد استشرى في الحارة ودفع بأميمة كي تسلك مسالك الرذيلة( )، وبليلى كي ترضخ لابن عمها عباس( )، والجوع هو الذي دفع أحد المساجين كي يشتم أمه وأباه وجده وجدته( ).
وتكثر النماذج التي تظهر لنا الجوع على أنه عدوّ شرس وُظّفَ من قبل قوة ما – لا يحددها- كي يقتل في الإنسان إنسانيته ويقربه من عالم الحيوان، ويشوه أحلامه، فلا يستطيع الجائع أن يحب ولا يملك تفكيراً متزناً، بل يتشرد في الطرقات متمنياً أن تستأصل معدته التي طالما ذكّرته بالطعام، ويتمنى أيضاً أن يريح قلبه المعتوه لأنه يعشق مدينة بخيلة لم تعطه سوى البؤس والجوع والكآبة( ).
وأبطال زكريا الجائعون هم غالباً لا يملكون عملاً ما، وذلك يعود إلى أحد سببين: ندرة الوظائف الشاغرة، والثاني أن الأعمال الشاغرة لا ترضي طوح بطل زكريا، ولا تتناسب مع طبيعته الممزقة المنهزمة. فهذا شاب يعلن في الصحف عن: "شاب للبيع عمره خمس وعشرون سنة يقوم بأي عمل، والثمن تأمين طعام يومي له"( ). وهناك آخرون يبحثون عن عمل لا يُخدش كبرياؤهم فيه، فلا يجدون. ويخاطب أحدهم قطته قائلاً:" يا قطتي العزيزة حياتي بائسة، والفقر يشنق أية ومضة فرح قد تعبر قلبي... غير أني لن أيأس..." ( ).
ومن اللافت للنظر أن البحث عن عمل في حياة الأبطال لا يأتي حباً به ولكن لأنه الطريق الوحيد الذي يؤمن أدنى سبل العيش، فهذا عامل متعب يتثاءب وهو يمضغ لقمة كبيرة، ويقول: " كل يوم تتحطم جبهتي لأجلك يا رغيف.. يا عاري الكبير"( ). وكذلك رندا فقد ضربتها أمها لأنها طلبت أن تشتري ثوباً أحمر قائلة لها: "إن شراء الخبز أكثر أهمية من شراء ثوب أحمر"( ). ويسير أحمد في قصة "سيرحل الدخان" بلا نقود أو سجائر فيمنعه كبرياؤه من الانحناء والتقاط عقب سيجارة رماه إلى الأرض رجل أنيق بحركة لا مبالية من يده، مما أشعر أحمد بذل عنيف واكتسحته رغبة حمقاء في البكاء كامرأة هرمة"( ).
وهذا هو مجتمع الفقراء الذي يصوره زكريا فلا يجد أبطاله مناصاً من الأحلام والكوابيس للإشباع جوعهم، فيحلم بطل "الأغنية الزرقاء الخشنة" بأن يصبح ملكاً كي يحطم الجوع وينقذ الناس من براثنه( ). مما سبق نستطيع القول إن قضية الجوع هي من أهم القضايا وأكثرها شيوعاً في أعمال زكريا تامر، وأن التخلص منه، يعد – بحد ذاته- تحقيقاً للحرية، وكما قال أحد أبطاله: "إله مدينتي خبز، حبيبتي جميلة كالخبز"( ).
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو كيف صور زكريا عالم الأغنياء؟ مقابل ذلك العالم المشوّه، وهل ثار على وجوده أم أن هناك تمازجاً بين هاتين الطبقتين (طبقة الفقراء، وطبقة الأغنياء)؟
لقد دعا زكريا في قصصه إلى نبذ الفروق الطبقية التي تقتل الكرامة الإنسانية إلا أننا نجده- أحياناً- قد سلَّم بوجود هذا الفارق الطبقي في المجتمع على اعتبار لأنها قضية موجودة أصلاً منذ القدم فدعا إلى ضرورة فتح قنوات التفاعل والتعايش بين الفقراء والأغنياء. يقول أحد أبطاله: "يجب عليكم يا إخواني أن تهدموا الجدار الذي يفصل الإنسان عن الإنسان"( ). كما تحدث الراوي في قصة "ربيع في الرماد" عن مدينة قديمة هادئة وادعة، ناسها مزيج من الأغنياء والفقراء، يعيشون بسعادة وأمان ومحبة، ويؤمنون بالله إيماناً قوياً"( ). وعلى الرغم من هذه الدعوة الصريحة لنبذ الفروق الطبقية وتجاوزها إلا أن ذلك لم يكن ليتحقق، فيوسف مثلاً يعلم علم اليقين أن أهل سميرة الأغنياء لن يزوجوها من فقير، لذا تمخضت نهاية علاقتهما عن تفجير مكامن الحقد والرغبة في الانتقام من عجرفة الطبقة الغنية فتركها تواجه الفضيحة وحدها بعد أن أخذ منها ما يريد( ).
بذلك يكون بطل زكريا- المعدم اقتصادياً – ضحية مجتمعه الشرس، فيتمنى العيش في ظل ظروف جيدة مع الأغنياء إلا أن عالم الأغنياء جزء من شراسة الواقع، لذا تبلور إحساس الفرد بالدونية، يقول بطل قصة "رجل من دمشق" بعد أن قادته قدماه إلى شارع فخم عالي المباني: "أحسست بأني
لست سوى بقعة سوداء تلطخ سطحاً أبيض"( )، كان ذلك عندما أبصر كلباً في إحدى البنايات، يداعبه طفل أنيق، وقد تبين له أن الكلب يأكل كيلو من اللحم يومياً فتمنى لو يضع أصحاب هذه البناية الطوق الحديدي في عنقه بدل الكلب كي يحصل على كيلو لحماً يومياً. عندها سيعوي لهم أحسن من كلاب العالم جميعاً.
هذه مأساة الفقر في مواجهة الغنى، فعندما يحدث فواز حبيبته إلهام عن مرض غريب سيأتي ولن يصيب سوى الأغنياء فيموتون جميعاً في يوم واحد، عندها سيقبل الفقراء ويسكنون في منازل الأغنياء الحجرية الجميلة( ). وبذلك لا يرغب بعمل تغيير جذري في إذابة الطبقية بل على العكس من ذلك فهو ينتظر أن تأتي قوى خارقة كي تخلص الفقراء من الأغنياء الذين لا يدرون عن هموم الفقراء شيئاً ويتجسد ذلك في قول القرصان للأميرة بأن "الناس خارج القصر يجوعون وأحياناً ينتزعون قلوبهم من صدورهم ويبيعونها ويشترون بثمنها خبزاً"( ).
لم يكتف زكريا برسم صورة البطل الحانق الحاقد على الطبقة الغنية بل صور هؤلاء الأغنياء بأبشع الصور إذ جعلهم يأكلون لحوم البشر وغيرها فبطل قصة "ابتسم يا وجهها المتعب" يتناول طعاماً في مطعم خاص بالأغنياء فيتبين له فيما بعد أ الطعام عبارة عن لحم إنسان بدين (لاحظ الرمز الذي
يرسم من خلاله شراسة الأغنياء)، إذ يعتبر هذا الطعام من أفخر الأطعمة الرائجة بين طبقة الأغنياء( ). وفي قصة "جوع"، يُغمى على أحمد من شدة الجوع، وبينما هو في إغمائه يرى نفسه وقد صار ملكاً، تقدم له أفخر الأطعمة المكونة من لحم طفل صغير، فيأكل بنهم وسعادة، دون أن يشعر بتقزز أو غثيان كما حصل مع بطل القصة السابقة؛ وسبب ذلك يعود إلى أن أحمد معجب بعالم الأغنياء، وهو راغب في العيش كما يعيشون؛ لذا فقد تلذذ بطعم اللحم البشري، بينما بطل القصة السابقة فقد دخل المطعم الخاص بالأغنياء لأنه يملك نقوداً لوقت محدد فقط ولا يرغب في أن يكون ضمن عالم الأغنياء لذا؛ وجدناه قد شعر بغثيان وتقزز من أكل لحوم البشر، وإن دلَّ هذا الرمز على شيء فإنما يدل على بشاعة العالم الذي يملك المال على حساب الكثيرين الجياع، وأن ما يأكله هؤلاء الأغنياء لهو من دم البشر وراحتهم، ومالهم، وأجسادهم، وشقائهم وما نشأت حياتهم إلا على حساب حياة أمثال بطل زكريا البائس.
من ذلك ندرك سبب انسلاخ بطل زكريا من طبقته الفقيرة، وفي الوقت نفسه عدم رغبته بمهادنة الطبقة الأخرى، وأنه لو ترك الخيار له لمزّق كل الحواجز التي صنعها المجتمع الزائف ولعاش البشر معاً دونما فروق.
ثانياً- صراع القيم:
إن مجتمعاً غارقاً في المفاهيم المتحجرة والعادات البالية لن يزيد إنسان زكريا إلا الضياع والرغبة في الانتحار من أجل التخلص من الحياة البائسة. يقول بطل إحدى القصص بأن أهله- وكثيراً من الناس يوافقونهم الرأي- ينصحونه بأن يحني رأسه إذا أراد العيش بسعادة؛ لأن الرأس المرفوع يشقي صاحبه( ). هذا هو المجتمع الذي يصوره زكريا، والذي يساهم في تمزيق الفرد. لذا تحاك الشباك حول الفرد، ويحبس خلف قضبان القيم التي ما عادت تتناسب مع آماله وطموحه. فيغدو مطالباً بالانتهاء في الجماعة، أو أن ينعزل عن مجتمعه ويعيش متقوقعاً على نفسه.
ومن هذه القيم البالية ممارسة الزوجة دور المخلصة لزوجها على الرغم من أنها لا ترغب باستمرار الحياة معه؛ وذلك لأنها زوِّجت له قصراً ودون مشورتها. فعندما يموت البنّاء في قصة "السجن" تولول زوجته وتصيح وتندب حظها على فراق زوجها أمام الناس، وعندما يأتي الليل تستسلم لهدوء غريب، وتنام قريرة العين، وعلى ثغرها ابتسامة وسكينة( ). بذلك يتعلم الفرد النفاق الاجتماعي كما يتعلم الغش والمداهنة، وتتمزق مبادئه كما تمزقت مبادئ والده رندا التي كانت ترفض تقبيل الأيدي وهي صغيرة لكنها عندما كبرت أضحت تقبل الأيدي وتحني الرأس للآخرين( ).
ومن القضايا الاجتماعية التي عرضها زكريا في أعماله قضية العار وهذه من أهم القضايا الأخلاقية المطروحة والتي غالباً ما تنتهي بالقتل ثأراً للشرف، وقد تكون هذه القضية مقنعة نوعاً ما إلا أن زكريا طبقها على حالات تتصف بالبراءة والصدق، ولكن المجتمع الساذج يرى بعين عوراء فتذبح فطمة أخت منذر السالم في حارة السعدي على يديه لأن كبرياءها قد أغاظ زوجها على الرغم من احترامها له وإطاعتها إياه إطاعة مطلقة، إلا أنه لم يستطع أن يمتلك قلبها ومشاعرها، فما كان منه إلا أن توجه إلى أخيها الجالس في المقهى قائلاً له: " بدل أن تجلس كعنتر بين الرجال اذهب وخذ أُختك من بيتي"( ). وكلمة عنتر هذه تكفي قيمياً – لأنها تحمل معنى الإهانة للرجل- أن يتوجه منذر إلى أخته ويذبحها دون أن يستفسر عن السبب.
وعندما أبصر رجال حارة السعدي عائشة- ابنة عبدالله الحلبي- تمشي مرفوعة الرأس دون ملاءة سوداء، اعتبروا ذلك خروجاً على عادات الحارة وتقاليدها كما عدّوه تشجيعاً منها لغيرها من النساء للتمرد على سلطة الرجل، وتكون النهاية أن ترتدي عائلة عبد الله الحلبي ثياب الحداد على ابنها الذي راح ضحية الدفاع عن أخته ومبادئها، ورغم ذلك لم يكن ليرى عبد الله الحلبي نفسه مذنباً أو متمرداً على تقاليد مجتمعه بل طرح التساؤل التالي: "هل إذا ارتدت عاهرة ملاءة فهل تصير شريفة؟"( )، وفي هذا التساؤل يدق زكريا تامر أجراس الإنذار التي تنبه إلى توقيع الإنسان في ظل قيم وتقاليد قاتلة لا تنتهي إلا يموت الفرد أو تمزقه. كما يتضح من هذا التساؤل مدى تناقض المجتمع المتزمت مع نفسه وتشتته بين القبول والرفض، الاستسلام والتمرد.
ونوال البنت الصغيرة التي ألفاها أخوها مع رجل عجوز، تموت على يد أخيها القائل: "العار يجب أن يحمى"( )، وماذا في مثل سلوك هذه الفتاة الصغير من عار؟ إلا أن زكريا يبالغ في رصد هذه السلوكات متعمداّ تهويلها حتى تنجلي الصورة القمعية تماماً أمام القارئ، فروح الفرد المبدع والمتميز مطاردة ومهزومة دائماً أمام أول صدام لها مع الجماعة. لذا ينخرط فرد زكريا وينصاع لتزمتها على غير قناعة منه، مما يولد لديه شعوراً بالازدواجية والتناقض لعجزه عن مسايسة هذه المبادئ فيجلس مع نفسه وخلف الأضواء وفي السرايب. وعندما أمسكت ليلى بيد أحمد في قصة "النابالم" وهما يسيران في الشارع، يخشى أحمد على ليلى من الناس ويقول: "اتركي يدي لئلا يراك أحد ويخبر أهلك"( ) مرتداً إلى خلفيته القيّمية السائدة، إلا أن ليلى لم تتخل عن يده متحدية بذلك كل المفاهيم والقيم، وفي الوقت نفسه يتمنى أحمد أن يرى ليلي عارية أمامه، وذلك عندما اختلى بها في غرفته، ولولا دخول صاحب البناية عليهما لتمكن أحمد من تحقيق ما يتمنى.
وعندما يسكن كل من أحمد وعصام في بيت أرملة، تصبح الأرملة فريسة ينتظر الشابان فرصة وقوعها كي يتقاسماها، وفي الوقت نفسه الذي فيه يهمان بالخروج من غرفتيهما إلى ساحة البيت، يطرقان الباب عدة طرقات تنذر بخروجهما، عندها على النساء أن يخبئن لأن قوانين المجتمع عنيت بصيانة الأعراض من الدنس ولكنها لم تعن بتطهير النفوس أولاَ( ). هذا هو الطرح الذي حاول زكريا تامر أن يتلمسه ويضع تحته عدة خطوط للرائي مل ذلك مبتعداً عن المباشرة في الطرح أو عرض الحلول. ويكفي أن نقول بأنه غالباً ما تمارس القيم السائدة دورً قمعياً على الفرد مما يؤدي إلى خنقه وكبته وقتل حريته، وبخاصة إذا عرفنا بأن الحرية المطلوبة لدى أبطال زكريا هي حرية مطلقة لا تنفاد تحت أية ظروف – لأية ضغوطات أو قيود.
ثالثاً – الصراع مع السلطة الأبوية:
يساهم الأب في أعمال زكريا مساهمة فعالة في قمع الفرد، وتزقه. فهو رجل متسلط، متحجر، متزمت، والبطل لا يرضى بهذا النموذج فيتمنى عمراً بلا أب "وتجسدت في مخيلة يوسف بقايا مدة.. أبنية متهدمة، فهتف بلا صوت: عمري يتبدد، أريد عمراً آخر بلا أب"( ). وبما أنه لا يريد أباً، يرفض كذلك أن يصير بدوره أباً، وليس هذا فحسب بل لا يريد أن يتزوج، كل ذلك بسبب ما خلفته صورة والده مع قمع وتسلط، فلا يريد أن يكرر تلك المأساة مع جيل جديد.
ولا يخفي على أحد أن هذه القضية الذي نعيش لما نعيش خلاله الفجوة بين الأب وابنه، فما عاد الأب يستوعب توهج ابنه، كما أنه بقي محافظاً على صورته التقليدية، الآمرة الناهية التي تقول – دائماً– لا، ولا تؤمن بمبدأ فتح الاتصال مع الأبناء ومثال ذلك عندما يذهب بطل قصة "الصقر" إلى المقبرة لزيارة ضريح عندها يتضح الحزن، والخوف، والانكسار، إلا أن صوت أبيه يأتيه صارخاً مؤنباً: "يا ولد، اخجل، كيف عن التدخين"( ) فيطيعه البطل خائفاً، وعندما يسأله والده عن سبب تأخره في الزواج، يجيب رافضاً الفكرة من أساسها فيوبخه والده توبيخاً لاذعاً مما دفعه إلى مغادرة المقبرة حانقاً حاقداً، فيهرع إلى البيت ويذبح حبيبته – التي لم تغسل جواربه – دون أن ترتجف يداه، وبهذا السلوك يفرغ شحنات حنقه – على تسلط والده حتى وهو في قبره – على من هم حوله ولا ذنب لهم بما يجري. وبذلك يطرد الشمس من السماء ليدلل على الوحشة التي غلّفت وقيدت حريته.
أما يوسف في "ثلج آخر الليل" فيتعرض لقمع والده القاسي ولا يجرؤ على التدخين أمامه، كما أن أباه باع المذياع الذي يعتبر لصديق الوحيد ليوسف، مع أنه يعلم علم اليقين بهذه الحقيقة، ولا يكتفي بهذه المحاصرة بل يكلف يوسف البحث عن أخته الفارة من تسلط أبيها وكبته لحريتها، ويطلب منه أن يذبحها ( كالكلبة )، رغم أن يوسف لا يريد في قرارة نفيه أن يذبح أخته التي طالما أحبها، ولعب معها إلا أنه يجد نفسه منساقاً لرغبة والده متحاملاً على نفسه( ).
كل ذلك ينشأ نتيجة خلفية قيميّة، توارثها الآباء عن أجداهم فيها حض على إطاعة الآباء، والانقياد، لأوامرهم وأهوائهم دون المسألة، وربما تضخم هذا الأمر، لشعور الآباء بأنهم الوحيدون المنتجون بينما الأبناء والأمهات فهم المستهلكون، والده يسف – مثلاً – ابنه بكامل الأجرة التي يتقاضها من عمله وربما نستشف من ذلك سبب عزوف الشباب عن العمل لإحساسهم بأن ناتج علمهم لا يعود عليهم بالنفع الشخصي. ليس هذا فحسب بل يحاول والد يوسف منعه من قراءة الكتب، زاعماً أنها تفسد عليه عقله، وتضيع وقته وماله، يقول يوسف واصفاً أباه "أبي لا يحب سوى الأولاد الذي يشتغلون في النهار، وينامون في الليل، ولا ينفقون نقودهم ويقبلون يده باحترام، لن أقبل يدك يا أبي"( ). إننا نلمس تطوراً في شخصية الفرد إذ لاحظنا سابقاً أن الفرد ينساق لأوامر أبيه تماماً رغم أنه لا يقرها بينما يظهر في قصة "البدوي" أنه بدأ يرفع صوته رافضاً تقبيل يد والده، حتى ينتهي المطاف بأبطال زكريا إلى صنع تابوت يلقون والدهم به، وذلك في مجموعته الأخيرة "النمور في اليوم العاشر" عندما يرفضون نموذج الأب الذي لم يعلّمهم سوى تقبيل اليد التي صفعتهم، وإنحاء الرؤوس كما أخافهم من ثوب المرأة، فلا ماضي لهم، ولا حاضر ولا مستقبل، إضافة إلى أنه علّمهم عدم النظر إلى السماء( ).
بذلك تحقق ثورة الأبناء على آبائهم، محاولة منهم للخلاص مع القمع الذي يمكن في الأسرة، لعلهم فيما بعد يقدرون على التخلص من القمع الناشئ في الشارع، والمقهى، والمعمل.
رابعاً – الاغتراب الذاتي والاجتماعي:
مما سبق نستشف عدة إرهاصات ممهدة لغربة الفرد عن نفسه وانسلاخه من مجتمعه كما نستشف بأن الفرد بريء من ذلك والمجتمع هو المدان الحقيقي وهو الذي قاد الفرد إلى الانسلاخ عن نفسه، يرى د. إحسان عباس "أن الفرد منهزم قبل أن تبدو إمارات هزيمته، فمن ذا الذي يستطيع أن يقول إن الفرد هو الذي سينتصر في النهاية؟"( ) ويظهر هذا القول جلياً عند زكريا تامر إذ إن الفرد في قصصه يرنو إلى الهزيمة والاستسلام، واليأس، أكثر من ميله نحو الثورة أو التمرد أو طرح البدائل لحل المشكلات، وليس زكريا تامر وحده من يهتم بمأساة الإنسان أمام الوجود فقد اصطدم فرانز كافكا* من قبل بعالمه المحيط به والذي لم يتعرف بالفرد إنساناً له كيانه وهمومه ومشكلاته أمام المجتمع، لذا فقد اشترك كل منهما بتسليط الضوء على الفرد الممزق المغترب حتى عن نفسه، كما اعترف كل كمهما بصفعته وعجزه عن مقاومة هذا المجتمع والتمرد عليه. ففي قصة كافكا "تحريات كلب" مثلاً، ينقم الكلب الصغير على أجداده الكلاب الذي ساهموا في توريط حياته الكلبية في الإثم فيقول: "فبرغم أنني قد أشعر بأنني مضطر إلى معارضتهم إلا أنني في الواقع سوف لا أتخطى قوانينهم أبداً( )، ومن ذلك يظهر لنا أن الفرد مسلوب الإرادة، وأم إرادته خاضعة لإرادة الآخرين، وأنه لا مفرّ – حتى الموت – من سلطة الآخرين على الفرد المستسلم لقوة التيارات الخارجية. ونرى كذلك أنه دون قرار بائع الفحم بإعطاء بطل قصة "راكب الجردل"( ) وقوداً فلت يبقى على قيد الحياة، فحياته أضحت مرهونة بيد بائع الفحم".
وفي ظل البحث الدائم عن معنى الوجود يغترب الإنسان عن نفسه اغتراباً يظل يتعمق حتى تنعدم شخصيته. ويزداد إحساسه بالقلق، والعجز، واليأس، والعزلة، والكآبة، والدونية،.. إلخ وتعد هذه النتيجة حجر الزاوية في بناء كل من كافكا وتامر الفني، وكما تجرد الإشارة إلى أن هذا الإحساس لم ينم إلا بعد تجربة قاسية عاشها الفرد في مجتمعه، فدفعته حساسيته إلى نبذ المفاهيم والقيم السائدة، فعمل بطل زكريا في معامل صناعية مختلفة رسمها على أنها عبارة عن مكان جاف يحوي عدداً من الآلات الحديدية، وعدداً من البشر الذي لا يعرفون سوى العمل، لذا فلا تجمعهم أية مشاعر إنسانية، ويقدر للبطل أن يطرد من عمله في أحد المصانع وذلك لأنه أتلف – بالخطأ – إحدى الآلات، فصار يتسكع في الشوارع باحثاً عن عمل آخر كي يؤمن رزقه( ) وفي قصة لاحقة يقرر البطل العودة إلى المعمل إلا أن الرجل الزنجي – القابع داخل فرد زكريا – يحس باختناق، فتسول له نفسه ترك العمل مرّة ثانية، وفي خضم تفكيره يأتيه صوت الآمر قائلاً "ما بالك متوقفاً عن العمل؟ اشتغل، اشتغل"( ) فيدرك صعوبة الاستمرار في مسرحية تقوم على مبدأ قتل الإنسان وتعذيبه، فيبصق البطل في وجه الآمر ويكون الطرد بانتظاره، عندها فقط يستعيد إنسانيته المفقودة.
وصف شخص آخر من أبطال زكريا حياته اليومية التي لا نرى فيها شيئاً من التعقيد بل على العكس هي بسيطة وساذجة، إلا أنه يراها بمنظار آخر فيقول "وحيد ككلب الأسواق الأجرب، وتعيش أيضاً ككلب الأسواق الأجرب، ستنهض في الصباح في لحظة معينة... ستتمطى بتكاسل... ثم سيدفنك المعمل في أحشائه الشرسة.. تعب... أتنسى رائحة لحم العامل المحترق، الذي تساقط عليه الحديد الناري المصهور، تلك الرائحة هي العالم.." ( ).
فلا يرى البطل في السعي سوى روتين قاتل، وهو عدّو الروتين الأول فلا يحب تقييدأ لحريته على الرغم من أن هذا التقييد يكون ضرورياً للعيش الكريم في كثير من الأحيان إلا أننا نجده لا يتذكر من المعمل سوى الوجه البشع الذي يرميه – كالكلب – وحيداً في الأسواق، ويصف المعمل بأنه عبارة عن "حديد ولحم وحجر"( ) امتزجت معاً لتكوّن شيئاً ما كريهاً، حتى عن وجه صاحب المعمل "قاس خبيث،أعطنا ولحم نساء أيها الرب الفولاذي"( ) فقد صوره كالآله الذي يعني تقسيم الأرزاق، فيعطي متى يشاء، ويحرم متى يشاء من يشاء، إلا أنه مجبول من الفولاذ (الحديد كناية عن القسوة)، ولطالما حلم يوسف أنه يذبح صاحب المعمل، ويهدم المعامل باسم الإنسانية " سأهدم المعامل، وسأجمع الآلات في مكان واحد، ثم أقول بصوت كله مهابة وجلال: أنت أيتها الآلات، مخلوقات مجرمة، جئت من بلاد غريبة، حاملة لنا الشقاء، إنني أمر بتحطيمك باسم الإنسان الذي يريد أن يحيا وديعاً نقياً، طيباً. ثم سأصيح في وجوه الناس المجتمعين حولي: هيا يا بلهاء ارجعوا إلى الأرض، إنها الأم الوحيدة التي تعطيكم خبزاً، وفرحاً دون أن تلوث قلوبكم بالكراهية"( ).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا هذه الرؤية السوداوية للعمل في المصانع وصاحب العمل ؟ المجرد أنها مستوردة فقط فعلمت – كما يرى زكريا – على انتزاع الإنسان العربي البسيط من أرضه (مكمن الانتماء ) ليصبح جزءاً من مكونات المعمل كالحديد والحجر مثلاً؟ إن كان ذلك كذلك فهذه مبالغة ودليل على انتقال هذه المسألة لمجرد التأثر بالأدباء الغربيين الذي طرحوا هذه القضية في عصرهم الذي سادته الآلة (الثورة الصناعية) فجردتهم من إنسانيتهم. لكننا نرى أن زكريا قد أحس بانتقال جسم الآلة من الحضارة الغربية دون تمهيد لذلك ودون أن ينتقل الفهم الشامل لأسباب وجودها، مما أدى إلى خلق هوة سحيقة بين الإنسان وهذا المخلوق الحديدي فكان الصدام حاداً، وتطور الشعور بالحنق على الآلة إلى رفض العالم الذي تحكمه، وانبثق التساؤل عن معنى الوجود. مع العلم بأن الصورة البشعة لهذه المعامل لم تكن قد وصلتنا حتى ذلك الحين. لذا نجد لزاماً علينا أن نبحث عن أبرز أثر غربي كان قد تأثر به زكريا في خضم البحث عن معنى الوجود.
لقد قادنا ما لمسناه من أثر أجنبي في بعض أعمال زكريا تامر إلى طرح التساؤل التالي: أي الأدباء الأجانب كان له أكبر الأثر في أعمال زكريا؟
لقد تبين بعد دراسة لبعض أعمال فرانزكافكا( ) المتمثلة في القضية، وتحريات كلب، وراكب الجردل، والمسخ والجحر، أنها من أكثر الآثار بروزاً وانعكاساً في أعمال زكيا تامر.
لقد لاقت أعمال فرانزكافكا المترجمة صدى قوياً في نفس زكريا وبخاصة كل ما يتعلق بالبحث عن معنى الوجود والهدف من الحياة، فقد تساءل الكلب الصغير في " تحريات كلب" عند كافكا عن الهدف من وجوده أما تسارع الزمن وغلبة عصر الآلة قائلاً " أيمكنني أن أتأمل أسس وجودنا.... أيمكنني أن أتكهن بعمقها....؟" ( )ويتعمق التساؤل فيضيف " ما هو أشد غرابة لحد بعيد بالنسبة لعقلي هو اللامعقولية، لا معقولية هذا الوجود "( ).
لقد لمسنا من خلال دراسة بعض الأعمال بأن كلاً من كافكا وزكريا قد سعى إلى خلق عالم خاص به، وإلى محاولة لإيجاد معنى لوجوده بطريقته الخاصة، ونحن بدورنا لا ننكر الاختلاف البيئي بين هذين الأديبين كما لا ننكر اختلاف موازين القيم والمورثات لكل منهما، إلا أننا حاولنا عقد المقارنة في
القضايا التي يشتركان بها على المستوى الإنساني البحث من مثل تبني فكرة الدفاع عن حرية الفرد، وتسليط الضوء على أسباب اغترابه وعزلته أمام أشكال السلطة المختلفة.
لقد حلم بطل زكريا بوجود مدينة ذات شروط خاصة تتناسب مع طبيعته لا أن يتناسب هو معها كالتي فرضها الواقع عليه، وكافكا كذلك ففي قصته " الجحر" مثلاً يختار البطل العيش في جحر مظلم لا ينافسه فيه أحد ولا ينغص أحد عليه حياته، وهو في نظره قمة الجحور وأفخمها( ) وهو السيد الوحيد لحجراته وغرفه، ومنه يستمد القوة والأمن. لكنه – مع كل هذه السيطرة على عالمه الذي صنعه بنفسه – لم يتخلص من القلق الذي يثيره الوجود خارج الجحر وذلك لأنه جزء لا يتجزأ من العالم الخارجي، الذي لا يمكن له – نهاية – أن ينسلخ منه.
يطرح بطل زكريا تساؤله عن الوجود فيقول: ".... فأنا شاب أحمق، عديم الفائدة.... اشتغلت في أعمال كثيرة كرهتها كلها... ولقد طالما تساءلت: لماذا أعيش ما دام ليس هناك ما أعيش لأجله، ولا فائدة ن وجودي... لماذا لا أنتحر ؟ "( )، وبذلك يتوصل الأديبان إلى أن الحياة عبث ولا شيء غير العبث.
ولسبب من الإحساس بتفاهة الحياة وتعقدها، بشكل يشوه الصورة المثالية لها جاءت رواية " المسخ" لكافكا ليعبر من خلالها عن واقع المعاناة التي خلفتها الرأسمالية، والتي بدورها قضت على العلاقات الإنسانية من خلال اهتمامها بالعمل على حساب إنسانية العامل وبالآلة على حساب راحة العامل، فتبدأ علاقات سامسا المتحول إلى حشرة كبيرة بينه وبين الناس بالتغير، إنها صدمة الواقع المشوه إذ يعمل سامسا موظفاً بسيطاً في مكتب، ولا حول ولا قوة له. سوى أنه يرفض أن يكون إنساناً آلياً سخيفاً، ويطالب بكل أعاد الإنسانية للحياة حتى أصبح كل ما فيه يعيش حالة اغتراب، فطريقته في تناول الطعام أضحت تشبه الحيوان، وصوته صار غريباً وما عاد المجتمع يرضى به حتى أن اخته تطلب من أبيها التخلص منه ( ). ويمكننا الإشارة إلى صورة الاخت في قصة " الجريمة" عند زكريا تامر إذ تشهد على أخيها أمام المحكمة بأنه فعلاً قاتل الجنرال كليبر، وتمارس مع أهلها دور الجلاد للتخلص منه( ) وفي قصة أخرى لزكريا تتشوه الحياة في نظر خليل السامر، فيمسخ كل ما فيها من مظاهر إنسانية عندما يدخل إلى المطعم لتناول الطعم، فيفاجأ بأن الزبائن ما هم إلا عبارة عن جرذان كبيرة أنيقة وكذلك " الجرسون" وأثناء جلوسه في المطعم يدلف جرذ كبير أنيق يقود بيده طفلاً يمشي على أربع مطوقاً بسلسلة حديدية، عندها يفشل خليل السامر في محاولة تخيل طفل أشقر الشعر يضحك بعذوبة، كما فشل عندما حاول أن يتخيل شجرة خضراء وعصفوراً صغيراً.... ( ) لذا فقد أضحى وحيداً في عالم كله جرذان لم يستطع المحافظة على إنسانيته أكثر، وشيئاً فشيئاً بدأ صوته يتحول إلى نباح، وأخذ يستسيغ قطعة اللحم النيئة التي قدمها له الجرسون فأضحت لذيذة مغرية بالنسبة له. فعلى الرغم من انعكاس صورة التشويه والمسخ في كلا العملين إلا أن مؤداهما واحد ففي (المسخ) مثلاً تحول الفرد إلى حشرة ضخمة، أي أنه صار في نظر المجتمع شاذاً عنهم فنبذوه لذا قرر أن يريحهم من نفسه فانتحر. أما في قصة (الهزيمة)، ينهزم الفرد أمام المجتمع الذي كان عبارة عن جرذان كبيرة، والفرد منبوذ لأنه شاذ عنهم، والفارق الذي نلمسه بين العملين هو أن أبطال زكريا فشلوا في مقاومة المجتمع، فما كان منهم إلا الانخراط فيه رغم تشوهه وعلاته مع استمرارية التفكير بالانتحار. أما بطل كافكا فقد قرر الانتحار، لأنه وجد من الصعوبة بمكان الانخراط في مجتمع ينبذه ويكن له العداء.
بذلك لا يستطيع الفرد أن يتصالح مع المجتمع لأن المجتمع لا يمد له يد المصالحة، بل على لعكس من ذلك فقد تزداد إمكانية انسلاخه عن مجتمعه، ففي قصة " القبو" يرجع البطل إلى قبوه حيث تتعاقب أيامه بلا أفراح، فيسأل أمه إن كان أحد قد سأل عنه في غيابه، وعندما تخبره بأن لا أحد قد سأل عنه يقول: "فامتلكتني خيبة مريرة، وأحسست بأن من أشد الناس بؤساً، ولم أستطيع البكاء لأن عيني أمي كانتا تراقباني بفضول، فقصدت المرحاض، وهناك اسندت خدي بجداره الخشن الوسخ وانتحبت طويلاً دون خجل.... "( )
أما الكلب الصغير بطل قصة " تحريات كلب" فقد بدا له وكأنه قد فصل عن جميع زملائه ليعبر مسافة قصيرة... كما لو أنه سيموت بسبب الإهمال أكثر منه بسبب الجوع، إذ كان واضحاً أن أحداً لم يشعر بقلق عليه، ويضيف قائلاً " لا أحد تحت الأرض أو عليها أو فوقها يشعر بقلق علي، إنني كلب موت بسبب لا أباليتهم "( ). لقد قام كل من كافكا وزكريا بالكشف عن جذور الاغتراب لكنهما بقيا أسيري الاغتراب فلم ينته بهما إلى ثورة رافضة بل قادهما إلى العجز المأساوي، واليأس المبرر من وجهة نظرهما. وفي النص التالي يلخص زكريا مأساة بطله الممزق فيقول: " إني أعيش في هذا القبو.... العالم يجثم فوقي إني سأظل حتى النهاية في قعر المدينة "( ) وفي قصة أخرى يصف لنا حال بطله الذي يعيش حالة اغتراب من شتى الجوانب (اللامقدورة، وفقدان الماهية واللاإنتماء، والوحدة، والقلق، والرفض، والتمرد) قائلاً " غرفة الرجل المتعب بلا ضوء، صامتة ـ علبة صغيرة من الحجر الرطب، أعود إليها بدون حنين بعد أن تشردت طوال ساعات.... " ويضيف "
وكنت وطواطاً هرماً أعمى، جناحاه محطمان، لا أجد خبزي وفرحي... يصدمني الصخب أينما سرت فلكم يرعبني ضجيج المخلوقات الزاحفة حولي على الأرصفة، إنه يبعدني عن نفسي، عن نقطة سوداء قابعة في داخلي، باردة حزينة.... أنا لست سوى مخلوق ما ضائع في زحام مدينة كبيرة قديمة... لست دون جوان، لا أملك سيارة، ولا بناية شامخة... جبهتي لم تلمس مرة سجادة مسجد.... صورتي لا يعرفها قراء الصحف اشتغل في اليوم ثماني ساعات.... أتعب، أبتلع الطعام بسرعة عجيبة. أدخن... أجلس في مقهى.... أشترك بحماس في مناقشات عقيمة....أضحك ببلاهة.... أغازل فتيات. اشتم الله، أصادق مومسات.... أقرأ كتاباً... "( ).
في هذا النص تجسيد لمأساة المثقف العربي، وحيرته، والفراغ النفسي والعاطفي الذي يكابده، وكآبته من كثرة القيود التي يرسف تحتها، والتي تقوده إلى الشعور بالحرمان تارة، والى التمرد البسيط تارة أخرى، وفيه تجسيد للغيظ المكبوت الذي ينطوي على الكفر، إنها قصة إنسان كافكا كذلك، الذي ينزوي في جحره هرباً من الأعداء (العالم). ولا يختلف بطل قصة " الفريسة" عن صاحب الجحر هذا، إذ يفر من العالم المشوه المرعب ويستقر في نهر عدة سنوات، وحيداً مستسلماً لطمأنينة غريبة حتى جاءه صياد في أحد الأيام فانتشله ظناً منه أن هذا الإنسان سمكة غريبة، وأقنع أولاده الجياع بأكلها( ) فلا مناص من قسوة العالم على الفرد، ومهما طال عليه الزمن فسوف تنال منه اليد البشعة، لذا فما الفائدة من هذا الوجود ؟ ولماذا لا ينتحر بطل زكريا؟؟
إن من أبرز المظاهر التي التفت إليها كل من كافكا وزكريا في أعمالهما تحول الأبطال من العالم البشري إلى الحيواني، إذ يتخلون، بل يتجردون من الإنسانية المشوهة متجهين نحو عالم الحيوان، لعل إحساسهم بالوجود يتحقق من خلاله. ففي " تحريات كلب" مثلاً يتحول البطل إلى واحد من مجتمع الكلاب لكنه على الرغم من ذلك يشر بانعزاله عن المجتمع الكلبي عندها يطرح السؤال الصعب ما الهدف من الوجود ؟ وما الغاية منه ؟ إنها مأساة الشعور بالاغتراب إذ تتحول الحياة الإنسانية إلى الحياة الحيوانية المجردة كما لمسنا ذلك في كل من المسخ، والحجر.
ويؤكد زكريا على أن وجود الفرد لا معنى له طالما أنه فقد القدرة على التعامل بإنسانيته في مجتمع خالٍ من الإنسانية، فالشنفرى – مثلاً – لم يجد بداً من التوحد مع قطته عندما عاد إلى مسكنه وحيداً يشتهي الكلمات والورد والنجوم، لكن القطة لم تمنحه نعمة التوحد، فخدشته في وجهه، وهربت، عندها تحول صوته شيئاً فشيئاً إلى صراخ ممطوط: "نياو، نياو...." ( ). ويتحول محمد إلى قط هزيل، يموء مواءً حاداً، ويمشي عبر الطرقات دون هدف، وذلك عندما لم تبتسم له المرأة التي أحبها( ).
ويتفاقم الشعور بالدونية والحيوانية عند أبطاله كلما أحسوا بقسوة الواقع عليهم، وكلما اشتهوا شيئاً ولم يتحقق، فتتحول النقطة السوداء المختبئة في صميم أحدهم إلى عنكبوت لا يستطيع مقاومته، بل يسقط بسهولة بين أذرعه اللزجة( ) ويخاطب أحد أبطاله امرأة يحبها قائلاً:
" أحبك، فتسأله إن كان يشعر وهو يردده هذه الكلمة بأن إنساناً رائعاً سيولد في نفسه، فيجيبها: لا شيء في داخلي سوى بعض العناكب والقبور المهجورة ( )" ويتعالى صوت عمر السعدي – الذي قبض عليه ولم يعلم ما هي تهمته( ) – مقلدا مواء القط في هيئة صراخ شرس، وينتظر بلهفة ركلة الحارس عندما يفتح باب الزنزانة عليه( ).
من ذلك ندرك أن إحساس كل من الأديبين قائم على عدم مهادنة هذا العالم، ما دامت أساب الاغتراب قائمة، وطالما أنه لم يتم التغلب عليها، فستبقى الجثة، أو الحشرة أو العنكبوت، أو الكلب، أو الغراب، أو القط هي النهاية الحقيقية لإنسان يعيش في عالم مشوه، وسيبقى إنسان زكريا عبارة عن "شيء" أو مخلوق ما، أو كتلة لحم مسترخية على وجه سرير أو غراب هرم، أو جورب عتيق مهمل، لا يحس بالحياة لأنها لا تحس به. ومن أمثلة ذلك يقول بطل زكريا: " أنا شيء فظ جاف خشن، غير إنساني"( ). ويقول في موضع آخر: " ليتني كنت غراباً، أنا تمثال من صخر صلد، أملس مغروس وسط ضوضاء مخبولة"( ).
إنه " لعبث فما عادت الحياة ذات معنى يثير اهتمام الفرد، فلا معنى في الحب ولا في المال كما لا يوجد معنى للعيش بحد ذاته إنه مرة أخرى السؤال الصعب: " لماذا تعيش يا سكران... لماذا لا أموت ؟ ماذا سأفعل لو كنت أملك مدناً من ذهب... لو أحبتني أجمل امرأة... ماذا سأفعل ؟ أظنني سأحدق في لمعة حذائي الجديد وأقول بضجر: أوه كل الأشياء تافهة وغبية"( ).
بسبب هذه العبثية يندفع أبطال كل من زكريا تامر وكافكا إلى التفكير بالانتحار، وكما أنه لا معنى في الحاضر، فلا بد أن المستقبل يخلو من المعنى أيضاً ؛ فهو كيومهم الذي يعيشون فيه عقيم تعس، لذا يختاران الموت لأبطالهما كما اختارا لهم الحرية من قبل، فالموت من وجهة نظرهما ليس تلك التجربة السيئة، وإنما هو تجربة يمر عبرها الإنسان نحو الصفاء الكلي، هذه هي حقيقة الموت لديهما، قالت المرأة متحدثة عن الموت " الموت لا يخيفني.... إنه بدء طريق إلى عالم كبير جداً ومجهول " ( ). كما يستسلم جوزيف. ك للإعدام دون مقاومة فعلى الرغم من عدم الخوف من الموت على اعتبار أنه حقيقة مطلقة إلا أن هذه الفكرة تؤرق الفرد، وتسيطر على تفكيره لأنها الخطوة الأولى في السؤال عن الخلود والبحث عنه، يقول أحد أبطال زكريا " آذار، نيسان، مارس، الثلاثاء، الأربعاء.... متى يتوقف هذا الركض المجنون ؟سأدفن يوماً في حفرة، ويظل النهر حياً "( ) إنه الصراع والقلق الذي يعمق الإحساس بتفاهة الحياة عبث الوجود، ويقول أيضاً " مازال الحمار سيداً، فلسقط أبي، فلتعش امرأة جارنا، تفو... كلنا سنموت"( ) ويتساءل البطل مستغرباً من سؤال أحد المارة له عن الساعة فيقول " لماذا يسأل ما دام سيموت في يوم من الأيام" ( ).
ويتعمق صراع البحث عن الخلود عندما يقول أحدهم " لن أموت سأمشي وحيداً في المدن المقفرة " وأيضاً " لن أموت قبل أن أقابل البحر فهو الوحيد الذي سيعطيني الأجنحة"( ). إنها محاولة لمحاربة فكرة الاستسلام للموت، لكن هل ينجحون ؟
يحدد كافكا قدره في الحياة من خلال عبارة وردت في يومياته فيقول: " لو أنني أدنت، فإنني لم أدن فقط لأموت، وإنما أدنت أيضاً لأناضل حتى الموت "( ) من ذلك يتضح لنا أن بطل كافكا خلق كي يموت لكنه خلق أيضاً من أجل أن يناضل حتى لحظة الموت، وذلك كي يكون جديراً بأن يكون قد وجد في يوم ما.
مما أسلفنا يتبين أن إنسان كل من كافكا وزكريا يصطبغ بطابع التشاؤم واليأس، لكنه مع ذلك يحمل تباشير الأمل بين الحين والآخر.
وعلى الرغم مما وصف به زكريا من كونه فنان تدمير، وصاحب الباطنية المدمرة إلا أنه لا يدمر عشوائياً ولا يدمر بلا سبب أو مسوغ ؛ فكثير من أبطاله تراودهم فكرة اختراع قنبلة ذرية يطوحون بها فوق هذا العالم لتدمره، ولا تبقي منه شيئاً ؛ وذلك حتى تشرق الشمس على الأنقاض( ) فلا ينقطع الأمل " سأزرع الأمل في دمي، وأنتظر بلهفة الشمس السعيدة التي لا بد أن تشرق في يوم ما " ( ).
تقول بديعة أمين في معرض حديثها عن موقف كافكا من الأمل بأنه (على الرغم مما يشاع حول موقف كافا من الحياة الذي يطلى بلون فحمي لا يسمح بتسرب خيط من النور المشوب باليأس والإحباط، فإننا نستطيع أن نتبين ذلك الموقف المفعم بالأمل حتى حين يكون اليأس هو النهاية الحتمية المغلقة، فيقول في يومياته: " لا تيأس، حتى بسبب حقيقة أنك لا تيأس، فحين يبدو أن كل شيء قد انتهى، تهب قوى جديدة، وهذا يعني بالضبط أنك حي" ) ( ).
وتتضح هذه المقولة في موقف صاحب الجحر إثر خروجه إلى العالم، فعلى الرغم من أن خروجه من الجحر يفضحه ويعرضه للمخاطر، إلا أن ذلك هو " الأمل الوحيد الذي لا أستطيع أن أعيش بدونه"().
من ذلك نرى أنه ليس بالإمكان تجاوز الاغتراب نحو الخلاص رغم المحاولات التي تشرق هنا وهناك، وذلك بسبب العجز المطلق وعدم القدرة على الدفاع عن النفس أمام مجتمع قاسٍ، فالمجتمع هو المسؤول عن تعاسة الفرد التي لا يعرف لها نهاية. الموقف من المرأة تتضح صورة المرأة من خلال ما بثه الكاتب من آراء، وتصورات، وصفات، ومميزات يتمنى أن يراها أبطال قصصه في المرأة، وكذلك مستوى تعامل المجتمع مع هذه المرأة وهل اعترف بكيانها واستقلاليتها أم لا؟.
إن صورة المرأة التي ظهرت في معظم الأعمال غالباً ما تكون صبية جميلة ناصعة البياض، ذات شعر سود متهدل عل كتفيها، كما أنها غالباً ما تكون ضعيفة معتدى عليها، يختطفها الرجال، مهجورة، تحن إلى علاقة مع رجل ما، كما يتضح في " ليلة من الليالي" إذ قالت إمرأة لأبي حسن " تزوجني، وسأكون خادمك" ( ). وهي إمرأة وحيدة تبحث عن زوجها المفقود وتقع ضحية المجتمع المتخلف، حتى إن المرأة المتعلمة تعتبر بخلعها المفقود وتقع ضحية المجتمع المتخلف، حتى إن المرأة المتعلمة تعتبر بخلعها الملاءة خارجة على عادات الحارة وتقاليدها، وتستحق الموت. والمرأة كذلك من وسط شعبي لا تتعداه فلا نلحظ لها دوراً على الصعيد السياسي أو الفكري، وينحصر دورها في إطار العلاقات الإنسانية والاجتماعية، وهي دوماً مشتهاة ومرتبطة بشوق الرجل للحياة والدفء. يقول البطل في قصة القبو " وتذكرت آنئذ سميحة الفتاة التي كانت تحبني ببراءة وصدق، وكان يعذبني بقسوة اشتهائي المجنون لجسدها "( ).
لقد ركز الكاتب على مظاهر القمع الاجتماعي، وانسحاق الإنسان في الحياة، كما كشف عن ضيق العقلية الشعبية وتخلف رؤيتها للمرأة. كما أن بطل زكريا لا يريدها أية امرأة بل يريد امرأ وهو صانعها، فيشكلها كما يشار " سيصنع إمرأة من ذهب وسيحبها بضراوة "( )، وكل ما يتمناه " من الحياة لا يتعدى بيتاً صغيراً يعيش فيه مع فتاة لم يقابلها بعد، ولكنه واثق أنه سيجدها يوماً ما، وسيحبها بإخلاص"( ). وكذلك يملك شوقاً دائمً لاحتواء المرأة، وتلمس جسدها بشوق، فيتمنى عباس أن " يتحول إلى هواء تستنشقه ليلى ليستقر في صميم كل خلية من خلايا جسمها "( ).
وعندما لا يعثر على مراده تتعمق الحساسية الجسدية للمرأة حتى تصل أبواب الرؤية السادية فتتدفق رائحة الشهوة العدوانية الدموية، فيحدث الشنفرى قطته عن المرأة قائلاً " أنا لست متزوجاً، والمرأة التي أحبها سأكل فمها وأبتلع لحم شفتيها الدامي الطري، ثم أضرب رأسها بقطعة خشب صلدة، وأكسره وألطخ وجي بدمها الساخن ثم أدفنها تحت سريري، وأنام مرتاح البال "( ) فمتى نال البطل حبيبته يعني ذلك أنها انتهت بالنسبة له، كما قال حسن لأحد أصدقائه في المقهى عندما كان يكتب شعراً في محبوبته: " ألا تحرق أشعارك إذا نلت حبيبتك؟"( ) فالحب عند بطل زكريا ما هو إلا نجمة عالية لا يشتهي نواهلا! ( ).
كما تخيل محمد امرأة جميلة، وبعد أيام رآها نفسها في الشارع فتبعها حتى عرف منزلها.. وأصبحت أمنية محمد أن تنظر إليه وتبتسم لكن المرأة لم ترمقه بنظرة في أي مرة. ها هي صورة المرأة التي يريد حتى لكأنها ليست من عالم الأرض، وهو يريدا حرة طليقة لا سبية مغلوبة على أمرها
لذا رفض محمد أن يأتيه الساحر بها نائمة قائلاً: " أريد أن تكون عيناها مفتوحتين، تنظر إلي بود، أريدها أن تبتسم لي... "( ) فالمرأة بالنسبة له جزء من الطبيعة أو هي الطبيعة الجميلة وهو دائم البحث عمن تعمق تماسكه مع الطبيعة " ففطمة امرأة جميلة ضحكتها حديقة خضراء"( ). وسميحة " لها جناحا عصفور صغير"( ).
فالمرأة نموذج مثالي لا ينبغي أن تدنسه الأيدي، لهذا السبب سيصنع امرأة خاصة به تتناسب وعالمه، وسيشكلها كما يشاء، كذلك سيدافع عنها أمام هذا الواقع الصعب، لأنها في الواقع الحالي لا تعجب بطل زكريا كما لا يعجبه حالها لأنها امرأة لا تعيش إلا بجسدها فقط، فهي خاوية الروح، مسلوبة الإرادة، حتى أضحى الرجل يرى أن " كل النساء مومسات"( ). وعاش أبطال زكريا مشتتين بين وهم المرأة المفقودة، وواقعها الاجتماعي المزري، وبين المرأة الكابوس التي تطل بين الحين والآخر فترعب بملمسها الحريري الناعم الرجل الذي ما إن تتمكن منه حتى تتحول إلى أفعى قاتلة( ).
في ضوء هذه الرؤى المتباينة أصبح بطل زكريا – نتيجة خوفه منها وخوفه عليها – يفكر بامرأة لا يشتهي نوالها.... كالمرأة الصديقة فيقول: " كم أتمنى أن تكون لي علاقة صداقة مع فتاة ن لا أريد أن أحبها، إنما أريدها فقط صديقة لا أكثر.. وذلك كي يحدثها عن كآبته التي تغله إلى الشوارع، ولكي يبكي بين يديها دون خجل.
1- صورة الأم
من المألوف أن تظهر صورة – المرأة- الأم رمزاً للعطاء والتضحية في معظم الأعمال الأدبية ؛ لأنها الموجه والمربي والمدافع عن الأبناء أمام سطوة الآباء.لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل بقيت صورة الأم مشرقة في أعمال زكريا أم لحقها من التدنيس والتشويه ما لحق غيرها من النماذج النسوية في خضم صراعات هذا العالم المشوه؟
لقد سلط زكريا الضوء على حقيقة الأم ومشاعرها، كما جردها في أحيان كثيرة من أمومتها، فرصد سلوكاتها من خلال الظروف المحيطة بها ومن خلال تفاعلها مع المجتمع الحافل بالأزمات.
فامتازت الأم – عموماً- بالبساطة الشعبية ن والسذاجة والجهل الممزوج بالحنان الفطري، والخوف على الأبناء، فيستعصي عليها فهم أبنائها كما في قصة " الرجل الزنجي" إذ تتهم الأم ابنها بالجنون عندما رأته يدير حواراً مع نفسه (صديقه الوهمي).
هذه هي أولى مظاهر التصادم وأول مبررات غربة البطل التي تبدأ من البيت حيث السلطة الأبوية. وفي قصة " رندا" تتنصت الفتاة الصغيرة إلى الأرض فتسألها أمها عما تسمعه فتقول رندا: إنها تسمع غناء جميلاً فتجيب الأم: " ما هذا الحكي الأبله ؟ هل تريدين أن يقول الناس إن رندا مجنونة ؟ الأرض مجرد تراب وحجارة " ( ).
إن أبطال زكريا يتمتعون بنوع خاص من النضج الفكري فلا يهادنون أو يجاملون مع أنهم ربما يستسلمون لسطوة الواقع الذي غالباً ما يكون أقوى منهم. كما أن الأمهات لا يملكن القدرة على فهم ذا الجيل أو استيعابه ويعتبرن أفكار الأبناء مخيفة مرعبة تقود إلى الجنون.
وهناك من الأمهات من يقدرن على توجيه أبنائهن لكن هذا التوجية غالباً ما يكون سلبياً، فبدل أن تكون الأم هي الملاذ الحقيقي لأبنائها، تكون بجهلها وخوفها أولى وسائل التدمير النفسي والضياع لهؤلاء الأبناء. ففي قصة الأعداء (الأبناء) مثلاً يسأل الطفل أمه – كعادة الأطفال- عن فوائد العينين والإذنين واللسان، فترتعد الأم خوفاً وتضلل الإجابة قائلة له بأن العينين خلقتا كي ينظر فيهما باحترام إلى الحكام والمسؤولين، والأذنين كي تسمعا الأوامر الرسمية، والخطب السياسية، واللسان لا يفيد في شيء سوى المضغ( ). ويكمن سر تضليل الإجابة عن لسان الأم التي حطمها الرعب في الواقع السياسي القمعي الذي يفرض سياسة قمعية تشوه الناس. لذا نرى الأمهات وهن يندفعن إلى قتل أبنائهن فكرياً وروحياً، حتى يصبحوا أجساداً تتحرك بلا روح ؛ وذلك لأنهن يخضعن لقمع خارجي، وتتكرر هذه الصورة في شهادة أم سليمان الحلبي في قصة " الجريمة" ضد ابنها أمام المحكمة( ).
ونتيجة للخوف الذي تمارسه الأم على أبنائها فهي تسلم الأبناء لمزالق أدناها السلبية والهروب من مواجهة الواقع فالأم في قصة " الأطفال" تحذر ابنها من الاقتراب من النهر لأنه يخطف الأطفال، وبعد قليل تؤنبه لأنه يخبرها بأنه سرق غيمة لأن الكذب عيب( ). في مثل هذا التناقض الذي وضعته الأم بين يدي طفلها تكون قد ساهمت في رفع درجة الشعور بالغربة والضياع، فالفعل " سرق" مثل الفل خطف عند الطفل وكلاهما فعل، لكن الأم لم تتنبه لذلك ؛ ولهذا السبب نستطيع تفسير إصرار أبطال زكريا على العيش بوحدة مطلقة، ورفضهم للمجتمع وعدم قبولهم لأسرهم وبيئاتهم.
لقد أظهر زكريا نماذج لبعض الأمهات اللائي يتمتعن بوعي ممزوج بالصرامة، فتمارس الأم من خلاله دور الرقيب الحسيب على سلوك أبنائها المراهقين لكن هذه الصرامة غالباً لا تكون إيجابية بل تخلق في نفوسهم ردة فعل عنيفة نستطيع تسميتها سلبية، فأم الفتاة الشابة في قصة " قرنفلة للإسفلت المتعب" تنصح ابنتها ببعض النصائح التي تفيد بأن " الرجال كلهم يعبدون المرأة بذل، عندما يشمون رائحتها، ولكنهم يبتعدون عنها بقرف لحظة تنطفئ شهوتهم"( ) مثل هذه النصائح ولدت عند الفتاة إحساساً قرياً بكره والدتها حتى صارت تتمنى لو أن أمها ميتة كي تعيش دون نصائح. ومن الجدير بالذكر أن كل أشكال النصائح مرفوضة عند أبطال زكريا.
ويقاس على ذلك موقف سميرة من أمها التي تعاملها معاملة الخادم( )، لذا فهي لا تحبها إلا من منطلق الواجب.
لم يغفل زكريا صورة الأم البسيطة المسالمة – على قلتها – التي تسهر على راحة أبنائها كما تقوم بدورها الطبيعي كأي أم حنونة، منها أم أحمد في قصة " جوع" وأم عمر القاسم ف قصة " يا أيها الكرز المنسي".
وقد تضطر الأم للجوء إلى طرق الرذيلة كي تعود آخر النهار محملة بالمال اللازم لأبنهائها – وغالباً ما يختفي دور الأب في هذه الأعمال- كما في قصة " ابتسم يا وجهها المتعب" وقصة " الابتسامة".
وتتكرر صورة الأم الساذجة الجاهلة المغلفة بالحنان غير المقبول من قبل الكاتب والذي يعتبره مأخذاً عليها، فالأم في " رجل من مشق" دائمة السؤال لابنها عن العمل شاكية له الوضع المادي السيء والأعباء الكبيرة، لكن ابنها المتسكع في الشوارع يقنعها بأنه دائم البحث عن عمل ويتعب لأجل ذلك إلا أنه م يوفق بعد، فتصدق الأم كلام ابنها المهل وتتعاطف معه، وتتكرر الصورة في قصة " ثلج آخر الليل". وفي قصة " رحيل إلى البحر" لم تترقرق الدموع في عيني الأم عندما أخبرها ابنها أنه سيسافر بل اكتفت بالتساؤل إن كان سيرجع غنياً أم لا ؟ (لاحظ قسوة الحياة التي تتعرض لها الأم).
إن هذه الصورة الساذجة الممزوجة بالجهل والحنان لم تأت عبثاً، فالجوع قد استشرى في المجتمع حتى تغلب على العواطف، وهذا ما كرره زكريا في معظم الصور التي سجلها للأم الخاضعة لظروف اجتماعية متأزمة، واقتصادية صعبة، وسياسية قمعية تتحكم في مسيرة تربيتها لأبنائها، فأم
الجريح الذي يرقد في المستشفى إثر إحدى المعارك في قصة " النابالم" جاءت تبحث عنه لكن عاطفتها الميتة لم تستطع أن تقودها إلى مكانة فهمت بالخروج إلا أن صوته أيقظها من بعيد، فما كان منها إلا أن أخذت في سرد أخبار العائلة فرداً فرداً وتتبعها بأخبار الجيران الاجتماعية دون الالتفات منها إلى وضع ابنها المناضل الجريح ودون السؤال عن حاله. يتضح من هذا الدور الذي أوكله زكريا للأم أنها الضحية ضحية الجهل والخوف، والعادات البالية، وضحية الرجل المتسلط وتمرد الأبناء، والفقر، والسياسة ؛ لذا كانت سلبية بمعنى الكلمة حتى في تعبيرها عن حبها لأبنائها. إنها الأم الرمز، رمز الجذور التي ضلت طريقها فتمزقت مع الريح، كما أنها الأصل الذي تشوهت معالمه فزادت من عناء الفرد وضياعه.
2- صورة الزوجة:
تناول زكريا تامر حياة الأسرة في المجتمع الشعبي الكادح، وصور لنا نماذج من الزواج التقليدي الذي يخلو من التفاهم أو الحب، كما أظهر الطابع العام لنماذج الزيجات التي لا تقوم على الوفاء والإخلاص للزوج، وذلك نتيجة نظرة الزوج لزوجته على أنها متعة جسدية وآلة لإنجاب فقط، إضافة إلى أنها المستهلكة في حين أنه المنتج، لذا عكس زكريا قسوة الزوج على الزوجة المسكينة. مساهمة منه في زيادة القمع الاجتماعي الذي يقع على المخلوقة الضعيفة.
فأم يوسف في قصة " البدوي" لم تحب زوجها في البداية لكنها كفت عن التذمر مع طول المعاشرة. وغالباً ما تقع السيدة ف مثل هذا الزواج ضحية، في حين أنها لو خيرت لما اختارت هذا الزواج مثلاً. وفي قصة " موت الشعر الأسود " يقول زوج فاطمة – التي زوجت دون رغبتها- " أنا رجل وأنت امرأة، والمرأة يجب أن تطيع الرجل، المرأة خلقت لتكون خادمة للرجل، فتجيب فطمة: " إنني أطيعك وأفعل كل ما تريد" فيصفها قائلاً بنزق: " عندما أتكلم يجب أن تخرسي "، فتبكي وتمسح دموعها وهي تضحك.
أما عائشة في " العائلة" فيموت زوجها دون أن تولول عليه أو تحزن بل على العكس من ذلك تسارع في دفنه فيعود شبابها وتعود نضارتها رغم كبر سنها وهرمها، لقد سارعت في دفن زوجها وذلك حتى تدفن مع كل القيود، وتعود لها حريتها المفقودة المتمثلة بالنضارة والشباب رمز الحرية والانطلاق( ).
وتنتحب لما كذلك في قصة " السجن"( ) على موت زوجها مصطفى الشامي، وفي الليل تلقي برأسها على الوسادة هادئة ووديعة، مستسلمة للنوم، كما أن الابتسامة لم تفارق وجهها. فماذا تقول تلك الابتسامة التي تظهر ليلاً أثناء خلوتها بنفسها ؟ إنها مسرورة بتحررها وانعتاقها من قيود زوجها، لكن قيود المجتمع تنتظرها في النهار حيث يجب عليها أن تمارس دور الزوجة المخلصة المفجوعة على زوجها.
هذه هي الصورة التي رسمها زكريا للزوجة المتعبة التي لا علاقة بينها وبين زوجها سوى الأولاد خلا صورة نموذجية واحدة، يظهر من خلالها فضل الزواج الذي تم برضى الطرفين وحبهما، فسميرة في " سيرحل الدخان" تعيش مع أحمد الفقير، فتجوع وتعرى إلا أنها تقنع بذلك وتسعد به لأنه الزواج الذي تم باختيارها دون أن يفرضه أحد عليها.
3- صورة الحبيبة:
من الأسئلة الصعبة التي تواجهنا في أعمال زكريا تامر السؤال عن مشاعر البطل " الفرد " الحقيقية، ومدى صدقها وفاعليتها في الحياة.
أن أبطال زكريا لا يعرفون معنى الحب في حين أنهم دائمو البحث عنه، إلا أنهم يلمسون جوهره السامي ن كما أنهم يمارسونه مع فتياتهم، بصورته المادية، المحسوسة، مرهوناً بالمتعة الجسدية في حين يكون هذا الحب صادقاً بريئاً من قبل المرأة، وفيه بعض الروحانية، كما تدافع عنه حتى الموت، لكن ردة فعل البطل تجاه هذا الحب متباينة، ففي قصة " الرجل الزنجي" تقع فتاة في حب البطل إلا أن أهلها يلزمونها الزواج من رجل آخر لكنها تبقى متمسكة بحبها لمن اختارته هي لا أهلها، بينما يفكر البطل كيف سيمارس هذا الحب عها، فتستسلم له بسهول. وفي قصة " الصيف" تستسلم عطاف لماجد وتطلب منه الوفاء بالوعد والزواج إلا أنه يرفض ذلك ويتمنى لو أنها استسلمت له كدليل على حبها وليس ثمناً للزواج.
نلمس في مثل هذه النماذج الروح النرجسية التي تغلف صورة بطل زكريا الباحث عن شيء يسعده، ولكنه لا يجد رغم كل المحاولات التي قد تسمى أحياناً بالحب أو التضحية. لذا لا نجدهم يتكلفون التفكير بهذه المرأة التي ضحت بكل ما تملك لأجل الحب السامي إلا أنها لا تفوز به.
وتتبلور رؤية البطل للحب في قصة " النهر ميت" عندما كان جميلة تعود أم طارق المريضة كل يوم، فتعلق قلبها بطارق دون أن تجرؤ على المبادرة، في حين أن طارق اشتهى جسدها وكم تمناه ملكاً بين يديه وعندما سألته أتحبني؟ أجاب بأنه يحب نجمة زرقاء لا يشتهي نوالها.
بذلك نرى أن أبطال زكريا لا يعتبرون ما ينالونه من علاقة جسدية حباً، مع العلم أن العلاقة هذه تروق لهم في بادئ الأمر، ويمنون النفس بأسعد الأيام كما ينعتونه حباً، ولكن بعد أن تنطفئ نار الشهوة يتخلون عن اللواتي أحببنهم بصدق وذلك لأن الحب شيء لا يودون نواله، حتى يبقى محتفظاً بوهجه ودليل ذلك موقف يوسف في قصة " البدوي" إذ أحب سميرة ابنة صحب البناية التي يسكن في قبوها كما بادلته الحب بحب جارف وتمنت أن تهرب معه على الرغم من الفارق الطبقي بينهما، في حين تمنى يوسف أن ينال جسدها الذي طالما حلم به وفي ذلك تعبير مطلق عن انتقامه من الأغنياء ().
إن تدرج الأحداث في عمال زكريا يوصلنا دائماً إلى هذه النهاية وكأن الحب الذي يريد هو الحرية التي لا يملكها لذا لا يستطيع البطل الاحتفاظ بالحب لمدة طويلة.
لقد ذكرنا سابقاً أن ظاهرة الجوع في أعماله عامة وواضحة حتى إن المرأة إذا ما تعرضت لفاقة تسلك طرقاً غير مرضية كي تسكت جوعها فعباس مثلاً يحب ابنة عمه ليلى وهي بدورها تحب أخاه الكبير وكم تمنى عباس أن يحظى بها حتى أنه بات يحلم بذبح أمه وأخيه كي يفوز بليلى، وعندما جاع سرق رغيف خبز فتحرك الجوع بمعدة ليلى حتى توجهت إلى عباس مستسلمة له مقابل الرغيف، لكنه ينادي الرجولة في دمه فيفشل، عندها فقط يترك ليلى وقد بدأت تستمرئ طعم عباس، ويهرب بالرغيف خارج البيت( ). لقد تغلب الجوع المادي على نفسه فماتت رجولته وماتت ليلى بروحه، كل ذلك مقابل رغيف الخبز الذي لا يضاهيه شيء في حياة أبطال زكريا. والعشق مقرون بالفعل الذي ينتهي بمجرد التفكير بإتيانه لذا لا شيء أقصر من عمر الحب عند أبطال زكريا الذين يلهثون بحثاً عنه وعندما يجدونه لا يلبثون أن يفقدوه.
ترى د. ناديا خوست أن الحب في علام زكريا القصصي نوع من ممارسة الحرية، ولقاء اختياري بين اثنين، لذا تبدو الدنيا من خلاله رقيقة وجميلة. في حين أننا نرى بمحدودية الحالات التي اتسمت بالصدق المطلق كما في " سيرحل الدخان"، و " النار والماء"، وكيف لنا أن نعتبر الحب لقاء اختيارياً بين اثنين، ولم نر إلا أن المرأة تقبل على عالم الرجل بصدق ومحبة في حين يقبل عليها متشهياً جسدها متوهجاً بضياء الجسد لمدة قصيرة جداً ينتهي بهدها كل شيء يربطه بالمرأة.
4- صورة المومس:
تناول زكريا موضوع المومس في أعماله كما تناول المرأة بعامة، فلم يظهر تعاطفاً معها، بل يعتبرها وسيلة للتنفيس التي يلجأ لها الفرد الممزق بين الحين والآخر، وهي امرأة تسعى وراء المال من خلال هذه المهنة وذلك كي تتمكن من العيش في عالم فرض عليها ذلك، بسبب التباين الاقتصدي بين الفقير والغني، وعدم وجود المساواة بين الرجل والمرأة، والاختلال في توزيع الجنسين جغرافيا. وكذلك تحول الناس في الحياة الصناعية إلى سلع جاهزة للتداول كلما اقتضى رأس المال ذلك ( ).
دخل فرد زكريا عالم المومس في المواخير والشوارع، فالبطل في قصة " رجل من دمشق" يفضل عاهرات الشوارع على عاهرات الماخور( ) لأسباب خاصة به. وسلمى مومس قديمة في قصة " موت الياسمين" لم تعين في المدرسة إلا بعد أن تبتت شهادتها بأنها ضاجعت 927 رجلاً في سنة واحدة، فعهد إليها بتدريس الصف الأول، وكانت فرحة لأنها ستتعامل مع أطفال لم يعرفوا طعم المرارة والهزيمة إلا أنها تكتشف أن الأطفال قد فقدوا براءتهم وتحولوا إلى وحوش تريد أن تفترس جسدها الدافئ إلى أن أخذوا يقرضون لحملها( ).
لقد حاول زكريا أن يرسم قذارة العالم على وجوه الأطفال، فعمد إلى تشويه البراءة وقتلها في كثير من المواقف، ففي قصة " القرصان" تكشف فتاة التسعة أعوام عن فخذيها حال رؤيتها القرصان وتطل من عينيها نظرة عاهرة عجوز، فينزعج القرصان لذلك وينصحها بترك هذه الحركات والانطلاق في الحياة ببراءة قبل أن يفوتها ذلك.
ها هم الأطفال يتحولون إلى وحوش شرسة فيقرضون اللحم بطريقة وحشية وينبذون النصائح ويتمردون على كل مظاهر الحياة بسبب ما خلفه لهم هذا العالم من متناقضات قاسية. أفقدتهم طعم الحياة الحقيقي الأصيل. كما هو حال الفتاة الصغيرة التي تمارس وأمها البغاء في قصة " الزهرة" إذ يتحلق خمسة رجال حول المرأة، فتطلب أن تساعدها ابنتها لأن عددهم يتعبها فيتعجبون لذلك الطلب ؛ لأن الفتاة صغيرة إلا أن البنت تصرخ بحنق قائلة لأحدهم: " جربني وستجد أني أفضل من أمي، وستدفع لي كثيراً" ( ).
ذكرنا سابقاً أسباب انتشار البغي وتفلت المجتمعات وقلنا إن الجوع أبرز سبب لهذا التفلت القيمي فأميمة فتاة جميلة قتلها الجوع، فتحولت إلى مومس تمارس الرذيلة، ولا أحد من أهل الحي يعرف مكانها ( ).
ويصف زكريا تامر عالمهن الخاص قائلاً " ولا يخجلن وهن يتناولن النقود من يد رجل ما، عالمهن حقيقي مكتظ ببشر أحياء خاضعين للنزوة، والحماقة، والشهوة، والحقد، والآهة المصطنعة... والآهة المنسلة من العظم"( ).
لقد تعرض زكريا لنماذج من المومسات ممن وجدن طريق التوبة فسهلت عليهن وذلك عندما وجدن الرجل المناسب، مثال ذلك ليلى في " رحيل إلى البحر" التي عرضت نفسها مقابل مبلغ من المال وقالت لحسن بأن الحب لا يكفي للحياة والحب ليس خبزاً، لكنها استطاعت أن تملك قلب حسن الذي أحبها، وارتبطا برباط الزوجية المقدس، فوعدته بأنها لن تعود إلى مهنتها السابقة إلا أن المجتمع لم يرحمها إذ تعرض لها عدد من الرجال وعلى الرغم من مقاومتها إلا أنها سقطت تحت أجسادهم خجلة، وفي الصباح تركها حسن وهجر المدينة كلها( ).
فعلى الرغم من أن المرأة ضحية مجتمع سلبي شرس إلا أن هذه النماذج لم تلق قبولاً أو محاولة للدفاع عنها من قبل عالم زكريا فكما يرفض المجتمع المتسلط، يرفض كذلك كل ما ينتجه هذا المجتمع لذا سيبقى بطل زكريا يحلم بعالم امرأة ليست من الأرض، تعبر في مشيتها عن غربته، وتحس به دون أن يتكلم، إنه يريدها لصقه لا تنفصل عن روحه، يريدها سامية عن ظلم المجتمع مترفعة عن سلبياته. فلم تستطع الأم أن تقوم بدورها المثالي تجاه أبنائها، وكذلك الزوجة المنقادة لآراء زوجها المتسلط والحبيبة التي لم تتجاوز دور العشيقة. والمومس تلك الصورة الجسدية البحثة التي ينبذها المجتمع بتقاليده وقيمه لكن رجاله يتهافتون عليها ويلهثون وراءها كنوع من التنفيس عن الرغبات المكبوتة.
إن عالم المرأة هذا مرفوض تماماً، ولا يلقى صدى عند أبطال الكاتب، وما زال البحث مستمراً لعله يعثر على عالمه بعد أن يعثر على نفسه ومعنى وجوده.
الموقف من المدينة:
لقد شكلت المدينة رؤية سلبية في ذهن الأديب (شاعراً كان أم قاصاً أو روائياً) فموقف الفلاسفة والمفكرين من قبل امتاز بسمة التشاؤم من المدينة وذلك لأنها – بطبيعة نشأتها – تمتاز بالازدحام والتضخم السكاني، وتفسخ العلاقات الاجتماعية، حتى صار أولئك المفكرون يرون أن المدينة مكان للرذيلة، ومفسدة للأخلاق عدا عن أن المادة هي التي تحكمها وتسيطر عليها( ). ومما تمتاز به المدينة العصرية، الجدران العالية، والأبنية الشاهقة، والمصانع، والآليات، هي عبارة عن حياة ديناميكية تعج بالفوارق الطبقية، فتكونت الأحياء الغنية والأحياء الفقيرة الشعبية ( ).
وتتأثر رؤية الأديب للمدينة تبعاً لعمق المعاناة التي يلقاها فيها كما أن الظروف النفسية والاجتماعية تؤثر بدورها في تكوين الشخصيات في الأعمال الأدبية، على أن معظم الأدباء انحدروا من وسط ريفي وجاءوا للعيش في المدن الكبيرة علي تعمل على تعميق شعورهم بالمرارة وإحساسهم بالغربة والضياع بسبب انبهارهم المشوب بالرهبة من التقنية الحديثة والأضواء، والمنشآت والمباني، والمعارض، ودور السينما والخمارات، والملاهي (رمز الفراغ وصورة من صور الخلاص) فهذه المدينة التي تحكمها المادة، تعمل على قتل القيم الحسنة، والصدق والطيبة فلا أحد يلتفت إلا لساعته التي في يده، كما أن الحياة في المدينة في صراع مع الزمن ( ).
يرى الدكتور إحسان عباس أن علماء الاجتماع قد ذهبوا إلى أن " كثيراً من الإحباطات التي يحس بها ساكن المدينة إنما هي نتيجة صراع أساسي بين القيم: بين الذات والمجموع، بين الحرية والسلطة، بين التنافس الحاد والمحبة الأخوية "( ) فتشوهت تبعاً لذلك صورة المدينة في الأدب عموماً.
لقد كتب زكريا تامر عن المدينة العربية الأصلية الملامح ذات الشرفات العالية والمآذن والساحات العامة – متأثراً بين الحين والآخر بعالم المدينة الغربي – كما خص بالذكر مدينة دمشق التي ولد في أحد أحيائها الفقيرة " حي البحصة"( )، وكان لهذا الحي الأثر البالغ على نفسية زكريا والتي انعكست بدورها على نفسية أبطاله فتنقل أبطاه بين حي وحي كانت المدينة (دمشق) مسرح الأحداث الذي له وجهان حي الفقراء الشعبي وحي الأغنياء مقيماً بينهما المفارقات التي توحي كما لو كان يتحدث عن مدينة في مقابل يف. وذلك نظراً لبساطة الحياة في حي الفقراء وتمسك أهله بالقيم والعادات والتقاليد في حين تفسخت العلاقات وضاع الفرد في زحمة حي الأغنياء. ونشب بداخله صراع حاد بين نمط الحياة المختلف في كل من الحيين.
وتفوح من مدينة زكريا رائحة دمشق وحاراتها وغوطتها وشمسها ورطوبتها، وهي في حالة تمزق ناجم عن لحظات مأزومة حادة، إنها دمشق بحقيقتها وكوابيسها وماضيها، ولم يخف زكريا هذه الحقيقة التي ما لبث أن صرح بأن مدينته المقصودة هي دمشق.
نستطيع أن نحدث تقسيماً – لغرض الدرس – في موقف بطل زكريا من المدينة فنرى أن المدينة عبارة عن المدينة الحاضر المدينة الكبيرة (المعقدة) التي تتضمن حياً للفقراء وحياً للأغنياء وثانياً المدينة الرمز، وثالثاً المدينة الماضي، ورابعاً المدينة الرؤياً.
يقول أحد أبطال زكريا الذين نبتوا في شرايين المدينة والتي أورثتهم التشرد والضياع "وعدت إلى المسير.... آه يا مدينتي.... لقد ولدت في يوم ما على أرصفتك، وسأظل حتى الموت مغلولاً إليها...."().
لقد حددت نشأة المدن من وجهة نظر الفرد عند زكريا فقال: " وكان النهر في القديم وحيدا تتدفق مياهه عبر أرض مقفرة ولقد ظلت الأرض مقفرة والنهر وحيداً حتى أقبل إنسان ما، وجثا، وقبل التراب بخشوع، وعندئذ نبتت البيوت والدكاكين والمآذن والمقابر"( ).
إنها نشأة المدينة المفعمة بالحيوية والصدق مع أنه لم يحدد هوية الإنسان الذي أحياها بل تعمد أن يبقيه نكرة لأنه لا أهمية إلا للإنسانية المجردة، والصدق المطلق. وماذا بعد هذه النشأة الصافية ؟ إنها المدينة الكبيرة المليئة بأناس لا يعرفون بعضهم بعضاً ولا يربطهم ببعضهم بعضاً سوى الآلة والمادة كما أن الإحساس بالزمن معدوم.
صورة المدينة الكبيرة (المعقدة)
إن الصورة التي يرسمها للمدينة الكبيرة ذات الشوارع العريضة، صورة دموية بشعة لا تعدو أن تكون مستنقعاً للآفات والسجون والملاهي، يقول: " نهر المخلوقات البشرية تسكع طويلاً في الشوارع العريضة المغمورة بشمس نضرة حيث المباني الحجرية تزهو بسكانها المصنوعين من قطن أبيض.... وتعرج النهر عبر الأزقة الضيقة وبين المنازل الطينية... المكتظة بالوجوه الصفراء والأيدي الخشنة وهناك امتزجت مياهه بالدم والدموع، وبصديد جراح أبدية، وعثر النهر في ختام رحلته على نقاط مبعثرة بمهارة مختبئة في قاع المدينة"( ).
إن موقفه من المدينة – المشوب بمسحة تأثرية غربية (عصر الآلة) – موقف النفور والنقمة، إلا أنه يدرك أنه جزء لا يتجزأ منها، وأن إنكاره لها لن يلغيها فهي تتسم بالبشاعة وهي قاتلة، وظالمة، وساحقة للإنسانية، فالمدينة منفرة، ويضيع فيها كل معنى للحياة البشرية لأن المادة والآلة تحكمانها. وتتعامل مع الأشياء على أسس أن كل شيء له ثمن.
إنها مدينة مستسلمة بفتور لضياء الشمس الآفلة ومعلقة بين الواقع والخيال " باع الشنفرى سيفه قبل سنين، دون أن يلطخ سيفه بدماء رجل وعاش بعدئذ في مدينة تفترسها شمس من نار "( ).
ومن أهم أسباب نفوره من المدينة أنها كبيرة ضخمة، يخشى الضياع فيها عبر الشوارع العريضة، ويخشى أن يقع فريسة الغربة التي حولت البشر إلى آلات صماء. " ورواد هذا المقهى عمال يشتغلون في المصانع القريبة، وفلاحون وبائعون متجولون، وسائقو سيارات، وتراكتورات، وحمالون وأناس بلا عمل – مثلي – يجلسون جميعاً باسترخاء، يحتسون الشاي على مهل ويثرثرون دون أن يكون بينهم أي معرفة سابقة "( ).
فكبر حجم المدينة أدى إلى ضياع الناس فيها، فلا أحد يعرف الآخر، ولا يوجد للإنسان فيها صديق يلجأ إليه وقت الشدة، كما أن إحساس الفرد بالوحدة قاتل، فصورة هذه المدينة في ذهن ساكنه الذي بات غريباً عنها صورة بشعة، إذ يتخبط في خطاه لا يعلم أين يذهب ولا يعلم ماذا يريد المهم أنه يحس بمأساة الغربة، وقسوة الحياة كما يشعر أنه منبوذ في هذا المجتمع. وتتعامل هذه المدينة التي لا تعرف العواطف مع الإنسان على أنه كتلة أو شيء لا معنى لوجوده إلا من خلال العمل الآلي الذي يقدمه " شارع فؤاد الأول يتمطى سعيداً تحت ضياء شمس الربيع وثمة ناس كثيرون منتشرون على أرصفته، والسماء فوق رحبه، وديعة زرقاء، وأنين عربات الترام وهدير محركات السيارات يمتزجان معاً في صوت واحد يجعلني أحس بغربة بلهاء " ( ). وفي موضع آخر يقول: " وبصقني صالون الحلاق بعد قليل إلى الشارع، وعادت السيكارة إلى الاحتراق، السيكارة صديقتي وهي تظل على الدوام معلقة بين شفتي، بينما أنا أسير حاملاً تعاستي وهرم أعماقي على وجهي الشاحب" ( ).
إنها موحشة حد الفزع، فتقتل كل من قام إليها بهدوء، دون أن تذرف نقطة دمع واحدة. " وسار مأمون في شارع جديد، وإذا بحشد من الناس متحلقين حول ترام، فشاهد صبياً ممدداً على السكة الحديدية وقد بترت عجلات الترام ساقيه، وكان لون الدم أحمر امتزج بعويل الصبي الفاجع...، وبكى مأمون بصوت عال، ودفع الناس الذين كانوا يصخبون حوله... ما بك يا ولد ؟
- أريد ماما.
- أين أمك ؟
- في البيت.
- أين بيتكم ؟
- وحاول مأمون أن يجيب لكن صوته اختنق" ( ).
في هذا البحث عن الأم الممزوج بالحنين لها، دليل على عمق النفور من المدينة، ومحاولة البحث عن منبع الحنان، هذه المحاولة غالباً ما تبدأ بالحنين إلى صورة نقية كالريف مثلاً أو الأم، أو الحنين إلى الماضي، أو العودة إلى الطبيعة، أو ربما خلق مدن جديدة ذات سمات مفقودة في الواقع. من سيتعرف على هذا الصبي ؟ لا أحد يعرفه في خضم المدينة المكتظة سوى نفسه، وهذه المعاناة (الضياع) هي من أبرز ألوان المعاناة في حياة ساكن المدن.
لقد باتت الحياة بالنسبة لساكن المدينة مملة معروفة البداية والنهاية، لذا لا يجد ساكنها معنى لها " وأفاق القرصان في الصباح، وقعد في ردهة الفندق، وكان ثمة أناس حوله غرباء كلهم أتوا من مدن وقرى نائية، وتساءل لماذا أتوا إلى هنا ؟ سيموت الرجل الهرم، ستتزوج الصبية ستنجب أطفلاً.... سيكبر الطفل، وسيتعرف إلى الكلمات، والله والمدن، وستعانقه الأفراح والأحزان، وسيبحث عن الفرح وحده ولن يجده"( ).
في هذا البحث المستمر عن معنى الوجود لا يستطيع الفرد إلا أن يرهب المدينة الكبيرة التي لا تزيد وجوده إلا ضلالاً. يقول د. إحسان عباس: " هي حقاً غربة من يبحث عن حرارة المشاعر في القلوب – كما كان يحسها في الريف – فلا يجدها، وليس في المدينة صاحب وإنما الوجود والمودات فيها بلون الطريق... طريق مقفر شاحب، كأن كل المدينة لشدة الاغتراب والعزلة بين الواحد والآخر غريب صامت، يضن بالتحية على من يمر به من الناس"( ).
وتتكون مدينة زكريا – كما أسلفنا سابقاً – من أحياء عدة أبرزها حي الفقراء، وحي الأغنياء وكلاهما يقبع في قعر مدينة مهشمة الملامح إلا أن تصويره لحي الفقراء يأتي مشوباً بلمسة رقيقة مناسبة فيها نوع من الحنان المفقود، وغالباً ما يصور كلا الحيين معاً، فيعقد، مقارنة بينهما حتى يستدر عواطفنا تجاه حياة حي الفقراء في حين نتوجه بالنقمة والسخط عل حي الأغنياء. " وكان الليل بأقدامه الزجاجية السوداء يتجول في الشوارع حيث الإعلانات الكهربائية تضيء، ثم تنطفىء، فنادق دور سينما... مكتبات... مقاه... مطاعم.... سيارات... ومضى يوسف يسير مبتعداً عن صخب المدينة والأبنية المضاءة وتغلغل شيئاً فشيئاً في عالم الأزقة الضيقة، الأزقة طويلة، تنتصب على جانبيها بيوت من تراب متقاربة متآلفة، وتسرب إلى أعماقه حنان مباغت"( ). ويقول في موضع آخر " وكان بانتظاره الإسفلت الرمادي والشمس، وأبواق السيارات، والرجال والنساء المتحركة أقدامهم بإيقاع حاشر بين السير البطيء والسير السريع وواجهات المحال الزجاجية، وصفارات الشرطي الزاعقة، وصيحات بائعي الصحف واليانصيب. دخل يوسف إلى أحد المطاعم، وأكل بشراهة ثم عاد إلى الشوارع يمشي دون هدف إلى أحد المطاعم، وأكل بشراهة ثم عاد إلى الشوارع يمشي دون هدف وأحس أنه وحيد على الرغم من الضوضاء والناس، ثم قادته قدماه إلى الأزقة، وأحس وهو يمشي بين البيوت الطينية أنه يستنشق بعد مرض طويل هواء حقيقياً ممتزجاً بضياء الشمس، وبدا له الأمس، مجرد حلم أسود بدده الصباح" ( ).
إن أبطال زكريا هم من أبناء الحي الفقير الذين خرجوا على أمل الفوز بحياة أفضل في حي المدينة الكبيرة (المركز) وقد تتبعنا كيف أن أبطاله يعودون إلى الأزقة الضيقة بعد طول معاناة وضياع وأنهم يرون في العودة مشفى حقيقياً.
ولكن لنتتبع الحالة النفسية لأولئك الفارين من رطوبة الأزقة الضيقة عندما يخرجون من الحي الشعبي متوجهين حيث الأضواء لاعتقادهم أنه الملاذ والأمل ؟ إنهم يبتعدون عن الحي الشعبي ابتعاد السليم عن الداء المعدي ولكن ماذا يجدون؟؟. " غادر [فواز] البيت بخطا مسرعة، وعندما أصبح في الحارة، وقف برهة، وتلفت فيما حوله، فبدت لعينيه البيوت الترابية المتلاصقة بقايا هيكل عظمي لحيوان قديم فاستأنف السير مشدود القامة سريع الخطا.. قاصداً الشوارع العريضة"( ). و " يجيء الليل كفناً أسود فيبتعد أبو حسن بخطى هارب عن حارته الخرساء، وأزقتها الملتوية المظلمة، وناسها العجاف، وبيوتها الرثة المتلاصقة، وحين يبلغ الشوارع العريضة، تبهره ضوضاؤها وسيارتها المسرعة، فيمشي بخطى ذاهلة متباطئة، مرفوع الرأس شديد الزهو بشاربيه..." ( ).
إن الإنسان الذي يطمع بمكان غير مكان إقامته – مجبراً كان أم مختاراً – ضائع لا محالة يسير في متاهات المدينة الكبيرة وليس هذا فحسب بل يتعرض لما يهين كرامته ويحقره، كما حصل مع أبي حسن الذي فقد شاربيه (رمز الرجولة) وتحول إلى مخلوق آخر بين يدي رجال الشرطة، وهذا ما نلمسه أيضاً في قصة " النمور في اليوم العاشر " التي تحكي قصة نمر عاش سيداً في الغابات (الموطن) يأكل اللحوم، ويختال بقوة، بكنه صار في القفص تحول إلى حيوان أضعف (بسبب الترويض) وصار يستمرئ الحشائش بدل اللحم.
هذه هي المدينة القبيحة والتي تبهر زائريها بالأضواء ولكن سرعان ما تكشر عن أنيابها أمامهم فتنهشهم ليعودوا مضرجين بدماء وحدتهم وتمزقهم.
إن معاناة الفرد في أعمال زكريا تقف إلى جانب معاناة الأديب على المستوى الفكري، وتجربته في الحياة بشكلها البشع الذي يحول كل قادم إلى حي الأغنياء يحوله إلى عبد مأمور وآلة مطيعة وإلى مخلوقات أخرى غير البشر. "ليتني من المدى المتوحشة المنغرسة في قلب لا تعطي أولادها سوى الجوع والتشرد والكآبة.... أنا عدو المدينة المجهول، وإني أذرع طرقاتها كضبع جائع بينما ترقد في جيبي سكين عتيقة... اشتريتها في يوم من الأيام... فقد كان من الممكن أن تنقض السكين في أية لحظة غضب على كتل اللحم المتحركة عبر خواء المدينة، وتستحم في الدم الأحمر.... ما أجمله...." ).
لقد أصبح الإنسان المشوه سادياً، يتلذذ برؤية الدماء المراقة، ويتشهى رؤية الناس وهم يتعذبون، لعل ذلك يخفف – قليلاً- من حنقه على العالم، فيضفي على البشر بعضاً من نار عالمه الداخلي الذي يحرقه ويمزقه شيئاً فشيئاً. إنها مدينة تنعدم فيها صور البراءة والمحبة " إنه قابع في داخلي.... إنه طيب بريء كطفل ولد بعيداً عن المدن"( ). ويتعاظم الإحساس بالضآلة عندما يسكن الفرد الممزق المدينة الكبيرة.
لقد عبر عن عناصر مدينة أبطاله بالمقهى والشارع فيقول: " مدينتي صليبها مقهى وشارع"( ) فغالباً ما يجوب أبطاله الشوارع العريضة يتسكعون في الطرقات سكارى، حتى إن الشارع ليحتل قسماً كبيراً من أحداث القصص وذلك لأن معظم الأحداث القصصية والمغامرات تتم عبر جنباته، كما أن المقهى هو المحطة الثانية التي يأوي إليها سكارى الشارع ومشردوه.
صورة المدينة – الرمز:
يجرد زكريا تامر مدينته – أحياناً – من قالبها البشع وتقنيتها القاتلة، ليشبهها بوجه امرأة ناضجة، عذبة رقيقة. " وكان فم المرأة عنباً فجاً أحمر، ولنهديها رائحة نبات بري "( )، فالمدن في أصلها ونقائها وبراءة نشأتها تشبه امرأة عفيفة طاهرة.
إنه التوحد بين طهر المرأة ونقائها، وطهر المدينة ونقائها عندما لا تشوبها شائبة، حتى أننا لا نستطيع التفريق بين الاثنتين ولا يترك زكريا فرصة تمكنه من ذكر مدينته المفقودة التي طالما كانت تشبه امرأة جميلة وصوتها عذب " وكان ثمة امرأة تغني... صوتها مدينة خضراء تسافر عبر شمس ناعمة الضوء.... وعصافير تبحث عن ربيع لا يرحل..." ( ). وعلى لسان بطله الممزق المشرد في الشوارع الذي يقابل في طريقه عدداً من الفتيات فتبتسم له واحدة منهن ابتسامة حانية تضيء وجهها الوديع، عندها يشعر بالحسرة والأسى ويقول: "أواه أيتها الفتاة الطيبة... إني لا أستحق ابتسامتك، فلو تمهلت في سيرك ربما دنوت منك وقلت: سأكون إنساناً طيباً لو كانت مدينتي مثلك"( ).
ويقول أيضاً: " لقد أحببت إحدى الفتيات في يوم ما.... أحببتها بقوة مثلما أحب الخبز والشوارع. لكن الحب لم يمنحني سوى الكآبة.... كذلك منحني نظرة جديدة إلى المدينة التي أعيش فيها، فأصبحت أجدها سخيفة قاسية"( ).
إنها قسوة المدينة التي يصعب العيش فيها بجو يورث الفرح، إنها مسكونة بأرواح سيئة تطارد كل المحبين، وتغتصب الفتيات البريئات فتتحول فكرة الحب إلى كابوس مدمر، " وتابعت سيري في تلك اللحظات كانت المدينة مومساً عجوزاً ذات وجه شاحب متعب لا يعرف الابتسام"( ).
إن تصور الشاعر الحديث للمدينة في صورة امرأة ثم في صورة امرأة متعهرة يكاد يكون قسطاً مشتركاً بين عدد كبير من الأدباء"( ) هذا ما يراه الدكتور إحسان عباس مقاساً على الشعر ويعلل استعمال هذه القرينة (المرأة – المدينة) بأن المدينة في اللغة مؤنثة وفي معظم الأحيان كانت حركة التاريخ ضد المدن فتحاً واجتياحاً واغتصاباً لها ولنسائها ولمواردها، وهي ما تزال كذلك حتى يومنا هذا فلا يجد الأدباء بداً من ربط هذين النموذجين بعضهما ببعض للتعبير عن مأساة الإنسان العربي المغتصب.
المدينة الماضي:
تناول زكريا المدينة في الماضي كما تناولها في الحاضر ؛ وذلك في محاولة لإيجاد صورة حقيقية مضيئة ترضي طبيعة أبطاله ونفسيتهم لكنه عبثاً يحاول نبش الماضي لأنه لم يعثر على مدينته كما لم يعثر عليها في الحاضر "وكان هناك باب كبير من أبواب المدينة، باب قديم كان يغلق فيما مضى من الليالي ليحمي المدينة من أعدائها " ( )، "وكان الباب فيما مضى قسماً من سور حجري شاهق، يطوق منازل المدينة ويحميها من الأعداء، ولقد فتح الباب مرات عديدة، والآن لم يبق سوى أطلال مبعثرة، وظل الباب مفتوحاً"( ).
فمن أهم سمات المدن القديمة: الحصانة إذ تملك المدن الصغيرة سوراً عظيماً يحميها من الأعداء، وذلك لوعي أهلها وإدراكهم مدى شدة الخطر الخارجي وقسوته، لكننا اليوم لم نعد نرى ذلك لذا سهل على الأعداء اغتصاب المدن وتشويه صفائها.
" وكان ثمة مدينة صغيرة بلا أسوار، أهلها يؤمنون بأن الله موجود في كل مكان... وكان أهل المدينة مغرمين بالنراجيل.... ولم تجد جيوش جنكيز خان صعوبة كبرى في اقتحام المدينة... واستعاد أهل المدينة حبهم للنراجيل والدربكة، والحديث عن الله الموجود في كل مكان"( ).
تمتاز مدينة الماضي أيضاً بصغر الحجم الذي يوحي بالبساطة ويخلو من التعقيد العصري الذي ينبذه أهل المدن. وهي مدينة تثير الذكريات البريئة المغلفة بجمال الطبيعة، وبساطة الناس " كان في قديم الزمان، مدينة صغيرة ينبت وسط حقول فسيحة خضراء يرويها نهر سخي المياه. وكان ناسها جميعاً يحملون في جيوبهم قطعاً من الورق السميك كتب على كل منها اسم من الأسماء.... " ( ).
لقد صرح زكريا باسم مدينته الصغيرة إنها دمشق الوديعة المنيعة التي انهارت أمام الأعداء " حكي عن دمشق أنها كانت في قديم الزمان سيفاً أرغم على العيش سجيناً في غمده، وكانت طفلة تثقل الأصفاد خطوتها. وكان ياسمينها ينبت خفية في المقابر مرتدياً أكثر الثياب حلكة، فلما علم أعداؤها بأحوالها سارت إليها جيوشهم، وبنت حول أسوارها سوراً من قتلة، لا يعرفون النوم فعم دمشق الذعر والارتباك والسخط، وتراكض أهلها وتحلقوا حول قصر ملكهم صراخاً مضطرباً مستغيثاً...." ( ).
فما زال الظلم يحدق بدمشق النائمة الرازحة تحت حكم مستبد وما زالت صورة الماضي الجريح تنزف حتى هذا اليوم " أقبلت الاستغاثة ليلاً إلى دمشق النائمة طفلة مقطوعة الرأس واليدين، وتراباً يحترق، وطيوراً تودع أجنحتها السماء، غير أن أهل دمشق كانوا نياماً، فلم يسمع الاستغاثة سوى تمثل من نحاس لرجل يشهر سيفاً...." وفي نهاية القصة يقول:
" وأغمض يوسف العظمة عينه، وأحس بأن شرايينه تمتلك آلاف الأجنحة التواقة إلى فضاء رحب، فأطلق استغاثة، التقت بالاستغاثة الآتية من أرض يحتلها الأعداء، وامتزجنا في صراخ مديد تبدد في ظلمة الليل المهيمن على دمشق النائمة" ( ). وما زالت حتى الحاضر نائمة لا تسمع الاستغاثة التي تهز عظام الأجداد.
إن الاتكاء على نماذج بطولية من التاريخ وقمعها والاعتماد على تشويه لصوره الطفولة المقطوعة الرأس وخلاف ذلك من صور دموية شرسة لتعكس بشاعة الوضع كل ذلك نتيجة بركان من آلاهات المحترقة داخل إنسان فتته التشرد. فالزمان بماضيه وحاضره غير قادر على خلق أمن وطمأنينة لمدينة مسالمة، إنها المدينة التي ضاعت عبر التاريخ سلباً واغتصاباً، واليوم يشتد ضياعها أكثر فتجعل متنفسها تعذيب ساكنيها وتجريدهم من إنسانيتهم، وذلك حتى يستمر الغيثان بين دوائر الحلقة المفرغة (الزمان – والمكان).
يحلق عباس في السماء، ناظراً إلى مدينته الصغيرة في الأسفل فرأى مدينته التي ولد فيها صغيرة تتحلق حولها حقول خضراء، فغمره حنان جارف، فانحدر نحو مدينته بلهفة، وحلق فوق بيوتها، يرتجف في شرايينه حب عميق، ورغبة في بكاء حار، وبغتة دوى طلق ناري منبثقاً من المدينة، واخترق رأس عباس الذي شهق برعب ودهشة، ثم هوى إلى أسفل"( ).
بذلك تبقى مشاعر الحب والحنين تغمر أفراد زكريا نحو مدينتهم رغم قسوتها عليهم إلا أن هذه المحبة لا تجد طريقها، فتموت حيثما نشأت، وتذبل كل الورود قبل أن ترى النور.
المدينة الرؤيا:
لم ينجح البطل في استدرار الأمن والسلامة من المدينة الماضي ولم تسعفه الذكريات كي يستعيد ثقته بنفسه، لذا لم يجد مناصاً من البحث عن البديل إنها المدينة الجديدة (الرؤيا)، سيبدأ بطل زكريا في محاولة إصلاح الحاضر فهل يستطيع ؟ سيهدم المعامل التي قتلت إنسانيته وحولته إلى جزء من الآلة وسيتسلق قمة الجبل يزيل الغشاوة عن حقيقة المدينة الزائفة أو ربما مدينة أفضل (المدينة الفاضلة)، وربما في صعوده لقمة الجبل تعبير عن استعلائه على مدينته تلك وسحقه لها تحت قدميه.
سيصنع مدينة، سيرسمها في خياله ويسافر عبرها، سيرحل وسيضنيه البحث عن مدينة جديدة تحمل رؤاه وتعبر عن وجوده... لكنه في النهاية سيعود ؟! " ليعيش البشر ببراءة، تنقذ مدينتي من تعاسة متوحشة" ( ).
ويزداد الشعور بضرورة رفض واقع المدينة الذي يعمق غربته في وطنه، سيبحث عن الحل أينما كان، " لقد أضاع بدوي خيمته، وها هو الآن في مدينة جاثمة تحت أقدام جبل. يوسف يتسلق الجبل سيصعد الجب حتى قمته"( ) كما " عاش محمد أعواماً مديدة في مدينة صغيرة تقبع بذل عند أقدام جبل شاهق.... وكانت سماء المدينة سوداء لا تملك قمراً وشمساً ونجوماً... وأخذ محمد يتجول في جنبات الغرفة... وتخيل فجأة جبل مدينته الشامخ، محمد سيتسلقه... سيبلغ ذروته التي لم تطأها قد إنسان..... سيستنشق هواء القمة.... وستكون مدينته مستسلمة لنظرته المفترسة.... ستكون عندئذٍ كدمية مهشمة"( ).
إنه يحلم بأن يحقق تغييراً ما، ربما يحمل سعادته " سأحول المدينة إلى قرية كبيرة محاطة من كل جانب بحقول خضراء ممتدة إلى ما لا نهاية وسيكون لهذه القرية مساحة فسيحة جداً، سيجتمع فها كل مساء جميع السكان.... وسيشعر أصحابها أثناء الغناء بأنهم أخوة.... وبأن الحياة مليئة بالمسرات المختبئة.... سيتحولون إلى أطفال كبار يعيشون بسعادة وسلام"( ).
لكن هذه الصورة ليست نهائية مطلقة، بل تتعدد الرؤى، وتمتزج مشاعر النقمة بالحب، وذلك تبعاً لانعكاسات نفسية الشخصيات ومدى تعرضها للعامل سلباً وإيجاباً، وغالباً ما يعكس الحلم مشاعر البطل في لحظة مأزومة، ويمكن القول بأن هذه الرؤية تحاكي رؤية الرومانسيين للعالم الجميل المسالم، فيبتعدون عن الضوضاء والصخب ويحملون بقرية مليئة بالخضرة، وغالباً ما يتمنون الانفراد بهذا العالم لجميل والبعد عن البشر " كنت أحلم بأن أغدو ملكاً.... وأنا ما زلت أتمنى بأن أصبح ملكاً في مدينة ناسها من حجر" ( ).
ولكن ما عادت الأحلام والرؤى الرومانسية بقادرة على تغيير المدينة، تغييراً يحقق سعادة الإنسان الذي يعاني من صراعات قاتلة مدمرة لذا سيتقدم في أحلامه نحو الرفض، سيحلم بالرحيل لعله يكون المعادل الحقيقي لسعادة الإنسان، " وتنهدت بارتياح ثم أغمضت عيني، وعدت أحلم بالرحيل إلى مدينة شنقت الجوع والكآبة والضجر..." ( ).
وفي محاولته لإيجاد معنى لوجوده، يلجأ إلى الرحيل لعله يعثر على مدينة تعطي معنى لوجوده " آه ما أجمل الحياة هناك في تلك المدينة.... سأرحل في يوم لابد من مقدمه، وسأترك خلفي مدينتي المكتظة بالجيف المتحركة"( ) ويقول في موضع آخر " ولكنني سأكون سعيداً لأني سأشاهد وجوهاً ومدناً جديدة... ربما عثرت أثناء طوافي على مدينتي التي أحلم دوماً بإمكان وجودها، مدينة من نوع جديد، غريب، شنقت الجوع والكآبة والضجر... لا تاريخ لها... أيامها تمر بلا أسماء، والسماء، والقمر والربيع، والنهار.... كل هذه العناصر طليقة حرة "( ).
من خلال هذه النماذج يتضح لنا كم يرنو بطل زكريا إلى الحرية المطلقة والحياة الخالية من كل زيف. غير المرهونة بزمان محدد ولا هوية واضحة، فعلى الإنسان أن يسعد بحياته كإنسان بعيداً عن الزيف والقمع، والتسلط، لذا نادته الحرية المطلقة وناداه الأفق وها هو يتقدم للرحيل " غير أن البراري الخضراء التي لا أفق لها كانت تناديني بشوق، تنادي الرجل المتعب وجواده"( ).
لقد ناداه الأفق منذ المجموعة الأولى، فالبطل واحد في مختلف المجموعات ولو اختلفت المسميات. وغادر البيت " وغادر البيت وتحول إلى متشرد يذرع الأرض. وفي اليوم السابع بلغ مدينة حجرية المباني، وكان ناسها جميعاً من خشب.... ونعب الغراب وتجول الرجل حزيناً في طرقات المدينة الصامتة، بينما كان الغراب يتبعه بإصرار... "( ) وتمكن بعد ذلك من إنقاذ هذه المدينة من الساحرة الشريرة التي حولت كل ما فيها إلى خشب ولكن لم يأبه له أحد، ولم تمتد يد لمصافحته، وافترسته وحشة شرسة فغادر المدينة حزيناً، فكل المدن مثل مدينته، جامدة ناكرة للجميل لكن سيكمل المشوار لعله يجد مدينته الأمل " لن أموت سأمشي وحيداً في المدن المقفرة... وقصدت المدينة الكبيرة، وأنا متلهف لرؤيتها وقد وجدتها ذات شوارع عريضة... أحسست وأنا أرمقها بضآلة عجيبة "( ).
وما زال بطل زكريا يفتش عن مدينته (نفسه المفقودة) إنه يفتش عن أجنحته التي سرقتها المدن ولن يعيدها أحد سوى البحر " الأمل". إلا أنه بدأ يشعر بحقيقة نفسه الممزقة " فصدمتني في البدء نظرة عيني الباردة المظلمة، ولكني سرعان ما شعرت بأنها منبثقة من صميمي... أنا النظرة الباردة المظلمة، البحر بعيد... وأنا متعب.. سأعود إلى البيت"( ).
لقد أصناه البحث عن المدينة الفاضلة (البحر) فانبثقت النظرة البادرة من داخله، لذا لن يكمل مسيرة الترحال والبحث المضني ويكفيه أنه اكتشف حقيقة كل المدن، فعاد أدراجه...
" ها هي مدينتي متسولة نائمة... وقد التقيت برجل مذعور أنبأني بأن مدينتي غزاها رجال غرباء قساة، ونصحني بالابتعاد عنها، ولكن حنيني إليها كان أقوى من أي رعب... ها هي مدينتي المتسولة النائمة، ميت ربيع حقولها الأخضر....." ( ).
إن عودة المتشرد إلى مدينته المغتصبة بعد طول غياب بحثاً عن الأمل جعله يكتشف حبه وصدق حبه لمدينته، وربما أنه لو لم يهجر مدينته لما استطاع الأعداء اقتحامها. ورغم أحلامه الوردية بقرية كبيرة إلا أنه ابن المدينة الكبيرة والتي ولد فيها، وسيظل مشدوداً إليها حتى الموت، لأنها قدره الذي لا يستطيع مقاومته، كما أنها رمز الاستسلام وعدم الرغبة في إحداث التغيير. فالشعور بالضياع والغربة أمر يلازم البطل حتى يفقده إنسانيته ووجوده ويتيه في خضم هذه الحياة. يمارس ألوان القمع على الأبناء والمرأة والحيوانات بروح سادية شرسة.
الموقف من التراث:
التراث هو ماضي الثقافة الإنسانية، سواء أكان على صعيد الفن، أو الأدب، أو الفلسفة، أم على الصعيد الاجتماعي المتمثل بالعادات والتقاليد، والتراث بمعنى أشمل: هو التركة الفكرية، والروحية التي يتناقلها جيل عن حيل( ).
ويعد التراث مصدراً أساسياً من مصادر الإبداع والنشاط الفكري في الحياة الإنسانية، كما لا يتحقق وجود أمة من الأمم دون أن تتواصل مع تراثها، إما محاورة، أو مجابهة، أو حتى ثورة عليه( ).
وقد استعان الأدباء العرب بالتراث الإنساني بعامة والعربي بخاصة وتمسكوا بع في أثناء وقوع الأمة تحت خطر يهدد كيانها، وقد كثرت الدراسات التي تناولت قضية التراث في الأدب العربي في فترة السبعينات، والتي تعد فترة التحديثات أمام المتغيرات التقنية والسياسية، يقول محي الدين صبحي: " إن مسألة التاريخ العربي والرجوع إلى أحداثه تشكل أحد الخطوة الرئيسة في ملامح أدب السبعينات"( )، حيث كثر استخدام الرموز التراثية بعد حرب 1967، لما أحدثه هذا التاريخ من تغير في حياة المواطن العربي.
وتعود أسباب العودة إلى الموروث إلى غنى الإمكانات التي يتمتع بها التراث، وبسبب اكتسابه لوناً من القداسة في نفوس الأمة، ووجداناتها فيضفي الأديب نوعاً من الأصالة الفنية على أدبه ( ). وبسبب من الغربة النابعة من شعور الأديب بما يسود العالم من زيف وتعقيد وتصنع تجعله قانعاً بالارتداد نحو الموروث القديم كي ينهل منه ما يريد فيتكئ على الرمز التاريخي لا ليقوله، بل ليضيء من خلاله العصر بالخوف والحروب والجوع، والمشبع بالنضال في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية ( ).
ان العلاقة بين الأدب والتراث علاقة جدلية بحتة فلا يقبل الأديب التراث كله، ولا يرفضه كله، بل يم تفاعل وتجاذب بينهما حتى ينتج الأدب الأصيل، الذي فجر الطاقات الكامنة في النصوص التراثية وتم توظيفها حسب موقف الأديب الشعوري ( ).
لقد استلهم زكريا تامر المضامين التراثية المختلفة فاتكأ على الموروث التاريخي تارة، والأدبي تارة أخرى، وكذلك الموروث الشعبي في بعض الأحيان، فوظف رموزاً مفردة ثائرة ومتمردة مستمدة من التاريخ العربي الإسلامي جاءت من خلال وعيه للماضي – إذا اشتعلت الفكرة في ذهنه وكانت نواة قصصه ومقالاته المشبعة بالنفس التراثي – وفهمه للحاضر واستشرافه للمستقبل. وسنتناول بشيء من التفصيل هذه المضامين:
الموروث التاريخي:
إن اشتداد تناقضات هذا العصر، وسياسات القمع والانهزام الممارس على الشعوب، جعل أدباءنا يفكرون باستعارة شخصيات تاريخية ينطقونها من خلال الواقع، فمنهم من استنجد بها ومنهم من نسف الحاضر من خلالها ومنهم من رصد إمكانية تعايشها مع الحاضر، لو قدر لها ذلك. ( )
اختبأ زكريا خلف بعض الشخصيات ليعبر عن موقف يريده، محاكماً نقائض العصر الحديث من خلالها، فعبر عن كثير من القضايا المصيرية المعاصرة وعن الغربة التي يعيشها الإنسان العربي مقنعاً بعمر(1) المختار وطارق بن زياد، ويوسف العظمة وغيرهم.
ولم يهتم زكريا بالتحقيق التاريخي للشخصيات المنتخبة وذلك لأن الأهمية – في رأيه- لا تقع على بعث الماضي، بقدر ما تقع على إمكانية محاكمتها في ضوء المفاهيم العربية المعاصرة، وغالباً ما يتهاوى الماضي بشخصياته أمام تأزم الحاضر وبيروقراطيته.
كما أن تعامل زكريا مع التاريخ جاء على أساس الاستمرارية، فاستطاع أن يدمج القديم في روح العصر دون قيود الدلالات التاريخية، فيقبض على طارق بن زياد، وعمر الخيام، ويوسف العظمة، ليعيد محاكمتهم من جديد ويلغي الفواصل بين الماضي والحاضر، والحياة والموت ليسلط
الضوء على حجم التناقض بين المثل والأحزان، والصمود والاستسلام فيكشف عن أخلاق الواقع وانتهازيته( )، وبذلك، تندمج الرؤى القديمة ببطولاتها بالرؤى المعاصرة وزيفها، ويتداخلان حتى يصبحا جسماً واحداً فتعيش القصة بقناعها الماضي والحاضر معاً لتنتج صوتاً ثالثاً يكون هو صوت المستقبل واستشرافه.
ويمثل طارق بن زياد في قصة " الذي أحرق السفن" أمام المحقق بتهمة تبديد أموال الدولة لأنه أحرق السفن، فيدافع طارق عن ذلك بأن حرق السفن كان لا بد منه لكسب النصر، إلا أن طارقاً لم يعرف بأن النصر ما عاد يهم المحقق والأهم من ذلك هو الإذن بحرقها، إذ لم يحصل طارق على إذن من رؤسائه بحرق السفن، فتثبت خيانته وينفذ حكم الإعدام( ).
لقد انتفى الهدف من المضمون وتحول العالم المعاصر إلى روتين، ويقول أحمد محمد عطية بأن هذه القصة قد كتبت بعد مأساة 1967 التي وقعت بسبب عدم وجود أمر للقواد باستعمال الأسلحة( ).
لقد تقنع زكريا بطارق بن زياد، كي يسلط الضوء على مأساة العصر الحديث بواقعة السياسي المستبد وبيروقراطيته القاتلة، فخرج طارق بن زياد من قبره كي يعترض على فساد المجتمع والسلطة والإدارة فصاح بنزق: " حملتهم السلاح وجلستهم وراء المكاتب تحتسون الشاي والقهوة، وتتحدثون عن الوطن والنساء"( ).
وتحكي قصة " الاستغاثة" حكاية تمثال يوسف العظمة( ) الذي دبت فيه الحياة حال سماعه استغاثة تجلجل في سماء دمشق، ويدور حوار لاذع ساخر بينه وبين الحارس الليلي الذي يستوقفه مستغرباً كونه يحمل سيفاً، كما يستخف الحارس بيوسف العظمة عندما يخبره بأنه وزير الدفاع قائلاً: "الوزير لا يمشي في آخر الليل كالشحاذ، بل يركب سيارة طويلة عريضة والوزير لا يحمل سلاحاً بل يرافقه دائماً شرطي مسلح بمسدس" ( ). ويتعاظم حوار المتناقضات حتى ينتهي المطاف بيوسف المعاصر إلى مستشفى المجانين. بذلك نجد أنفسنا أما رؤى متباينة تجمع الزمانين (الماضي والحاضر) فميسلون زمن مضاد لحزيران بمعنى من المعاني وفي هذا القناع بيان إلى أنه لا يمكن أن ينسجم الماضي ببطولاته، مع الحاضر بانهزاماته، كما أن الواقع المر لا يمكن ن يفهم بطولات الماضي إلا على أساس من التمرد والعصيان والفوضى.
وفي قصة الجريمة، يتقن زكريا بشخصية سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر صبيحة 14 حزيران عام 1800( )، فيستعير من هذه الحادثة الشخصية وحسب، كي يطعمها بحادثة عصرية خاصة تساهم في إدانة الواقع، إذا كان سليمان الحلبي رجلاً بسيطاً يعيش مع أسرته بهدوء وسلام إلا أنه اقتيد بتهمة أنه رأى في المنام (لاحظ التهكم) أنه يقتل الجنرال كليبر حتى إن أمه وأباه وأخته قد شهدوا عليه بهذا الجر م، إلا أن سليمان الحلبي ينكر جريمته تلك.
لقد أنكر سليمان الحلبي جريمته لأن المجتمع هو الذي اضطره لذلك وأن حياته أصبحت مستحيلة في خضم المطاردات على قاعدة زكريا الوجودية القائلة " لماذا ولدت ما دمت بريئاً، أنت مجرم وكنا نراقبك منذ أمد طويل" وتتضح بذلك طبيعة هذا الواقع الذي يدفع الأبطال إلى التخلي عن بطولاتهم،
كما لا يمكن لهذا الواقع أن يعطي فرصة نضالية كهذه لأي فرد من الأفراد تراوده نفسه بعمل أمر ما، عندها سيموت قبل أن يستيقظ من حلمه.
ويتدلى عمر المختار من أعواد المشنقة، منكساً الرأس، غير آبه للحارس المكلف بمراقبته، فيشنق الحارس دمية كانت بيد طفل صغير تعبيراً عن حنقه الداخلي، وتفريغاً لما بداخله من قمع وتمزق ن عندها يبكي عمر المختار بسبب طحن الإنسان الذي تحول إلى آلة صماء قاتلة.
إن موت عمر المختار الحقيقي لم يمنع الشمس والأحلام عنه كما لم يمنع الناس أن تذكره وتذكر بطولته في حركة الجهاد الإسلامي لمقاومة الاستعمار، في حين أن موته أمام الحارس قد وارى الشمس عنه، لأن الأشياء الجميلة ماتت أمام القوى الظالمة.
إن عمر المختار تعبير عن العدالة المشنوقة أمام انهزام الإنسان، فمات وترك المشنقة ليبحث عن تربة يتوارى فيها عن بشاعة هذا العالم مبللاً بالدموع الحارقة ( ). بذلك يكون الواقع قد اغتال الذكريات الخالدة وواراها التراب.
وفي قصة " الطائر" تقنع زكريا بشخصية عباس بن فرناس الذي صنعت له قططه الثلاث أجنحة ليطير بها كي تسري عنه حزنه الشديد بسبب فشل حبه لنهلة، وبسبب جوعه الذي حوله إلى ناقم مدمر لقد أسقط زكريا تامر على هذه الشخصية كل ذاتية الفرد الممزق، ومزج بين هاتين الشخصيتين لتتجسد رؤيته الناقمة على المجتمع.
لقد وظف عدداً غير قليل من الشخصيات التراثية ذات البطولات والانتصارات بأسلوب ساخر متهكم، كي يعكس سذاجة المجتمع وهشاشة بطولاته المصطنعة. فخالد بن الوليد يعلل أسباب بطولاته لملح أندروس الفوار الذي يشربه كل صباح ( ).
هذه نماذج من العلماء والأبطال، والمخترعين، تمثل الوجه المضيء في تاريخنا إلا أن زكريا تامر كان قد سخرها عكسياً لتوليد نوع من المفارقة التصويرية بهدف إبراز التناقض الحاد بين روعة الماضي وتألقه، وظلام الحاضر وفساده.
ويبقى السؤال: لو قدر لهذه الشخصيات أن تعيش في زماننا هذا، هل تبدع كما أبدعت في الماضي ؟ لقد كشف زكريا عن الأطر والمفهومات الزائفة التي تحكم حياتنا الراهنة، والتي لو تحكمت في حياة من سبقونا لسحقتهم، وأهانتهم، وحرمتهم الحرية والمبادرة في الأزمات ؛ لأنها ليست سوى مزيد من القيود الخانقة للإبداع والفداء والمبادرة.
لم يقصر زكريا نماذجه على الجانب المضيء من التاريخ ببطولاته وتضحياته، بل تقنع بصور بعض الحكام والأمراء والقواد الذي يمثلون الوجه المظلم في التاريخ، سواء بسبب استبدادهم أو انحلالهم وفسادهم، ففي قصة " اللحى"( ) يتلاعب بالماضي والحاضر فيصور تيمورلنك ( ملك المغول وحفيد جنكيزخان الذي احتل العالم وصارع العثمانيين) ( ). شاباً صغير السن له عينا طفل وابتسامة عجوز، يكره إراقة الدماء، كما أنه لا يبغي ذهباً أو نساءً فيصوره على نقيض حقيقته المدمرة، إلا أنه لم يغير الجوهر ولو اختلفت المسميات، وذلك عندما احتل دمشق بالحيلة عام 03هـ، فهزم المماليك بدهائه وحيلته، وها هو ذا اليوم يهزم القائمين على دمشق " أصحاب اللحى" رمز الدين، الذين ربطوا وجود المدينة وحريتها بوجود لحاهم، لذا تفرقوا أيدي سبأ، واستطاع تيمورلنك أن يلطخ اللحى بالدماء.
وفي قصة جنكيز خان منشئ الإمبراطورية المغولية( ) يتعامل زكريا مع هذه الشخصية المستبدة المدمرة على أنها طاهرة في أصلها وترنو إلى الصفاء والتطهر إلا أن قذارة الزمان تضطره لأن يقرض العالم قبل أن تقرض الجرذان لحمه وذلك بعدما رأى – في الطريق – طفلاً مات جوعاً فقرضت الجرذان لحمه، لذا قرر – ببشاعة – ألا يموت جائعاً فلبس دروعه، ونظر إلى العالم بتشف، وتخيل طوفاناً من الفولاذ المصهور يجتاح الأرض كلها( ).
الموروث الأدبي:
وكما وجد زكريا تامر في الموروث التاريخي – على الصعيد السياسي والعسكري والفكري – ما ينشد من شخصيات وأحداث، وجد كذلك في الرموز التاريخية الأدبية ما يسعفه في التعبير عن آرائه وأفكاره.
ففي قصة " المتهم" يساق رفات عمر الخيام إلى المحاكمة بتهمة كتابة شعر يمجد الخمرة، والدعوة إلى شربها، ونحن نعلم أن هذه التهمة قديمة لأسباب دينية، لكن زكريا اليوم تلعب بالأسباب فعزاها إلى الأوضاع السياسية والاقتصادية، فالدعوة إلى الخمرة – حسب رأي القاضي – " دعوة سافرة إلى استيراد البضائع الأجنبية، وتنفيذ لمخطط مشبوه يهدف إلى إثارة الشغب"( ).
حتى الشنفرى الصعلوك الجاهلي رمز الثورة والتمرد على القبيلة وعنصريتها الذي هام في الخلاء بحثاً عن قوم جدد يستبدلهم ببني البشر بعد أن قتل تسعة وتسعين رجلاً فقد تبدلت حاله وباع سيفه منذ سنين، وعاش في مدينة تفترسها شمس من نار، وعلى الرغم من حبه للورد والكلمات والنجوم فإن الورد في النهاية ليس خبزاً، والنجوم ليست سجائر( ). لقد اتفق الشنفرى (تاريخياً) والشنفرى القناع بالإحساس بالغربة، والجوع، والوحدة، والكآبة، والاستعاضة عن البشر بالحيوان، إلا أن الشنفرى التاريخي لم يستسلم بل أعمل سيفه في رقاب البشر، وقاوم قدر الإمكان، بينما باع القناع سيفه دون أن يلطخه بدماء رجل، حتى أن القطة التي تأمل بإحداث التوحد معها خدشته في وجهه، وعاد وحيداً كما بدأ.
التراث الشعبي:
لقد ساهمت العامة في صياغة الموروث الشعبي وتداوله، كما يعد عنصراً من عناصر التراث بعامة، ويشمل الأدب الشعبي، وبعض الفنون كالغناء والموسيقا، والرقص، والمعقدات الشعبية، وغيرها( ).
وقد ابتعث الأدباء هذا التراث في أدبهم مستغلين أبعاده ودلالاته القديمة، مضيفين إليه من واقعهم الشعوري أبعاداً ودلالات جديدة.
ويرى د. إحسان عباس أن " الجاذبية في التراث الشعبي تكمن في أنه يمثل جسراً ممتداً بين الشاعر والناس من حوله... وهناك إحساس بأن الاتكاء على هذا التراث يقدم شهادة على الاعتزاز بالموروث المشترك ويكشف عن خوف دخيل من ضياع رابطة تعد مقدسة حين تتعرض أقلية ما للانسهار في تيار كبير"( ).
وتعد حكايا ألف ليلة وليلة، والسير الشعبية وكتاب كليلة ودمنة من أغنى المصادر بالتراث الشعبي. وقد استمد زكريا من ألف ليلة وليلة صوراً جزئية، فأشار إلى شهرزاد وشهريار في قصة " ربيع في الرماد"( ) وذلك حتى يكسب الواقع بعداً أسطورياً، فيتناول هذا الواقع وكأنه زمن غابر غريب إلا أنه محفور في أذهاننا. ومن خلال شهرزاد وشهريار يعالج قصة البعث وقصة عالمنا الجديد، فشهرزاد ليست الفتاة المنعمة، بل هي جارية فقيرة أعياها البحث عن شهريار الملك حتى وجدته، وكذلك شهريار إذ عاش حزيناً يبحث عن شهرزاد، فما لبث أن التقى الجسدان حتى فرقهما القدر مرة أخرى، وتنتهي المدينة على أيدي الغزاة، وتموت شهرزاد، إلا أن شهريار لا يلبث أن يلتقي فتاة أخرى يتمنى لو كان اسمها شهرزاد، ويعودان معاً نحو المدينة المحترقة ويأكلان التفاح (رمز بدء الخليقة آدم وحواء) كي يعيدا قصة الخليقة من جديد لعل في هذا البعث معنى للوجود.
أما عن حكاية علاء الدين والمصباح السحري (البعد الثالث في حكايات ألف ليلة وليلة) فقد وظفها زكريا في قصة " شمس للصغار" إذ تعرض طفل صغير يحمل بيده صحن لبن إلى مضايقات طفل آخر من ذوي الطبقة الغنية، انتهت بوضع ذبابة ميتة في الصحن ثم كسره، فجلس الطفل المسكين يبكي الصحن الذي انكسر خوفاَ من أمه، إلا أن بكاءه لم يطل فخرج له عفريت من خاتم فضي كان ملقى على الأرض، فما كان من الطفل إلا أن طلب إعادة الصحن الذي انكسر، نلاحظ من ذلك أنه لم يستغل هذه المعجزة في تحقيق مطالب الترف والبذخ كما نعرف في أصل الحكاية، إلا أنه يرنو للمحفظة على واقعه البسيط دون الخروج منه إلى حياة أفضل. هؤلاء هم أبطال زكريا يرفضون الاستعانة بالقوى الخارجية لتحسين أوضاعهم، بل يصرون على الاستسلام لواقعهم القمعي دون محاولة منهم لإحداث تغيير ما.وتتشابه قصة " أقبل اليوم السابع"( ) مع حكاية مدينة النحاس في ألف ليلة وليلة( ).
فأهل المدينة من خشب بعد أن حولتها ساحرة شريرة، وبطل زكريا فيها رجل مل الحياة وقرر الانتحار، إلا أنه أرجأ الفكرة حتى يجوب الأفياء، فتعود الحياة لأهل المدينة على يد هذا البطل الذي تساوت عنده الرؤية للحياة والموت، فكان له الفضل في عودة الحياة مرة أخرى إلا أن أحداً
لا يعيره اهتماماً أو شكراً، لذا، تمنى لو أن المدينة بقيت من خشب حتى يعمها الهدوء والسكينة. فعلى الرغم مما قدم من فضل على أهل المدينة فإنه ما زال منبوذاً ولا يجد إمكانية للتعايش مع هذا العالم سواء أقدم تضحية أم لم يقدم.
واتكأ زكريا تامر في صياغة بعض قصصه على حكايات كليلة ودمنة فكانت قصة " النمور في اليوم العاشر (1) من أروع ما قدمه من قصص رمزية، إذ لخط فيها على لسان النمر سيد الغابات حكاية الإنسان المحكوم للسلطة الظالمة، وكيف أنه يتقهقر ويضعف ولا يستطيع الصمود أمام أنماط القمع والإرهاب، فالإنسان مسلوب الإرادة لا يملك حياته ولا حريته، فيفقد حياته كلها، بل يتحول إلى مخلوق آخر كما حصل مع النمر الذي أصبح يقلد الحمار، ويرقص ويصفق لسيده ويأكل الحشائش كل ذلك حصل في غضون عشرة أيام، فكيف بأمه مضى على ترويضها زمن طويل؟!.( )
أما في قصة "الأعداء" (2) فقد حط عصفوران على غصن شجرة، ولم يغردا كعادتهما مرحبين بشمس الصباح، بل تبادلا النظرات الوجلة الحائرة وقال أحدهما للآخر: أين نطير ؟ فسماؤها احتلتها الطائرات، وحزن العصفوران لأنه لم يبق لهما سوء سماء الأقفاص إلا أنهما لا يقبلان بسماء الأقفاص بديلاً من سمائهما الرحبة التي لا سلطة لأحد عليها، لهذا السبب كان الموت أرحم لهما، وأحفظ لكرامتها فابتلعا حبوباً مميتة وسقطا على الأسمنت ميتين. ( )
من هذه الرموز، استطاع زكريا أن يعبر عن حال الإنسان الضعيف أمام قوى السلطة والآلة. كما عبر عن الإنسان الذي يرنو إلى الحرية أينما حل، لكنه غالباً ما يخسر المعركة أمام السلطات القمعية بكافة أشكالها، لذا، يكون الموت هو الرحمة الحقيقية لهذا الإنسان الممزق.
التراث الشعبي الشفهي:
كثرت الحكايات والتعبيرات الشعبية والأغاني والمواويل التي غالباً ما تتردد على ألسنة الناس في الوسط الشعبي مشافهة، فتغدو محفورة في أذهان الناس. وقد ركز زكريا على الحياة الشعبية الدمشقية فعني عناية خاصة بالأحياء الشعبية كالتي خرج منها (البحصة) وطبيعة تفكير الناس فيها، ولباسهم، وسلوكهم، وموقفهم من التحرر، وسفور المرأة.
ففي قصة " في ليلة من الليالي"( ) يظهر أبو حسن شخصية شعبية من إحدى حارات دمشق الأصيلة، الذي يعد من أهم قبضايات الشام، شديد الزهو بشاربي (رمز الرجولة) ويسرد حكاية الرجل الذي تفاخر بشاربيه ففار بابنة الملك، للطفل الذي قتل أمه، لأنها طبخت طعاماً رديئاً.
ومن النماذج الشعبية أيضاً صياح وقاسم في قصة " الراية السوداء"( ) اللذان يمثلان النمط الشعبي الجاهل، فيحاربان كل نمط من أنماط التغيير أو الثقافة ويعتزان بمعتقداتهما الشعبية فقط، فيصطدم هذان الشابان ذوا السراويل الطويلة والشوارب المفتولة بغسان الشاب المثقف الذي يرتدي بنطالاً ويحمل كتاباً في يده، فاصطدمت مراجل الجهل بالحضارة والثقافة وكانت النتيجة أن انهزم غسان ووقع صريعاً بين أيدي هذه النماذج التي تقاوم كل تغيير وكل جديد، وغسان نموذج ورمز لكل شاب مثقف يدعو إلى التسلح بالعلم، وهو النموذج الذي يرسمه زكريا في كل مواطن من مواطن أعماله.
لقد استعان زكريا ببعض المواويل الشعبية في قصة " السهرة"( )، فجاءت حزينة تفوح منها رائحة الغربة، والضياع، والجوع، وتسلط القوي على الضعيف، وفقدان الصدق، فأبو شكور وأبو قاسم نموذجان لقبضايات حارة السعدي في الشام( )، وفي يوم من الأيام يصطحب أبو شكور أبا سمير إلى المقبرة حيث قبر والده ويجلسان على القبر في الليل، ليقيما سهرة تصدح فيها المواويل والسكر، فالغناء والسكر عاملان متكاملان عند الهروب من الهموم الاجتماعية والسياسية.
" سبع آهات ممزوجة بلب الكلام
الأوله آخ من فعلك يا شام
والثانية يا حيف ضيعت أيامي
شبه السحابة بين الريح يذريها
ودربي كحد السيف يا شام قدامي" ( )
هذه صورة الحياة الممزوجة بالآهات في نظر أبي شكور، فما معنى يرهب الإنسان المسؤول في العمل ما دام هذا العمل لا يطعم خبزاً ولا يقي خمراً، وفي ذلك دعوة تحريض ممزوجان باليأس واللامبالاة فيهرب أبطال زكريا من سوء الحال إلى مكان أسوأ لا يمت للحياة بصلة (المقبرة)، ويزداد إحساسهم بالمرح (لاحظ المفارقات) فيدندنون:
هز التوتة يا توات
توتك حلى يا توت ( )
كما طعم زكريا بعض قصصه بالحكايات الخرافية، مثل الخروف الذي يتحول بين يدي أبي فهد في قصة " شمس صغيرة"( ) إلى ابن ملك الجان، فيمنه بسب جرار من الذهب مقابل أن يتركه وشأنه، فيتغلب الطمع (الرغبة في الغنى) على لحظات الجوع عند أبي فهد ويلقى مصيره على يد سكران متسكع، في حين أن زوجته تنتظر عودته محملاً بالذب. بذلك، تكون أحلام الفقراء ليست ملكاً لهم، وأنه محض الحلم بحياة رغيدة يقتل صاحبه، فعلى الفقير أن يبقى فقيراً حتى النهاية. فيواري زكريا العالم الواقعي خلف هذه الخرافات، ومن ثم يركبه تركيباً واقعياً جديداً مغايراً لما هو مألوف، فيقدم ذروة الالتحام بين الخرافات الشعبية والواقع المعاش مكسباً كلاً منهما بعداً غرائبياً جديداً ليقتربا معاً نحو الوجدان الشعبي.
ويضيف زكريا نمطاً آخر من أنماط الخرافة الشعبة متمثلة بأوهام المشعوذين والعرافين، فتذهب المرأة في قصة " امرأة وحيدة " (1)، إلى العراف المشعوذ كي يبقي لها زوجها مخلصاً، فيستغلها هذا المشعوذ إشباعاً لشهوته، في حين تظن المرأة بأن الجان تطرد الشياطين من داخلها فتستسلم للذة ساحرة.
وحتى لا يصرف زكريا النظر عن هدف العمل الفني، اكتفى بالاتكاء على بعض الحكايات الشعبية والخرافات والأساطير دون إسفاف في العمل الفني، لذا، ظهرت هذه التضمينات على شكل أخلية مناسبة رقيقة لا تصرف الذهن عن أهداف زكريا التي ينبغي إيصالها للقارئ. ( )
الموقف من السلطة
لعبت السلطة دوراً مهماً في تعميق مفهوم الاغتراب عند بطل زكريا، كما عبت الحياة الاجتماعية، والفكرية، والشعبية، والاقتصادية هذا الدور من قبل.، وبخاصة بعد حرب حزيران إذ ازداد شعور الإنسان العربي بالانفصال عن مسرح الأحداث، وتعمقت الفجوة بينه وبين السلطة وتعمق الشعور بالعجز وفقدان القوة كذلك، فالدولة هي صاحبة القرار، ولاحق للفرد في المشاركة في أ قرار تتخذه السلطة، لذا تعالت عليه وبدأ يشعر بالكبت وسلب الحرية في القول والعمل، والتخطيط، والمشاركة، والمعارضة.
ويصور زكريا الحالة التي وصل إليها الفرد من التمزق في علاقته مع السلطة فيضطر مواطن ما أن يبعث برسالة إلى مدير الشرطة مفادها " من مواطن مثالي إلى السيد مدير الشرطة ن خضوعاً لأوامركم، أرجو السماح لي أن أموت" ( ). فلا يعود قرار الموت بيد الخالق بقدر ما هو مسيطر عليه من رجال الدولة وفي ذلك تصوير ساخر لكل القوى التي سلبت الإنسان حريته في العيش أو اللاعيش، وهذه أقصى درجات سلب الحرية التي تتناسب عكسياً مع الاغتراب، فكلما قلصت حرية الفرد، تعمق شعوره بالاغتراب وفقدان الأمن.
ويذهب زكريا أبعد من ذلك فيقول: " في اليوم الأول خلق الجوع، وفي اليوم الثاني خلقت الموسيقا، وفي اليوم الثالث خلقت الكتب والقطط، وفي اليوم الرابع خلقت السجائر، وفي اليوم الخامس خلقت المقاهي، وفي اليوم السادس خلق الغضب، وفي اليوم السابع خلقت العصافير وأعشاشها المخبأة في الأشجار، وفي اليوم الثامن خلق المحققون فانحدروا توا إلى المدن، وبرفقتهم رجال الشرطة والسجون والقيود الحديدية"( ). هذه هي أقطاب حياة بطل زكريا التي يكررها في معظم قصصه، فقد أفرزت البرجوازية الصغيرة فرد زكريا، الذي يتمتع بثقافة جيدة، فيهوى قراءة الكتب وسماع الموسيقا، ويحب القطط والعصافير و الخضرة التي تعمق الانتماء وتثير لواعج الرومانسية، كما أنه فرد لا يستطيع أن يحب العمل، لأن العمل جزء من أدوات القمع والتقييد والاغتراب عن الذات لأنه يستخدم كشيء من الأشياء. ويهوى الجلوس في المقاهي والملاهي كنوع من الخلاص، فيضفي زكريا على هذه السمات صفة القداسة لأنه يرسم بدقة اغتراب بطله. إنها قصة الخلق والتكوين، فالله عز وجل خلق الكون في ستة أيام ثم استوى على العرش في اليوم السابع لكن أقطاب الحياة عند فرد زكريا خلقت في سبعة أيام وفي اليوم الثامن – خارج حدود الأسبوع – تأتي القوة الوحشية لتغتال العالم، وبذلك، تكون هذه القيود موجودة بوجود الخليقة، لذا، نراه ينطلق من رؤية فلسفية تقضي بجوهرية الشر وأزليته وربما انتصاره وبذلك، يكون الشر قد بدأ مع بداية الحياة، وبما أنه قد آمن بأزلية الشر والغضب والقهر، سيبقى الصراع المشوب بروح الاستسلام والخنوع قائماً حتى النهاية فلا ضرورة للثورة أو الاحتجاج لأنها تحتاج إلى تحريك الطاقات الكامنة وتحويلها إلى موقف إيجابي، فيقهر الفرد ويصبح سلبياً لا مبالياً نتيجة لانعدام الأمن والشعور بالعجز عن ممارسة أي فعل سياسي، فيستسلم وتقاعس عن أداء دوره ( ).
وعندما أحاط الأعداء بأسوار دمشق، صرخ الشعب مطالباً بالسلاح للدفاع عنها، إلا أن زعيمهم وجنوده يطلبون منهم عدم التدخل في تخصصات غيرهم، لأن الدفاع عن المدينة موكل إلى الجنود وحدهم، لكن الناس لم يقتنعوا بذلك، وعندما لم يروا مبادرة الجنود الدفاعية أشهرت السيوف في وجوههم فقتل منهم من قتل، واعتقل من اعتقل على عندها لم يمهلهم العدو طويلاً فانقض على المدينة ودمرها( ).
لقد كان القهر الداخلي الذي أصاب الناس نتيجة محتومة للقهر الذي خلفته الهزيمة، فلاذ الناس بالصمت، ولم يكتسبوا جرأة في المقاومة إلا في قصة " النسيان"، وذلك عندما صاروا في مواجهة حتمية مع الموت، إذ تنبأ رجل غريب بأن أهل المدينة ينتظرهم موت محقق بعدما رأى أنه لم يبق
من الناس سوى اللحم والعظم، في حين صودرت إنسانيتهم، وعندما أدرك الناس ذلك امتنعوا عن دفع الضرائب غير مكترثين لعقاب الملك إلا أن طبيعة أفراد زكريا المقهورة التي لا يمكن أن تقتنص الفرص لتحقيق ذاتها، انسحبت منذ القرار الأول. فلم تطل الجرأة على التمرد بعد أن قطع رأس الذي تنبأ بهذا النبأ، عندها نسي الناس الموت وازدادت الضرائب في خزائن الدولة( ).
لا يجد زكريا بداً من تخفيف حدة الصورة البشعة وذلك بإضفاء أسلوب السخرية اللاذع على المواقف . كما تعامل مع عقلية الرؤساء – بسخرية لاذعة – فصورها بأنها عقلية ساذجة سخيفة، لا تتخذ قراراتها وفق دراسة وتمحيص، بل إن معظم قرارتها الحازمة تأتي نزوة وعفوية. فما هو ذا السلطان يأمر بقتل جميع السجناء، لأن السجون قد امتلأت، في حين أن هناك أعداداً هائلة في الخارج تنتظر دورها، وذلك حرصاً منه على أموال الدولة كي لا يتكلف ثمن بناء جديد.
إن التعليق على هذه المواقف لا يزيد شيئاً في قوة السخرية من السلطة ومن جبن الناس مسلوبي الإرادة. فيستسلم أبطاله للخنوع والصمت أمام جبروت السلطة حتى الأطفال لا يملكون القدرة على المقاومة، فأولاد حارة السعدي فخورون بشجرة التين المنتصبة بالحارة، التي دأبوا على حراستها من أولاد حارة مرجان (العدو الخارجي) إلا أن الأولاد استيقظوا في أحد الأيام ليجدوا أن شجرة التين مسروقة، وتبين لهم أن الحارس الليلي الذي يحمل مسدساً هو سارقها، عندها ظلوا صامتين واستكانوا لقوة الحارس وجبروته ( ).
لقد سئل ذات يوم بطل قصة " في يوم مرح" من قبل رئيس المخفر إن كان لا يخاف الموت، فأجاب بأنه فعلاً لا يخافه، ولكنه عندما سأله إن كان لا يخاف الشرطة لاذ بالصمت، فلا جواب على سؤال معروف الإجابة مسبقاَ وإن لم تكن معروفة فهي محددة وثابتة ينبغي التسليم بها، فالفرد تعريه حالة من الخوف تجاه يخاف الشرطة لأنها رمز القوة الحالة في الوجود لشر أزلي هدفه القضاء على إنسانية الإنسان وقمعه. بذلك تتضح رؤية زكريا السياسية من خلال هذه القرائن التي تتسم بالعجز والذل.
قلنا سابقاً إنه ما من شك في أن نكسة حزيران عام 1967 قد تركت بصماتها على الأشكال الأدبية، فوجدت في الرواية مثلاً صدى عند إميل حبيبي ممثلاً في السياسة (سداسية الأيام الستة، والمتشائل)، وعند سعد الله ونوس في المسرح " حفلة سمر من أجل خمسة حزيران" كما أن في القصة القصيرة خير صدى لما لها من مرونة وقدرة على مواكبة الأحداث، والتعبير عنها وتجسيم الفوضى، فأصيب الأدباء بردة فعل عنيفة تجاه كل القيم والمفاهيم والأخلاق، وسحب كثير منهم الثقة بالقدرة الإلهية التي لم تتدخل لصالح الإنسان آنذاك، وشاعت تيارات جديدة في الأدب فمنهم من لجأ إلى الوجودية، ومنهم إلى الماركسية، أو السريالية، أو العبثية وغيرها، وقد عبر زكريا تامر عن رؤيته السياسية من خلا عدة مواقف ساقها على يد أبطاله، فقد اتفق عجوزان في قصة الأعداء (الأسرى) على كتابة عريضة موجهة إلى الله عز وجل يلتمسان فها العون والمدد من أجل مقاتلة الأعداء، ولما طال الجواب تساءل أحدهم عن سبب رفض الله لهذا الالتماس؟ لذا عليه – عز وجل – أن يعفيهم من فريضة الصلاة إذا لم يبعث المدد (واحدة بواحدة)، إلا أن السؤال يتردد مرة أخرى ؛ وإذا رفض ؟ فيجيب الآخر باطمئنان وثقة " لا تخف إن الله سيعفينا من فريضة الصيام أيضاً "( ) لأنه غير قادر على إرسال المدد لمحاربة الأعداء. فتتضح الرؤية السياسية هنا بأن الأعداء لا يقهرون. حتى أن القدرة الإلهية لا تستطيع تقديم العون بل عجزت أمام القوى السياسية والقمعية، وفي هذا التعبير عن سوء الأحوال السياسية السائدة إبان الهزيمة.
وأشار زكريا في قصصه المليئة بالرؤية السوداوية وللامعقول إلى أن كل أوجه المع التي تمارسها السلطة لا تنصب إلا على الفقراء، بينما الأغنياء لا يتعرضون لمثل ذلك ؛ لأن الأديب أراد أن يظهر مأساة الفقير الذي يعيش بين فكي كماشة: السلطة السياسية من جهة والطبقة الغنية من جهة أخرى، فالشرطي مثلاً في قصة " الشرطي والحصان" يستوقف رجلاً مسكيناً يجر حصانه المتعب عبر طريق كتب عليها ممنوع المرور، فيصر الشرطي على عودة الرجل وحصانه من حيث أتى. في حين تمر سيارة فخمة مسرعة دون أن يستوقفها الشرطي، لذا يزداد حنق الحصان (لاحظ تمرد العناصر غير الإنسانية) ويعبر عن ذلك بتمرده وثورته فيضرب الشرطي ويوقعه أرضاً إلا أنه يعدم في الساحة العامة أمام مشهد من الناس، عندها لم يتفوه أبو مصطفى بكلمة بل " تخيل القانون مخلوقاً ضخماً له آلاف الأيدي.
القانون يأمر الشرطي، فيطيع الشرطي، ويأمر الشرطي أبا مصطفى، ويجب أن يطيع أبو مصطفى الأوامر "( ) . فكل شيء منظم حسب القوانين التي ينفذها الفرد ويتمنى الفكاك منها إلا أنه يجب أن ينصاع لها – ولا خيار آخر له – مجرداً من مشاعره.
وكما أن الشرطي هو اليد الآلية التي تنفذ أوامر السلطة فيرى زكريا ان كان مسؤول يتسلم منصباً ما يتحول إلى آلة جوفاء تنفذ كل ما يطلب منها، لذا على المسؤول أن ينكر الشعب وينكر مصالحه حتى يظهر الولاء للسلطة. فالمعلم عمر القاسم الذي كان يعيش ببساطة مع أهل الضيعة في قصة " يا أيها الكرز المنسي"( ) والذي يطرد من الضيعة لأنه لم يهادن الآغا " رمز السلطة" يتبدل ويتكلف أخلاق المسؤولين حتى صار وزيراً، فيفرح أهل الضيعة لابنهم البار ويقررون زيارته ومعهم سلة من الكرز الذي يحبه إلا أنهم عادو خائبين موقنين أن عمر القاسم الذي يعرفون مات منذ زمن.
ولا ينجو العلم من قبضة الوزراء، فالوزير في قصة " التراب لنا وللطيور السماء"( ) يقنع السلطان بمساوئ اختراع الطائرة التي تحلق فوق الاعداء وذلك لأنها يمكن أن تطير فوق قصره، وفي ذلك تآمر وخبث على السلطان وحاشيته، لذا يصبح العلم وتصبح المخترعات رمزاً للتخريب السياسي المرفوض.
مما لا شك فيه أن زكريا يتصدى في أدبه لتسلط الدولة القمعي عن طريق سرد ممارسات لا معقولة لتكون ملاذاً معوضاً لخيبة آمال المجتمع، لذا فهو إيجابي من خلال رصد المواقف السلبية للشخوص. فالسلطة الحاكمة لا تعجز عن تقديم كل إنسان للمحاكمة كما أنها لا تعجز عن تدبير التهمة المناسبة لكل فرد، وكثيراً ما يحاكم دون تهمة. ولا تعجز أيضاً عن استخراج الأموات من قبورهم لتعيد محاكمتهم من جديد، لذا تصبح الحياة والموت في نظر الفرد سواء، لأن الإنسان في كليهما يعيش في سجن كبير كما يراها مصطفى الشامي: " وفي تلك اللحظة كانت الأرض الجرداء والأرض الخضراء لهما سماء واحدة مصنوعة من قضبان فولاذية" ( )، ودلالة القضبان واضحة لا تخفى على أحد.
واستطاعت الشرطة كذلك إخراج عمر الخيام من قبره ومحاكمته بتهمة جديدة، كما استطاعت أن تؤول شهادة الشهود حسب مصلحتها، فالقاضي مثلاً رأى في حب عمر الخيام للكلمات تمرداً وذلك لأن المواطن الصالح يجب أمه والحكومة فقط، وفي قراءته لكتب الحب خروجاً على الأخلاق العامة لأنها في نظره كتباً جنسية، كما رأى بعد شهادة الصحفي الذي شهد بأن عمر الخيام لم يمدح الحكومة في أشعاره، أنه لا يحب الشعب، ويعد تعاونه مع الحزن تعاوناً مع جواسيس الطابور الخامس الذي يعمل على زعزعة الثقة بالسلطة المسؤولة( ).
وقد اعتبر زكريا أن السلطة تعنى بالقشور السطحية فقط، وتتناسى الجوهر الذي سبب في تمزق الإنسان واغترابه عن ذاته كنوع من الاستخفاف بعقل الإنسان، فعبر عن ذلك بأسلوب متهكم، فالفرد جائع إلا أن الشرطة تقبض عليه بتهمة أنه يسير مقوس الظهر وفي ذلك إساءة لسمعة البلد ومظهرها، وترويج لإشاعات المرض والجوع، مع العلم أن بطل القصة يعترف لهم حقاً أنه مريض وجائع، إلا أنهم يتهمونه بمهاجمة القوانين، وأن يسير عابساً شاحباً، فيخبرهم لأنه بلا عمل، إلا أنهم يحذرونه من السير في الشارع، فيسير مسرعاً نحو البيت منكسراً مهزوماً، عندها يقبض عليه لأنه تثاءب في الشارع ويحكم عليه بالإعدام لأنه مواطن غير صالح ( ).
من ذلك اعتبر زكريا تامر أن الفرد مدان ومتهم دون سبب وجيه لأنه لا ضرورة لوجود سبب فمجرد وجوده في هذا العالم تهمة كبيرة.
ويتجسد ذلك في سؤال القاضي لأحد المتهمين " لماذا ولدت ما دمت بريئاً ؟ جئت إلى هذا العالم كي تهلك وستهلك دون احتجاج "( ). كما " لا يوجد إنسان دون ذنب "( ) وتكفيه تهمة الوجود، لذا يبقى سليمان الحلبي صامتاً أمام محاكمته كما ظل جوزيف. ك صامتاً في القضية( ) لكافكا من قبل فاستغرب سليمان أن ينمو في أعماقه شعور بالذنب إلا أنه كان في الوقت نفسه شديد الاقتناع ببراءته( )، ويتعرض جوزيف. ك لمثل هذا الموقف فيطرح التساؤل نفسه " وأنا أستنتج هذا مع أنني متهم ولا أستطيع أن أجد أدنى ذنب يمكن أن يكون السبب في اتهامي على أن هذا شيء ثانوي، والسؤال الرئيسي هو من الذي يتهمني؟ "( ). وبذلك فقد خضع كل من بطل كافكا وزكريا – لحظة الاعدام – إلى الخنوع وعدم المقاومة لانعدام القوة المسبوقة بانعدام المغزى من المقاومة، التي تقع ضمن خيار واحد (الموت) والعجز المغلق باليأس المبرر كل ذلك، في حالة من الاغتراب التي يقنع الفرد من خلالها بأن لا ضرورة لمقاومة فاشلة منذ البداية.
وهناك الكثير من قصص تامر التي تعتبر تجسيداً لضعف الإنسان المهزوم ومعاناته النفسية والسياسية والاجتماعية، كما أن من أبرز الآثار السلبية للاغتراب هي تحول الإنسان عن طبيعته الأصلية واغترابه عنها فيتحول إلى إنسان زائف أو سادي أو حيوان كما حصل مع عمر السعدي في قصة " النهر" ( )، والذي قبض عليه دون أن يقترف ذنباً، وبقي في الزنزانة حتى بات يتخيل أن الحارس الذي يحضر له الطعام ليس له لحم أو عظم، كما أن إحساسه بالغربة الذي ولدته الوحشة والوحدة قد تضاعف عندما استرعى انتباهه حركة يده في الهواء، إذ خامره إحساس بأن هذه اليد غريبة عنه، وكانت هذه هي الخطوة الأولى في فقد الإحساس بالذات كما أن نهايته كانت أشد وقعاً من أمثاله: سليمان الحلبي، وجوزيف. ك. إذ التفت حوله ذيول الغربة والوحشة فتجرد من إنسانيته متحولاً إلى حيوان ينتظر ركلة الحارس بلهفة.
في كل ما أسلفنا تأكيد على أن كل ما يحيط بالفرد هو عدو له، وما العالم إلا عبارة عن مؤامرة كبيرة هدفها القضاء على الفرد وسحقه في بوتقة الجماعة الخانعة المجردة من كل إحساس ن حتى أن رجال الدين كانوا قد ساهموا في هذه المؤامرة فطوت السلطة السياسية رجال الدين تحت لوائها، وصار رجل الدين جزءاً من بطانة الحاكم، فكما أن جوزي. ك يشف عن واقع الكاهن الذي صدفه في إحدى الكنائس، وتبين له فيما بعد أنه يستدعي من قبل القاضي للمشاركة في معالجة قضيته، يكشف زكريا كذلك عن رجال الدين الذين يقفون موقف العداء من العلم والعلماء، ويساهمون في طمس شخصية الفرد باسم الدين، لذا فقد اعتبروا أن كل مستجدات العصر كفراً وإلحاداً وتصدوا للعالم الذي صنع طائرة لإنقاذ دمشق، كما اتهموه بالكفر والإلحاد لأن في هذا الاختراع تقليداً لما يخلق الله ومخالفة لمشيئته، وما كان من الجل ذي اللحية الطويلة (رمز رجل الدين المتطرف) إلا أن أشار قائلاً: " هذا ليس عالماً، إنه إبليس متنكر، يريد إغواءنا وإبعادنا عن ديننا"( ) فما كان من السلطان إلا أن أمر بإعدام العالم.
لقد تعمد زكريا أن يكشف عن الوجه المتطرف لرجال الدين والذي يعكس من خلاله ممارستهم السلبية تجاه الفرد، فرسم صورتهم – بدلالة اللحى الطويلة جداً (التطرف) – أنهم جهلة لا يفقهون شيئاً ملمحاً لذلك من خلال أحد رجال الدين الذي صرح أمام حاشية السلطان بأن إبليس يتجسد في الطابة التي اخترعها العالم للأطفال( )، ولم يكتف بوصفهم بالجهلة بل ينسب لهم الهزيمة الميتة التي حصلت في قصة " اللحى"( ) أمام تيمورلنك الغاشم.
لقد ساهم رجال الدين في تجسيد المواقف الانهزامية بمعاونة السلطة السياسية فدعو للخنوع وعدم المقاومة وفق مبدأ القضاء والقدر( ). فوقع في الحيرة بين حقيقة الدين الحنيف وتفسيرات رجاله الخاطئة له، ففقد الدين قداسته وضاع الفرد بين قهره وتمزقه.
وتجدر الإشارة إلى أن رؤية زكريا تامر العامة تنبثق من مواقفه السياسية وآرائه، لذا فقد ظهرت آثار الرؤية السياسية في موقفه من المجتمع والسلطة الأبوية والمرأة، والمدينة، والتراث وغيرها إذ جاءت كل هذه المضامين لتخدم موقفه من السياسة لذلك لا نجد فضلاً للاستمرار في عرض موقفه من السياسة في باب مستقل.
إلى روح والدي الطاهرة....
.... تغمده الله فسيح جناته.
***
المحتويات
الصفحة
* الإهداء 3
* المحتويات 5
- المقدمة 9
- مقدمة الباحثة 13
* الفصل الأول
- التمهيد
لمحة موجزة عن واقع القصة القصيرة 17
- حياته ورؤيته الفكرية 21
أ- مفهومه السياسي 25
ب- المواطنة 35
جـ- الحرية 38
د- النقد والنقاد 39
هـ- التراث 43
* الفصل الثاني:
- المضامين:
أ- الموقف من المجتمع من خلال خصصه 49
1- الفروق الطبقية 52
2- صراع القيم 57
3- الصراع مع السلطة الآبوية 60
4- الاغتراب الذاتي والاجتماعي 62
ب- الموقف من المرأة 75
1- صورة الأم 77
2- صورة الزوجة 81
3- صورة الحبيبة 82
4- صورة المومس 84
جـ- الموقف من المدينة 87
1- صورة المدينة الكبيرة (المعقد) 89
2- صورة المدينة – الرمز 95
3- صورة المدينة الماضي 97
3- صورة المدينة الرؤيا 99
د- الموقف من التراث 103
1- الموروث التاريخي 105
2- الموروث الأدبي 110
3- التراث الشعبي 111
4- التراث الشعبي الشفهي 113
هـ- الموقف من السلطة 116
* الفصل الثالث:
- البناء الفني 129
أ- الشخصية القصصية 131
- الشخصية المحورية 135
- الشخصيات الثانوية 140
- الشخصية التاريخية 144
- الشخصية الشعبية 145
ب- اللغة والسرد والحوار 146
جـ- المكان 171
د- الزمان 179
* الخاتمة 188
* المصادر والمراجع 191
المقــــــدمة
عندما عرضت علي السيدة امتنان الصمادي فكرة تسجيل أُطروحة ماجستير في زكريا تامر، لم أُبد حماسة في بداية الأمر لقبول المشروع لأكثر من سبب، فامتنان فتاة محافظة، وكاتبنا متطرف في السياسة وفي المفاهيم الاجتماعية والدينية، يحلو له أن يضرب بفأسه في ثوابت الناس الاجتماعية والدينية... وامتنان راسخة الجذور الدينية، وكاتبنا لا يتورع أن يصدمنا بما نؤمن به أو نعتقده أو نسلّم به.. وامتنان ما تزال طرية العود، وكاتبنا حائر محيّر في مدارسه ومذاهبه واتجاهاته، ولذلك حاولت إقناعها بتغيير الموضوع، ولكنها أبدت حماسة له، فلم أجد مناصاً من مكاشفتها عما يعتمل في صدري من خوف عليها.
وهكذا خاضت الباحثة التجربة وأنا مشفق عليها، لأن زكريا تامر يعد من أشهر كتاب القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث، وهو كاتب متعب محيّر يستعصي على التأطير، ليس من السهل مقابلته لأنه يعيش في لندن، ولا يجيب على رسائل الباحثين والدارسين، ولا يفتح قلبه للناس.
سارت الباحثة في طريق بكر، فحاولت أن تجمع شذرات عن حياته من بعض أَصدقائه ومعارفه، بعد أن يئست من استجابته لرسائلها المتعددة، وقرأت كل ما كتب من قصص ومقالات، بتأن ودقة وسعة أفق، وخرجت مما قرأت بشيء عن ملامحه وثقافته ورؤيته
ومواقفه وصلته بالمفكر الحر عبد الرحمن الكواكبي، وأنا اعتقد أنها كانت سباقة في ما وصلت إليه.
لقد خاضت الباحثة في عالم قصص زكريا تامر ومقالاته، وكنت أحسّ من مقابلاتها، ان في نفسها شيئا من الخوف والتحفظ وهي تنقل لي آراءه في السياسة أو الدين أو الجنس، أو وهي تسألني عن بعض مغازيه في بعض القصص، فكنتُ أهدئ من روعها بقولي: ناقل الكفر ليس بكافر، وأنت باحثة تقدمين رسالة أكاديمية، وهذا يوجب عليك أن تكوني موضوعية في ما تطرحين، حتى لو كان يخالف قناعاتك ومعتقداتك وقيمك، وليس بالضرورة أن تتبنى آراءه، فأنت اخترت زكريا تامر، وزكريا غابة بريّة كثيفة الأشجار، وعليك أن تدخليها وتخرجي منها بصورة مبينة، وبأقل الأضرار على نفسك.
وهكذا سارت الباحثة في طريق مليء بالأشواك والحفر، وكان زكريا محكّاً لها اختبرت فيه قدراتها الأدبية والنقدية. فخرجت بهذه الرسالة (الكتاب) الذي تراه- عزيزي القارئ- في حلته الأخيرة... وهذا الكتاب الذي ستجد فيه جهداً خارقاً، وتتبعاً دقيقاً، ورصداً كاملا لكل ما ما انتج زكريا، كما ستجد فيه تحليلا دقيقاً للقصص، وآراء نقدية موضوعية.. فالباحثة لم تُبهر بالاسم فتغمض عينيها عن كل سلبية عنده، ولم تقف منه موقفاً معارضاً لما يهزّه من قيم في كتاباته، بل نراها تتعامل معه انساناً مظلوماً مقموعاً، وفناناً بارعاً يمتلك أدواته الفنية ويتنقل بين المدارس والاتجاهات دون أن يسلك نفسه في أي منها.. تتعامل معه بوعي وإدراك، وتضع أيدينا على مواطن الجمال والروعة عنده.
لا أغالي إذا قلت أن القارئ لهذا الكتاب، وأجد فيه مادة غنية في السيرة والتحليل، وهو أوفى الدراسات عن زكريا تامر، وقد قدّم بأسلوب جيد، فلا غرو في ذلك فالباحثة هي قاصة ورسامة، وقد انعكس هذا على كتابتها... كما ان هذا الكتاب يقدم فائدة جلّى للقارئ العربي، لما قامت به الباحثة من اختيار لمجموعة من قصص ومقالات لزكريا تامر لم تنشر في كتاب.
عزيزي القارئ، بين يديك كتاب جدير بالقراءة والاقتناء. وهو من الكتب الممتعة، تستحق مؤلفته التهنئة، ويستحق ناشره الشكر الوفير.
د. سمير قطامي
الجامعة الأردنية
عمان 14/6/1995
***
مقدمة الباحثة
بدأت صلتي بالقصة القصيرة منذ كنت طالبة في المرحلة الإعدادية، إذ كانت لي محاولات لكتابة هذا الفن، فقرأت من القصص الشيء الكثير، وكانت نفسي تلح عليّ أن أقرأ المزيد، ويسّر الله لي الطريق.. فاستقرت بي الرغبة على اختيار القاص زكريا تامر موضع بحث ودراسة.
ومن مقولة الكاتب صبري حافظ عن زكريا تامر بأنه "شاعر الرعب والجمال" كانت الانطلاقة بالتحديد، وكان الموضوع "زكريا تامر والقصة القصيرة" لأحاول من خلاله استقصاء البحث في حياة القاص، ورؤيته الفكرية التي أضاءت أعماله القصصية.
ولم يتطرق الباحثون للقصة عند زكريا تامر- في حدود ما أعلم- بشمولية واستقصاء دقيقين، بل اقتصر على منثورات، وآراء نقدية موزعة بين الكتب، ودراسات تتناول القصة السورية.
وتوزعت الدراسة على تمهيد، وثلاثة فصول: تناولت في التمهيد واقع القصة السورية بلمحة موجزة، لتضيء جو الدراسة، ولتمكن من رصد موقع زكريا من خلال ذلك الواقع.
وخصصت الفصل الأول لإلقاء الضوء على حياة القاص، ورؤيته الفكرية، باتباع المنهج التاريخي الاجتماعي، من خلال مقالاته التي نشرها في عدد غير قليل من الدوريات الثقافية، والأدبية داخل الوطن العربي، وخارجه.
أما الفصل الثاني، فقد تناولت فيه مضامين المجموعات القصصية الخمس، التي دارت حول موقف أبطاله من المجتمع، والمرأة، والمدينة، والتراث في ضوء الحياة السياسية، آخذة بعين الاعتبار أثر التيارات الأجنبية
في رؤية القاص، وأعماله، ممثلة بفرانز كافكا على وجه التحديد، وذلك لأنه من أكثر الكتاب الأجانب الذين لمست تأثيرهم في أعمال زكريا تامر.
كما تناولت في الفصل الثالث البناء الفني، منطلقة من التحليل الجمالي لبنية القصة، في محاولة لتسليط الضوء على صورة الشخصية القصصية، وكيف عني زكريا برسمها رسماً دقيقاً، عاكساً حالتها النفسية، ووضعها الاجتماعي، بلغة إيحائية، شعرية مكثفة، وفي حركة ضمن الزمان والمكان.
وتعتمد الدراسة على مصادر متعددة منها: مجموعات القاص الخمس (صهيل الجواد الأبيض، وربيع في الرماد، والرعد ودمشق الحرائق، والنمور في اليوم العاشر). إضافة إلى عدد كبير من مقالاته التي نشرت في الصحف والمجلات.
وقد واجهت صعوبة غربية من نوعها في أثناء دراستي هذه، يتمثل في عدم تعاون القاص- القاطن في لندن- معي رداً على رسائلي المتكررة، والملحّة، أو على المهاتفة التي قمت بها لمكان عمله؛ لذا، راسلت عدداً من أعضاء رابطة الكتاب السوريين غير مرّة، إضافة إلى مقابلة عدد من النقاد والشعراء، أمثال د. حسام الخطيب، وشوقي بغدادي، من أجل الحصول على معلومات أسدُّ بها رمق هذه الدراسة، إلا أنني استعضت بقلَّة المعلومات الشفوية العكوف على الدوريات المختلفة أتتبع من خلالها مسيرة حياة القاص.
وبعد:
فإن الكمال لله وحده، وهذا مبلغ جهدي، وحسبي أنني بذلت فيها ما استطعت من جهد. وبه أستعين.
امتنان الصمادي
***
الفصـــــل الأول
تمهيـــد
لمحة موجزة عن واقع القصة السورية
لقد وفدت القصة القصيرة إلينا بمفهومها الحديث في نهاية القرن التاسع عشر من الغرب، فلم تصدف مكاناً خالياً في روح الأمة. وذلك لأننا عرفنا النفس القصصي ممثلاً بفن الخبر، والحكايات والمقامات، ابتداء بناصيف اليازج (1800- 1871)، وأحمد فارس الشدياق (1805- 1887)، ورفاعة الطهطاوي مروراً بسليم البستاني وجرجي زيدان وميخائيل نعيمة. وقد ظهرت البذور الأولى للقصة القصيرة الحديثة في لبنان، ثم ترعرعت ونضجت في مصر على يد محمد حسين هيكل، ومحمد ومحمود تيمور وإبراهيم المازني وتوفيق الحكيم، وطه حسين، وغيرهم( ).
تأثرت القصة السورية بنتاج كل من مصر ولبنان، وظهرت محاولات قصصية مبكرة عند نعمان قساطلي (1883)، ورزق الله حسّون وغيرهما. واستمرت القصة بالظهور إلاّ أنها كانت تُعدّ بدايات تمهيدية، رافقت التأثر بالموروث (شكل المقامة) من جهة، وحركة الترجمة التي أخذت تنشط من جهة أخرى خلافاً لبساطة الموضوعات المطروقة وسذاجة الشكل الفني لها( ).
وقد نمت القصة السورية فنياً في فترة الثلاثينات، وعلى وجه التحديد عام 1937 بظهور قصة "نهم" لشكيب الجابري، فأخذت القصة تعيش حياة النضج الفني محاولة التوفيق بين متطلبات البيئة المحلية، والتطورات العالمية، كما تخلصت من أسلوب الوعظ والإرشاد والمباشرة في الطرح.
واستمر الشكل الفني بالتطور بموازاة التطور الاجتماعي وزيادة الانفتاح على الغرب، فتأثر الأدباء العرب بعامة والسوريون بخاصة بالآداب العالمية التي تعبر عن النزعات الإنسانية ممثلة بـ موباسان وبلزاك، وإلبيركامو، وفرانزكافكا، وكولن ولسون، وغيرهم. فاختصروا بذلك مراحل زمنية طويلة كان قد استغرقها الغرب في تطوير فنه القصصي وبخاصة الإنتاج الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية( ).
وبدخول عهد الاستقلال عام 1946م تفتّحت آفاق الانتعاش الوطنية، وشاع التعليم، ودخلت البلاد عصر الآلة والطباعة، وتحررت المرأة، وظهرت طبقة جديدة من الوسط المثقف (البرجوازية الصغيرة)، كما ظهرت رابطة الكتاب السوريين عام 1951م التي تعدّ أبرز معلم لقيام النهضة الأدبية، وما لبثت أن توسعت عام 1954م لتشمل أدباء الوطن العربي عامة( )، رافعة شعار "الفن للشعب". وقد كان معظم أعضاء الرابطة من كتاب القصة القصيرة الواسعة الانتشار آنذاك بسبب طاقتها التعبيرية، وقدرتها على التحرك بحرية في الحياة الإنسانية عبر الزمان والمكان( ).
كما ظهرت في هذه الفترة الاتجاهات والتيارات المختلفة التي انضم إليها الأدباء لتعبّر عن آرائهم وأفكارهم، وكان من أبرزها الواقعية الفنية التي عنيت بتصوير الحياة بأمانة وموضوعية مع الاهتمام بالتفاصيل ودقائق الأمور، ممثلة بعبد السلام العجيلي. ثم تطور الفن القصصي ولم يقف عند حدود التصوير الفوتوغرافي للواقع، بل عمد إلى التحليل مركزاً على الجوانب السلبية في العلاقات الاجتماعية فتحدّث الأدباء عن الفلاحين والعمال والطبقة الكادحة وهذا ما أسماه الباحثون بالتيار الواقعي الاشتراكي ممثلا بـ شوقي بغدادي، وحنا مينة وغيرهم، فقويت بنيته وكثر حاملوه حتى أعلنت رابطة الكتاب العرب تبنيها لهذا الاتجاه( ). ولم يتفلّت بعض كتاب هذا الاتجاه من معالجة القضايا القومية المصيرية من مثل الوحدة الوطنية، والقضية الفلسطينية حتى سمُّوا بأصحاب الاتجاه الواقعي الاشتراكي القومي.
كما ظهر عدد من الأدباء ممن لم يروا في الاشتراكية مثالاً ينطلقون منه لتدعيم مبادئهم، وشعروا بافتقارهم إلى عقيدة ذات بعد فكري وفلسفي يواجهون بها التيارات التقليدية، والماركسية، لذا تأثروا بدعاة التيار الوجودي أمثال سارتر، وكامو وغيرهم، ممن تركوا بصماتهم على الآداب المعاصرة في أوروبا، وذلك بعدما أضحى الاهتمام بالحياة الفردية ذاتها، وبالعالم الباطني الخاص بكل فرد كبيرا( ). وقد لوحظ في نهاية الخمسينات انتشار مفهوم جديد للقصة شمل التجديد في الشكل والمضمون بسبب الحساسية القوية تجاه معطيات الواقع المضطرب وتناقضاته، واستطاع الكتاب تفجير اللاشعور الإنساني متحدّين بذلك القيم السائدة، فعكس نتاجهم الكثير من الظواهر النفسية التي يعاني منها جيلهم في صور مليئة بشعور الضياع والتمزق والشك والحيرة والاشمئزاز من الواقع، والاغتراب الذاتي والاجتماعي.
وتضخمت النزعة الفردية في العقدين السادس والسابع من هذا القرن عندما وجد الأدباء أنفسهم بين عالمين متضادين، عالم التمسك بالقيم والموروثات القديمة، والوعظ الديني، وعالم القيم الوافدة المسلحة بالتقنية الحديثة فأخذوا يعانون ويلات الاغتراب، وتشكلت قاعدة لمخاض العصر النفسي التي سميت بحساسية العصر الحاضر. ونستطيع القول إنها تيار عام مشترك بين جميع الأدباء شجعت النزعة الفردية لديهم. ويقول نعيم اليافي بهذا الصدد: "ولعل أهم ظاهرة من ظواهر هذا القلق هي الفردية أو الانتصاف إلى الكيان الفردي في القضايا. وقد انتهى منها الكتاب نهايتين مختلفتين: قسم منهم انتهى إلى الالتزام بالدلالة القومية مرّة بالوجودية أخرى، وانتهى القسم الآخر إلى الضياع والعبث"( ).
وعلى الرغم من ذلك فإن قصة الستينات تعتبر مرحلة النضج الفني والإتقان، فوجد جيل السبعينات في ذلك طريقاً ممهداً أمامه( )، كما اعتبر جيل الستينات صاحب الفضل في ترسيخ دعائم فن القصة. ويرى الدكتور حسام الخطيب بأن كتّاب أدب الضياع ممثلا في زكريا تامر، ووليد إخلاصي وجورج سالم وغيرهم، جيل فقد العلاقة مع الحياة، وهم ثوار على كل شيء، ولكن في سبيل لا شيء تقريباً، فلا يؤمنون بالأسرة ولا بالمجتمع ولا بالمؤسسة. ونتيجة لذلك يصبح الحل الوحيد أمام البطل، الضياع، والشرب، والجنس، والأحلام. كما يعرف هذا بأدب اللامعقول( )، وسنورد تفصيلاً عن ذلك في الفصل الأول.
واستمر – حتى يومنا هذا – تناول الذات الإنسانية الحسيّة والروحية بجرأة وصراحة، وقويت النزعة التجريبية في تكنيك القصة ولغتها والمزاوجة بين لغة القص التقريرية ولغة الشعر المجازية، حتى أصبح ذلك أمراً مألوفاً وتياراً عاماً لا يخبو عند أدباء الثمانينات( ).
حياته
ورؤيته الفكرية
ولد زكريا تامر عام 1931م في دمشق، لأسرة بسيطة، وتلقى تعليمه الابتدائي فيها، ولم تطل فترة انتظامه في سلك التعليم بسبب قسوة محاولته للتخلص من الواقع الصعب، والإحساس بالفاقة.
عمل زكريا في مهن يدوية بسيطة في صغره، واستمر يعمل حدّاداً في معمل للأقفال في حي البحصة الدمشقي مدة تزيد على اثنتي عشرة سنة. ثم تحول إلى الحقل الصحفي عام 1960 بعد أن نشر أولى قصصه عام 1956( ). أما عن توجهاته الفكرية فيقول د. عبد الرازاق عيد بأن زكريا قد "قاده وضعه الطبقي إلى الانتماء للحزب الشيوعي السوري إذا أتيحت له فرصة الاحتكاك بالمثقفين والأدباء الذين جرفتهم موجة النضال الوطني الحاد، والتي كان نواتها الرئيسية الحزب الشيوعي، الذي كان له دور أساسي في قيام رابطة الكتاب السوريين..... وفي عام 1956م طرد زكريا من الحزب الشيوعي السوري...." ( ).
ونحن بدورنا لا ننكر تحرّك الحزب الشيوعي السوري في هذه الفترة، لكننا لا نستطيع الجزم بأن القاص زكريا تامر- وقد كان شاباً في هذه الآونة- قد انتسب إلى هذا الحزب أم لا، وذلك لندرة توافر المعلومات الشخصية من الكاتب نفسه أو ممن يحيطون به، كما أن د. عيد أغفل أسباب طرد زكريا من الحزب.
ومن الجدير بالذكر أن القومية العربية كانت متأججة في منتصف الخمسينات وبخاصة في مصر بزعامة جمال عبد الناصر الذي قاد الأمة لمحاربة الغرب المستعمر. والتاريخ لا يغفل الكثير من الحوادث التي قلبت موازين القوى في الشرق الأوسط بين الكتلة الغربية والشرقية، ففي خضم هذه الظروف التي تدفع الشباب إلى التشكيك في المبادئ السائدة حاولوا نبذ كل الاتجاهات التي تنادي – وهمياً- بتحرر الإنسان والوطن. كما صدم الأدباء بواقع مبادئ الاشتراكية النظرية، وواقع الوعي القومي الناصري اللذين لم يثبتا فاعليتهما أمام الأزمات القومية وبخاصة بعد حرب حزيران، مما دفعهم إلى التخلي عن الالتزام بأي حزب.
وزكريا تامر – بخاصة- من الأدباء الذين لا يمكن قولبتهم في أي اتجاه أو تحت راية أي حزب، ولا يمكن لامثاله- بحكم طبيعتهم المتحررة من كل القيود- أن يلتزموا بتعاليم أي حزب، وإنما يرون أن قضيتهم هي في صراع الإنسان مع الحياة، وفي أزمة الوجود الإنساني، وذلك بدليل ما يراه زكريا في إحدى مقالاته التي صرح من خلالها أنه انضم إلى جمعية الأدباء العرب 1958م وقد كانت هذه الجمعية محاولة لجمع الأدباء المؤمنين بالعروبة وتوحيد صفوفهم، كما كانت رداً عملياً على نشاط رابطة الكتاب السوريين، ويقول: "وكنا آنذاك مجموعة من الأدباء الشباب الضالين الكارهين لكل قيد سواء أكان أدبياً أم اجتماعياً، والحالمين بتغيير العالم والأدب تغييراً يجعل من كل إنسان سيداً، كما يجعل الأدب يبدع حراً، ويهدم سجوناً شيدت قديماً باسم الأدب الرفيع الراقي"( )، وقد ضمت هذه الجمعية أدباء من مختلف الأعمار والطبقات، لكنها لم تدم طويلاً بسبب الظروف السياسية والانقلابات العسكرية المتكررة. ومن هذا النص يظهر لنا موقف زكريا وزملائه من القيود، والحد من الحريات حتى وإن كانت تلك القيود حزبية.
وعلى الرغم من توقف تحصيل تامر العلمي عند المرحلة الابتدائية، إلا أنه لم يستسلم للواقع الصعب، فكان قارئاً نهماً( ) عكف على تثقيف نفسه تثقيفاً جيداً، فلم يستثن التراث الأدبي الإنساني، كما لم يستثن تمثل الأعمال الأدبية العالمية المعاصرة فقرأ لسارتر، وكافكا، وكامو وغيرهم، ممن أثروا مسيرة الأدب العالمي، كما قرأ في المذهب الوجودي والأدب التعبيري، والعبثي والانطباعي والسريالي، وقد أثّرت هذه القراءات في نهجه وأسلوبه ومستوى أعماله مقارنة مع أعمال غيره من الأدباء في فترة ازدهاره نفسها، مما دفع كثيراً من النقاد إلى عدم الاعتراف بأدب زكريا القصصي في البدايات.
وكما أسلفنا سابقاً بأن زكريا ذو طبيعة خاصة فلا نعلم عن أسرته شيئاً لا من قريب ولا من بعيد، وذلك لأن القاص منغلق على نفسه تماماً، حتى إن أقرب أصدقائه لا يملكون المعرفة الدنيا عن حياته الشخصية، ويبدو أن ذلك يعود إلى إحساس القاص بالاستلاب والشعور بالاغتراب والانفصال عن العالم المحيط إلاّ أن ومضة يتيمة ظهرت في إحدى مقالاته نستنتج من خلالها أنه متزوج وله أطفال().
تقلّب زكريا في أعمال مختلفة، فمن عامل في معمل الحدادة إلى موظف في وزارة الثقافة (مديرية التأليف والترجمة، دمشق) وكان ذلك بين 1960- 1963م( )، وشغل منصب رئيس تحرير عدد من المجلات السورية، أمثال المعرفة( )، كما عُيّن مديراً للنشر ثم سكرتيراً لتحرير مجلة الاتحاد (الموقف الأدبي) ( ) ثم عُيّن نائبا لرئيس اتحاد الكتّاب في الفترة 1973- 1975، وترأس كذلك تحرير مجلة أسامة للأطفال، وتجدر الإشارة إلى أن زكريا كان قد توجه للكتابة للأطفال منذ عام 1968 فتميز إسلوبه، وأثار الانتباه للغته ومفاهيمه الخاصة بالطفولة وقد قال عنه أحمد محمد عطية "... بالإضافة إلى عدد كبير من القصص القصيرة جداً للأطفال، تجاوز صداها الوطن العربي إلى أوروبا بل وإسرائيل أيضا، فقد ترجمت إلى اللغات العالمية وشكلت قصصه بداية الطريق الصحيح لأدب أطفال عربي جديد يبث القيم الإنسانية والقومية والنضالية... ومن خلال قالب فني عصري، ولغة عربية بديعة، ليسهم في تكوين الإنسان العربي الجديد"( ). وترأس كذلك مجلة رافع منذ عام 69- 1970( )، هذا وقد ابتعد عن الاسلوب التقليدي السائد، القائم على الموعظة والإرشاد (إفعل ولا تفعل) والتلقين الذي لا ينمي عند الطفل الاّ مزيداً من الإذعان والرضوخ يقول: "ولا بد من التنويه بأن جيل الأطفال لا يمكن أن ينمو النمو السليم في مجتمع يعاني الآباء والأمهات فيه الظلم والقهر والهوان، والعوز؛ لذا فإن الاهتمام الحقيقي بالأطفال يتطلب في الوقت نفسه الاهتمام بالكبار أيضاً، فتحرير الكبار مما يشوّه إنسانيتهم، ويحول دون تطورهم هو الخطوة الأولى التي لابد منها..." ( ).
لقد كتب زكريا ما يزيد على مائة وخمسين قصة للأطفال، ويرى أن تقديم كتاب رديء للأطفال لهو جريمة تتضح آثارها السلبية في شخصية الطفل حينما يكبر، كما أنه على المؤسسات الثقافية أن تساهم في تنمية ثقافة الطفل ووعيه. أما مؤلفاته التي قدمها للأطفال فهي المجموعات: "لماذا سكت النهر" 1973 و "البيت" 1975 و"قالت الوردة للسنونو" 1977، و "بلاد الأرانب" 1979، وعدد من القصص التي نشرها في دار الفتى العربي (يوم بلا مدرسة، الطفل، المطر، بيت للورقة البيضاء وغيرها...) ( ).
لن نخوض في عالم الأطفال عند زكريا. ولن نتوسع في تناوله هنا، وذلك نظراً لما له من خصوصية ومميزات أسلوبية لا يمكن إيجازها أو المرور عنها مروراً سريعاً إضافة إلى أنها تستحق دراسة مستقلة مفصّلة.
انتقل زكريا للعيش في لندن عام 1981- ولا يزال حتى يومنا هذا- عمل في مجلة الدستور الأسبوعية( ) ثم نشر مقالاته السياسية والأدبية في معظم المجلات العربية وكان من أبرزها مجلة التضامن( )، ومجلة الناقد اللندنية التي نشر خلالها مجموعة من الأقاصيص والحكايات تحت زاوية "قال الملك لوزيره" يحاكي التاريخ من خلالها فينقل القارئ- بالحلة التراثية- إلى الواقع بهمومه وسلبياته وكان ذلك منذ آب/ 88- حزيران/ 1989. كما نشر في مجلة الدوحة عدداً لا بأس به من المقالات في زاوية "خواطر تسرّ الخاطر" كرر خلالها الأسلوب الحكائي السالف( ).
تراوحت مقالات تامر الأدبية بين المقالة القصصية والشخصية، وجاءت عفوية سريعة خالية من التكلّف، وعبّرت تعبيراً صادقاً عن شخصيته وتجاربه الخاصة والرواسب التي تتركها إنعكاسات الحياة نفسها، فتمتاز بروعة المفاجأة، وتوقد الذكاء وتألق الفكاهة والسخرية اللاذعة في انتقاد العادات الاجتماعية البالية والتقاليد السقيمة، والسياسات العقيمة التي تمارس ما يشوه إنسانية الإنسان، فسخر من الحكومات، وسخّف عقول المسؤولين وسخر من تقاعس الناس الانهزامي...
والجدير بالذكر أن تامر ما زال يكتب في صحيفة القدس العربي اللندنية، فلا يتوانى عن شتم السلطات العربية، وتقريع الممارسات الثقافية والأدبية والنقدية التي لا تسير وفق مناهج واضحة، ورؤى صادقة، كما أنه دائم التساؤل عن ماهية الوجود الإنساني، كل ذلك مصبوغ بطابع قصصي جميل، ولا نستغرب ذلك لأنه يقول: "أنا باختصار أعشق القصة القصيرة عشقاً لن يزول بسهولة، فجذوره متغلغلة في شراييني"( ).
ويقول عن سبب امتهانه الكتابة "في المرحلة الأولى التي ألفيت نفسي مندفعاً إلى الكتابة، كنت أحس أني أسقط في هوة لا قاع لها، وكانت الكلمات تنقذني آنذاك... في تلك المرحلة كانت الكلمة الواحدة تبدو لي عالماً كاملاً غنياً له أرضه وسماؤه... وبشره وسجونه... وصيحاته الغاضبة التي تقول لا... الكتابة بالنسبة لي هي الآن أهم ما في الحياة، والمبرر الوحيد لوجودي... وتزداد أهميتها عندي يوماً بعد يوم..." ( ).
وعن اختياري لفن القصة القصيرة تحديداً يقول: "أما اختياري للقصة القصيرة فيرجع لكنها أداة فنية غنية التعبير، تتحدى كاتبها، وتتيح له المجال لتقديم الدليل على أصالته، وموهبته، ومدى إخلاصه لبيئته وإنسانها"( ).
وقد بدأت مسيرته القصصية من مجلة الآداب، فنشر عدداً من القصص، ووجهت له انتقادات كثيرة على أسلوبه الذي لم يكن مقبولاً في أواخر الخمسينات وبداية الستينات، وذلك لأنه كسر حواجز فن القصة التقليدية السائدة، وتجاوزها إلى التجريب، كانوا يرون في قصصه "شيء" لا يمكن وصفه بالقصص.
ولم يتوقف زكريا عن نشر قصصه، كما لم يكترث للآراء المناهضة لأدبه الجديد( ) ونشر في عدد من المجلات الأدبية والثقافية أمثال: المعرفة، والموقف الأدبي، وشعر، والهلال( )، وحوار، والنقاد، والثقافة السورية، وأقلام، والأقلام البغدادية، والدوحة، والتضامن، وغيرها.
وبسبب ما يمتاز به أدب زكريا من سمات تدعو لنبذ الظلم الواقع على الإنسان أينما كان، فقد ترجمت أعماله إلى الفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية والروسية( ) وعن التي ترجمت إلى الروسية فقد جاءت ضمن مختارات قصصية لأدباء من سورية بعنوان: الصمت والموت، إصدار دار المؤلفات الأدبية، موسكو، 1977 إذ طبعت بخمسين ألف نسخة فترجمت قصة "الشمس للصغار" على اعتبار أنها دعوة للمساواة الاجتماعية، كما ترجمت قصة "العرس الشرقي" التي تنتقد العادات الاجتماعية والقيم البالية().
وعن تجربته في كتابة القصة يقول زكريا: "عندما كتبت لم اعتمد على آراء النقاد، ولو عملت بآرائهم في بدايتي لهجرت الكتابة، أو كنت نسخة مشوهة لأدباء آخرين، لكني قبل أن أكتب القصة يخيل إليّ أني عشت جيداً واطلعت على معظم القصص العربية وعلى ما أتيح لي من القصص العالمي، ثم ابتدأت أكتب محاولاً إيجاد صوت ما لم أعثر عليه في قراءاتي"( ). وبذلك ينكشف سرّ تميّز أدب زكريا وطليعيته.
عرفنا سابقاً أن زكريا لم يتلق تعليماً منظماً، بل تعلّم من الحياة والكتب أكثر مما يمكن أن يتعلمه من المدارس. فقد صهرته نار الحدادة في بوتقة الحياة العمالية، فكوّن نفسه بنفسه، وتطلّع إلى التكامل الذاتي بعدما ذاق مرارة العوز، فشحذته الحدادة وشحذت إرادته وزادت من رغبته في التوغل والثبات فقرأ وقرأ كل ما يمكن أن يزوده بشعور الشبع المعرفي. الا أنه مع ذلك لم يستطع أن يبلور نفسه في قالب واضح محدد. ومما ساهم في عدم بلورة موقفه هو عدم معرفة المراد من الإنسان العربي في فترة مليئة بالاضطرابات السياسية، والشعور بمرارة الهزيمة التي خلفها فشل الصراع العربي الإسرائيلي، كل ذلك أدى إلى تولّد الشعور بضرورة الانطواء والتجريد والانبعاث لصالح الفرد عند الأدباء بعامة، وبسبب هذا التأزم، تفاقم الظلم الاجتماعي الذي اتخذ شكل القمع المباشر والاعتداء على الحريات، فعمد الأدباء إلى إيجاد وسائل أكثر فنية وقوة تعبيرية ترسم الوضع العام بشكل جيد( ).
لذا فقد فشل جيل الستينات في خلق الانسجام بين القيم والأفكار التي يؤمن بها، ويطمح إلى تحقيقها، وازداد الشعور بالضياع والقلق والتمرد والغربة، وغدا هذا الجيل يتساءل لم العيش بلا هدف سام تحت رحمة سلطة خيبت الآمال؟ بذلك ظهر ما يسمى بأدب الضياع.
ولا نجد ضيراً من القول بأن هذا النمط كان قد ظهر في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب سيطرة الآلة على الإنسان وتغلب المشاعر الصناعية على المشاعر الإنسانية، والوجود الإنساني مما أدى إلى شيوع روح العبث والضياع أمام دمار العالم وصراع البقاء. وعلى الصعيد العربي فقد أثّرت نكبة فلسطين والشعور بالعجز أمام السلطة والتغيرات السياسية المتسارعة وانفتاح المجتمع العربي على الحياة الغربية منذ رحيل رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق إلى الغرب، وظهور المترجمات ذات النزعة الذاتية. كل ذلك ترك أثراً بالغاً في أنفس الشباب العربي. فتأثر الأدباء
العرب بالأعمال الأدبية العالمية. تلك التي قادتهم بدورها للتأثر بالفلسفة الوجودية والشعور بالضياع، وقد ظهر ذلك جلياً عند أديبنا زكريا الذي أفاد من مختلف المؤثرات الفكرية والفنية، وسخرها في سبيل معالجة القضايا العربية المحلية، فأضحت هذه المؤثرات وسائل فعالة بيده وعلامة على انتمائه لعالمه، وقدرته على استيعاب عناصر الثقافة الحديثة. على أننا لا نجزم بالتزامه في أي اتجاه أو مذهب إلاّ أن رؤيته الفكرية كانت قد تكونت من مجمل ما قرأ وهضم واستوعب، لذا حاول أن يكتب مالم يكتبه غيره متلمسا المراوحة بين التيارات المختلفة، ابتداءً من الاهتمام باللاشعور وبالإنسان الداخلي الذي فصّل القول فيه سيجموند فرويد من قبل في أبحاثه ودراساته للتحليل النفسي من حيث الكشف عن رواسب الطفولة والعقد النفسية والأحلام( ) ومروراً بالسريالية التي ظهرت تجسيدا لمنهج فرويد والتي تبنت فكرة التلاحم العضوي بين الحلم والواقع وكل ما هو فوق الواقع، وتدمير الذات والهروب، كما أنها حلقة اتصال بين عالم الشعور واللاشعور وبين حلم النوم وحلم اليقظة، وتعمل على تشابك الرؤى ودمج المتناقضات حتى توقظ الإنسان على رؤية جديدة للأشياء( ).
كل ذلك جاء في خضم البحث عن ماهية الوجود ومحاولة الكشف عن معنى الوجود وبخاصة بعد أن أثبتت الحروب وأنماط القمع المختلفة أن الإنسان لا شيء، وأنه كالسلعة التي يمكن الاستغناء عنها في أي وقت، فولدت بذلك روح الهزيمة والغربة والتمزق فازداد الإحساس بالعبث والضياع، فما معنى سلوك الإنسان وتصرفه حيال أمر ما إذا فقد الإحساس بالثقة والانسجام والتوافق؟ وتجدر الإشارة هنا إلى أن أدباء هذا العصر ممن هم على شاكلة فرانز كافكا، وصموئيل بيكيت، أمثال زكريا تامر، وإدوار الخراط، ومحمد الماغوط لم يطرحوا حلاً في أدبهم، بل تناولوا الداء كما هو، وعرضوه على سبيل الإشارة للقارئ كنوع من الخلاص آخذين بعين الاعتبار أن الرفض والتغيير أمران لا يمكن تلقينهما( ). حتى انتهى الأدباء إلى الوجودية فاعتبر القلق، والاغتراب، وعرضية الوجود الإنساني، وقيود الوجود، ووشوك الموت، والعزلة من أهم العناصر التي ترتكز عليها الفلسفة الوجودية. وكل ما ورد ذكره كان قد ظهر في خضم العالم العصري المتجدد بسرعة هائلة حتى أحسّ الفرد بالضياع وهدر كرامته، إلى أن سمي هذا الجو العام المشترك بين حضور كافة الاتجاهات والمذاهب في آن واحد بالاتجاه التعبيري، الذي يتكئ على تيار الوعي في التغلغل إلى أعماق الإنسان الدفينة( )، كما أن التيار العام في الأدب الحداثي يتضمن الخروج على الواقع، والتخلص من سيرة العالم الواقعي، وتجاوز حدوده، ومحاولة خلق عالم ذاتي خيالي خاضع لقوانين خاصة لا يعرف من خلالها وجه الإنسان أو اسمه أو مكانه؛ لأنه بات يعالج قضية إنسانية بحتة.
ومن الجدير بالذكر أننا لا نستطيع أن نحسب زكريا على أي مذهب من المذاهب كالوجودية مثلاً وبخاصة إذا اختار من الوجودية- كما اختار من غيرها- دون الالتزام بحرفية مبادئها؛ لأنه لا يستطيع أن يراهن على هذا العالم المشوب بالعبث والقمع. حتى إنه لا يرى في الهروب والسلبية والرغبة الجامحة – أحيانا- بتدمير العالم سوداوية ويقول في ذلك: "وإذا كان أبطال القصص خاضعين لظل أسود، فليس هذا مبعثه سوداوية مريضة انما هو تعبير صادق عن واقع غير إنساني يعيشه بشر معذبون يحاولون الظفر بالسعادة( ).
ولزكريا أفكار وآراء متميّزة بثها في مقالاته كما قد بثها في قصصه من قبل( ) فأعاد استنطاق الشخصيات التراثية، وكررها في أعماله من مثل شخصية جنكيزخان، وعباس بن فرناس مقيماً حوارات معها ومع غيرها من الشخصيات. ولم تكن السياسة بالأمر الصعب الذي لا يخترق، فقد جذبته السياسة وأضحى ناقداً ومحللاً سياسياً يكتب وفق فهم جديد للسياسة، وعني بأزمة الإنسان وقضاياه المصيرية أمام القوى السياسية السلطوية، لذا نراه أحياناً ينقسم على هذا الإنسان (على ضعفه وعجزه) وأحياناً أخرى ينصفه، مؤكداً أن الإنسان واحد لا يتغير، وان تغيّر اسمه أو مكانه، وأن مشكلته التي تعذبه هي قسوة التقاليد المترسبة في المجتمعات ورؤوس الآباء. والإنسان الذي يراه زكريا دائم البحث عن شيء ليس له ظل حقيقي على أرضه، كما يعتبر الإنسان أوّل اهتمامات زكريا وكل شيء ما عداه يأتي لاحقاً، ولا يرى حلا للوضع الراهن بتسلطه وقسوته. كما أنه لا يقترح حلا لذلك بل يكتفي بعرض الحال ويترك أمر التغيير للزمن. وقد انطلق في التعبير عن آرائه الفكرية والفلسفية والسياسية والاقتصادية بعدما عكف على تثقيف نفسه، وتعهد بأن يسلخ نفسه من الطبقة الدنيا بمجهوده وعصاميته، فانفصل عن الطبقة العمالية التي نشأ فيها، وآلت حاله إلى مستوى الطبقة البرجوازية الصغيرة (التي نشأت في أواخر الخمسينات على أنقاض الإقطاع)، إلاّ أنه وجد نفسه غريباً عنها، وظل عيناً عليها يهتك أسرارها ويكشف ضعفها.
يرى زكريا تامر أن الناس باتوا يستمرئون الظلم "فالظلم أمر عادي، والاحتلال عادي، والهوان عادي، والجوع عادي، والقتل اليومي عادي، ودخان البيوت المحترقة عادي... "( ). ولا ينسى أن لسياسة التجويع دوراً هاماً في خلق رعية مطيعة مشيراً بأصابع الاتهام إلى طبيعة السياسة التي ينتهجها حكام العالم وبخاصة العالم العربي، فيقول: "إن الانقلابات العسكرية ما هي إلا إطاحة بحاكم شبع واحلال محله حاكما آخر ين يشبع..."( ). ويعمق رؤيته السياسية لأنماط القمع والتسلط الذي تمارسه السلطة ضد الشعب، فلا يترك فرصة تخلو من توجيه اللوم والقذع للسلطة، والسخرية من رجالها، وهو يعلم تماماً أن العالم العربي الآن هو عالم يملؤه الضباب، وتسوده السوداوية التي ظهرت كنتيجة حتمية لتلك النظارات السوداء التي يضعها الحكام على عيونهم حتى لا يرو الشمس (لاحظ الأسلوب الرمزي) فإن العالم كله قد رضخ للملوك الا الشمس، بقيت تشرق وتغرب ولا تستسلم لأوامر الملك، لذا يجب أن يرتدي العالم نظارات سوداء حتى يقنع الملك بأن الشمس قد أصاخت لأوامره...، فزعماء الأمة يتخبطون، "فهم يمارسون الاستبداد أحياناً عن علم ودراية ووعي بنتائجه، وذلك تحقيقاً لجبروت يقبع داخل أنفسهم المريضة وأحياناً أخرى يصورهم زكريا أنهم أغبياء ينقادون لحاشية ملوثة خبيثة تسعى لتحقيق مصالحها الشخصية فقط على حساب الشعوب. ويرى كذلك أن الحكومات لم تنزل من السماء وأن الناس هم الذين أوجدوها لتخدمهم لا ليخدموها( ).
والقارئ لأعمال زكريا يستطيع أن يتلمس الدرب نحو الكثير من مباديء الكواكبي( ) المنددة بالاستبداد والداعية لرفع الظلم والقمع والتسلط، وزكريا بدوره يندد بالاستبداد بأسلوب ساخر لاذع ناقد لحال الأمة المستسلمة لعدد من الأفراد.
مفهوم المواطنة:
أما مفهوم المواطنة عند زكريا فقد جاء بعدة صور، إذ لم ينسلخ يوماً عن قضايا مجتمعه وهموم المواطن العربي، بل لا يملّ تعداد مظاهر البؤس في الحياة العربية، مصرّا على أن سبب مشكلات العالم ناجمة عن السلطة، حتى أن السلطة العالمية صيغة أخرى للاستبداد ويقول: "قالت الوردة البيضاء بهزء: أنت تتكلم كمجلس الأمن الدولي الذي لا عمل له سوى أن يقدم الاحتجاج تلو الاحتجاج بينما الشعوب تخرّ صرعى في معتقلات الدول الكبرى"( ).
فمواطن زكريا لا يحب الرضوخ لقوانين وأنظمة أو حتى لروتين ما، ويتمرد على كل النظم التي تقيد حرية الإنسان وانطلاقه، يقول: "والضاحك الباكي مواطن عربي عادي يتصف بأنه لا يستطيع أن يكون مختلفاً عن غيره من عباد الله المواطنين الذين يشكلون أغلبية مبعثرة من المحيط إلى الخليج، وهذه الصفة أدت إلى اهتمامه فقط بما يسمى بقضاياه المصيرية"( ). ولا يترك فرصة تمكنه من الاعتداد بعروبته وموروثه العظيم الا ويتحدث فيها فيقول: "أوشكت جارتي العجوز الانجليزية أن تبيع بيتها في مزاد علني بأبخس الأسعار هرباً من ومن اعتدادي بعروبتي ومآثرها"( ).
كما أن وطنيته وشعوره بالانتماء لا يقفان عند حد، فيرى في فلسطين قضية قومية عربية ينبغي الدفاع عنها، كما أن إسرائيل هي العدو اللدود للأمة العربية، ويسخر من الموقف العربي اللاهث وراء السلام مع إسرائيل قائلاً: "إن العدد (2) لم يحدد العطور الصالحة للناس الذين يستخدمون من المقابر بيوتاً لهم... وتحدث عن عطر يتيح للمرء أن يعرف من هو صديقه ومن هو عدوه، ولو ذكر اسم العطر لاشتريت كميات كبيرة وأهديت إلى الوفود العربية التي تفاوض اسرائيل".
إضافة إلى أنه يرى أن المواطن العربي يفضل الرضوخ والانسحاق – نتيجة الخوف من السلطة- فيقول ساخرا من هذا الجبن " والمواطنون العرب في معظم أقطارهم حريصون على أن يكونوا صالحين، فالعنق الأعزل لايلام إذا تهرب من مواجهة سكين عطشى إلى الدم"( ). لذا فنجد زكريا مهموما دائما، وهمه نابع من خوفه على مصير الإنسان المسحوق بسبب جهله وتبعيته وتخلفه ورضوخه للذل، والجوع المزمن، يقول: ".... ولكن هؤلاء الأطباء لو تابعوا بحثهم في بقية جسم ذلك المريض العربي فسيجدون الآتي: سيجدون في قلبه مخافر للشرطة، وتلالاً من الخيبات والآمال المنتحرة، سيجدون في رئتيه دخان المعارك الخاسرة، سيجدون في عينيه خوفاً له أوثان تعبد، وفي أذنيه خطباً تقاتل وتنتصر وفي يديه تاريخاً عريقاً لتصفيق يؤازر الجلاد، وفي معدته جوعاً أقدم من أهرامات مصر، وفي رأسه سجوناً وأشباحاً ومشانق..."( ). وهذا النمط من المواطنين نمط ناقم على العالم حاقد على كل القوى. التي لم تخترع شيئاً يجعله يستغني عن الطعام فيتحرر من قيود ترغم المعد الخاوية على الخضوع لها، فتظهر صورة المقهور المستلب الذي ما عاد يفكر بالتغيير وذلك لأنه لا يستطيع ان يملك قراراً، فالسوء والظلم لا يأتي إلا من السلطة (المجتمع، والشرطة...) ولا بد للعربي أن يعيش سعيداً لو أنه يملك رزقه وحريته.
أشرنا سابقاً إلى أن زكريا قد انسلخ عن الطبقة الكادحة بجهده وتحول إلى البرجوازية الصغيرة، إلا أنه شعر بالاغتراب في هذه الطبقة، وحدّق مليّاً بأنماط الناس فيها ووضع يده على أناس منافقين متسلقين، يلهثون وراء الملذات، يقول: "يجود الشجاع بنفسه وماله في سبيل قومه، فيسارع البخيل إلى المتاجرة بتضحية الشجاع فيربح الشجاع قبراً... ويربح البخيل ثروة جديدة بلا تعب..."( ).
فالاستغلال لا حدود له – من وجهة نظره- وأصحاب النفوس المريضة يتاجرون بالوطن والمواطن، حتى صار المجتمع بلا هوية، وبلا وجود محترم، فالمناضل لا مكان له في عالم زكريا، ليس لأنه غير موجود بل لأن المجتمع بعامته يصطبغ بالضياع والانهزام والجوع. وها هو الوزير يحاور الملك بحوار مغلف بالغش والخداع "قال الملك:.... وأريد وزيراً للمالية نزيهاً أميناً نظيف اليدين، قال الوزير: هذه الوزارة ليس لها سوى ابني السادس، فهو يغسل يديه بالصابون والماء الحار عشرات المرات في اليوم الواحد"( ).
أما عن مفهومه للحرية يقول " الحرية التي يريدها الإنسان العربي هي أن يستطيع التعبير عن أفكاره وآرائه في أمور تتعلق بمصيره، ومصير بلده من غير أن يخلد في سجن أو يتدلى من مشنقة... ولا ننظر إلى تلك الأفعال على أنها شائنة، وخيانة للوطن والأمة، وهي أن يتاح له خدمة وطنه، لا خدمة حاكمه فقط...، ولكن فاقدي الحرية هم المسؤولون عما حلَّ بهم"( ).
والحرية ليست ترفاً يطالب به الإنسان العربي، بل هي حق ينبغي أن يناله كي يصبح ارتباطه بوطنه ارتباطاً عضوياً، إلا أنه لا يدافع عنها حاضا عليها، بل يكتفي بإعلان تشاؤمه. ويعود عام 1987 ليقف هازئاً ساخراً مما يمارس من قمع وكبت لكنه لا يصرح بالتغيير حتى بات البحث عن الحرية أخيراً غير مجد لأن مفهوم الحرية يقتصر وجوده على القاموس. لذا أخيراً غير مجد لأن مفهوم الحرية يقتصر وجوده على القاموس( ). لذا لا يجد بداً من التمرد، والتمرد نوع من الالتزام إلا أنه التزام بمرارة، والالتزام والاخلاص صفتان لا تفارقان أديبنا، كما أنه لا يترك فرصة إلا ويحض عليهما، ويدعو للتواصل معها، فيرى "أنه عندما يقدم على الكتاب إنسان يتميز بإخلاصه لوجوده وفنه وأرضه، فلا بد أن ثمة صوتاً ملحاً عميقاً يحفزه لقول شيء ما عن حياة البشر، وسيكتسب هذا القول- بشكل عفوي- طابعاً مميزاً نابعاً من رؤية الكاتب الخاصة للعالم والناس، وهذه الرؤية هي التعبير الخفي عن الأصالة والموهبة"( ).
ولا يقف عند هذا الحد بل يرى أن ثمة امتحاناً لإخلاص المثقف لشعبه، ويتجلى ذلك في تقويمه للحاكم من خلال ما يقدمه لشعبه، لا من خلال ما يظهفر به من مغانم شخصية، بذلك يلقي زكريا على عاتق الأديب هماً كبيراً يتمثل بالاتزام تجاه قضايا الشعب، فلا يرى في الانسلاخ مهرباً "فالتزام الأديب بمشكلات وطنه أمر مطلوب ومهمن وضروري، كما أن ثقة الأديب بنفسه صفة حسنة لا بد من توافرها ليستمر العطاء والتطور...." ( ). بذلك تقع مسؤولية تمهيد سبل الوعي لدى الأمة على عاتق المثقف لأن المخلوق الجائع المتعب اليائس لا يستطيع رؤية الورد الجميل والسماء الزرقاء( ).
أما موقفه من النقد والنقاد، والأدب والأدباء، فقد توصلنا من خلال مقالاته إلى أنه ناقم على مستوى الأدب في الوطن العربي وحاقد كذلك على الأدباء الذين باعوا الكلمة لمن يدفع أكثر، فجردوها من الصدق الموضوعي والفني، حتى فقدت هويتها. إلا أننا نجد في نقده وعرض آرائه شيئاً من الاندفاع والقسوة، فيرى أن النقاد لا يعرفون من أصول النقد شيئاً، ويصفهم بأنهم يتأرجحون ويميلون حيث مالت الريح، لكن رأيه هذا ليس على إطلاقه بل يرى- أحياناً- ومضات حقيقية مضيئة وصادقة لبعض النماذج على صعيد الأدباء والنقاد. ويصنّف، الأدباء عدة أصناف منها "أدباء طاعنون في السن، يؤمنون أن الأدب المبدع الأصيل لا ينتجه إلا من كان يحمل لقب دكتور، وينتمي كذلك إلى أسرة ثرية. وأدباء يعتبرون النتاج الأدبي وسيلة للشهرة الاجتماعية. وأدباء يملكون دكاكين يبيعون فيها بأسعار لا تزاحم شتى الأفكار والقيم والمبادئ والشعارات( ).
ويرى كذلك أن الأدباء مراوغون، إذ يتكلمون خمسة آلاف كلمة كي يقولوا إن الذبابة هي ذبابة، مشيراً إلى عيوب تلك الفئة المكتسبة وهذا ما دفعه فيما بعد إلى هجر المنتديات الأدبية والصالونات النقدية وكذلك المؤتمرات. وعلى الرغم من موقفه السابق إلا أنه يرى وفي موضع آخر أن هناك من الأدباء من يكتب كي يحصل على لقمة العيش فيضطر إلى ابتذال نفسه للوصول إلى ذلك إلا أنه نهاية يتعجب كيف يمكن لأديب عربي أن يعيش مرفوع الرأس منذ لحظة خروجه من بطن أمه وحتى لحظة غيابه في باطن الأرض وذلك لأن من عليه أن يختار حرفة الكتابة الصادقة التي لا تجامل لا يحتاج إلاّ إلى ذكاء واحد الا وهو أن يتعلم كيف يحفر قبره بقلمه( ).
وينتقد زكريا حديث الشعر والشعراء بأُسلوب ساخر، فيقول: "إنه لحدث تاريخي جلل أن يترجم الشعر العربي إلى لغات أجنبية، ولكن الخطوة الأولى الذكية المتصفة بالواقعية تقضي بأن يترجم ذلك الشعر إلى اللغة العربية أولاً"( ). ولا يهزأ بغموض الشعر وإبهامه بسبب من التكلف والإغراق في الغموض فقط بل يسخر من كتّابه أيضاً، فيوقظ الشاعر أحمد شوقي الذي يصدم بمستوى ما يقدم من أشعار، ويعدها مهاترات جهلة، لذا يرى زكريا بأنه يتوجب تنصيب شوقي ملكاً للشعراء لا أميرا فقط( ). بهذه الجرأة وقوة الصراحة الممزوجة بحس السخرية المتضمن نقداً لاذعاً متزمتاً في بعض الأحيان يرى زكريا أن الأديب يقف أمام تحديات حضارية عظيمة، وعليه أن يحدد انتماءه بصدق، فإما أن ينتمي إلى عالم مدعوم بالجلادين والخونة والسجون، وإما أن ينتمي إلى عالم آخر لم يظهر بعد، وما زال في الأحلام، إلا أنه قادر على منح الإنسان العربي كل ما يفقده من حرية، وفرح، وعدالة، وكرامة... وفي اختيار الأديب لأحد هذين الخيارين برهان على مدى أصالته وإخلاصه لوطنه وإنسانها( ).
ويعد النقد ضرباً من ألوان الحرية، وغيابه يعني ضرباً للتطور والتقدم حتى الموت. ومعركة زكريا مع النقد والنقاد أشد وطأ، لذا يقسّم النقاد إلى زمر، زمرة تنتقد الكتب نقداً مراً من غير أن تقرأها، وزمرة تمتدح الكتب قبل أن يكتبها مؤلفوها، وزمرة متقيدة بالحكمة القائلة إن السكوت من ذهب. وهذه الزمر جميعها تحب الذهب والفضة( )، من ذلك يرى زكريا بأن النقاد تجار كبار، يعتبرون الأعمال الأدبية صفقات مالية مربحة كما لا يغفل أولئك النقاد الذين ينحازون للأدباء بناء على معرفة شخصية مسبقة. وعن تجربته مع النقاد يقول "تجربتي الخاصة في الكتابة علمتني ألا أحترم – كثيرا – آراء النقاد في قصصي، ففي سنوات بدايتي كنت ما إن أنشر قصة حتى يشتمها النقاد، ثم أنشر قصة ثانية فيسارعون إلى مدح الأولى وشتم الثانية، لذا فقد اقتنعت بالسير في عام يخلو من النقاد( ). فالمجتمع العربي بحاجة ماسّة إلى النقد الصارم الذي لا يشفق ولا يهادن ولا يساوم، ولا يبقي نفعاً مادياً( ). وحتى يتحقق ذلك فقد قاطع زكريا المؤتمرات الأدبية التي تقام بيم الحين والآخر في أرجاء الوطن وذلك لأنه يرى فيها تكايا تتيح الفرصة لأكبر عدد من الأدباء كي يأكلوا الطعام مجاناً ويناموا في فنادق فخمة، في حين يخرجون بتوصيات تنشر في الصحف وملعون من ينفذها( ). فالفجوة كبيرة بين الواقع الحياتي، والمثاليات، والنظريات والشعارات التي ترفع بين الحين والآخر.
وكثيرا ما يجلس زكريا للكتابة وهو في حالة هياج، وثورة عارمة، عندها لا يجد أملاً ولا حرية ولا مستقبلاً، فتطل النظرة السوداوية على قلمه لتشحنه فلا يعود يرى في الحياة بصيصاً من نور، فكلما تقدم الزمان تعقدت الحياة وتحول الناس إلى آلات مبرمجة لا تملك حريتها، ولا وطنها، ولا يجد الفرد صديقاً يأنس به الا اللحد وحده( ). كيف لا وقد وصف أبو نواس – منذ مئات السنين- زمانه بأنه زمان القرود، فيتساءل زكريا لو أنه عاش في زماننا، فماذا كان سيطلق عليه من أوصاف؟ لا شك أنه سيعجز عن ذلك.
لذا يظن العالم أسود ممسوخاً، ويعتبر العالم العربي من أشد العوالم بشاعة، فيعمد إلى قلب الموازين وتجميل البشاعة، وذلك حتى يكون انعكاس هذه الصورة على الناس غير مقلوب، كما المرأة، فالغربان من – وجهة نظره- تغرّد، والحمائم تنعم، والإنسان الذي يسأل عن أمنيته سيتمنّى لو يصبح حصاناً؛ لأن الحصان لا يركبه إلا واحد بينما المواطن العربي فمركوب من الكثيرين دفعة واحدة، لذا نجد زكريا يرتاح لفكرة الشنفري الذي استبدل عالم الإنس بعالم الحيوان كي يكونوا أهلا له في وقت عزّ فيه الأهل، ويكررها كثيراً.
ويدخل زكريا في عوالمه الخاصة مغلّفاً برؤية ساخرة، مركزاً على المفارقات بروح الدعابة التي لا تخلو من الحدة، واللذغ، والإيلام أحياناً كثيرة. وبما أن الفن الساخر (الهجاء) قائم على فكرة التشويه فإن الأديب المصاب بعاهة خلقية مثلا يعكس نفسيته تلك على أدبه ويتحدد بذلك سير أبطاله كما الجاحظ والمعري مثلاً. وعادة ما يكون المهجو نموذجاً مأساوياً يمثل مأساة الإنسانية بأسرها، ويمثل جور الزمان كله، وكأن الكاتب يريد أن يلذع الآخرين قبل أن يلذعوه، وزكريا حين يقذف حممه على من حوله إنما يقذفها قاصداً الإنسانية كلها.
وغالباً ما تجد المأساة طريقها من خلال المهزلة والسخرية فهو ساخر لاذع لكل من يبيع نفسه للشهوات، ولكل انتهازي مريض، ولمعنى الحياة ومفهوم الوجود. كما استخدم زكريا عنواناً لافتاً للنظر لزاويته في مجلة التضامن وهو " الضاحك الباكي" وكثيراً ما استخدم هذه الزاوية كي يستتر خلفها أثناء كتابة مقالاته الساخرة اللاذعة لأنظمة الحكم العربية وجهل الناس وقسوة الحياة عليه وعلى أمثاله، يقول:" والضاحك الباكي مجهول مغمور، لاتنشر الجرائد والمجلات صوره، فصوره تصلح للنشر فقط في صفحات الوفيات والجرائم"( )، ويعلل زكريا أُسلوبه اللاذع هذا بقوله:" والضاحك الباكي مهذب جداً... غير أنه لا يجسر على تجاهل الحقائق العلمية القائلة إن الشتيمة – أحياناً- هي من أرقى أنواع التهذيب حيث تكون موجهة إلى من يجعلون حياة الإنسان شقاء يستمر من المهد إلى الحد"().
ومن خلال هذه النظرة التشاؤمية يطل علينا زكريا في حلته السوداوية الساخطة على العالم، والتي تتمنى الإطاحة بالكون كي ينمو كون جديد خالٍ من الشوائب.
ويعتبر زكريا التراث الإنساني منبعاً لتعميق مفهوم الأصالة عند كل أديب "وأن الأديب لا يستطيع أن يبلور مفاهيم جديدة للعمل الأدبي دون الاطلاع على التراث الأدبي الإنساني، وهضم ذلك التراث والتفاعل معه التفاعل الحي الايجابي"( ).
لذا فقد استنطق التاريخ القديم، وأحيا الشخصيات التراثية العربية، وأتاح لها الفرصة كي تتلمس معالم هذا الواقع الجديد مقيماً معها حوارات مختلفة نستنتج من خلالها أن الكاتب لم يلجأ لهذا الأسلوب إلا بعد تشبع إحساسه بالهزيمة أمام الواقع، فما كان منه إلا أن أعاد صياغة التاريخ من جديد وعكس البطولات إلى مواقف إنهزامية وبرع في توظيف شخصياته، فابن بطوطة في عصرنا مثلاً، يؤثر، يؤثر السلامة ويعزف عن الترحال، لأن البلاد العربية أضحت حدودها فنادق( ).
والمُتنبي – في أكثر من مقالة أدبية- يقرر الإضراب عن نظم الشعر( ). والشنفري غير راضٍ عن وضعه المعيشي فيتسكع ويسعى لتأمين عيشه من خلال طرق الأبواب، فيسرق وينافق( ).
أما أبو حيان التوحيدي، فنتيجة لعجزه وانهزامه أمام الواقع يقرر الهروب ناسباً نفسه إلى شعب أوغنده، ناسفاً كل صلة له بالعروبة( ). كما أن عباس بن فرناس يبرر سبب طيرانه في كل مرّة تختلف عن سابقتها، الاّ أنها تشترك جميعاً في أن فكرة الطيران قد ولدت كنوع من خلاص الفرد من مجتمعه وحكامه. وتجدر الاشارة إلى أن شخصية عباس بن فرناس تكررت كثيراً جداً في مقالات زكريا الأدبية، وفي قصصه( ).
أما عبد الرحمن الكواكبي فنجده بين يدي زكريا قد اتخذ من بيع السجائر مهنة له، وتنكّر لمؤلفاته ومبادئه التي تعمد زكريا أن يسرد بعضا منها( ). فعلى كل إنسان – يعيش في هذا العصر- أن يتنكر لنفسه، وعقله، ووجوده، وعليه أن يسبح مع التيار الخانع، أو أن يتيه في الضباب.
لقد كرر زكريا تامر العديد من مقالاته وقصصه في مجلات مختلفة داخل الوطن وخارجه، دون أن تجد الباحثة أية إضافة أو تعديل على تلك المقالات، ولا ندري ما سبب التكرار هذا، ونذكر على سبيل المثال: المتنبي يغزو لندن( )، وشجرة البؤس( )، والنار والعقرب( ) نبوءة كافور الإخشيدي( )، وقصة النهر ميت( ).
لقد اتسم أسلوب زكريا بالخفة والبساطة والسخرية المغلّفة بالطابع التراثي في مجلة الدوحة القطرية، بينما ركز على أسلوب المواجهة والصراحة في الطرح ونقد واقع الطبقة البرجوازية في مجلة التضامن اللندنية، فعبّر من خلال هذه المجلة عما يجول في نفسه، وعن وجهة نظره بصراحة مطلقة ينتقد من خلالها الوضع الاجتماعي القائم على النفاق، والرياء، والسمعة. ويعود سبب الاختلاف في النهج بين المجلتين اللتين رأسلهما في الوقت نفسه إلى اختلاف المكان وطبيعة الجو العربي الذي لا يحتمل الصراحة والجو الغربي القائم على الصراحة والحرية المطلقة. كل ذلك ظهر بأسلوب جميل جداً يشدُّ القارئ إلى قوة اللغة وحسن السبك، وتكرار الألفاظ، والمترادفات، والعناية بالاطالة غير المخلّة كي تترسخ أفكاره ومبادؤه.
الفصل الثاني
موقفه من المجتمع (من خلال قصصه)
تدور أسئلة كثيرة حول رؤية زكريا تامر وتصوره للمجتمع الذي يرسمه فأي مجتمع يقصد؟ وأي عالم يرسم؟ هل هو مجتمعنا ببساطته وتخلفه؟ أم أن الكاتب يعيش في عالمه الخاص جداً؟ أم أن ملامح الوسط الذي يضع الكاتب أبطاله فيه ينطبق على مجتمعات غير مجتمعاتنا العربية؟
وفي هذا الصدد طرح الأديب حنا مينة موقفه من مجتمع زكريا فقال: "عندما نقرأ قصص زكريا تامر... فإننا لا نعرف هوي هذا الإنسان ولا قمعية هذا الشرطي ولا الزمان أو المكان، لذلك يقوم التجريد مقام التعميم... ثم إن الإنسان في الوطن العربي كله، ورغم السجون والمعتقلات، ليس مذلاً ولا رعديداً، ولا يحمل أكفانه ليدور ميتاً في قلب الحياة، لذا نفتقد الموضوعية... والصدق... وكأنه لا عالم.... وكأننا نبرئ ذمتنا أمام جميع الحكام لأننا لا نقصد أياً منهم بالذات"( ).
لكننا، ومن جراء البحث والتقصي الدقيق نستطيع القول بأن قصص زكريا تامر تشكل تعبيراً حياً عن المجتمع الشرقي، فترسم واقعه رسماً دقيقاً كما تكشف النقاب عن حقيقته بشخوصه وعاداته الشعبية، ويتضح ذلك من خلال النصوص المليئة بالإشارات الصريحة الواضحة التي تدلل على مجتمعنا الشرقي. وقبل أن نثبت ذلك نعرض طرحاً لزكريا تامر فيه رد على أصحاب الفكرة التي يتبناها حنا مينة وغيره فيقول:" ثمة مخلوق مضطهد مسحوق هالك بائس، لا يضحك ومحروم من الفرح والحرية، وهذا المخلوق له وجود حقيقي في بلدنا، ولكنه كان مهملاً منبوذاً. فمن يسمون أنفسهم كتاباً ملتزمين، كانوا منهمكين في تصوير المتسولين وبائعي اليانصيب، وتقديمهم على أنهم الطبقة المسحوقة في بلدنا روحياً ومادياً"( ). فزكريا تامر يعبر عن هموم مجتمع الطبقة البرجوازية الصغيرة، وقضاياها ويرى أنه بات لزاماً على الأدباء مراعاة قضية هامة تخص قراء الأدب؛ لأن الكتابة التي لا توجه إلى أصحابها ليست ذات قيمة أو فائدة على اعتبار أن تفشي الأمية يحول دون كتابة هموم المتسول وبائع اليانصيب فقط فضلاً عن اعتبارها هي الأصل في هموم الإنسان العربي؛ لهذا السبب عُني زكريا بالإنسان العربي المثقف لأنه بدوره هو الذي يعنى بقراءة الأداب، وهو الذي يعاني صراع إثبات الوجود في مجتمع لا يعترف إلا بالمادة، فجاء أدبه ليعبر عن هؤلاء الذين يملأون الوطن ويعانون من التشرد الروحي قبل الجسدي، بصورة الفرد النموذج الذي يكاد يتكرر في معظم أعماله والذي يتصدر بطولة قصصه دون منازع.
لذا علينا ألاّ نغالي أو نشتط في مثل تلك التساؤلات. فندع النصوص هي التي تنطق وتعبر عن مجتمع زكريا تامر. هذا المجتمع الذي يمارس جانباً من القمع- إن لم يكن كله- على الإنسان (الفرد) فيحطمه ويجعله تائهاً غريباً حتى وهو بين أهله ووطنه. وليس هناك من عيب أو خطأ في تناول كاتبنا لمثل هذا النمط من الأفراد، حتى وإن كان هذا النموذج يملأ الغرب الرأسمالي، فنحن في عصر فرض نظمه القمعية على كل إنسان أينما حلَّ، وهموم الإنسان كإنسان غالباً ما تكون متشابهة وعامة وبخاصة إذا لامست هذه الهموم الكرامة الإنسانية والجوع والحرية والحب.
لقد أبرز لنا زكريا تامر مظاهر القمع التي يمارسها المجتمع الشرقي على أبنائه النخبة ممثلة بتوضيح موقفه من الفروق الطبقية، وهيمنة سلطة الأخلاق والقيم والعادات، والاغتراب الذاتي والاجتماعي، والسلطة الأبوية، وسنتناول هذه الأنماط بشيء من التفصيل:-
أولاً- الفروق الطبقية:
لم يتساءل زكريا تامر في قصصه عن سبب وجود الفقراء والأغنياء، وكذلك لم يتساءل عن الفارق بينهم، ولم يدعُ إلى حلٍّ ما بل اكتفى بالرصد، إذ رصد ظاهرة الفقر والجوع رصداً دقيقاً، أبرز من خلاله معاناة الفرد الذي لا عمل له فيقتله الجوع. وتفنن برسم المجتمع الغني بمنازله الحجرية الفخمة، وبهرجة سكانه، أصحاب السيارات الفارهة.
وتتجسد أزمة البطل في وحدته، وشعوره بتخلف طبقته الفقيرة الشعبية، فينسلخ منها لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع الانخراط في عالم الأغنياء، فيرفض طبقته ويرفض فقره وبؤسه.
ويستغل زكريا همّ الجوع عند أبطاله ليعبر به عن هموم إنسانية كبيرة بل تتحول هذه الهموم – أحياناً- إلى ملحمة سريالية مفجعة كما يرى الكاتب رياض عصمت فالجوع في قصصه نوعان: نوع مادي وآخر معنوي، وهذا النوعان يتشابكان معاً من أجل إضاءة حياة الفرد التعسة( )، حتى يصل بهم إلى إنكار القيم الخيّرة كلّها، ويدفعهم إلى هوّة اليأس والقهر والإحباط فيلجأون إلى ارتكاب أعمال قد تكون عنيفة أو يلجأون إلى عالم الأحلام والكوابيس، فالجوع مثلاً كان قد استشرى في الحارة ودفع بأميمة كي تسلك مسالك الرذيلة( )، وبليلى كي ترضخ لابن عمها عباس( )، والجوع هو الذي دفع أحد المساجين كي يشتم أمه وأباه وجده وجدته( ).
وتكثر النماذج التي تظهر لنا الجوع على أنه عدوّ شرس وُظّفَ من قبل قوة ما – لا يحددها- كي يقتل في الإنسان إنسانيته ويقربه من عالم الحيوان، ويشوه أحلامه، فلا يستطيع الجائع أن يحب ولا يملك تفكيراً متزناً، بل يتشرد في الطرقات متمنياً أن تستأصل معدته التي طالما ذكّرته بالطعام، ويتمنى أيضاً أن يريح قلبه المعتوه لأنه يعشق مدينة بخيلة لم تعطه سوى البؤس والجوع والكآبة( ).
وأبطال زكريا الجائعون هم غالباً لا يملكون عملاً ما، وذلك يعود إلى أحد سببين: ندرة الوظائف الشاغرة، والثاني أن الأعمال الشاغرة لا ترضي طوح بطل زكريا، ولا تتناسب مع طبيعته الممزقة المنهزمة. فهذا شاب يعلن في الصحف عن: "شاب للبيع عمره خمس وعشرون سنة يقوم بأي عمل، والثمن تأمين طعام يومي له"( ). وهناك آخرون يبحثون عن عمل لا يُخدش كبرياؤهم فيه، فلا يجدون. ويخاطب أحدهم قطته قائلاً:" يا قطتي العزيزة حياتي بائسة، والفقر يشنق أية ومضة فرح قد تعبر قلبي... غير أني لن أيأس..." ( ).
ومن اللافت للنظر أن البحث عن عمل في حياة الأبطال لا يأتي حباً به ولكن لأنه الطريق الوحيد الذي يؤمن أدنى سبل العيش، فهذا عامل متعب يتثاءب وهو يمضغ لقمة كبيرة، ويقول: " كل يوم تتحطم جبهتي لأجلك يا رغيف.. يا عاري الكبير"( ). وكذلك رندا فقد ضربتها أمها لأنها طلبت أن تشتري ثوباً أحمر قائلة لها: "إن شراء الخبز أكثر أهمية من شراء ثوب أحمر"( ). ويسير أحمد في قصة "سيرحل الدخان" بلا نقود أو سجائر فيمنعه كبرياؤه من الانحناء والتقاط عقب سيجارة رماه إلى الأرض رجل أنيق بحركة لا مبالية من يده، مما أشعر أحمد بذل عنيف واكتسحته رغبة حمقاء في البكاء كامرأة هرمة"( ).
وهذا هو مجتمع الفقراء الذي يصوره زكريا فلا يجد أبطاله مناصاً من الأحلام والكوابيس للإشباع جوعهم، فيحلم بطل "الأغنية الزرقاء الخشنة" بأن يصبح ملكاً كي يحطم الجوع وينقذ الناس من براثنه( ). مما سبق نستطيع القول إن قضية الجوع هي من أهم القضايا وأكثرها شيوعاً في أعمال زكريا تامر، وأن التخلص منه، يعد – بحد ذاته- تحقيقاً للحرية، وكما قال أحد أبطاله: "إله مدينتي خبز، حبيبتي جميلة كالخبز"( ).
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو كيف صور زكريا عالم الأغنياء؟ مقابل ذلك العالم المشوّه، وهل ثار على وجوده أم أن هناك تمازجاً بين هاتين الطبقتين (طبقة الفقراء، وطبقة الأغنياء)؟
لقد دعا زكريا في قصصه إلى نبذ الفروق الطبقية التي تقتل الكرامة الإنسانية إلا أننا نجده- أحياناً- قد سلَّم بوجود هذا الفارق الطبقي في المجتمع على اعتبار لأنها قضية موجودة أصلاً منذ القدم فدعا إلى ضرورة فتح قنوات التفاعل والتعايش بين الفقراء والأغنياء. يقول أحد أبطاله: "يجب عليكم يا إخواني أن تهدموا الجدار الذي يفصل الإنسان عن الإنسان"( ). كما تحدث الراوي في قصة "ربيع في الرماد" عن مدينة قديمة هادئة وادعة، ناسها مزيج من الأغنياء والفقراء، يعيشون بسعادة وأمان ومحبة، ويؤمنون بالله إيماناً قوياً"( ). وعلى الرغم من هذه الدعوة الصريحة لنبذ الفروق الطبقية وتجاوزها إلا أن ذلك لم يكن ليتحقق، فيوسف مثلاً يعلم علم اليقين أن أهل سميرة الأغنياء لن يزوجوها من فقير، لذا تمخضت نهاية علاقتهما عن تفجير مكامن الحقد والرغبة في الانتقام من عجرفة الطبقة الغنية فتركها تواجه الفضيحة وحدها بعد أن أخذ منها ما يريد( ).
بذلك يكون بطل زكريا- المعدم اقتصادياً – ضحية مجتمعه الشرس، فيتمنى العيش في ظل ظروف جيدة مع الأغنياء إلا أن عالم الأغنياء جزء من شراسة الواقع، لذا تبلور إحساس الفرد بالدونية، يقول بطل قصة "رجل من دمشق" بعد أن قادته قدماه إلى شارع فخم عالي المباني: "أحسست بأني
لست سوى بقعة سوداء تلطخ سطحاً أبيض"( )، كان ذلك عندما أبصر كلباً في إحدى البنايات، يداعبه طفل أنيق، وقد تبين له أن الكلب يأكل كيلو من اللحم يومياً فتمنى لو يضع أصحاب هذه البناية الطوق الحديدي في عنقه بدل الكلب كي يحصل على كيلو لحماً يومياً. عندها سيعوي لهم أحسن من كلاب العالم جميعاً.
هذه مأساة الفقر في مواجهة الغنى، فعندما يحدث فواز حبيبته إلهام عن مرض غريب سيأتي ولن يصيب سوى الأغنياء فيموتون جميعاً في يوم واحد، عندها سيقبل الفقراء ويسكنون في منازل الأغنياء الحجرية الجميلة( ). وبذلك لا يرغب بعمل تغيير جذري في إذابة الطبقية بل على العكس من ذلك فهو ينتظر أن تأتي قوى خارقة كي تخلص الفقراء من الأغنياء الذين لا يدرون عن هموم الفقراء شيئاً ويتجسد ذلك في قول القرصان للأميرة بأن "الناس خارج القصر يجوعون وأحياناً ينتزعون قلوبهم من صدورهم ويبيعونها ويشترون بثمنها خبزاً"( ).
لم يكتف زكريا برسم صورة البطل الحانق الحاقد على الطبقة الغنية بل صور هؤلاء الأغنياء بأبشع الصور إذ جعلهم يأكلون لحوم البشر وغيرها فبطل قصة "ابتسم يا وجهها المتعب" يتناول طعاماً في مطعم خاص بالأغنياء فيتبين له فيما بعد أ الطعام عبارة عن لحم إنسان بدين (لاحظ الرمز الذي
يرسم من خلاله شراسة الأغنياء)، إذ يعتبر هذا الطعام من أفخر الأطعمة الرائجة بين طبقة الأغنياء( ). وفي قصة "جوع"، يُغمى على أحمد من شدة الجوع، وبينما هو في إغمائه يرى نفسه وقد صار ملكاً، تقدم له أفخر الأطعمة المكونة من لحم طفل صغير، فيأكل بنهم وسعادة، دون أن يشعر بتقزز أو غثيان كما حصل مع بطل القصة السابقة؛ وسبب ذلك يعود إلى أن أحمد معجب بعالم الأغنياء، وهو راغب في العيش كما يعيشون؛ لذا فقد تلذذ بطعم اللحم البشري، بينما بطل القصة السابقة فقد دخل المطعم الخاص بالأغنياء لأنه يملك نقوداً لوقت محدد فقط ولا يرغب في أن يكون ضمن عالم الأغنياء لذا؛ وجدناه قد شعر بغثيان وتقزز من أكل لحوم البشر، وإن دلَّ هذا الرمز على شيء فإنما يدل على بشاعة العالم الذي يملك المال على حساب الكثيرين الجياع، وأن ما يأكله هؤلاء الأغنياء لهو من دم البشر وراحتهم، ومالهم، وأجسادهم، وشقائهم وما نشأت حياتهم إلا على حساب حياة أمثال بطل زكريا البائس.
من ذلك ندرك سبب انسلاخ بطل زكريا من طبقته الفقيرة، وفي الوقت نفسه عدم رغبته بمهادنة الطبقة الأخرى، وأنه لو ترك الخيار له لمزّق كل الحواجز التي صنعها المجتمع الزائف ولعاش البشر معاً دونما فروق.
ثانياً- صراع القيم:
إن مجتمعاً غارقاً في المفاهيم المتحجرة والعادات البالية لن يزيد إنسان زكريا إلا الضياع والرغبة في الانتحار من أجل التخلص من الحياة البائسة. يقول بطل إحدى القصص بأن أهله- وكثيراً من الناس يوافقونهم الرأي- ينصحونه بأن يحني رأسه إذا أراد العيش بسعادة؛ لأن الرأس المرفوع يشقي صاحبه( ). هذا هو المجتمع الذي يصوره زكريا، والذي يساهم في تمزيق الفرد. لذا تحاك الشباك حول الفرد، ويحبس خلف قضبان القيم التي ما عادت تتناسب مع آماله وطموحه. فيغدو مطالباً بالانتهاء في الجماعة، أو أن ينعزل عن مجتمعه ويعيش متقوقعاً على نفسه.
ومن هذه القيم البالية ممارسة الزوجة دور المخلصة لزوجها على الرغم من أنها لا ترغب باستمرار الحياة معه؛ وذلك لأنها زوِّجت له قصراً ودون مشورتها. فعندما يموت البنّاء في قصة "السجن" تولول زوجته وتصيح وتندب حظها على فراق زوجها أمام الناس، وعندما يأتي الليل تستسلم لهدوء غريب، وتنام قريرة العين، وعلى ثغرها ابتسامة وسكينة( ). بذلك يتعلم الفرد النفاق الاجتماعي كما يتعلم الغش والمداهنة، وتتمزق مبادئه كما تمزقت مبادئ والده رندا التي كانت ترفض تقبيل الأيدي وهي صغيرة لكنها عندما كبرت أضحت تقبل الأيدي وتحني الرأس للآخرين( ).
ومن القضايا الاجتماعية التي عرضها زكريا في أعماله قضية العار وهذه من أهم القضايا الأخلاقية المطروحة والتي غالباً ما تنتهي بالقتل ثأراً للشرف، وقد تكون هذه القضية مقنعة نوعاً ما إلا أن زكريا طبقها على حالات تتصف بالبراءة والصدق، ولكن المجتمع الساذج يرى بعين عوراء فتذبح فطمة أخت منذر السالم في حارة السعدي على يديه لأن كبرياءها قد أغاظ زوجها على الرغم من احترامها له وإطاعتها إياه إطاعة مطلقة، إلا أنه لم يستطع أن يمتلك قلبها ومشاعرها، فما كان منه إلا أن توجه إلى أخيها الجالس في المقهى قائلاً له: " بدل أن تجلس كعنتر بين الرجال اذهب وخذ أُختك من بيتي"( ). وكلمة عنتر هذه تكفي قيمياً – لأنها تحمل معنى الإهانة للرجل- أن يتوجه منذر إلى أخته ويذبحها دون أن يستفسر عن السبب.
وعندما أبصر رجال حارة السعدي عائشة- ابنة عبدالله الحلبي- تمشي مرفوعة الرأس دون ملاءة سوداء، اعتبروا ذلك خروجاً على عادات الحارة وتقاليدها كما عدّوه تشجيعاً منها لغيرها من النساء للتمرد على سلطة الرجل، وتكون النهاية أن ترتدي عائلة عبد الله الحلبي ثياب الحداد على ابنها الذي راح ضحية الدفاع عن أخته ومبادئها، ورغم ذلك لم يكن ليرى عبد الله الحلبي نفسه مذنباً أو متمرداً على تقاليد مجتمعه بل طرح التساؤل التالي: "هل إذا ارتدت عاهرة ملاءة فهل تصير شريفة؟"( )، وفي هذا التساؤل يدق زكريا تامر أجراس الإنذار التي تنبه إلى توقيع الإنسان في ظل قيم وتقاليد قاتلة لا تنتهي إلا يموت الفرد أو تمزقه. كما يتضح من هذا التساؤل مدى تناقض المجتمع المتزمت مع نفسه وتشتته بين القبول والرفض، الاستسلام والتمرد.
ونوال البنت الصغيرة التي ألفاها أخوها مع رجل عجوز، تموت على يد أخيها القائل: "العار يجب أن يحمى"( )، وماذا في مثل سلوك هذه الفتاة الصغير من عار؟ إلا أن زكريا يبالغ في رصد هذه السلوكات متعمداّ تهويلها حتى تنجلي الصورة القمعية تماماً أمام القارئ، فروح الفرد المبدع والمتميز مطاردة ومهزومة دائماً أمام أول صدام لها مع الجماعة. لذا ينخرط فرد زكريا وينصاع لتزمتها على غير قناعة منه، مما يولد لديه شعوراً بالازدواجية والتناقض لعجزه عن مسايسة هذه المبادئ فيجلس مع نفسه وخلف الأضواء وفي السرايب. وعندما أمسكت ليلى بيد أحمد في قصة "النابالم" وهما يسيران في الشارع، يخشى أحمد على ليلى من الناس ويقول: "اتركي يدي لئلا يراك أحد ويخبر أهلك"( ) مرتداً إلى خلفيته القيّمية السائدة، إلا أن ليلى لم تتخل عن يده متحدية بذلك كل المفاهيم والقيم، وفي الوقت نفسه يتمنى أحمد أن يرى ليلي عارية أمامه، وذلك عندما اختلى بها في غرفته، ولولا دخول صاحب البناية عليهما لتمكن أحمد من تحقيق ما يتمنى.
وعندما يسكن كل من أحمد وعصام في بيت أرملة، تصبح الأرملة فريسة ينتظر الشابان فرصة وقوعها كي يتقاسماها، وفي الوقت نفسه الذي فيه يهمان بالخروج من غرفتيهما إلى ساحة البيت، يطرقان الباب عدة طرقات تنذر بخروجهما، عندها على النساء أن يخبئن لأن قوانين المجتمع عنيت بصيانة الأعراض من الدنس ولكنها لم تعن بتطهير النفوس أولاَ( ). هذا هو الطرح الذي حاول زكريا تامر أن يتلمسه ويضع تحته عدة خطوط للرائي مل ذلك مبتعداً عن المباشرة في الطرح أو عرض الحلول. ويكفي أن نقول بأنه غالباً ما تمارس القيم السائدة دورً قمعياً على الفرد مما يؤدي إلى خنقه وكبته وقتل حريته، وبخاصة إذا عرفنا بأن الحرية المطلوبة لدى أبطال زكريا هي حرية مطلقة لا تنفاد تحت أية ظروف – لأية ضغوطات أو قيود.
ثالثاً – الصراع مع السلطة الأبوية:
يساهم الأب في أعمال زكريا مساهمة فعالة في قمع الفرد، وتزقه. فهو رجل متسلط، متحجر، متزمت، والبطل لا يرضى بهذا النموذج فيتمنى عمراً بلا أب "وتجسدت في مخيلة يوسف بقايا مدة.. أبنية متهدمة، فهتف بلا صوت: عمري يتبدد، أريد عمراً آخر بلا أب"( ). وبما أنه لا يريد أباً، يرفض كذلك أن يصير بدوره أباً، وليس هذا فحسب بل لا يريد أن يتزوج، كل ذلك بسبب ما خلفته صورة والده مع قمع وتسلط، فلا يريد أن يكرر تلك المأساة مع جيل جديد.
ولا يخفي على أحد أن هذه القضية الذي نعيش لما نعيش خلاله الفجوة بين الأب وابنه، فما عاد الأب يستوعب توهج ابنه، كما أنه بقي محافظاً على صورته التقليدية، الآمرة الناهية التي تقول – دائماً– لا، ولا تؤمن بمبدأ فتح الاتصال مع الأبناء ومثال ذلك عندما يذهب بطل قصة "الصقر" إلى المقبرة لزيارة ضريح عندها يتضح الحزن، والخوف، والانكسار، إلا أن صوت أبيه يأتيه صارخاً مؤنباً: "يا ولد، اخجل، كيف عن التدخين"( ) فيطيعه البطل خائفاً، وعندما يسأله والده عن سبب تأخره في الزواج، يجيب رافضاً الفكرة من أساسها فيوبخه والده توبيخاً لاذعاً مما دفعه إلى مغادرة المقبرة حانقاً حاقداً، فيهرع إلى البيت ويذبح حبيبته – التي لم تغسل جواربه – دون أن ترتجف يداه، وبهذا السلوك يفرغ شحنات حنقه – على تسلط والده حتى وهو في قبره – على من هم حوله ولا ذنب لهم بما يجري. وبذلك يطرد الشمس من السماء ليدلل على الوحشة التي غلّفت وقيدت حريته.
أما يوسف في "ثلج آخر الليل" فيتعرض لقمع والده القاسي ولا يجرؤ على التدخين أمامه، كما أن أباه باع المذياع الذي يعتبر لصديق الوحيد ليوسف، مع أنه يعلم علم اليقين بهذه الحقيقة، ولا يكتفي بهذه المحاصرة بل يكلف يوسف البحث عن أخته الفارة من تسلط أبيها وكبته لحريتها، ويطلب منه أن يذبحها ( كالكلبة )، رغم أن يوسف لا يريد في قرارة نفيه أن يذبح أخته التي طالما أحبها، ولعب معها إلا أنه يجد نفسه منساقاً لرغبة والده متحاملاً على نفسه( ).
كل ذلك ينشأ نتيجة خلفية قيميّة، توارثها الآباء عن أجداهم فيها حض على إطاعة الآباء، والانقياد، لأوامرهم وأهوائهم دون المسألة، وربما تضخم هذا الأمر، لشعور الآباء بأنهم الوحيدون المنتجون بينما الأبناء والأمهات فهم المستهلكون، والده يسف – مثلاً – ابنه بكامل الأجرة التي يتقاضها من عمله وربما نستشف من ذلك سبب عزوف الشباب عن العمل لإحساسهم بأن ناتج علمهم لا يعود عليهم بالنفع الشخصي. ليس هذا فحسب بل يحاول والد يوسف منعه من قراءة الكتب، زاعماً أنها تفسد عليه عقله، وتضيع وقته وماله، يقول يوسف واصفاً أباه "أبي لا يحب سوى الأولاد الذي يشتغلون في النهار، وينامون في الليل، ولا ينفقون نقودهم ويقبلون يده باحترام، لن أقبل يدك يا أبي"( ). إننا نلمس تطوراً في شخصية الفرد إذ لاحظنا سابقاً أن الفرد ينساق لأوامر أبيه تماماً رغم أنه لا يقرها بينما يظهر في قصة "البدوي" أنه بدأ يرفع صوته رافضاً تقبيل يد والده، حتى ينتهي المطاف بأبطال زكريا إلى صنع تابوت يلقون والدهم به، وذلك في مجموعته الأخيرة "النمور في اليوم العاشر" عندما يرفضون نموذج الأب الذي لم يعلّمهم سوى تقبيل اليد التي صفعتهم، وإنحاء الرؤوس كما أخافهم من ثوب المرأة، فلا ماضي لهم، ولا حاضر ولا مستقبل، إضافة إلى أنه علّمهم عدم النظر إلى السماء( ).
بذلك تحقق ثورة الأبناء على آبائهم، محاولة منهم للخلاص مع القمع الذي يمكن في الأسرة، لعلهم فيما بعد يقدرون على التخلص من القمع الناشئ في الشارع، والمقهى، والمعمل.
رابعاً – الاغتراب الذاتي والاجتماعي:
مما سبق نستشف عدة إرهاصات ممهدة لغربة الفرد عن نفسه وانسلاخه من مجتمعه كما نستشف بأن الفرد بريء من ذلك والمجتمع هو المدان الحقيقي وهو الذي قاد الفرد إلى الانسلاخ عن نفسه، يرى د. إحسان عباس "أن الفرد منهزم قبل أن تبدو إمارات هزيمته، فمن ذا الذي يستطيع أن يقول إن الفرد هو الذي سينتصر في النهاية؟"( ) ويظهر هذا القول جلياً عند زكريا تامر إذ إن الفرد في قصصه يرنو إلى الهزيمة والاستسلام، واليأس، أكثر من ميله نحو الثورة أو التمرد أو طرح البدائل لحل المشكلات، وليس زكريا تامر وحده من يهتم بمأساة الإنسان أمام الوجود فقد اصطدم فرانز كافكا* من قبل بعالمه المحيط به والذي لم يتعرف بالفرد إنساناً له كيانه وهمومه ومشكلاته أمام المجتمع، لذا فقد اشترك كل منهما بتسليط الضوء على الفرد الممزق المغترب حتى عن نفسه، كما اعترف كل كمهما بصفعته وعجزه عن مقاومة هذا المجتمع والتمرد عليه. ففي قصة كافكا "تحريات كلب" مثلاً، ينقم الكلب الصغير على أجداده الكلاب الذي ساهموا في توريط حياته الكلبية في الإثم فيقول: "فبرغم أنني قد أشعر بأنني مضطر إلى معارضتهم إلا أنني في الواقع سوف لا أتخطى قوانينهم أبداً( )، ومن ذلك يظهر لنا أن الفرد مسلوب الإرادة، وأم إرادته خاضعة لإرادة الآخرين، وأنه لا مفرّ – حتى الموت – من سلطة الآخرين على الفرد المستسلم لقوة التيارات الخارجية. ونرى كذلك أنه دون قرار بائع الفحم بإعطاء بطل قصة "راكب الجردل"( ) وقوداً فلت يبقى على قيد الحياة، فحياته أضحت مرهونة بيد بائع الفحم".
وفي ظل البحث الدائم عن معنى الوجود يغترب الإنسان عن نفسه اغتراباً يظل يتعمق حتى تنعدم شخصيته. ويزداد إحساسه بالقلق، والعجز، واليأس، والعزلة، والكآبة، والدونية،.. إلخ وتعد هذه النتيجة حجر الزاوية في بناء كل من كافكا وتامر الفني، وكما تجرد الإشارة إلى أن هذا الإحساس لم ينم إلا بعد تجربة قاسية عاشها الفرد في مجتمعه، فدفعته حساسيته إلى نبذ المفاهيم والقيم السائدة، فعمل بطل زكريا في معامل صناعية مختلفة رسمها على أنها عبارة عن مكان جاف يحوي عدداً من الآلات الحديدية، وعدداً من البشر الذي لا يعرفون سوى العمل، لذا فلا تجمعهم أية مشاعر إنسانية، ويقدر للبطل أن يطرد من عمله في أحد المصانع وذلك لأنه أتلف – بالخطأ – إحدى الآلات، فصار يتسكع في الشوارع باحثاً عن عمل آخر كي يؤمن رزقه( ) وفي قصة لاحقة يقرر البطل العودة إلى المعمل إلا أن الرجل الزنجي – القابع داخل فرد زكريا – يحس باختناق، فتسول له نفسه ترك العمل مرّة ثانية، وفي خضم تفكيره يأتيه صوت الآمر قائلاً "ما بالك متوقفاً عن العمل؟ اشتغل، اشتغل"( ) فيدرك صعوبة الاستمرار في مسرحية تقوم على مبدأ قتل الإنسان وتعذيبه، فيبصق البطل في وجه الآمر ويكون الطرد بانتظاره، عندها فقط يستعيد إنسانيته المفقودة.
وصف شخص آخر من أبطال زكريا حياته اليومية التي لا نرى فيها شيئاً من التعقيد بل على العكس هي بسيطة وساذجة، إلا أنه يراها بمنظار آخر فيقول "وحيد ككلب الأسواق الأجرب، وتعيش أيضاً ككلب الأسواق الأجرب، ستنهض في الصباح في لحظة معينة... ستتمطى بتكاسل... ثم سيدفنك المعمل في أحشائه الشرسة.. تعب... أتنسى رائحة لحم العامل المحترق، الذي تساقط عليه الحديد الناري المصهور، تلك الرائحة هي العالم.." ( ).
فلا يرى البطل في السعي سوى روتين قاتل، وهو عدّو الروتين الأول فلا يحب تقييدأ لحريته على الرغم من أن هذا التقييد يكون ضرورياً للعيش الكريم في كثير من الأحيان إلا أننا نجده لا يتذكر من المعمل سوى الوجه البشع الذي يرميه – كالكلب – وحيداً في الأسواق، ويصف المعمل بأنه عبارة عن "حديد ولحم وحجر"( ) امتزجت معاً لتكوّن شيئاً ما كريهاً، حتى عن وجه صاحب المعمل "قاس خبيث،أعطنا ولحم نساء أيها الرب الفولاذي"( ) فقد صوره كالآله الذي يعني تقسيم الأرزاق، فيعطي متى يشاء، ويحرم متى يشاء من يشاء، إلا أنه مجبول من الفولاذ (الحديد كناية عن القسوة)، ولطالما حلم يوسف أنه يذبح صاحب المعمل، ويهدم المعامل باسم الإنسانية " سأهدم المعامل، وسأجمع الآلات في مكان واحد، ثم أقول بصوت كله مهابة وجلال: أنت أيتها الآلات، مخلوقات مجرمة، جئت من بلاد غريبة، حاملة لنا الشقاء، إنني أمر بتحطيمك باسم الإنسان الذي يريد أن يحيا وديعاً نقياً، طيباً. ثم سأصيح في وجوه الناس المجتمعين حولي: هيا يا بلهاء ارجعوا إلى الأرض، إنها الأم الوحيدة التي تعطيكم خبزاً، وفرحاً دون أن تلوث قلوبكم بالكراهية"( ).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا هذه الرؤية السوداوية للعمل في المصانع وصاحب العمل ؟ المجرد أنها مستوردة فقط فعلمت – كما يرى زكريا – على انتزاع الإنسان العربي البسيط من أرضه (مكمن الانتماء ) ليصبح جزءاً من مكونات المعمل كالحديد والحجر مثلاً؟ إن كان ذلك كذلك فهذه مبالغة ودليل على انتقال هذه المسألة لمجرد التأثر بالأدباء الغربيين الذي طرحوا هذه القضية في عصرهم الذي سادته الآلة (الثورة الصناعية) فجردتهم من إنسانيتهم. لكننا نرى أن زكريا قد أحس بانتقال جسم الآلة من الحضارة الغربية دون تمهيد لذلك ودون أن ينتقل الفهم الشامل لأسباب وجودها، مما أدى إلى خلق هوة سحيقة بين الإنسان وهذا المخلوق الحديدي فكان الصدام حاداً، وتطور الشعور بالحنق على الآلة إلى رفض العالم الذي تحكمه، وانبثق التساؤل عن معنى الوجود. مع العلم بأن الصورة البشعة لهذه المعامل لم تكن قد وصلتنا حتى ذلك الحين. لذا نجد لزاماً علينا أن نبحث عن أبرز أثر غربي كان قد تأثر به زكريا في خضم البحث عن معنى الوجود.
لقد قادنا ما لمسناه من أثر أجنبي في بعض أعمال زكريا تامر إلى طرح التساؤل التالي: أي الأدباء الأجانب كان له أكبر الأثر في أعمال زكريا؟
لقد تبين بعد دراسة لبعض أعمال فرانزكافكا( ) المتمثلة في القضية، وتحريات كلب، وراكب الجردل، والمسخ والجحر، أنها من أكثر الآثار بروزاً وانعكاساً في أعمال زكيا تامر.
لقد لاقت أعمال فرانزكافكا المترجمة صدى قوياً في نفس زكريا وبخاصة كل ما يتعلق بالبحث عن معنى الوجود والهدف من الحياة، فقد تساءل الكلب الصغير في " تحريات كلب" عند كافكا عن الهدف من وجوده أما تسارع الزمن وغلبة عصر الآلة قائلاً " أيمكنني أن أتأمل أسس وجودنا.... أيمكنني أن أتكهن بعمقها....؟" ( )ويتعمق التساؤل فيضيف " ما هو أشد غرابة لحد بعيد بالنسبة لعقلي هو اللامعقولية، لا معقولية هذا الوجود "( ).
لقد لمسنا من خلال دراسة بعض الأعمال بأن كلاً من كافكا وزكريا قد سعى إلى خلق عالم خاص به، وإلى محاولة لإيجاد معنى لوجوده بطريقته الخاصة، ونحن بدورنا لا ننكر الاختلاف البيئي بين هذين الأديبين كما لا ننكر اختلاف موازين القيم والمورثات لكل منهما، إلا أننا حاولنا عقد المقارنة في
القضايا التي يشتركان بها على المستوى الإنساني البحث من مثل تبني فكرة الدفاع عن حرية الفرد، وتسليط الضوء على أسباب اغترابه وعزلته أمام أشكال السلطة المختلفة.
لقد حلم بطل زكريا بوجود مدينة ذات شروط خاصة تتناسب مع طبيعته لا أن يتناسب هو معها كالتي فرضها الواقع عليه، وكافكا كذلك ففي قصته " الجحر" مثلاً يختار البطل العيش في جحر مظلم لا ينافسه فيه أحد ولا ينغص أحد عليه حياته، وهو في نظره قمة الجحور وأفخمها( ) وهو السيد الوحيد لحجراته وغرفه، ومنه يستمد القوة والأمن. لكنه – مع كل هذه السيطرة على عالمه الذي صنعه بنفسه – لم يتخلص من القلق الذي يثيره الوجود خارج الجحر وذلك لأنه جزء لا يتجزأ من العالم الخارجي، الذي لا يمكن له – نهاية – أن ينسلخ منه.
يطرح بطل زكريا تساؤله عن الوجود فيقول: ".... فأنا شاب أحمق، عديم الفائدة.... اشتغلت في أعمال كثيرة كرهتها كلها... ولقد طالما تساءلت: لماذا أعيش ما دام ليس هناك ما أعيش لأجله، ولا فائدة ن وجودي... لماذا لا أنتحر ؟ "( )، وبذلك يتوصل الأديبان إلى أن الحياة عبث ولا شيء غير العبث.
ولسبب من الإحساس بتفاهة الحياة وتعقدها، بشكل يشوه الصورة المثالية لها جاءت رواية " المسخ" لكافكا ليعبر من خلالها عن واقع المعاناة التي خلفتها الرأسمالية، والتي بدورها قضت على العلاقات الإنسانية من خلال اهتمامها بالعمل على حساب إنسانية العامل وبالآلة على حساب راحة العامل، فتبدأ علاقات سامسا المتحول إلى حشرة كبيرة بينه وبين الناس بالتغير، إنها صدمة الواقع المشوه إذ يعمل سامسا موظفاً بسيطاً في مكتب، ولا حول ولا قوة له. سوى أنه يرفض أن يكون إنساناً آلياً سخيفاً، ويطالب بكل أعاد الإنسانية للحياة حتى أصبح كل ما فيه يعيش حالة اغتراب، فطريقته في تناول الطعام أضحت تشبه الحيوان، وصوته صار غريباً وما عاد المجتمع يرضى به حتى أن اخته تطلب من أبيها التخلص منه ( ). ويمكننا الإشارة إلى صورة الاخت في قصة " الجريمة" عند زكريا تامر إذ تشهد على أخيها أمام المحكمة بأنه فعلاً قاتل الجنرال كليبر، وتمارس مع أهلها دور الجلاد للتخلص منه( ) وفي قصة أخرى لزكريا تتشوه الحياة في نظر خليل السامر، فيمسخ كل ما فيها من مظاهر إنسانية عندما يدخل إلى المطعم لتناول الطعم، فيفاجأ بأن الزبائن ما هم إلا عبارة عن جرذان كبيرة أنيقة وكذلك " الجرسون" وأثناء جلوسه في المطعم يدلف جرذ كبير أنيق يقود بيده طفلاً يمشي على أربع مطوقاً بسلسلة حديدية، عندها يفشل خليل السامر في محاولة تخيل طفل أشقر الشعر يضحك بعذوبة، كما فشل عندما حاول أن يتخيل شجرة خضراء وعصفوراً صغيراً.... ( ) لذا فقد أضحى وحيداً في عالم كله جرذان لم يستطع المحافظة على إنسانيته أكثر، وشيئاً فشيئاً بدأ صوته يتحول إلى نباح، وأخذ يستسيغ قطعة اللحم النيئة التي قدمها له الجرسون فأضحت لذيذة مغرية بالنسبة له. فعلى الرغم من انعكاس صورة التشويه والمسخ في كلا العملين إلا أن مؤداهما واحد ففي (المسخ) مثلاً تحول الفرد إلى حشرة ضخمة، أي أنه صار في نظر المجتمع شاذاً عنهم فنبذوه لذا قرر أن يريحهم من نفسه فانتحر. أما في قصة (الهزيمة)، ينهزم الفرد أمام المجتمع الذي كان عبارة عن جرذان كبيرة، والفرد منبوذ لأنه شاذ عنهم، والفارق الذي نلمسه بين العملين هو أن أبطال زكريا فشلوا في مقاومة المجتمع، فما كان منهم إلا الانخراط فيه رغم تشوهه وعلاته مع استمرارية التفكير بالانتحار. أما بطل كافكا فقد قرر الانتحار، لأنه وجد من الصعوبة بمكان الانخراط في مجتمع ينبذه ويكن له العداء.
بذلك لا يستطيع الفرد أن يتصالح مع المجتمع لأن المجتمع لا يمد له يد المصالحة، بل على لعكس من ذلك فقد تزداد إمكانية انسلاخه عن مجتمعه، ففي قصة " القبو" يرجع البطل إلى قبوه حيث تتعاقب أيامه بلا أفراح، فيسأل أمه إن كان أحد قد سأل عنه في غيابه، وعندما تخبره بأن لا أحد قد سأل عنه يقول: "فامتلكتني خيبة مريرة، وأحسست بأن من أشد الناس بؤساً، ولم أستطيع البكاء لأن عيني أمي كانتا تراقباني بفضول، فقصدت المرحاض، وهناك اسندت خدي بجداره الخشن الوسخ وانتحبت طويلاً دون خجل.... "( )
أما الكلب الصغير بطل قصة " تحريات كلب" فقد بدا له وكأنه قد فصل عن جميع زملائه ليعبر مسافة قصيرة... كما لو أنه سيموت بسبب الإهمال أكثر منه بسبب الجوع، إذ كان واضحاً أن أحداً لم يشعر بقلق عليه، ويضيف قائلاً " لا أحد تحت الأرض أو عليها أو فوقها يشعر بقلق علي، إنني كلب موت بسبب لا أباليتهم "( ). لقد قام كل من كافكا وزكريا بالكشف عن جذور الاغتراب لكنهما بقيا أسيري الاغتراب فلم ينته بهما إلى ثورة رافضة بل قادهما إلى العجز المأساوي، واليأس المبرر من وجهة نظرهما. وفي النص التالي يلخص زكريا مأساة بطله الممزق فيقول: " إني أعيش في هذا القبو.... العالم يجثم فوقي إني سأظل حتى النهاية في قعر المدينة "( ) وفي قصة أخرى يصف لنا حال بطله الذي يعيش حالة اغتراب من شتى الجوانب (اللامقدورة، وفقدان الماهية واللاإنتماء، والوحدة، والقلق، والرفض، والتمرد) قائلاً " غرفة الرجل المتعب بلا ضوء، صامتة ـ علبة صغيرة من الحجر الرطب، أعود إليها بدون حنين بعد أن تشردت طوال ساعات.... " ويضيف "
وكنت وطواطاً هرماً أعمى، جناحاه محطمان، لا أجد خبزي وفرحي... يصدمني الصخب أينما سرت فلكم يرعبني ضجيج المخلوقات الزاحفة حولي على الأرصفة، إنه يبعدني عن نفسي، عن نقطة سوداء قابعة في داخلي، باردة حزينة.... أنا لست سوى مخلوق ما ضائع في زحام مدينة كبيرة قديمة... لست دون جوان، لا أملك سيارة، ولا بناية شامخة... جبهتي لم تلمس مرة سجادة مسجد.... صورتي لا يعرفها قراء الصحف اشتغل في اليوم ثماني ساعات.... أتعب، أبتلع الطعام بسرعة عجيبة. أدخن... أجلس في مقهى.... أشترك بحماس في مناقشات عقيمة....أضحك ببلاهة.... أغازل فتيات. اشتم الله، أصادق مومسات.... أقرأ كتاباً... "( ).
في هذا النص تجسيد لمأساة المثقف العربي، وحيرته، والفراغ النفسي والعاطفي الذي يكابده، وكآبته من كثرة القيود التي يرسف تحتها، والتي تقوده إلى الشعور بالحرمان تارة، والى التمرد البسيط تارة أخرى، وفيه تجسيد للغيظ المكبوت الذي ينطوي على الكفر، إنها قصة إنسان كافكا كذلك، الذي ينزوي في جحره هرباً من الأعداء (العالم). ولا يختلف بطل قصة " الفريسة" عن صاحب الجحر هذا، إذ يفر من العالم المشوه المرعب ويستقر في نهر عدة سنوات، وحيداً مستسلماً لطمأنينة غريبة حتى جاءه صياد في أحد الأيام فانتشله ظناً منه أن هذا الإنسان سمكة غريبة، وأقنع أولاده الجياع بأكلها( ) فلا مناص من قسوة العالم على الفرد، ومهما طال عليه الزمن فسوف تنال منه اليد البشعة، لذا فما الفائدة من هذا الوجود ؟ ولماذا لا ينتحر بطل زكريا؟؟
إن من أبرز المظاهر التي التفت إليها كل من كافكا وزكريا في أعمالهما تحول الأبطال من العالم البشري إلى الحيواني، إذ يتخلون، بل يتجردون من الإنسانية المشوهة متجهين نحو عالم الحيوان، لعل إحساسهم بالوجود يتحقق من خلاله. ففي " تحريات كلب" مثلاً يتحول البطل إلى واحد من مجتمع الكلاب لكنه على الرغم من ذلك يشر بانعزاله عن المجتمع الكلبي عندها يطرح السؤال الصعب ما الهدف من الوجود ؟ وما الغاية منه ؟ إنها مأساة الشعور بالاغتراب إذ تتحول الحياة الإنسانية إلى الحياة الحيوانية المجردة كما لمسنا ذلك في كل من المسخ، والحجر.
ويؤكد زكريا على أن وجود الفرد لا معنى له طالما أنه فقد القدرة على التعامل بإنسانيته في مجتمع خالٍ من الإنسانية، فالشنفرى – مثلاً – لم يجد بداً من التوحد مع قطته عندما عاد إلى مسكنه وحيداً يشتهي الكلمات والورد والنجوم، لكن القطة لم تمنحه نعمة التوحد، فخدشته في وجهه، وهربت، عندها تحول صوته شيئاً فشيئاً إلى صراخ ممطوط: "نياو، نياو...." ( ). ويتحول محمد إلى قط هزيل، يموء مواءً حاداً، ويمشي عبر الطرقات دون هدف، وذلك عندما لم تبتسم له المرأة التي أحبها( ).
ويتفاقم الشعور بالدونية والحيوانية عند أبطاله كلما أحسوا بقسوة الواقع عليهم، وكلما اشتهوا شيئاً ولم يتحقق، فتتحول النقطة السوداء المختبئة في صميم أحدهم إلى عنكبوت لا يستطيع مقاومته، بل يسقط بسهولة بين أذرعه اللزجة( ) ويخاطب أحد أبطاله امرأة يحبها قائلاً:
" أحبك، فتسأله إن كان يشعر وهو يردده هذه الكلمة بأن إنساناً رائعاً سيولد في نفسه، فيجيبها: لا شيء في داخلي سوى بعض العناكب والقبور المهجورة ( )" ويتعالى صوت عمر السعدي – الذي قبض عليه ولم يعلم ما هي تهمته( ) – مقلدا مواء القط في هيئة صراخ شرس، وينتظر بلهفة ركلة الحارس عندما يفتح باب الزنزانة عليه( ).
من ذلك ندرك أن إحساس كل من الأديبين قائم على عدم مهادنة هذا العالم، ما دامت أساب الاغتراب قائمة، وطالما أنه لم يتم التغلب عليها، فستبقى الجثة، أو الحشرة أو العنكبوت، أو الكلب، أو الغراب، أو القط هي النهاية الحقيقية لإنسان يعيش في عالم مشوه، وسيبقى إنسان زكريا عبارة عن "شيء" أو مخلوق ما، أو كتلة لحم مسترخية على وجه سرير أو غراب هرم، أو جورب عتيق مهمل، لا يحس بالحياة لأنها لا تحس به. ومن أمثلة ذلك يقول بطل زكريا: " أنا شيء فظ جاف خشن، غير إنساني"( ). ويقول في موضع آخر: " ليتني كنت غراباً، أنا تمثال من صخر صلد، أملس مغروس وسط ضوضاء مخبولة"( ).
إنه " لعبث فما عادت الحياة ذات معنى يثير اهتمام الفرد، فلا معنى في الحب ولا في المال كما لا يوجد معنى للعيش بحد ذاته إنه مرة أخرى السؤال الصعب: " لماذا تعيش يا سكران... لماذا لا أموت ؟ ماذا سأفعل لو كنت أملك مدناً من ذهب... لو أحبتني أجمل امرأة... ماذا سأفعل ؟ أظنني سأحدق في لمعة حذائي الجديد وأقول بضجر: أوه كل الأشياء تافهة وغبية"( ).
بسبب هذه العبثية يندفع أبطال كل من زكريا تامر وكافكا إلى التفكير بالانتحار، وكما أنه لا معنى في الحاضر، فلا بد أن المستقبل يخلو من المعنى أيضاً ؛ فهو كيومهم الذي يعيشون فيه عقيم تعس، لذا يختاران الموت لأبطالهما كما اختارا لهم الحرية من قبل، فالموت من وجهة نظرهما ليس تلك التجربة السيئة، وإنما هو تجربة يمر عبرها الإنسان نحو الصفاء الكلي، هذه هي حقيقة الموت لديهما، قالت المرأة متحدثة عن الموت " الموت لا يخيفني.... إنه بدء طريق إلى عالم كبير جداً ومجهول " ( ). كما يستسلم جوزيف. ك للإعدام دون مقاومة فعلى الرغم من عدم الخوف من الموت على اعتبار أنه حقيقة مطلقة إلا أن هذه الفكرة تؤرق الفرد، وتسيطر على تفكيره لأنها الخطوة الأولى في السؤال عن الخلود والبحث عنه، يقول أحد أبطال زكريا " آذار، نيسان، مارس، الثلاثاء، الأربعاء.... متى يتوقف هذا الركض المجنون ؟سأدفن يوماً في حفرة، ويظل النهر حياً "( ) إنه الصراع والقلق الذي يعمق الإحساس بتفاهة الحياة عبث الوجود، ويقول أيضاً " مازال الحمار سيداً، فلسقط أبي، فلتعش امرأة جارنا، تفو... كلنا سنموت"( ) ويتساءل البطل مستغرباً من سؤال أحد المارة له عن الساعة فيقول " لماذا يسأل ما دام سيموت في يوم من الأيام" ( ).
ويتعمق صراع البحث عن الخلود عندما يقول أحدهم " لن أموت سأمشي وحيداً في المدن المقفرة " وأيضاً " لن أموت قبل أن أقابل البحر فهو الوحيد الذي سيعطيني الأجنحة"( ). إنها محاولة لمحاربة فكرة الاستسلام للموت، لكن هل ينجحون ؟
يحدد كافكا قدره في الحياة من خلال عبارة وردت في يومياته فيقول: " لو أنني أدنت، فإنني لم أدن فقط لأموت، وإنما أدنت أيضاً لأناضل حتى الموت "( ) من ذلك يتضح لنا أن بطل كافكا خلق كي يموت لكنه خلق أيضاً من أجل أن يناضل حتى لحظة الموت، وذلك كي يكون جديراً بأن يكون قد وجد في يوم ما.
مما أسلفنا يتبين أن إنسان كل من كافكا وزكريا يصطبغ بطابع التشاؤم واليأس، لكنه مع ذلك يحمل تباشير الأمل بين الحين والآخر.
وعلى الرغم مما وصف به زكريا من كونه فنان تدمير، وصاحب الباطنية المدمرة إلا أنه لا يدمر عشوائياً ولا يدمر بلا سبب أو مسوغ ؛ فكثير من أبطاله تراودهم فكرة اختراع قنبلة ذرية يطوحون بها فوق هذا العالم لتدمره، ولا تبقي منه شيئاً ؛ وذلك حتى تشرق الشمس على الأنقاض( ) فلا ينقطع الأمل " سأزرع الأمل في دمي، وأنتظر بلهفة الشمس السعيدة التي لا بد أن تشرق في يوم ما " ( ).
تقول بديعة أمين في معرض حديثها عن موقف كافكا من الأمل بأنه (على الرغم مما يشاع حول موقف كافا من الحياة الذي يطلى بلون فحمي لا يسمح بتسرب خيط من النور المشوب باليأس والإحباط، فإننا نستطيع أن نتبين ذلك الموقف المفعم بالأمل حتى حين يكون اليأس هو النهاية الحتمية المغلقة، فيقول في يومياته: " لا تيأس، حتى بسبب حقيقة أنك لا تيأس، فحين يبدو أن كل شيء قد انتهى، تهب قوى جديدة، وهذا يعني بالضبط أنك حي" ) ( ).
وتتضح هذه المقولة في موقف صاحب الجحر إثر خروجه إلى العالم، فعلى الرغم من أن خروجه من الجحر يفضحه ويعرضه للمخاطر، إلا أن ذلك هو " الأمل الوحيد الذي لا أستطيع أن أعيش بدونه"().
من ذلك نرى أنه ليس بالإمكان تجاوز الاغتراب نحو الخلاص رغم المحاولات التي تشرق هنا وهناك، وذلك بسبب العجز المطلق وعدم القدرة على الدفاع عن النفس أمام مجتمع قاسٍ، فالمجتمع هو المسؤول عن تعاسة الفرد التي لا يعرف لها نهاية. الموقف من المرأة تتضح صورة المرأة من خلال ما بثه الكاتب من آراء، وتصورات، وصفات، ومميزات يتمنى أن يراها أبطال قصصه في المرأة، وكذلك مستوى تعامل المجتمع مع هذه المرأة وهل اعترف بكيانها واستقلاليتها أم لا؟.
إن صورة المرأة التي ظهرت في معظم الأعمال غالباً ما تكون صبية جميلة ناصعة البياض، ذات شعر سود متهدل عل كتفيها، كما أنها غالباً ما تكون ضعيفة معتدى عليها، يختطفها الرجال، مهجورة، تحن إلى علاقة مع رجل ما، كما يتضح في " ليلة من الليالي" إذ قالت إمرأة لأبي حسن " تزوجني، وسأكون خادمك" ( ). وهي إمرأة وحيدة تبحث عن زوجها المفقود وتقع ضحية المجتمع المتخلف، حتى إن المرأة المتعلمة تعتبر بخلعها المفقود وتقع ضحية المجتمع المتخلف، حتى إن المرأة المتعلمة تعتبر بخلعها الملاءة خارجة على عادات الحارة وتقاليدها، وتستحق الموت. والمرأة كذلك من وسط شعبي لا تتعداه فلا نلحظ لها دوراً على الصعيد السياسي أو الفكري، وينحصر دورها في إطار العلاقات الإنسانية والاجتماعية، وهي دوماً مشتهاة ومرتبطة بشوق الرجل للحياة والدفء. يقول البطل في قصة القبو " وتذكرت آنئذ سميحة الفتاة التي كانت تحبني ببراءة وصدق، وكان يعذبني بقسوة اشتهائي المجنون لجسدها "( ).
لقد ركز الكاتب على مظاهر القمع الاجتماعي، وانسحاق الإنسان في الحياة، كما كشف عن ضيق العقلية الشعبية وتخلف رؤيتها للمرأة. كما أن بطل زكريا لا يريدها أية امرأة بل يريد امرأ وهو صانعها، فيشكلها كما يشار " سيصنع إمرأة من ذهب وسيحبها بضراوة "( )، وكل ما يتمناه " من الحياة لا يتعدى بيتاً صغيراً يعيش فيه مع فتاة لم يقابلها بعد، ولكنه واثق أنه سيجدها يوماً ما، وسيحبها بإخلاص"( ). وكذلك يملك شوقاً دائمً لاحتواء المرأة، وتلمس جسدها بشوق، فيتمنى عباس أن " يتحول إلى هواء تستنشقه ليلى ليستقر في صميم كل خلية من خلايا جسمها "( ).
وعندما لا يعثر على مراده تتعمق الحساسية الجسدية للمرأة حتى تصل أبواب الرؤية السادية فتتدفق رائحة الشهوة العدوانية الدموية، فيحدث الشنفرى قطته عن المرأة قائلاً " أنا لست متزوجاً، والمرأة التي أحبها سأكل فمها وأبتلع لحم شفتيها الدامي الطري، ثم أضرب رأسها بقطعة خشب صلدة، وأكسره وألطخ وجي بدمها الساخن ثم أدفنها تحت سريري، وأنام مرتاح البال "( ) فمتى نال البطل حبيبته يعني ذلك أنها انتهت بالنسبة له، كما قال حسن لأحد أصدقائه في المقهى عندما كان يكتب شعراً في محبوبته: " ألا تحرق أشعارك إذا نلت حبيبتك؟"( ) فالحب عند بطل زكريا ما هو إلا نجمة عالية لا يشتهي نواهلا! ( ).
كما تخيل محمد امرأة جميلة، وبعد أيام رآها نفسها في الشارع فتبعها حتى عرف منزلها.. وأصبحت أمنية محمد أن تنظر إليه وتبتسم لكن المرأة لم ترمقه بنظرة في أي مرة. ها هي صورة المرأة التي يريد حتى لكأنها ليست من عالم الأرض، وهو يريدا حرة طليقة لا سبية مغلوبة على أمرها
لذا رفض محمد أن يأتيه الساحر بها نائمة قائلاً: " أريد أن تكون عيناها مفتوحتين، تنظر إلي بود، أريدها أن تبتسم لي... "( ) فالمرأة بالنسبة له جزء من الطبيعة أو هي الطبيعة الجميلة وهو دائم البحث عمن تعمق تماسكه مع الطبيعة " ففطمة امرأة جميلة ضحكتها حديقة خضراء"( ). وسميحة " لها جناحا عصفور صغير"( ).
فالمرأة نموذج مثالي لا ينبغي أن تدنسه الأيدي، لهذا السبب سيصنع امرأة خاصة به تتناسب وعالمه، وسيشكلها كما يشاء، كذلك سيدافع عنها أمام هذا الواقع الصعب، لأنها في الواقع الحالي لا تعجب بطل زكريا كما لا يعجبه حالها لأنها امرأة لا تعيش إلا بجسدها فقط، فهي خاوية الروح، مسلوبة الإرادة، حتى أضحى الرجل يرى أن " كل النساء مومسات"( ). وعاش أبطال زكريا مشتتين بين وهم المرأة المفقودة، وواقعها الاجتماعي المزري، وبين المرأة الكابوس التي تطل بين الحين والآخر فترعب بملمسها الحريري الناعم الرجل الذي ما إن تتمكن منه حتى تتحول إلى أفعى قاتلة( ).
في ضوء هذه الرؤى المتباينة أصبح بطل زكريا – نتيجة خوفه منها وخوفه عليها – يفكر بامرأة لا يشتهي نوالها.... كالمرأة الصديقة فيقول: " كم أتمنى أن تكون لي علاقة صداقة مع فتاة ن لا أريد أن أحبها، إنما أريدها فقط صديقة لا أكثر.. وذلك كي يحدثها عن كآبته التي تغله إلى الشوارع، ولكي يبكي بين يديها دون خجل.
1- صورة الأم
من المألوف أن تظهر صورة – المرأة- الأم رمزاً للعطاء والتضحية في معظم الأعمال الأدبية ؛ لأنها الموجه والمربي والمدافع عن الأبناء أمام سطوة الآباء.لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل بقيت صورة الأم مشرقة في أعمال زكريا أم لحقها من التدنيس والتشويه ما لحق غيرها من النماذج النسوية في خضم صراعات هذا العالم المشوه؟
لقد سلط زكريا الضوء على حقيقة الأم ومشاعرها، كما جردها في أحيان كثيرة من أمومتها، فرصد سلوكاتها من خلال الظروف المحيطة بها ومن خلال تفاعلها مع المجتمع الحافل بالأزمات.
فامتازت الأم – عموماً- بالبساطة الشعبية ن والسذاجة والجهل الممزوج بالحنان الفطري، والخوف على الأبناء، فيستعصي عليها فهم أبنائها كما في قصة " الرجل الزنجي" إذ تتهم الأم ابنها بالجنون عندما رأته يدير حواراً مع نفسه (صديقه الوهمي).
هذه هي أولى مظاهر التصادم وأول مبررات غربة البطل التي تبدأ من البيت حيث السلطة الأبوية. وفي قصة " رندا" تتنصت الفتاة الصغيرة إلى الأرض فتسألها أمها عما تسمعه فتقول رندا: إنها تسمع غناء جميلاً فتجيب الأم: " ما هذا الحكي الأبله ؟ هل تريدين أن يقول الناس إن رندا مجنونة ؟ الأرض مجرد تراب وحجارة " ( ).
إن أبطال زكريا يتمتعون بنوع خاص من النضج الفكري فلا يهادنون أو يجاملون مع أنهم ربما يستسلمون لسطوة الواقع الذي غالباً ما يكون أقوى منهم. كما أن الأمهات لا يملكن القدرة على فهم ذا الجيل أو استيعابه ويعتبرن أفكار الأبناء مخيفة مرعبة تقود إلى الجنون.
وهناك من الأمهات من يقدرن على توجيه أبنائهن لكن هذا التوجية غالباً ما يكون سلبياً، فبدل أن تكون الأم هي الملاذ الحقيقي لأبنائها، تكون بجهلها وخوفها أولى وسائل التدمير النفسي والضياع لهؤلاء الأبناء. ففي قصة الأعداء (الأبناء) مثلاً يسأل الطفل أمه – كعادة الأطفال- عن فوائد العينين والإذنين واللسان، فترتعد الأم خوفاً وتضلل الإجابة قائلة له بأن العينين خلقتا كي ينظر فيهما باحترام إلى الحكام والمسؤولين، والأذنين كي تسمعا الأوامر الرسمية، والخطب السياسية، واللسان لا يفيد في شيء سوى المضغ( ). ويكمن سر تضليل الإجابة عن لسان الأم التي حطمها الرعب في الواقع السياسي القمعي الذي يفرض سياسة قمعية تشوه الناس. لذا نرى الأمهات وهن يندفعن إلى قتل أبنائهن فكرياً وروحياً، حتى يصبحوا أجساداً تتحرك بلا روح ؛ وذلك لأنهن يخضعن لقمع خارجي، وتتكرر هذه الصورة في شهادة أم سليمان الحلبي في قصة " الجريمة" ضد ابنها أمام المحكمة( ).
ونتيجة للخوف الذي تمارسه الأم على أبنائها فهي تسلم الأبناء لمزالق أدناها السلبية والهروب من مواجهة الواقع فالأم في قصة " الأطفال" تحذر ابنها من الاقتراب من النهر لأنه يخطف الأطفال، وبعد قليل تؤنبه لأنه يخبرها بأنه سرق غيمة لأن الكذب عيب( ). في مثل هذا التناقض الذي وضعته الأم بين يدي طفلها تكون قد ساهمت في رفع درجة الشعور بالغربة والضياع، فالفعل " سرق" مثل الفل خطف عند الطفل وكلاهما فعل، لكن الأم لم تتنبه لذلك ؛ ولهذا السبب نستطيع تفسير إصرار أبطال زكريا على العيش بوحدة مطلقة، ورفضهم للمجتمع وعدم قبولهم لأسرهم وبيئاتهم.
لقد أظهر زكريا نماذج لبعض الأمهات اللائي يتمتعن بوعي ممزوج بالصرامة، فتمارس الأم من خلاله دور الرقيب الحسيب على سلوك أبنائها المراهقين لكن هذه الصرامة غالباً لا تكون إيجابية بل تخلق في نفوسهم ردة فعل عنيفة نستطيع تسميتها سلبية، فأم الفتاة الشابة في قصة " قرنفلة للإسفلت المتعب" تنصح ابنتها ببعض النصائح التي تفيد بأن " الرجال كلهم يعبدون المرأة بذل، عندما يشمون رائحتها، ولكنهم يبتعدون عنها بقرف لحظة تنطفئ شهوتهم"( ) مثل هذه النصائح ولدت عند الفتاة إحساساً قرياً بكره والدتها حتى صارت تتمنى لو أن أمها ميتة كي تعيش دون نصائح. ومن الجدير بالذكر أن كل أشكال النصائح مرفوضة عند أبطال زكريا.
ويقاس على ذلك موقف سميرة من أمها التي تعاملها معاملة الخادم( )، لذا فهي لا تحبها إلا من منطلق الواجب.
لم يغفل زكريا صورة الأم البسيطة المسالمة – على قلتها – التي تسهر على راحة أبنائها كما تقوم بدورها الطبيعي كأي أم حنونة، منها أم أحمد في قصة " جوع" وأم عمر القاسم ف قصة " يا أيها الكرز المنسي".
وقد تضطر الأم للجوء إلى طرق الرذيلة كي تعود آخر النهار محملة بالمال اللازم لأبنهائها – وغالباً ما يختفي دور الأب في هذه الأعمال- كما في قصة " ابتسم يا وجهها المتعب" وقصة " الابتسامة".
وتتكرر صورة الأم الساذجة الجاهلة المغلفة بالحنان غير المقبول من قبل الكاتب والذي يعتبره مأخذاً عليها، فالأم في " رجل من مشق" دائمة السؤال لابنها عن العمل شاكية له الوضع المادي السيء والأعباء الكبيرة، لكن ابنها المتسكع في الشوارع يقنعها بأنه دائم البحث عن عمل ويتعب لأجل ذلك إلا أنه م يوفق بعد، فتصدق الأم كلام ابنها المهل وتتعاطف معه، وتتكرر الصورة في قصة " ثلج آخر الليل". وفي قصة " رحيل إلى البحر" لم تترقرق الدموع في عيني الأم عندما أخبرها ابنها أنه سيسافر بل اكتفت بالتساؤل إن كان سيرجع غنياً أم لا ؟ (لاحظ قسوة الحياة التي تتعرض لها الأم).
إن هذه الصورة الساذجة الممزوجة بالجهل والحنان لم تأت عبثاً، فالجوع قد استشرى في المجتمع حتى تغلب على العواطف، وهذا ما كرره زكريا في معظم الصور التي سجلها للأم الخاضعة لظروف اجتماعية متأزمة، واقتصادية صعبة، وسياسية قمعية تتحكم في مسيرة تربيتها لأبنائها، فأم
الجريح الذي يرقد في المستشفى إثر إحدى المعارك في قصة " النابالم" جاءت تبحث عنه لكن عاطفتها الميتة لم تستطع أن تقودها إلى مكانة فهمت بالخروج إلا أن صوته أيقظها من بعيد، فما كان منها إلا أن أخذت في سرد أخبار العائلة فرداً فرداً وتتبعها بأخبار الجيران الاجتماعية دون الالتفات منها إلى وضع ابنها المناضل الجريح ودون السؤال عن حاله. يتضح من هذا الدور الذي أوكله زكريا للأم أنها الضحية ضحية الجهل والخوف، والعادات البالية، وضحية الرجل المتسلط وتمرد الأبناء، والفقر، والسياسة ؛ لذا كانت سلبية بمعنى الكلمة حتى في تعبيرها عن حبها لأبنائها. إنها الأم الرمز، رمز الجذور التي ضلت طريقها فتمزقت مع الريح، كما أنها الأصل الذي تشوهت معالمه فزادت من عناء الفرد وضياعه.
2- صورة الزوجة:
تناول زكريا تامر حياة الأسرة في المجتمع الشعبي الكادح، وصور لنا نماذج من الزواج التقليدي الذي يخلو من التفاهم أو الحب، كما أظهر الطابع العام لنماذج الزيجات التي لا تقوم على الوفاء والإخلاص للزوج، وذلك نتيجة نظرة الزوج لزوجته على أنها متعة جسدية وآلة لإنجاب فقط، إضافة إلى أنها المستهلكة في حين أنه المنتج، لذا عكس زكريا قسوة الزوج على الزوجة المسكينة. مساهمة منه في زيادة القمع الاجتماعي الذي يقع على المخلوقة الضعيفة.
فأم يوسف في قصة " البدوي" لم تحب زوجها في البداية لكنها كفت عن التذمر مع طول المعاشرة. وغالباً ما تقع السيدة ف مثل هذا الزواج ضحية، في حين أنها لو خيرت لما اختارت هذا الزواج مثلاً. وفي قصة " موت الشعر الأسود " يقول زوج فاطمة – التي زوجت دون رغبتها- " أنا رجل وأنت امرأة، والمرأة يجب أن تطيع الرجل، المرأة خلقت لتكون خادمة للرجل، فتجيب فطمة: " إنني أطيعك وأفعل كل ما تريد" فيصفها قائلاً بنزق: " عندما أتكلم يجب أن تخرسي "، فتبكي وتمسح دموعها وهي تضحك.
أما عائشة في " العائلة" فيموت زوجها دون أن تولول عليه أو تحزن بل على العكس من ذلك تسارع في دفنه فيعود شبابها وتعود نضارتها رغم كبر سنها وهرمها، لقد سارعت في دفن زوجها وذلك حتى تدفن مع كل القيود، وتعود لها حريتها المفقودة المتمثلة بالنضارة والشباب رمز الحرية والانطلاق( ).
وتنتحب لما كذلك في قصة " السجن"( ) على موت زوجها مصطفى الشامي، وفي الليل تلقي برأسها على الوسادة هادئة ووديعة، مستسلمة للنوم، كما أن الابتسامة لم تفارق وجهها. فماذا تقول تلك الابتسامة التي تظهر ليلاً أثناء خلوتها بنفسها ؟ إنها مسرورة بتحررها وانعتاقها من قيود زوجها، لكن قيود المجتمع تنتظرها في النهار حيث يجب عليها أن تمارس دور الزوجة المخلصة المفجوعة على زوجها.
هذه هي الصورة التي رسمها زكريا للزوجة المتعبة التي لا علاقة بينها وبين زوجها سوى الأولاد خلا صورة نموذجية واحدة، يظهر من خلالها فضل الزواج الذي تم برضى الطرفين وحبهما، فسميرة في " سيرحل الدخان" تعيش مع أحمد الفقير، فتجوع وتعرى إلا أنها تقنع بذلك وتسعد به لأنه الزواج الذي تم باختيارها دون أن يفرضه أحد عليها.
3- صورة الحبيبة:
من الأسئلة الصعبة التي تواجهنا في أعمال زكريا تامر السؤال عن مشاعر البطل " الفرد " الحقيقية، ومدى صدقها وفاعليتها في الحياة.
أن أبطال زكريا لا يعرفون معنى الحب في حين أنهم دائمو البحث عنه، إلا أنهم يلمسون جوهره السامي ن كما أنهم يمارسونه مع فتياتهم، بصورته المادية، المحسوسة، مرهوناً بالمتعة الجسدية في حين يكون هذا الحب صادقاً بريئاً من قبل المرأة، وفيه بعض الروحانية، كما تدافع عنه حتى الموت، لكن ردة فعل البطل تجاه هذا الحب متباينة، ففي قصة " الرجل الزنجي" تقع فتاة في حب البطل إلا أن أهلها يلزمونها الزواج من رجل آخر لكنها تبقى متمسكة بحبها لمن اختارته هي لا أهلها، بينما يفكر البطل كيف سيمارس هذا الحب عها، فتستسلم له بسهول. وفي قصة " الصيف" تستسلم عطاف لماجد وتطلب منه الوفاء بالوعد والزواج إلا أنه يرفض ذلك ويتمنى لو أنها استسلمت له كدليل على حبها وليس ثمناً للزواج.
نلمس في مثل هذه النماذج الروح النرجسية التي تغلف صورة بطل زكريا الباحث عن شيء يسعده، ولكنه لا يجد رغم كل المحاولات التي قد تسمى أحياناً بالحب أو التضحية. لذا لا نجدهم يتكلفون التفكير بهذه المرأة التي ضحت بكل ما تملك لأجل الحب السامي إلا أنها لا تفوز به.
وتتبلور رؤية البطل للحب في قصة " النهر ميت" عندما كان جميلة تعود أم طارق المريضة كل يوم، فتعلق قلبها بطارق دون أن تجرؤ على المبادرة، في حين أن طارق اشتهى جسدها وكم تمناه ملكاً بين يديه وعندما سألته أتحبني؟ أجاب بأنه يحب نجمة زرقاء لا يشتهي نوالها.
بذلك نرى أن أبطال زكريا لا يعتبرون ما ينالونه من علاقة جسدية حباً، مع العلم أن العلاقة هذه تروق لهم في بادئ الأمر، ويمنون النفس بأسعد الأيام كما ينعتونه حباً، ولكن بعد أن تنطفئ نار الشهوة يتخلون عن اللواتي أحببنهم بصدق وذلك لأن الحب شيء لا يودون نواله، حتى يبقى محتفظاً بوهجه ودليل ذلك موقف يوسف في قصة " البدوي" إذ أحب سميرة ابنة صحب البناية التي يسكن في قبوها كما بادلته الحب بحب جارف وتمنت أن تهرب معه على الرغم من الفارق الطبقي بينهما، في حين تمنى يوسف أن ينال جسدها الذي طالما حلم به وفي ذلك تعبير مطلق عن انتقامه من الأغنياء ().
إن تدرج الأحداث في عمال زكريا يوصلنا دائماً إلى هذه النهاية وكأن الحب الذي يريد هو الحرية التي لا يملكها لذا لا يستطيع البطل الاحتفاظ بالحب لمدة طويلة.
لقد ذكرنا سابقاً أن ظاهرة الجوع في أعماله عامة وواضحة حتى إن المرأة إذا ما تعرضت لفاقة تسلك طرقاً غير مرضية كي تسكت جوعها فعباس مثلاً يحب ابنة عمه ليلى وهي بدورها تحب أخاه الكبير وكم تمنى عباس أن يحظى بها حتى أنه بات يحلم بذبح أمه وأخيه كي يفوز بليلى، وعندما جاع سرق رغيف خبز فتحرك الجوع بمعدة ليلى حتى توجهت إلى عباس مستسلمة له مقابل الرغيف، لكنه ينادي الرجولة في دمه فيفشل، عندها فقط يترك ليلى وقد بدأت تستمرئ طعم عباس، ويهرب بالرغيف خارج البيت( ). لقد تغلب الجوع المادي على نفسه فماتت رجولته وماتت ليلى بروحه، كل ذلك مقابل رغيف الخبز الذي لا يضاهيه شيء في حياة أبطال زكريا. والعشق مقرون بالفعل الذي ينتهي بمجرد التفكير بإتيانه لذا لا شيء أقصر من عمر الحب عند أبطال زكريا الذين يلهثون بحثاً عنه وعندما يجدونه لا يلبثون أن يفقدوه.
ترى د. ناديا خوست أن الحب في علام زكريا القصصي نوع من ممارسة الحرية، ولقاء اختياري بين اثنين، لذا تبدو الدنيا من خلاله رقيقة وجميلة. في حين أننا نرى بمحدودية الحالات التي اتسمت بالصدق المطلق كما في " سيرحل الدخان"، و " النار والماء"، وكيف لنا أن نعتبر الحب لقاء اختيارياً بين اثنين، ولم نر إلا أن المرأة تقبل على عالم الرجل بصدق ومحبة في حين يقبل عليها متشهياً جسدها متوهجاً بضياء الجسد لمدة قصيرة جداً ينتهي بهدها كل شيء يربطه بالمرأة.
4- صورة المومس:
تناول زكريا موضوع المومس في أعماله كما تناول المرأة بعامة، فلم يظهر تعاطفاً معها، بل يعتبرها وسيلة للتنفيس التي يلجأ لها الفرد الممزق بين الحين والآخر، وهي امرأة تسعى وراء المال من خلال هذه المهنة وذلك كي تتمكن من العيش في عالم فرض عليها ذلك، بسبب التباين الاقتصدي بين الفقير والغني، وعدم وجود المساواة بين الرجل والمرأة، والاختلال في توزيع الجنسين جغرافيا. وكذلك تحول الناس في الحياة الصناعية إلى سلع جاهزة للتداول كلما اقتضى رأس المال ذلك ( ).
دخل فرد زكريا عالم المومس في المواخير والشوارع، فالبطل في قصة " رجل من دمشق" يفضل عاهرات الشوارع على عاهرات الماخور( ) لأسباب خاصة به. وسلمى مومس قديمة في قصة " موت الياسمين" لم تعين في المدرسة إلا بعد أن تبتت شهادتها بأنها ضاجعت 927 رجلاً في سنة واحدة، فعهد إليها بتدريس الصف الأول، وكانت فرحة لأنها ستتعامل مع أطفال لم يعرفوا طعم المرارة والهزيمة إلا أنها تكتشف أن الأطفال قد فقدوا براءتهم وتحولوا إلى وحوش تريد أن تفترس جسدها الدافئ إلى أن أخذوا يقرضون لحملها( ).
لقد حاول زكريا أن يرسم قذارة العالم على وجوه الأطفال، فعمد إلى تشويه البراءة وقتلها في كثير من المواقف، ففي قصة " القرصان" تكشف فتاة التسعة أعوام عن فخذيها حال رؤيتها القرصان وتطل من عينيها نظرة عاهرة عجوز، فينزعج القرصان لذلك وينصحها بترك هذه الحركات والانطلاق في الحياة ببراءة قبل أن يفوتها ذلك.
ها هم الأطفال يتحولون إلى وحوش شرسة فيقرضون اللحم بطريقة وحشية وينبذون النصائح ويتمردون على كل مظاهر الحياة بسبب ما خلفه لهم هذا العالم من متناقضات قاسية. أفقدتهم طعم الحياة الحقيقي الأصيل. كما هو حال الفتاة الصغيرة التي تمارس وأمها البغاء في قصة " الزهرة" إذ يتحلق خمسة رجال حول المرأة، فتطلب أن تساعدها ابنتها لأن عددهم يتعبها فيتعجبون لذلك الطلب ؛ لأن الفتاة صغيرة إلا أن البنت تصرخ بحنق قائلة لأحدهم: " جربني وستجد أني أفضل من أمي، وستدفع لي كثيراً" ( ).
ذكرنا سابقاً أسباب انتشار البغي وتفلت المجتمعات وقلنا إن الجوع أبرز سبب لهذا التفلت القيمي فأميمة فتاة جميلة قتلها الجوع، فتحولت إلى مومس تمارس الرذيلة، ولا أحد من أهل الحي يعرف مكانها ( ).
ويصف زكريا تامر عالمهن الخاص قائلاً " ولا يخجلن وهن يتناولن النقود من يد رجل ما، عالمهن حقيقي مكتظ ببشر أحياء خاضعين للنزوة، والحماقة، والشهوة، والحقد، والآهة المصطنعة... والآهة المنسلة من العظم"( ).
لقد تعرض زكريا لنماذج من المومسات ممن وجدن طريق التوبة فسهلت عليهن وذلك عندما وجدن الرجل المناسب، مثال ذلك ليلى في " رحيل إلى البحر" التي عرضت نفسها مقابل مبلغ من المال وقالت لحسن بأن الحب لا يكفي للحياة والحب ليس خبزاً، لكنها استطاعت أن تملك قلب حسن الذي أحبها، وارتبطا برباط الزوجية المقدس، فوعدته بأنها لن تعود إلى مهنتها السابقة إلا أن المجتمع لم يرحمها إذ تعرض لها عدد من الرجال وعلى الرغم من مقاومتها إلا أنها سقطت تحت أجسادهم خجلة، وفي الصباح تركها حسن وهجر المدينة كلها( ).
فعلى الرغم من أن المرأة ضحية مجتمع سلبي شرس إلا أن هذه النماذج لم تلق قبولاً أو محاولة للدفاع عنها من قبل عالم زكريا فكما يرفض المجتمع المتسلط، يرفض كذلك كل ما ينتجه هذا المجتمع لذا سيبقى بطل زكريا يحلم بعالم امرأة ليست من الأرض، تعبر في مشيتها عن غربته، وتحس به دون أن يتكلم، إنه يريدها لصقه لا تنفصل عن روحه، يريدها سامية عن ظلم المجتمع مترفعة عن سلبياته. فلم تستطع الأم أن تقوم بدورها المثالي تجاه أبنائها، وكذلك الزوجة المنقادة لآراء زوجها المتسلط والحبيبة التي لم تتجاوز دور العشيقة. والمومس تلك الصورة الجسدية البحثة التي ينبذها المجتمع بتقاليده وقيمه لكن رجاله يتهافتون عليها ويلهثون وراءها كنوع من التنفيس عن الرغبات المكبوتة.
إن عالم المرأة هذا مرفوض تماماً، ولا يلقى صدى عند أبطال الكاتب، وما زال البحث مستمراً لعله يعثر على عالمه بعد أن يعثر على نفسه ومعنى وجوده.
الموقف من المدينة:
لقد شكلت المدينة رؤية سلبية في ذهن الأديب (شاعراً كان أم قاصاً أو روائياً) فموقف الفلاسفة والمفكرين من قبل امتاز بسمة التشاؤم من المدينة وذلك لأنها – بطبيعة نشأتها – تمتاز بالازدحام والتضخم السكاني، وتفسخ العلاقات الاجتماعية، حتى صار أولئك المفكرون يرون أن المدينة مكان للرذيلة، ومفسدة للأخلاق عدا عن أن المادة هي التي تحكمها وتسيطر عليها( ). ومما تمتاز به المدينة العصرية، الجدران العالية، والأبنية الشاهقة، والمصانع، والآليات، هي عبارة عن حياة ديناميكية تعج بالفوارق الطبقية، فتكونت الأحياء الغنية والأحياء الفقيرة الشعبية ( ).
وتتأثر رؤية الأديب للمدينة تبعاً لعمق المعاناة التي يلقاها فيها كما أن الظروف النفسية والاجتماعية تؤثر بدورها في تكوين الشخصيات في الأعمال الأدبية، على أن معظم الأدباء انحدروا من وسط ريفي وجاءوا للعيش في المدن الكبيرة علي تعمل على تعميق شعورهم بالمرارة وإحساسهم بالغربة والضياع بسبب انبهارهم المشوب بالرهبة من التقنية الحديثة والأضواء، والمنشآت والمباني، والمعارض، ودور السينما والخمارات، والملاهي (رمز الفراغ وصورة من صور الخلاص) فهذه المدينة التي تحكمها المادة، تعمل على قتل القيم الحسنة، والصدق والطيبة فلا أحد يلتفت إلا لساعته التي في يده، كما أن الحياة في المدينة في صراع مع الزمن ( ).
يرى الدكتور إحسان عباس أن علماء الاجتماع قد ذهبوا إلى أن " كثيراً من الإحباطات التي يحس بها ساكن المدينة إنما هي نتيجة صراع أساسي بين القيم: بين الذات والمجموع، بين الحرية والسلطة، بين التنافس الحاد والمحبة الأخوية "( ) فتشوهت تبعاً لذلك صورة المدينة في الأدب عموماً.
لقد كتب زكريا تامر عن المدينة العربية الأصلية الملامح ذات الشرفات العالية والمآذن والساحات العامة – متأثراً بين الحين والآخر بعالم المدينة الغربي – كما خص بالذكر مدينة دمشق التي ولد في أحد أحيائها الفقيرة " حي البحصة"( )، وكان لهذا الحي الأثر البالغ على نفسية زكريا والتي انعكست بدورها على نفسية أبطاله فتنقل أبطاه بين حي وحي كانت المدينة (دمشق) مسرح الأحداث الذي له وجهان حي الفقراء الشعبي وحي الأغنياء مقيماً بينهما المفارقات التي توحي كما لو كان يتحدث عن مدينة في مقابل يف. وذلك نظراً لبساطة الحياة في حي الفقراء وتمسك أهله بالقيم والعادات والتقاليد في حين تفسخت العلاقات وضاع الفرد في زحمة حي الأغنياء. ونشب بداخله صراع حاد بين نمط الحياة المختلف في كل من الحيين.
وتفوح من مدينة زكريا رائحة دمشق وحاراتها وغوطتها وشمسها ورطوبتها، وهي في حالة تمزق ناجم عن لحظات مأزومة حادة، إنها دمشق بحقيقتها وكوابيسها وماضيها، ولم يخف زكريا هذه الحقيقة التي ما لبث أن صرح بأن مدينته المقصودة هي دمشق.
نستطيع أن نحدث تقسيماً – لغرض الدرس – في موقف بطل زكريا من المدينة فنرى أن المدينة عبارة عن المدينة الحاضر المدينة الكبيرة (المعقدة) التي تتضمن حياً للفقراء وحياً للأغنياء وثانياً المدينة الرمز، وثالثاً المدينة الماضي، ورابعاً المدينة الرؤياً.
يقول أحد أبطال زكريا الذين نبتوا في شرايين المدينة والتي أورثتهم التشرد والضياع "وعدت إلى المسير.... آه يا مدينتي.... لقد ولدت في يوم ما على أرصفتك، وسأظل حتى الموت مغلولاً إليها...."().
لقد حددت نشأة المدن من وجهة نظر الفرد عند زكريا فقال: " وكان النهر في القديم وحيدا تتدفق مياهه عبر أرض مقفرة ولقد ظلت الأرض مقفرة والنهر وحيداً حتى أقبل إنسان ما، وجثا، وقبل التراب بخشوع، وعندئذ نبتت البيوت والدكاكين والمآذن والمقابر"( ).
إنها نشأة المدينة المفعمة بالحيوية والصدق مع أنه لم يحدد هوية الإنسان الذي أحياها بل تعمد أن يبقيه نكرة لأنه لا أهمية إلا للإنسانية المجردة، والصدق المطلق. وماذا بعد هذه النشأة الصافية ؟ إنها المدينة الكبيرة المليئة بأناس لا يعرفون بعضهم بعضاً ولا يربطهم ببعضهم بعضاً سوى الآلة والمادة كما أن الإحساس بالزمن معدوم.
صورة المدينة الكبيرة (المعقدة)
إن الصورة التي يرسمها للمدينة الكبيرة ذات الشوارع العريضة، صورة دموية بشعة لا تعدو أن تكون مستنقعاً للآفات والسجون والملاهي، يقول: " نهر المخلوقات البشرية تسكع طويلاً في الشوارع العريضة المغمورة بشمس نضرة حيث المباني الحجرية تزهو بسكانها المصنوعين من قطن أبيض.... وتعرج النهر عبر الأزقة الضيقة وبين المنازل الطينية... المكتظة بالوجوه الصفراء والأيدي الخشنة وهناك امتزجت مياهه بالدم والدموع، وبصديد جراح أبدية، وعثر النهر في ختام رحلته على نقاط مبعثرة بمهارة مختبئة في قاع المدينة"( ).
إن موقفه من المدينة – المشوب بمسحة تأثرية غربية (عصر الآلة) – موقف النفور والنقمة، إلا أنه يدرك أنه جزء لا يتجزأ منها، وأن إنكاره لها لن يلغيها فهي تتسم بالبشاعة وهي قاتلة، وظالمة، وساحقة للإنسانية، فالمدينة منفرة، ويضيع فيها كل معنى للحياة البشرية لأن المادة والآلة تحكمانها. وتتعامل مع الأشياء على أسس أن كل شيء له ثمن.
إنها مدينة مستسلمة بفتور لضياء الشمس الآفلة ومعلقة بين الواقع والخيال " باع الشنفرى سيفه قبل سنين، دون أن يلطخ سيفه بدماء رجل وعاش بعدئذ في مدينة تفترسها شمس من نار "( ).
ومن أهم أسباب نفوره من المدينة أنها كبيرة ضخمة، يخشى الضياع فيها عبر الشوارع العريضة، ويخشى أن يقع فريسة الغربة التي حولت البشر إلى آلات صماء. " ورواد هذا المقهى عمال يشتغلون في المصانع القريبة، وفلاحون وبائعون متجولون، وسائقو سيارات، وتراكتورات، وحمالون وأناس بلا عمل – مثلي – يجلسون جميعاً باسترخاء، يحتسون الشاي على مهل ويثرثرون دون أن يكون بينهم أي معرفة سابقة "( ).
فكبر حجم المدينة أدى إلى ضياع الناس فيها، فلا أحد يعرف الآخر، ولا يوجد للإنسان فيها صديق يلجأ إليه وقت الشدة، كما أن إحساس الفرد بالوحدة قاتل، فصورة هذه المدينة في ذهن ساكنه الذي بات غريباً عنها صورة بشعة، إذ يتخبط في خطاه لا يعلم أين يذهب ولا يعلم ماذا يريد المهم أنه يحس بمأساة الغربة، وقسوة الحياة كما يشعر أنه منبوذ في هذا المجتمع. وتتعامل هذه المدينة التي لا تعرف العواطف مع الإنسان على أنه كتلة أو شيء لا معنى لوجوده إلا من خلال العمل الآلي الذي يقدمه " شارع فؤاد الأول يتمطى سعيداً تحت ضياء شمس الربيع وثمة ناس كثيرون منتشرون على أرصفته، والسماء فوق رحبه، وديعة زرقاء، وأنين عربات الترام وهدير محركات السيارات يمتزجان معاً في صوت واحد يجعلني أحس بغربة بلهاء " ( ). وفي موضع آخر يقول: " وبصقني صالون الحلاق بعد قليل إلى الشارع، وعادت السيكارة إلى الاحتراق، السيكارة صديقتي وهي تظل على الدوام معلقة بين شفتي، بينما أنا أسير حاملاً تعاستي وهرم أعماقي على وجهي الشاحب" ( ).
إنها موحشة حد الفزع، فتقتل كل من قام إليها بهدوء، دون أن تذرف نقطة دمع واحدة. " وسار مأمون في شارع جديد، وإذا بحشد من الناس متحلقين حول ترام، فشاهد صبياً ممدداً على السكة الحديدية وقد بترت عجلات الترام ساقيه، وكان لون الدم أحمر امتزج بعويل الصبي الفاجع...، وبكى مأمون بصوت عال، ودفع الناس الذين كانوا يصخبون حوله... ما بك يا ولد ؟
- أريد ماما.
- أين أمك ؟
- في البيت.
- أين بيتكم ؟
- وحاول مأمون أن يجيب لكن صوته اختنق" ( ).
في هذا البحث عن الأم الممزوج بالحنين لها، دليل على عمق النفور من المدينة، ومحاولة البحث عن منبع الحنان، هذه المحاولة غالباً ما تبدأ بالحنين إلى صورة نقية كالريف مثلاً أو الأم، أو الحنين إلى الماضي، أو العودة إلى الطبيعة، أو ربما خلق مدن جديدة ذات سمات مفقودة في الواقع. من سيتعرف على هذا الصبي ؟ لا أحد يعرفه في خضم المدينة المكتظة سوى نفسه، وهذه المعاناة (الضياع) هي من أبرز ألوان المعاناة في حياة ساكن المدن.
لقد باتت الحياة بالنسبة لساكن المدينة مملة معروفة البداية والنهاية، لذا لا يجد ساكنها معنى لها " وأفاق القرصان في الصباح، وقعد في ردهة الفندق، وكان ثمة أناس حوله غرباء كلهم أتوا من مدن وقرى نائية، وتساءل لماذا أتوا إلى هنا ؟ سيموت الرجل الهرم، ستتزوج الصبية ستنجب أطفلاً.... سيكبر الطفل، وسيتعرف إلى الكلمات، والله والمدن، وستعانقه الأفراح والأحزان، وسيبحث عن الفرح وحده ولن يجده"( ).
في هذا البحث المستمر عن معنى الوجود لا يستطيع الفرد إلا أن يرهب المدينة الكبيرة التي لا تزيد وجوده إلا ضلالاً. يقول د. إحسان عباس: " هي حقاً غربة من يبحث عن حرارة المشاعر في القلوب – كما كان يحسها في الريف – فلا يجدها، وليس في المدينة صاحب وإنما الوجود والمودات فيها بلون الطريق... طريق مقفر شاحب، كأن كل المدينة لشدة الاغتراب والعزلة بين الواحد والآخر غريب صامت، يضن بالتحية على من يمر به من الناس"( ).
وتتكون مدينة زكريا – كما أسلفنا سابقاً – من أحياء عدة أبرزها حي الفقراء، وحي الأغنياء وكلاهما يقبع في قعر مدينة مهشمة الملامح إلا أن تصويره لحي الفقراء يأتي مشوباً بلمسة رقيقة مناسبة فيها نوع من الحنان المفقود، وغالباً ما يصور كلا الحيين معاً، فيعقد، مقارنة بينهما حتى يستدر عواطفنا تجاه حياة حي الفقراء في حين نتوجه بالنقمة والسخط عل حي الأغنياء. " وكان الليل بأقدامه الزجاجية السوداء يتجول في الشوارع حيث الإعلانات الكهربائية تضيء، ثم تنطفىء، فنادق دور سينما... مكتبات... مقاه... مطاعم.... سيارات... ومضى يوسف يسير مبتعداً عن صخب المدينة والأبنية المضاءة وتغلغل شيئاً فشيئاً في عالم الأزقة الضيقة، الأزقة طويلة، تنتصب على جانبيها بيوت من تراب متقاربة متآلفة، وتسرب إلى أعماقه حنان مباغت"( ). ويقول في موضع آخر " وكان بانتظاره الإسفلت الرمادي والشمس، وأبواق السيارات، والرجال والنساء المتحركة أقدامهم بإيقاع حاشر بين السير البطيء والسير السريع وواجهات المحال الزجاجية، وصفارات الشرطي الزاعقة، وصيحات بائعي الصحف واليانصيب. دخل يوسف إلى أحد المطاعم، وأكل بشراهة ثم عاد إلى الشوارع يمشي دون هدف إلى أحد المطاعم، وأكل بشراهة ثم عاد إلى الشوارع يمشي دون هدف وأحس أنه وحيد على الرغم من الضوضاء والناس، ثم قادته قدماه إلى الأزقة، وأحس وهو يمشي بين البيوت الطينية أنه يستنشق بعد مرض طويل هواء حقيقياً ممتزجاً بضياء الشمس، وبدا له الأمس، مجرد حلم أسود بدده الصباح" ( ).
إن أبطال زكريا هم من أبناء الحي الفقير الذين خرجوا على أمل الفوز بحياة أفضل في حي المدينة الكبيرة (المركز) وقد تتبعنا كيف أن أبطاله يعودون إلى الأزقة الضيقة بعد طول معاناة وضياع وأنهم يرون في العودة مشفى حقيقياً.
ولكن لنتتبع الحالة النفسية لأولئك الفارين من رطوبة الأزقة الضيقة عندما يخرجون من الحي الشعبي متوجهين حيث الأضواء لاعتقادهم أنه الملاذ والأمل ؟ إنهم يبتعدون عن الحي الشعبي ابتعاد السليم عن الداء المعدي ولكن ماذا يجدون؟؟. " غادر [فواز] البيت بخطا مسرعة، وعندما أصبح في الحارة، وقف برهة، وتلفت فيما حوله، فبدت لعينيه البيوت الترابية المتلاصقة بقايا هيكل عظمي لحيوان قديم فاستأنف السير مشدود القامة سريع الخطا.. قاصداً الشوارع العريضة"( ). و " يجيء الليل كفناً أسود فيبتعد أبو حسن بخطى هارب عن حارته الخرساء، وأزقتها الملتوية المظلمة، وناسها العجاف، وبيوتها الرثة المتلاصقة، وحين يبلغ الشوارع العريضة، تبهره ضوضاؤها وسيارتها المسرعة، فيمشي بخطى ذاهلة متباطئة، مرفوع الرأس شديد الزهو بشاربيه..." ( ).
إن الإنسان الذي يطمع بمكان غير مكان إقامته – مجبراً كان أم مختاراً – ضائع لا محالة يسير في متاهات المدينة الكبيرة وليس هذا فحسب بل يتعرض لما يهين كرامته ويحقره، كما حصل مع أبي حسن الذي فقد شاربيه (رمز الرجولة) وتحول إلى مخلوق آخر بين يدي رجال الشرطة، وهذا ما نلمسه أيضاً في قصة " النمور في اليوم العاشر " التي تحكي قصة نمر عاش سيداً في الغابات (الموطن) يأكل اللحوم، ويختال بقوة، بكنه صار في القفص تحول إلى حيوان أضعف (بسبب الترويض) وصار يستمرئ الحشائش بدل اللحم.
هذه هي المدينة القبيحة والتي تبهر زائريها بالأضواء ولكن سرعان ما تكشر عن أنيابها أمامهم فتنهشهم ليعودوا مضرجين بدماء وحدتهم وتمزقهم.
إن معاناة الفرد في أعمال زكريا تقف إلى جانب معاناة الأديب على المستوى الفكري، وتجربته في الحياة بشكلها البشع الذي يحول كل قادم إلى حي الأغنياء يحوله إلى عبد مأمور وآلة مطيعة وإلى مخلوقات أخرى غير البشر. "ليتني من المدى المتوحشة المنغرسة في قلب لا تعطي أولادها سوى الجوع والتشرد والكآبة.... أنا عدو المدينة المجهول، وإني أذرع طرقاتها كضبع جائع بينما ترقد في جيبي سكين عتيقة... اشتريتها في يوم من الأيام... فقد كان من الممكن أن تنقض السكين في أية لحظة غضب على كتل اللحم المتحركة عبر خواء المدينة، وتستحم في الدم الأحمر.... ما أجمله...." ).
لقد أصبح الإنسان المشوه سادياً، يتلذذ برؤية الدماء المراقة، ويتشهى رؤية الناس وهم يتعذبون، لعل ذلك يخفف – قليلاً- من حنقه على العالم، فيضفي على البشر بعضاً من نار عالمه الداخلي الذي يحرقه ويمزقه شيئاً فشيئاً. إنها مدينة تنعدم فيها صور البراءة والمحبة " إنه قابع في داخلي.... إنه طيب بريء كطفل ولد بعيداً عن المدن"( ). ويتعاظم الإحساس بالضآلة عندما يسكن الفرد الممزق المدينة الكبيرة.
لقد عبر عن عناصر مدينة أبطاله بالمقهى والشارع فيقول: " مدينتي صليبها مقهى وشارع"( ) فغالباً ما يجوب أبطاله الشوارع العريضة يتسكعون في الطرقات سكارى، حتى إن الشارع ليحتل قسماً كبيراً من أحداث القصص وذلك لأن معظم الأحداث القصصية والمغامرات تتم عبر جنباته، كما أن المقهى هو المحطة الثانية التي يأوي إليها سكارى الشارع ومشردوه.
صورة المدينة – الرمز:
يجرد زكريا تامر مدينته – أحياناً – من قالبها البشع وتقنيتها القاتلة، ليشبهها بوجه امرأة ناضجة، عذبة رقيقة. " وكان فم المرأة عنباً فجاً أحمر، ولنهديها رائحة نبات بري "( )، فالمدن في أصلها ونقائها وبراءة نشأتها تشبه امرأة عفيفة طاهرة.
إنه التوحد بين طهر المرأة ونقائها، وطهر المدينة ونقائها عندما لا تشوبها شائبة، حتى أننا لا نستطيع التفريق بين الاثنتين ولا يترك زكريا فرصة تمكنه من ذكر مدينته المفقودة التي طالما كانت تشبه امرأة جميلة وصوتها عذب " وكان ثمة امرأة تغني... صوتها مدينة خضراء تسافر عبر شمس ناعمة الضوء.... وعصافير تبحث عن ربيع لا يرحل..." ( ). وعلى لسان بطله الممزق المشرد في الشوارع الذي يقابل في طريقه عدداً من الفتيات فتبتسم له واحدة منهن ابتسامة حانية تضيء وجهها الوديع، عندها يشعر بالحسرة والأسى ويقول: "أواه أيتها الفتاة الطيبة... إني لا أستحق ابتسامتك، فلو تمهلت في سيرك ربما دنوت منك وقلت: سأكون إنساناً طيباً لو كانت مدينتي مثلك"( ).
ويقول أيضاً: " لقد أحببت إحدى الفتيات في يوم ما.... أحببتها بقوة مثلما أحب الخبز والشوارع. لكن الحب لم يمنحني سوى الكآبة.... كذلك منحني نظرة جديدة إلى المدينة التي أعيش فيها، فأصبحت أجدها سخيفة قاسية"( ).
إنها قسوة المدينة التي يصعب العيش فيها بجو يورث الفرح، إنها مسكونة بأرواح سيئة تطارد كل المحبين، وتغتصب الفتيات البريئات فتتحول فكرة الحب إلى كابوس مدمر، " وتابعت سيري في تلك اللحظات كانت المدينة مومساً عجوزاً ذات وجه شاحب متعب لا يعرف الابتسام"( ).
إن تصور الشاعر الحديث للمدينة في صورة امرأة ثم في صورة امرأة متعهرة يكاد يكون قسطاً مشتركاً بين عدد كبير من الأدباء"( ) هذا ما يراه الدكتور إحسان عباس مقاساً على الشعر ويعلل استعمال هذه القرينة (المرأة – المدينة) بأن المدينة في اللغة مؤنثة وفي معظم الأحيان كانت حركة التاريخ ضد المدن فتحاً واجتياحاً واغتصاباً لها ولنسائها ولمواردها، وهي ما تزال كذلك حتى يومنا هذا فلا يجد الأدباء بداً من ربط هذين النموذجين بعضهما ببعض للتعبير عن مأساة الإنسان العربي المغتصب.
المدينة الماضي:
تناول زكريا المدينة في الماضي كما تناولها في الحاضر ؛ وذلك في محاولة لإيجاد صورة حقيقية مضيئة ترضي طبيعة أبطاله ونفسيتهم لكنه عبثاً يحاول نبش الماضي لأنه لم يعثر على مدينته كما لم يعثر عليها في الحاضر "وكان هناك باب كبير من أبواب المدينة، باب قديم كان يغلق فيما مضى من الليالي ليحمي المدينة من أعدائها " ( )، "وكان الباب فيما مضى قسماً من سور حجري شاهق، يطوق منازل المدينة ويحميها من الأعداء، ولقد فتح الباب مرات عديدة، والآن لم يبق سوى أطلال مبعثرة، وظل الباب مفتوحاً"( ).
فمن أهم سمات المدن القديمة: الحصانة إذ تملك المدن الصغيرة سوراً عظيماً يحميها من الأعداء، وذلك لوعي أهلها وإدراكهم مدى شدة الخطر الخارجي وقسوته، لكننا اليوم لم نعد نرى ذلك لذا سهل على الأعداء اغتصاب المدن وتشويه صفائها.
" وكان ثمة مدينة صغيرة بلا أسوار، أهلها يؤمنون بأن الله موجود في كل مكان... وكان أهل المدينة مغرمين بالنراجيل.... ولم تجد جيوش جنكيز خان صعوبة كبرى في اقتحام المدينة... واستعاد أهل المدينة حبهم للنراجيل والدربكة، والحديث عن الله الموجود في كل مكان"( ).
تمتاز مدينة الماضي أيضاً بصغر الحجم الذي يوحي بالبساطة ويخلو من التعقيد العصري الذي ينبذه أهل المدن. وهي مدينة تثير الذكريات البريئة المغلفة بجمال الطبيعة، وبساطة الناس " كان في قديم الزمان، مدينة صغيرة ينبت وسط حقول فسيحة خضراء يرويها نهر سخي المياه. وكان ناسها جميعاً يحملون في جيوبهم قطعاً من الورق السميك كتب على كل منها اسم من الأسماء.... " ( ).
لقد صرح زكريا باسم مدينته الصغيرة إنها دمشق الوديعة المنيعة التي انهارت أمام الأعداء " حكي عن دمشق أنها كانت في قديم الزمان سيفاً أرغم على العيش سجيناً في غمده، وكانت طفلة تثقل الأصفاد خطوتها. وكان ياسمينها ينبت خفية في المقابر مرتدياً أكثر الثياب حلكة، فلما علم أعداؤها بأحوالها سارت إليها جيوشهم، وبنت حول أسوارها سوراً من قتلة، لا يعرفون النوم فعم دمشق الذعر والارتباك والسخط، وتراكض أهلها وتحلقوا حول قصر ملكهم صراخاً مضطرباً مستغيثاً...." ( ).
فما زال الظلم يحدق بدمشق النائمة الرازحة تحت حكم مستبد وما زالت صورة الماضي الجريح تنزف حتى هذا اليوم " أقبلت الاستغاثة ليلاً إلى دمشق النائمة طفلة مقطوعة الرأس واليدين، وتراباً يحترق، وطيوراً تودع أجنحتها السماء، غير أن أهل دمشق كانوا نياماً، فلم يسمع الاستغاثة سوى تمثل من نحاس لرجل يشهر سيفاً...." وفي نهاية القصة يقول:
" وأغمض يوسف العظمة عينه، وأحس بأن شرايينه تمتلك آلاف الأجنحة التواقة إلى فضاء رحب، فأطلق استغاثة، التقت بالاستغاثة الآتية من أرض يحتلها الأعداء، وامتزجنا في صراخ مديد تبدد في ظلمة الليل المهيمن على دمشق النائمة" ( ). وما زالت حتى الحاضر نائمة لا تسمع الاستغاثة التي تهز عظام الأجداد.
إن الاتكاء على نماذج بطولية من التاريخ وقمعها والاعتماد على تشويه لصوره الطفولة المقطوعة الرأس وخلاف ذلك من صور دموية شرسة لتعكس بشاعة الوضع كل ذلك نتيجة بركان من آلاهات المحترقة داخل إنسان فتته التشرد. فالزمان بماضيه وحاضره غير قادر على خلق أمن وطمأنينة لمدينة مسالمة، إنها المدينة التي ضاعت عبر التاريخ سلباً واغتصاباً، واليوم يشتد ضياعها أكثر فتجعل متنفسها تعذيب ساكنيها وتجريدهم من إنسانيتهم، وذلك حتى يستمر الغيثان بين دوائر الحلقة المفرغة (الزمان – والمكان).
يحلق عباس في السماء، ناظراً إلى مدينته الصغيرة في الأسفل فرأى مدينته التي ولد فيها صغيرة تتحلق حولها حقول خضراء، فغمره حنان جارف، فانحدر نحو مدينته بلهفة، وحلق فوق بيوتها، يرتجف في شرايينه حب عميق، ورغبة في بكاء حار، وبغتة دوى طلق ناري منبثقاً من المدينة، واخترق رأس عباس الذي شهق برعب ودهشة، ثم هوى إلى أسفل"( ).
بذلك تبقى مشاعر الحب والحنين تغمر أفراد زكريا نحو مدينتهم رغم قسوتها عليهم إلا أن هذه المحبة لا تجد طريقها، فتموت حيثما نشأت، وتذبل كل الورود قبل أن ترى النور.
المدينة الرؤيا:
لم ينجح البطل في استدرار الأمن والسلامة من المدينة الماضي ولم تسعفه الذكريات كي يستعيد ثقته بنفسه، لذا لم يجد مناصاً من البحث عن البديل إنها المدينة الجديدة (الرؤيا)، سيبدأ بطل زكريا في محاولة إصلاح الحاضر فهل يستطيع ؟ سيهدم المعامل التي قتلت إنسانيته وحولته إلى جزء من الآلة وسيتسلق قمة الجبل يزيل الغشاوة عن حقيقة المدينة الزائفة أو ربما مدينة أفضل (المدينة الفاضلة)، وربما في صعوده لقمة الجبل تعبير عن استعلائه على مدينته تلك وسحقه لها تحت قدميه.
سيصنع مدينة، سيرسمها في خياله ويسافر عبرها، سيرحل وسيضنيه البحث عن مدينة جديدة تحمل رؤاه وتعبر عن وجوده... لكنه في النهاية سيعود ؟! " ليعيش البشر ببراءة، تنقذ مدينتي من تعاسة متوحشة" ( ).
ويزداد الشعور بضرورة رفض واقع المدينة الذي يعمق غربته في وطنه، سيبحث عن الحل أينما كان، " لقد أضاع بدوي خيمته، وها هو الآن في مدينة جاثمة تحت أقدام جبل. يوسف يتسلق الجبل سيصعد الجب حتى قمته"( ) كما " عاش محمد أعواماً مديدة في مدينة صغيرة تقبع بذل عند أقدام جبل شاهق.... وكانت سماء المدينة سوداء لا تملك قمراً وشمساً ونجوماً... وأخذ محمد يتجول في جنبات الغرفة... وتخيل فجأة جبل مدينته الشامخ، محمد سيتسلقه... سيبلغ ذروته التي لم تطأها قد إنسان..... سيستنشق هواء القمة.... وستكون مدينته مستسلمة لنظرته المفترسة.... ستكون عندئذٍ كدمية مهشمة"( ).
إنه يحلم بأن يحقق تغييراً ما، ربما يحمل سعادته " سأحول المدينة إلى قرية كبيرة محاطة من كل جانب بحقول خضراء ممتدة إلى ما لا نهاية وسيكون لهذه القرية مساحة فسيحة جداً، سيجتمع فها كل مساء جميع السكان.... وسيشعر أصحابها أثناء الغناء بأنهم أخوة.... وبأن الحياة مليئة بالمسرات المختبئة.... سيتحولون إلى أطفال كبار يعيشون بسعادة وسلام"( ).
لكن هذه الصورة ليست نهائية مطلقة، بل تتعدد الرؤى، وتمتزج مشاعر النقمة بالحب، وذلك تبعاً لانعكاسات نفسية الشخصيات ومدى تعرضها للعامل سلباً وإيجاباً، وغالباً ما يعكس الحلم مشاعر البطل في لحظة مأزومة، ويمكن القول بأن هذه الرؤية تحاكي رؤية الرومانسيين للعالم الجميل المسالم، فيبتعدون عن الضوضاء والصخب ويحملون بقرية مليئة بالخضرة، وغالباً ما يتمنون الانفراد بهذا العالم لجميل والبعد عن البشر " كنت أحلم بأن أغدو ملكاً.... وأنا ما زلت أتمنى بأن أصبح ملكاً في مدينة ناسها من حجر" ( ).
ولكن ما عادت الأحلام والرؤى الرومانسية بقادرة على تغيير المدينة، تغييراً يحقق سعادة الإنسان الذي يعاني من صراعات قاتلة مدمرة لذا سيتقدم في أحلامه نحو الرفض، سيحلم بالرحيل لعله يكون المعادل الحقيقي لسعادة الإنسان، " وتنهدت بارتياح ثم أغمضت عيني، وعدت أحلم بالرحيل إلى مدينة شنقت الجوع والكآبة والضجر..." ( ).
وفي محاولته لإيجاد معنى لوجوده، يلجأ إلى الرحيل لعله يعثر على مدينة تعطي معنى لوجوده " آه ما أجمل الحياة هناك في تلك المدينة.... سأرحل في يوم لابد من مقدمه، وسأترك خلفي مدينتي المكتظة بالجيف المتحركة"( ) ويقول في موضع آخر " ولكنني سأكون سعيداً لأني سأشاهد وجوهاً ومدناً جديدة... ربما عثرت أثناء طوافي على مدينتي التي أحلم دوماً بإمكان وجودها، مدينة من نوع جديد، غريب، شنقت الجوع والكآبة والضجر... لا تاريخ لها... أيامها تمر بلا أسماء، والسماء، والقمر والربيع، والنهار.... كل هذه العناصر طليقة حرة "( ).
من خلال هذه النماذج يتضح لنا كم يرنو بطل زكريا إلى الحرية المطلقة والحياة الخالية من كل زيف. غير المرهونة بزمان محدد ولا هوية واضحة، فعلى الإنسان أن يسعد بحياته كإنسان بعيداً عن الزيف والقمع، والتسلط، لذا نادته الحرية المطلقة وناداه الأفق وها هو يتقدم للرحيل " غير أن البراري الخضراء التي لا أفق لها كانت تناديني بشوق، تنادي الرجل المتعب وجواده"( ).
لقد ناداه الأفق منذ المجموعة الأولى، فالبطل واحد في مختلف المجموعات ولو اختلفت المسميات. وغادر البيت " وغادر البيت وتحول إلى متشرد يذرع الأرض. وفي اليوم السابع بلغ مدينة حجرية المباني، وكان ناسها جميعاً من خشب.... ونعب الغراب وتجول الرجل حزيناً في طرقات المدينة الصامتة، بينما كان الغراب يتبعه بإصرار... "( ) وتمكن بعد ذلك من إنقاذ هذه المدينة من الساحرة الشريرة التي حولت كل ما فيها إلى خشب ولكن لم يأبه له أحد، ولم تمتد يد لمصافحته، وافترسته وحشة شرسة فغادر المدينة حزيناً، فكل المدن مثل مدينته، جامدة ناكرة للجميل لكن سيكمل المشوار لعله يجد مدينته الأمل " لن أموت سأمشي وحيداً في المدن المقفرة... وقصدت المدينة الكبيرة، وأنا متلهف لرؤيتها وقد وجدتها ذات شوارع عريضة... أحسست وأنا أرمقها بضآلة عجيبة "( ).
وما زال بطل زكريا يفتش عن مدينته (نفسه المفقودة) إنه يفتش عن أجنحته التي سرقتها المدن ولن يعيدها أحد سوى البحر " الأمل". إلا أنه بدأ يشعر بحقيقة نفسه الممزقة " فصدمتني في البدء نظرة عيني الباردة المظلمة، ولكني سرعان ما شعرت بأنها منبثقة من صميمي... أنا النظرة الباردة المظلمة، البحر بعيد... وأنا متعب.. سأعود إلى البيت"( ).
لقد أصناه البحث عن المدينة الفاضلة (البحر) فانبثقت النظرة البادرة من داخله، لذا لن يكمل مسيرة الترحال والبحث المضني ويكفيه أنه اكتشف حقيقة كل المدن، فعاد أدراجه...
" ها هي مدينتي متسولة نائمة... وقد التقيت برجل مذعور أنبأني بأن مدينتي غزاها رجال غرباء قساة، ونصحني بالابتعاد عنها، ولكن حنيني إليها كان أقوى من أي رعب... ها هي مدينتي المتسولة النائمة، ميت ربيع حقولها الأخضر....." ( ).
إن عودة المتشرد إلى مدينته المغتصبة بعد طول غياب بحثاً عن الأمل جعله يكتشف حبه وصدق حبه لمدينته، وربما أنه لو لم يهجر مدينته لما استطاع الأعداء اقتحامها. ورغم أحلامه الوردية بقرية كبيرة إلا أنه ابن المدينة الكبيرة والتي ولد فيها، وسيظل مشدوداً إليها حتى الموت، لأنها قدره الذي لا يستطيع مقاومته، كما أنها رمز الاستسلام وعدم الرغبة في إحداث التغيير. فالشعور بالضياع والغربة أمر يلازم البطل حتى يفقده إنسانيته ووجوده ويتيه في خضم هذه الحياة. يمارس ألوان القمع على الأبناء والمرأة والحيوانات بروح سادية شرسة.
الموقف من التراث:
التراث هو ماضي الثقافة الإنسانية، سواء أكان على صعيد الفن، أو الأدب، أو الفلسفة، أم على الصعيد الاجتماعي المتمثل بالعادات والتقاليد، والتراث بمعنى أشمل: هو التركة الفكرية، والروحية التي يتناقلها جيل عن حيل( ).
ويعد التراث مصدراً أساسياً من مصادر الإبداع والنشاط الفكري في الحياة الإنسانية، كما لا يتحقق وجود أمة من الأمم دون أن تتواصل مع تراثها، إما محاورة، أو مجابهة، أو حتى ثورة عليه( ).
وقد استعان الأدباء العرب بالتراث الإنساني بعامة والعربي بخاصة وتمسكوا بع في أثناء وقوع الأمة تحت خطر يهدد كيانها، وقد كثرت الدراسات التي تناولت قضية التراث في الأدب العربي في فترة السبعينات، والتي تعد فترة التحديثات أمام المتغيرات التقنية والسياسية، يقول محي الدين صبحي: " إن مسألة التاريخ العربي والرجوع إلى أحداثه تشكل أحد الخطوة الرئيسة في ملامح أدب السبعينات"( )، حيث كثر استخدام الرموز التراثية بعد حرب 1967، لما أحدثه هذا التاريخ من تغير في حياة المواطن العربي.
وتعود أسباب العودة إلى الموروث إلى غنى الإمكانات التي يتمتع بها التراث، وبسبب اكتسابه لوناً من القداسة في نفوس الأمة، ووجداناتها فيضفي الأديب نوعاً من الأصالة الفنية على أدبه ( ). وبسبب من الغربة النابعة من شعور الأديب بما يسود العالم من زيف وتعقيد وتصنع تجعله قانعاً بالارتداد نحو الموروث القديم كي ينهل منه ما يريد فيتكئ على الرمز التاريخي لا ليقوله، بل ليضيء من خلاله العصر بالخوف والحروب والجوع، والمشبع بالنضال في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية ( ).
ان العلاقة بين الأدب والتراث علاقة جدلية بحتة فلا يقبل الأديب التراث كله، ولا يرفضه كله، بل يم تفاعل وتجاذب بينهما حتى ينتج الأدب الأصيل، الذي فجر الطاقات الكامنة في النصوص التراثية وتم توظيفها حسب موقف الأديب الشعوري ( ).
لقد استلهم زكريا تامر المضامين التراثية المختلفة فاتكأ على الموروث التاريخي تارة، والأدبي تارة أخرى، وكذلك الموروث الشعبي في بعض الأحيان، فوظف رموزاً مفردة ثائرة ومتمردة مستمدة من التاريخ العربي الإسلامي جاءت من خلال وعيه للماضي – إذا اشتعلت الفكرة في ذهنه وكانت نواة قصصه ومقالاته المشبعة بالنفس التراثي – وفهمه للحاضر واستشرافه للمستقبل. وسنتناول بشيء من التفصيل هذه المضامين:
الموروث التاريخي:
إن اشتداد تناقضات هذا العصر، وسياسات القمع والانهزام الممارس على الشعوب، جعل أدباءنا يفكرون باستعارة شخصيات تاريخية ينطقونها من خلال الواقع، فمنهم من استنجد بها ومنهم من نسف الحاضر من خلالها ومنهم من رصد إمكانية تعايشها مع الحاضر، لو قدر لها ذلك. ( )
اختبأ زكريا خلف بعض الشخصيات ليعبر عن موقف يريده، محاكماً نقائض العصر الحديث من خلالها، فعبر عن كثير من القضايا المصيرية المعاصرة وعن الغربة التي يعيشها الإنسان العربي مقنعاً بعمر(1) المختار وطارق بن زياد، ويوسف العظمة وغيرهم.
ولم يهتم زكريا بالتحقيق التاريخي للشخصيات المنتخبة وذلك لأن الأهمية – في رأيه- لا تقع على بعث الماضي، بقدر ما تقع على إمكانية محاكمتها في ضوء المفاهيم العربية المعاصرة، وغالباً ما يتهاوى الماضي بشخصياته أمام تأزم الحاضر وبيروقراطيته.
كما أن تعامل زكريا مع التاريخ جاء على أساس الاستمرارية، فاستطاع أن يدمج القديم في روح العصر دون قيود الدلالات التاريخية، فيقبض على طارق بن زياد، وعمر الخيام، ويوسف العظمة، ليعيد محاكمتهم من جديد ويلغي الفواصل بين الماضي والحاضر، والحياة والموت ليسلط
الضوء على حجم التناقض بين المثل والأحزان، والصمود والاستسلام فيكشف عن أخلاق الواقع وانتهازيته( )، وبذلك، تندمج الرؤى القديمة ببطولاتها بالرؤى المعاصرة وزيفها، ويتداخلان حتى يصبحا جسماً واحداً فتعيش القصة بقناعها الماضي والحاضر معاً لتنتج صوتاً ثالثاً يكون هو صوت المستقبل واستشرافه.
ويمثل طارق بن زياد في قصة " الذي أحرق السفن" أمام المحقق بتهمة تبديد أموال الدولة لأنه أحرق السفن، فيدافع طارق عن ذلك بأن حرق السفن كان لا بد منه لكسب النصر، إلا أن طارقاً لم يعرف بأن النصر ما عاد يهم المحقق والأهم من ذلك هو الإذن بحرقها، إذ لم يحصل طارق على إذن من رؤسائه بحرق السفن، فتثبت خيانته وينفذ حكم الإعدام( ).
لقد انتفى الهدف من المضمون وتحول العالم المعاصر إلى روتين، ويقول أحمد محمد عطية بأن هذه القصة قد كتبت بعد مأساة 1967 التي وقعت بسبب عدم وجود أمر للقواد باستعمال الأسلحة( ).
لقد تقنع زكريا بطارق بن زياد، كي يسلط الضوء على مأساة العصر الحديث بواقعة السياسي المستبد وبيروقراطيته القاتلة، فخرج طارق بن زياد من قبره كي يعترض على فساد المجتمع والسلطة والإدارة فصاح بنزق: " حملتهم السلاح وجلستهم وراء المكاتب تحتسون الشاي والقهوة، وتتحدثون عن الوطن والنساء"( ).
وتحكي قصة " الاستغاثة" حكاية تمثال يوسف العظمة( ) الذي دبت فيه الحياة حال سماعه استغاثة تجلجل في سماء دمشق، ويدور حوار لاذع ساخر بينه وبين الحارس الليلي الذي يستوقفه مستغرباً كونه يحمل سيفاً، كما يستخف الحارس بيوسف العظمة عندما يخبره بأنه وزير الدفاع قائلاً: "الوزير لا يمشي في آخر الليل كالشحاذ، بل يركب سيارة طويلة عريضة والوزير لا يحمل سلاحاً بل يرافقه دائماً شرطي مسلح بمسدس" ( ). ويتعاظم حوار المتناقضات حتى ينتهي المطاف بيوسف المعاصر إلى مستشفى المجانين. بذلك نجد أنفسنا أما رؤى متباينة تجمع الزمانين (الماضي والحاضر) فميسلون زمن مضاد لحزيران بمعنى من المعاني وفي هذا القناع بيان إلى أنه لا يمكن أن ينسجم الماضي ببطولاته، مع الحاضر بانهزاماته، كما أن الواقع المر لا يمكن ن يفهم بطولات الماضي إلا على أساس من التمرد والعصيان والفوضى.
وفي قصة الجريمة، يتقن زكريا بشخصية سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر صبيحة 14 حزيران عام 1800( )، فيستعير من هذه الحادثة الشخصية وحسب، كي يطعمها بحادثة عصرية خاصة تساهم في إدانة الواقع، إذا كان سليمان الحلبي رجلاً بسيطاً يعيش مع أسرته بهدوء وسلام إلا أنه اقتيد بتهمة أنه رأى في المنام (لاحظ التهكم) أنه يقتل الجنرال كليبر حتى إن أمه وأباه وأخته قد شهدوا عليه بهذا الجر م، إلا أن سليمان الحلبي ينكر جريمته تلك.
لقد أنكر سليمان الحلبي جريمته لأن المجتمع هو الذي اضطره لذلك وأن حياته أصبحت مستحيلة في خضم المطاردات على قاعدة زكريا الوجودية القائلة " لماذا ولدت ما دمت بريئاً، أنت مجرم وكنا نراقبك منذ أمد طويل" وتتضح بذلك طبيعة هذا الواقع الذي يدفع الأبطال إلى التخلي عن بطولاتهم،
كما لا يمكن لهذا الواقع أن يعطي فرصة نضالية كهذه لأي فرد من الأفراد تراوده نفسه بعمل أمر ما، عندها سيموت قبل أن يستيقظ من حلمه.
ويتدلى عمر المختار من أعواد المشنقة، منكساً الرأس، غير آبه للحارس المكلف بمراقبته، فيشنق الحارس دمية كانت بيد طفل صغير تعبيراً عن حنقه الداخلي، وتفريغاً لما بداخله من قمع وتمزق ن عندها يبكي عمر المختار بسبب طحن الإنسان الذي تحول إلى آلة صماء قاتلة.
إن موت عمر المختار الحقيقي لم يمنع الشمس والأحلام عنه كما لم يمنع الناس أن تذكره وتذكر بطولته في حركة الجهاد الإسلامي لمقاومة الاستعمار، في حين أن موته أمام الحارس قد وارى الشمس عنه، لأن الأشياء الجميلة ماتت أمام القوى الظالمة.
إن عمر المختار تعبير عن العدالة المشنوقة أمام انهزام الإنسان، فمات وترك المشنقة ليبحث عن تربة يتوارى فيها عن بشاعة هذا العالم مبللاً بالدموع الحارقة ( ). بذلك يكون الواقع قد اغتال الذكريات الخالدة وواراها التراب.
وفي قصة " الطائر" تقنع زكريا بشخصية عباس بن فرناس الذي صنعت له قططه الثلاث أجنحة ليطير بها كي تسري عنه حزنه الشديد بسبب فشل حبه لنهلة، وبسبب جوعه الذي حوله إلى ناقم مدمر لقد أسقط زكريا تامر على هذه الشخصية كل ذاتية الفرد الممزق، ومزج بين هاتين الشخصيتين لتتجسد رؤيته الناقمة على المجتمع.
لقد وظف عدداً غير قليل من الشخصيات التراثية ذات البطولات والانتصارات بأسلوب ساخر متهكم، كي يعكس سذاجة المجتمع وهشاشة بطولاته المصطنعة. فخالد بن الوليد يعلل أسباب بطولاته لملح أندروس الفوار الذي يشربه كل صباح ( ).
هذه نماذج من العلماء والأبطال، والمخترعين، تمثل الوجه المضيء في تاريخنا إلا أن زكريا تامر كان قد سخرها عكسياً لتوليد نوع من المفارقة التصويرية بهدف إبراز التناقض الحاد بين روعة الماضي وتألقه، وظلام الحاضر وفساده.
ويبقى السؤال: لو قدر لهذه الشخصيات أن تعيش في زماننا هذا، هل تبدع كما أبدعت في الماضي ؟ لقد كشف زكريا عن الأطر والمفهومات الزائفة التي تحكم حياتنا الراهنة، والتي لو تحكمت في حياة من سبقونا لسحقتهم، وأهانتهم، وحرمتهم الحرية والمبادرة في الأزمات ؛ لأنها ليست سوى مزيد من القيود الخانقة للإبداع والفداء والمبادرة.
لم يقصر زكريا نماذجه على الجانب المضيء من التاريخ ببطولاته وتضحياته، بل تقنع بصور بعض الحكام والأمراء والقواد الذي يمثلون الوجه المظلم في التاريخ، سواء بسبب استبدادهم أو انحلالهم وفسادهم، ففي قصة " اللحى"( ) يتلاعب بالماضي والحاضر فيصور تيمورلنك ( ملك المغول وحفيد جنكيزخان الذي احتل العالم وصارع العثمانيين) ( ). شاباً صغير السن له عينا طفل وابتسامة عجوز، يكره إراقة الدماء، كما أنه لا يبغي ذهباً أو نساءً فيصوره على نقيض حقيقته المدمرة، إلا أنه لم يغير الجوهر ولو اختلفت المسميات، وذلك عندما احتل دمشق بالحيلة عام 03هـ، فهزم المماليك بدهائه وحيلته، وها هو ذا اليوم يهزم القائمين على دمشق " أصحاب اللحى" رمز الدين، الذين ربطوا وجود المدينة وحريتها بوجود لحاهم، لذا تفرقوا أيدي سبأ، واستطاع تيمورلنك أن يلطخ اللحى بالدماء.
وفي قصة جنكيز خان منشئ الإمبراطورية المغولية( ) يتعامل زكريا مع هذه الشخصية المستبدة المدمرة على أنها طاهرة في أصلها وترنو إلى الصفاء والتطهر إلا أن قذارة الزمان تضطره لأن يقرض العالم قبل أن تقرض الجرذان لحمه وذلك بعدما رأى – في الطريق – طفلاً مات جوعاً فقرضت الجرذان لحمه، لذا قرر – ببشاعة – ألا يموت جائعاً فلبس دروعه، ونظر إلى العالم بتشف، وتخيل طوفاناً من الفولاذ المصهور يجتاح الأرض كلها( ).
الموروث الأدبي:
وكما وجد زكريا تامر في الموروث التاريخي – على الصعيد السياسي والعسكري والفكري – ما ينشد من شخصيات وأحداث، وجد كذلك في الرموز التاريخية الأدبية ما يسعفه في التعبير عن آرائه وأفكاره.
ففي قصة " المتهم" يساق رفات عمر الخيام إلى المحاكمة بتهمة كتابة شعر يمجد الخمرة، والدعوة إلى شربها، ونحن نعلم أن هذه التهمة قديمة لأسباب دينية، لكن زكريا اليوم تلعب بالأسباب فعزاها إلى الأوضاع السياسية والاقتصادية، فالدعوة إلى الخمرة – حسب رأي القاضي – " دعوة سافرة إلى استيراد البضائع الأجنبية، وتنفيذ لمخطط مشبوه يهدف إلى إثارة الشغب"( ).
حتى الشنفرى الصعلوك الجاهلي رمز الثورة والتمرد على القبيلة وعنصريتها الذي هام في الخلاء بحثاً عن قوم جدد يستبدلهم ببني البشر بعد أن قتل تسعة وتسعين رجلاً فقد تبدلت حاله وباع سيفه منذ سنين، وعاش في مدينة تفترسها شمس من نار، وعلى الرغم من حبه للورد والكلمات والنجوم فإن الورد في النهاية ليس خبزاً، والنجوم ليست سجائر( ). لقد اتفق الشنفرى (تاريخياً) والشنفرى القناع بالإحساس بالغربة، والجوع، والوحدة، والكآبة، والاستعاضة عن البشر بالحيوان، إلا أن الشنفرى التاريخي لم يستسلم بل أعمل سيفه في رقاب البشر، وقاوم قدر الإمكان، بينما باع القناع سيفه دون أن يلطخه بدماء رجل، حتى أن القطة التي تأمل بإحداث التوحد معها خدشته في وجهه، وعاد وحيداً كما بدأ.
التراث الشعبي:
لقد ساهمت العامة في صياغة الموروث الشعبي وتداوله، كما يعد عنصراً من عناصر التراث بعامة، ويشمل الأدب الشعبي، وبعض الفنون كالغناء والموسيقا، والرقص، والمعقدات الشعبية، وغيرها( ).
وقد ابتعث الأدباء هذا التراث في أدبهم مستغلين أبعاده ودلالاته القديمة، مضيفين إليه من واقعهم الشعوري أبعاداً ودلالات جديدة.
ويرى د. إحسان عباس أن " الجاذبية في التراث الشعبي تكمن في أنه يمثل جسراً ممتداً بين الشاعر والناس من حوله... وهناك إحساس بأن الاتكاء على هذا التراث يقدم شهادة على الاعتزاز بالموروث المشترك ويكشف عن خوف دخيل من ضياع رابطة تعد مقدسة حين تتعرض أقلية ما للانسهار في تيار كبير"( ).
وتعد حكايا ألف ليلة وليلة، والسير الشعبية وكتاب كليلة ودمنة من أغنى المصادر بالتراث الشعبي. وقد استمد زكريا من ألف ليلة وليلة صوراً جزئية، فأشار إلى شهرزاد وشهريار في قصة " ربيع في الرماد"( ) وذلك حتى يكسب الواقع بعداً أسطورياً، فيتناول هذا الواقع وكأنه زمن غابر غريب إلا أنه محفور في أذهاننا. ومن خلال شهرزاد وشهريار يعالج قصة البعث وقصة عالمنا الجديد، فشهرزاد ليست الفتاة المنعمة، بل هي جارية فقيرة أعياها البحث عن شهريار الملك حتى وجدته، وكذلك شهريار إذ عاش حزيناً يبحث عن شهرزاد، فما لبث أن التقى الجسدان حتى فرقهما القدر مرة أخرى، وتنتهي المدينة على أيدي الغزاة، وتموت شهرزاد، إلا أن شهريار لا يلبث أن يلتقي فتاة أخرى يتمنى لو كان اسمها شهرزاد، ويعودان معاً نحو المدينة المحترقة ويأكلان التفاح (رمز بدء الخليقة آدم وحواء) كي يعيدا قصة الخليقة من جديد لعل في هذا البعث معنى للوجود.
أما عن حكاية علاء الدين والمصباح السحري (البعد الثالث في حكايات ألف ليلة وليلة) فقد وظفها زكريا في قصة " شمس للصغار" إذ تعرض طفل صغير يحمل بيده صحن لبن إلى مضايقات طفل آخر من ذوي الطبقة الغنية، انتهت بوضع ذبابة ميتة في الصحن ثم كسره، فجلس الطفل المسكين يبكي الصحن الذي انكسر خوفاَ من أمه، إلا أن بكاءه لم يطل فخرج له عفريت من خاتم فضي كان ملقى على الأرض، فما كان من الطفل إلا أن طلب إعادة الصحن الذي انكسر، نلاحظ من ذلك أنه لم يستغل هذه المعجزة في تحقيق مطالب الترف والبذخ كما نعرف في أصل الحكاية، إلا أنه يرنو للمحفظة على واقعه البسيط دون الخروج منه إلى حياة أفضل. هؤلاء هم أبطال زكريا يرفضون الاستعانة بالقوى الخارجية لتحسين أوضاعهم، بل يصرون على الاستسلام لواقعهم القمعي دون محاولة منهم لإحداث تغيير ما.وتتشابه قصة " أقبل اليوم السابع"( ) مع حكاية مدينة النحاس في ألف ليلة وليلة( ).
فأهل المدينة من خشب بعد أن حولتها ساحرة شريرة، وبطل زكريا فيها رجل مل الحياة وقرر الانتحار، إلا أنه أرجأ الفكرة حتى يجوب الأفياء، فتعود الحياة لأهل المدينة على يد هذا البطل الذي تساوت عنده الرؤية للحياة والموت، فكان له الفضل في عودة الحياة مرة أخرى إلا أن أحداً
لا يعيره اهتماماً أو شكراً، لذا، تمنى لو أن المدينة بقيت من خشب حتى يعمها الهدوء والسكينة. فعلى الرغم مما قدم من فضل على أهل المدينة فإنه ما زال منبوذاً ولا يجد إمكانية للتعايش مع هذا العالم سواء أقدم تضحية أم لم يقدم.
واتكأ زكريا تامر في صياغة بعض قصصه على حكايات كليلة ودمنة فكانت قصة " النمور في اليوم العاشر (1) من أروع ما قدمه من قصص رمزية، إذ لخط فيها على لسان النمر سيد الغابات حكاية الإنسان المحكوم للسلطة الظالمة، وكيف أنه يتقهقر ويضعف ولا يستطيع الصمود أمام أنماط القمع والإرهاب، فالإنسان مسلوب الإرادة لا يملك حياته ولا حريته، فيفقد حياته كلها، بل يتحول إلى مخلوق آخر كما حصل مع النمر الذي أصبح يقلد الحمار، ويرقص ويصفق لسيده ويأكل الحشائش كل ذلك حصل في غضون عشرة أيام، فكيف بأمه مضى على ترويضها زمن طويل؟!.( )
أما في قصة "الأعداء" (2) فقد حط عصفوران على غصن شجرة، ولم يغردا كعادتهما مرحبين بشمس الصباح، بل تبادلا النظرات الوجلة الحائرة وقال أحدهما للآخر: أين نطير ؟ فسماؤها احتلتها الطائرات، وحزن العصفوران لأنه لم يبق لهما سوء سماء الأقفاص إلا أنهما لا يقبلان بسماء الأقفاص بديلاً من سمائهما الرحبة التي لا سلطة لأحد عليها، لهذا السبب كان الموت أرحم لهما، وأحفظ لكرامتها فابتلعا حبوباً مميتة وسقطا على الأسمنت ميتين. ( )
من هذه الرموز، استطاع زكريا أن يعبر عن حال الإنسان الضعيف أمام قوى السلطة والآلة. كما عبر عن الإنسان الذي يرنو إلى الحرية أينما حل، لكنه غالباً ما يخسر المعركة أمام السلطات القمعية بكافة أشكالها، لذا، يكون الموت هو الرحمة الحقيقية لهذا الإنسان الممزق.
التراث الشعبي الشفهي:
كثرت الحكايات والتعبيرات الشعبية والأغاني والمواويل التي غالباً ما تتردد على ألسنة الناس في الوسط الشعبي مشافهة، فتغدو محفورة في أذهان الناس. وقد ركز زكريا على الحياة الشعبية الدمشقية فعني عناية خاصة بالأحياء الشعبية كالتي خرج منها (البحصة) وطبيعة تفكير الناس فيها، ولباسهم، وسلوكهم، وموقفهم من التحرر، وسفور المرأة.
ففي قصة " في ليلة من الليالي"( ) يظهر أبو حسن شخصية شعبية من إحدى حارات دمشق الأصيلة، الذي يعد من أهم قبضايات الشام، شديد الزهو بشاربي (رمز الرجولة) ويسرد حكاية الرجل الذي تفاخر بشاربيه ففار بابنة الملك، للطفل الذي قتل أمه، لأنها طبخت طعاماً رديئاً.
ومن النماذج الشعبية أيضاً صياح وقاسم في قصة " الراية السوداء"( ) اللذان يمثلان النمط الشعبي الجاهل، فيحاربان كل نمط من أنماط التغيير أو الثقافة ويعتزان بمعتقداتهما الشعبية فقط، فيصطدم هذان الشابان ذوا السراويل الطويلة والشوارب المفتولة بغسان الشاب المثقف الذي يرتدي بنطالاً ويحمل كتاباً في يده، فاصطدمت مراجل الجهل بالحضارة والثقافة وكانت النتيجة أن انهزم غسان ووقع صريعاً بين أيدي هذه النماذج التي تقاوم كل تغيير وكل جديد، وغسان نموذج ورمز لكل شاب مثقف يدعو إلى التسلح بالعلم، وهو النموذج الذي يرسمه زكريا في كل مواطن من مواطن أعماله.
لقد استعان زكريا ببعض المواويل الشعبية في قصة " السهرة"( )، فجاءت حزينة تفوح منها رائحة الغربة، والضياع، والجوع، وتسلط القوي على الضعيف، وفقدان الصدق، فأبو شكور وأبو قاسم نموذجان لقبضايات حارة السعدي في الشام( )، وفي يوم من الأيام يصطحب أبو شكور أبا سمير إلى المقبرة حيث قبر والده ويجلسان على القبر في الليل، ليقيما سهرة تصدح فيها المواويل والسكر، فالغناء والسكر عاملان متكاملان عند الهروب من الهموم الاجتماعية والسياسية.
" سبع آهات ممزوجة بلب الكلام
الأوله آخ من فعلك يا شام
والثانية يا حيف ضيعت أيامي
شبه السحابة بين الريح يذريها
ودربي كحد السيف يا شام قدامي" ( )
هذه صورة الحياة الممزوجة بالآهات في نظر أبي شكور، فما معنى يرهب الإنسان المسؤول في العمل ما دام هذا العمل لا يطعم خبزاً ولا يقي خمراً، وفي ذلك دعوة تحريض ممزوجان باليأس واللامبالاة فيهرب أبطال زكريا من سوء الحال إلى مكان أسوأ لا يمت للحياة بصلة (المقبرة)، ويزداد إحساسهم بالمرح (لاحظ المفارقات) فيدندنون:
هز التوتة يا توات
توتك حلى يا توت ( )
كما طعم زكريا بعض قصصه بالحكايات الخرافية، مثل الخروف الذي يتحول بين يدي أبي فهد في قصة " شمس صغيرة"( ) إلى ابن ملك الجان، فيمنه بسب جرار من الذهب مقابل أن يتركه وشأنه، فيتغلب الطمع (الرغبة في الغنى) على لحظات الجوع عند أبي فهد ويلقى مصيره على يد سكران متسكع، في حين أن زوجته تنتظر عودته محملاً بالذب. بذلك، تكون أحلام الفقراء ليست ملكاً لهم، وأنه محض الحلم بحياة رغيدة يقتل صاحبه، فعلى الفقير أن يبقى فقيراً حتى النهاية. فيواري زكريا العالم الواقعي خلف هذه الخرافات، ومن ثم يركبه تركيباً واقعياً جديداً مغايراً لما هو مألوف، فيقدم ذروة الالتحام بين الخرافات الشعبية والواقع المعاش مكسباً كلاً منهما بعداً غرائبياً جديداً ليقتربا معاً نحو الوجدان الشعبي.
ويضيف زكريا نمطاً آخر من أنماط الخرافة الشعبة متمثلة بأوهام المشعوذين والعرافين، فتذهب المرأة في قصة " امرأة وحيدة " (1)، إلى العراف المشعوذ كي يبقي لها زوجها مخلصاً، فيستغلها هذا المشعوذ إشباعاً لشهوته، في حين تظن المرأة بأن الجان تطرد الشياطين من داخلها فتستسلم للذة ساحرة.
وحتى لا يصرف زكريا النظر عن هدف العمل الفني، اكتفى بالاتكاء على بعض الحكايات الشعبية والخرافات والأساطير دون إسفاف في العمل الفني، لذا، ظهرت هذه التضمينات على شكل أخلية مناسبة رقيقة لا تصرف الذهن عن أهداف زكريا التي ينبغي إيصالها للقارئ. ( )
الموقف من السلطة
لعبت السلطة دوراً مهماً في تعميق مفهوم الاغتراب عند بطل زكريا، كما عبت الحياة الاجتماعية، والفكرية، والشعبية، والاقتصادية هذا الدور من قبل.، وبخاصة بعد حرب حزيران إذ ازداد شعور الإنسان العربي بالانفصال عن مسرح الأحداث، وتعمقت الفجوة بينه وبين السلطة وتعمق الشعور بالعجز وفقدان القوة كذلك، فالدولة هي صاحبة القرار، ولاحق للفرد في المشاركة في أ قرار تتخذه السلطة، لذا تعالت عليه وبدأ يشعر بالكبت وسلب الحرية في القول والعمل، والتخطيط، والمشاركة، والمعارضة.
ويصور زكريا الحالة التي وصل إليها الفرد من التمزق في علاقته مع السلطة فيضطر مواطن ما أن يبعث برسالة إلى مدير الشرطة مفادها " من مواطن مثالي إلى السيد مدير الشرطة ن خضوعاً لأوامركم، أرجو السماح لي أن أموت" ( ). فلا يعود قرار الموت بيد الخالق بقدر ما هو مسيطر عليه من رجال الدولة وفي ذلك تصوير ساخر لكل القوى التي سلبت الإنسان حريته في العيش أو اللاعيش، وهذه أقصى درجات سلب الحرية التي تتناسب عكسياً مع الاغتراب، فكلما قلصت حرية الفرد، تعمق شعوره بالاغتراب وفقدان الأمن.
ويذهب زكريا أبعد من ذلك فيقول: " في اليوم الأول خلق الجوع، وفي اليوم الثاني خلقت الموسيقا، وفي اليوم الثالث خلقت الكتب والقطط، وفي اليوم الرابع خلقت السجائر، وفي اليوم الخامس خلقت المقاهي، وفي اليوم السادس خلق الغضب، وفي اليوم السابع خلقت العصافير وأعشاشها المخبأة في الأشجار، وفي اليوم الثامن خلق المحققون فانحدروا توا إلى المدن، وبرفقتهم رجال الشرطة والسجون والقيود الحديدية"( ). هذه هي أقطاب حياة بطل زكريا التي يكررها في معظم قصصه، فقد أفرزت البرجوازية الصغيرة فرد زكريا، الذي يتمتع بثقافة جيدة، فيهوى قراءة الكتب وسماع الموسيقا، ويحب القطط والعصافير و الخضرة التي تعمق الانتماء وتثير لواعج الرومانسية، كما أنه فرد لا يستطيع أن يحب العمل، لأن العمل جزء من أدوات القمع والتقييد والاغتراب عن الذات لأنه يستخدم كشيء من الأشياء. ويهوى الجلوس في المقاهي والملاهي كنوع من الخلاص، فيضفي زكريا على هذه السمات صفة القداسة لأنه يرسم بدقة اغتراب بطله. إنها قصة الخلق والتكوين، فالله عز وجل خلق الكون في ستة أيام ثم استوى على العرش في اليوم السابع لكن أقطاب الحياة عند فرد زكريا خلقت في سبعة أيام وفي اليوم الثامن – خارج حدود الأسبوع – تأتي القوة الوحشية لتغتال العالم، وبذلك، تكون هذه القيود موجودة بوجود الخليقة، لذا، نراه ينطلق من رؤية فلسفية تقضي بجوهرية الشر وأزليته وربما انتصاره وبذلك، يكون الشر قد بدأ مع بداية الحياة، وبما أنه قد آمن بأزلية الشر والغضب والقهر، سيبقى الصراع المشوب بروح الاستسلام والخنوع قائماً حتى النهاية فلا ضرورة للثورة أو الاحتجاج لأنها تحتاج إلى تحريك الطاقات الكامنة وتحويلها إلى موقف إيجابي، فيقهر الفرد ويصبح سلبياً لا مبالياً نتيجة لانعدام الأمن والشعور بالعجز عن ممارسة أي فعل سياسي، فيستسلم وتقاعس عن أداء دوره ( ).
وعندما أحاط الأعداء بأسوار دمشق، صرخ الشعب مطالباً بالسلاح للدفاع عنها، إلا أن زعيمهم وجنوده يطلبون منهم عدم التدخل في تخصصات غيرهم، لأن الدفاع عن المدينة موكل إلى الجنود وحدهم، لكن الناس لم يقتنعوا بذلك، وعندما لم يروا مبادرة الجنود الدفاعية أشهرت السيوف في وجوههم فقتل منهم من قتل، واعتقل من اعتقل على عندها لم يمهلهم العدو طويلاً فانقض على المدينة ودمرها( ).
لقد كان القهر الداخلي الذي أصاب الناس نتيجة محتومة للقهر الذي خلفته الهزيمة، فلاذ الناس بالصمت، ولم يكتسبوا جرأة في المقاومة إلا في قصة " النسيان"، وذلك عندما صاروا في مواجهة حتمية مع الموت، إذ تنبأ رجل غريب بأن أهل المدينة ينتظرهم موت محقق بعدما رأى أنه لم يبق
من الناس سوى اللحم والعظم، في حين صودرت إنسانيتهم، وعندما أدرك الناس ذلك امتنعوا عن دفع الضرائب غير مكترثين لعقاب الملك إلا أن طبيعة أفراد زكريا المقهورة التي لا يمكن أن تقتنص الفرص لتحقيق ذاتها، انسحبت منذ القرار الأول. فلم تطل الجرأة على التمرد بعد أن قطع رأس الذي تنبأ بهذا النبأ، عندها نسي الناس الموت وازدادت الضرائب في خزائن الدولة( ).
لا يجد زكريا بداً من تخفيف حدة الصورة البشعة وذلك بإضفاء أسلوب السخرية اللاذع على المواقف . كما تعامل مع عقلية الرؤساء – بسخرية لاذعة – فصورها بأنها عقلية ساذجة سخيفة، لا تتخذ قراراتها وفق دراسة وتمحيص، بل إن معظم قرارتها الحازمة تأتي نزوة وعفوية. فما هو ذا السلطان يأمر بقتل جميع السجناء، لأن السجون قد امتلأت، في حين أن هناك أعداداً هائلة في الخارج تنتظر دورها، وذلك حرصاً منه على أموال الدولة كي لا يتكلف ثمن بناء جديد.
إن التعليق على هذه المواقف لا يزيد شيئاً في قوة السخرية من السلطة ومن جبن الناس مسلوبي الإرادة. فيستسلم أبطاله للخنوع والصمت أمام جبروت السلطة حتى الأطفال لا يملكون القدرة على المقاومة، فأولاد حارة السعدي فخورون بشجرة التين المنتصبة بالحارة، التي دأبوا على حراستها من أولاد حارة مرجان (العدو الخارجي) إلا أن الأولاد استيقظوا في أحد الأيام ليجدوا أن شجرة التين مسروقة، وتبين لهم أن الحارس الليلي الذي يحمل مسدساً هو سارقها، عندها ظلوا صامتين واستكانوا لقوة الحارس وجبروته ( ).
لقد سئل ذات يوم بطل قصة " في يوم مرح" من قبل رئيس المخفر إن كان لا يخاف الموت، فأجاب بأنه فعلاً لا يخافه، ولكنه عندما سأله إن كان لا يخاف الشرطة لاذ بالصمت، فلا جواب على سؤال معروف الإجابة مسبقاَ وإن لم تكن معروفة فهي محددة وثابتة ينبغي التسليم بها، فالفرد تعريه حالة من الخوف تجاه يخاف الشرطة لأنها رمز القوة الحالة في الوجود لشر أزلي هدفه القضاء على إنسانية الإنسان وقمعه. بذلك تتضح رؤية زكريا السياسية من خلال هذه القرائن التي تتسم بالعجز والذل.
قلنا سابقاً إنه ما من شك في أن نكسة حزيران عام 1967 قد تركت بصماتها على الأشكال الأدبية، فوجدت في الرواية مثلاً صدى عند إميل حبيبي ممثلاً في السياسة (سداسية الأيام الستة، والمتشائل)، وعند سعد الله ونوس في المسرح " حفلة سمر من أجل خمسة حزيران" كما أن في القصة القصيرة خير صدى لما لها من مرونة وقدرة على مواكبة الأحداث، والتعبير عنها وتجسيم الفوضى، فأصيب الأدباء بردة فعل عنيفة تجاه كل القيم والمفاهيم والأخلاق، وسحب كثير منهم الثقة بالقدرة الإلهية التي لم تتدخل لصالح الإنسان آنذاك، وشاعت تيارات جديدة في الأدب فمنهم من لجأ إلى الوجودية، ومنهم إلى الماركسية، أو السريالية، أو العبثية وغيرها، وقد عبر زكريا تامر عن رؤيته السياسية من خلا عدة مواقف ساقها على يد أبطاله، فقد اتفق عجوزان في قصة الأعداء (الأسرى) على كتابة عريضة موجهة إلى الله عز وجل يلتمسان فها العون والمدد من أجل مقاتلة الأعداء، ولما طال الجواب تساءل أحدهم عن سبب رفض الله لهذا الالتماس؟ لذا عليه – عز وجل – أن يعفيهم من فريضة الصلاة إذا لم يبعث المدد (واحدة بواحدة)، إلا أن السؤال يتردد مرة أخرى ؛ وإذا رفض ؟ فيجيب الآخر باطمئنان وثقة " لا تخف إن الله سيعفينا من فريضة الصيام أيضاً "( ) لأنه غير قادر على إرسال المدد لمحاربة الأعداء. فتتضح الرؤية السياسية هنا بأن الأعداء لا يقهرون. حتى أن القدرة الإلهية لا تستطيع تقديم العون بل عجزت أمام القوى السياسية والقمعية، وفي هذا التعبير عن سوء الأحوال السياسية السائدة إبان الهزيمة.
وأشار زكريا في قصصه المليئة بالرؤية السوداوية وللامعقول إلى أن كل أوجه المع التي تمارسها السلطة لا تنصب إلا على الفقراء، بينما الأغنياء لا يتعرضون لمثل ذلك ؛ لأن الأديب أراد أن يظهر مأساة الفقير الذي يعيش بين فكي كماشة: السلطة السياسية من جهة والطبقة الغنية من جهة أخرى، فالشرطي مثلاً في قصة " الشرطي والحصان" يستوقف رجلاً مسكيناً يجر حصانه المتعب عبر طريق كتب عليها ممنوع المرور، فيصر الشرطي على عودة الرجل وحصانه من حيث أتى. في حين تمر سيارة فخمة مسرعة دون أن يستوقفها الشرطي، لذا يزداد حنق الحصان (لاحظ تمرد العناصر غير الإنسانية) ويعبر عن ذلك بتمرده وثورته فيضرب الشرطي ويوقعه أرضاً إلا أنه يعدم في الساحة العامة أمام مشهد من الناس، عندها لم يتفوه أبو مصطفى بكلمة بل " تخيل القانون مخلوقاً ضخماً له آلاف الأيدي.
القانون يأمر الشرطي، فيطيع الشرطي، ويأمر الشرطي أبا مصطفى، ويجب أن يطيع أبو مصطفى الأوامر "( ) . فكل شيء منظم حسب القوانين التي ينفذها الفرد ويتمنى الفكاك منها إلا أنه يجب أن ينصاع لها – ولا خيار آخر له – مجرداً من مشاعره.
وكما أن الشرطي هو اليد الآلية التي تنفذ أوامر السلطة فيرى زكريا ان كان مسؤول يتسلم منصباً ما يتحول إلى آلة جوفاء تنفذ كل ما يطلب منها، لذا على المسؤول أن ينكر الشعب وينكر مصالحه حتى يظهر الولاء للسلطة. فالمعلم عمر القاسم الذي كان يعيش ببساطة مع أهل الضيعة في قصة " يا أيها الكرز المنسي"( ) والذي يطرد من الضيعة لأنه لم يهادن الآغا " رمز السلطة" يتبدل ويتكلف أخلاق المسؤولين حتى صار وزيراً، فيفرح أهل الضيعة لابنهم البار ويقررون زيارته ومعهم سلة من الكرز الذي يحبه إلا أنهم عادو خائبين موقنين أن عمر القاسم الذي يعرفون مات منذ زمن.
ولا ينجو العلم من قبضة الوزراء، فالوزير في قصة " التراب لنا وللطيور السماء"( ) يقنع السلطان بمساوئ اختراع الطائرة التي تحلق فوق الاعداء وذلك لأنها يمكن أن تطير فوق قصره، وفي ذلك تآمر وخبث على السلطان وحاشيته، لذا يصبح العلم وتصبح المخترعات رمزاً للتخريب السياسي المرفوض.
مما لا شك فيه أن زكريا يتصدى في أدبه لتسلط الدولة القمعي عن طريق سرد ممارسات لا معقولة لتكون ملاذاً معوضاً لخيبة آمال المجتمع، لذا فهو إيجابي من خلال رصد المواقف السلبية للشخوص. فالسلطة الحاكمة لا تعجز عن تقديم كل إنسان للمحاكمة كما أنها لا تعجز عن تدبير التهمة المناسبة لكل فرد، وكثيراً ما يحاكم دون تهمة. ولا تعجز أيضاً عن استخراج الأموات من قبورهم لتعيد محاكمتهم من جديد، لذا تصبح الحياة والموت في نظر الفرد سواء، لأن الإنسان في كليهما يعيش في سجن كبير كما يراها مصطفى الشامي: " وفي تلك اللحظة كانت الأرض الجرداء والأرض الخضراء لهما سماء واحدة مصنوعة من قضبان فولاذية" ( )، ودلالة القضبان واضحة لا تخفى على أحد.
واستطاعت الشرطة كذلك إخراج عمر الخيام من قبره ومحاكمته بتهمة جديدة، كما استطاعت أن تؤول شهادة الشهود حسب مصلحتها، فالقاضي مثلاً رأى في حب عمر الخيام للكلمات تمرداً وذلك لأن المواطن الصالح يجب أمه والحكومة فقط، وفي قراءته لكتب الحب خروجاً على الأخلاق العامة لأنها في نظره كتباً جنسية، كما رأى بعد شهادة الصحفي الذي شهد بأن عمر الخيام لم يمدح الحكومة في أشعاره، أنه لا يحب الشعب، ويعد تعاونه مع الحزن تعاوناً مع جواسيس الطابور الخامس الذي يعمل على زعزعة الثقة بالسلطة المسؤولة( ).
وقد اعتبر زكريا أن السلطة تعنى بالقشور السطحية فقط، وتتناسى الجوهر الذي سبب في تمزق الإنسان واغترابه عن ذاته كنوع من الاستخفاف بعقل الإنسان، فعبر عن ذلك بأسلوب متهكم، فالفرد جائع إلا أن الشرطة تقبض عليه بتهمة أنه يسير مقوس الظهر وفي ذلك إساءة لسمعة البلد ومظهرها، وترويج لإشاعات المرض والجوع، مع العلم أن بطل القصة يعترف لهم حقاً أنه مريض وجائع، إلا أنهم يتهمونه بمهاجمة القوانين، وأن يسير عابساً شاحباً، فيخبرهم لأنه بلا عمل، إلا أنهم يحذرونه من السير في الشارع، فيسير مسرعاً نحو البيت منكسراً مهزوماً، عندها يقبض عليه لأنه تثاءب في الشارع ويحكم عليه بالإعدام لأنه مواطن غير صالح ( ).
من ذلك اعتبر زكريا تامر أن الفرد مدان ومتهم دون سبب وجيه لأنه لا ضرورة لوجود سبب فمجرد وجوده في هذا العالم تهمة كبيرة.
ويتجسد ذلك في سؤال القاضي لأحد المتهمين " لماذا ولدت ما دمت بريئاً ؟ جئت إلى هذا العالم كي تهلك وستهلك دون احتجاج "( ). كما " لا يوجد إنسان دون ذنب "( ) وتكفيه تهمة الوجود، لذا يبقى سليمان الحلبي صامتاً أمام محاكمته كما ظل جوزيف. ك صامتاً في القضية( ) لكافكا من قبل فاستغرب سليمان أن ينمو في أعماقه شعور بالذنب إلا أنه كان في الوقت نفسه شديد الاقتناع ببراءته( )، ويتعرض جوزيف. ك لمثل هذا الموقف فيطرح التساؤل نفسه " وأنا أستنتج هذا مع أنني متهم ولا أستطيع أن أجد أدنى ذنب يمكن أن يكون السبب في اتهامي على أن هذا شيء ثانوي، والسؤال الرئيسي هو من الذي يتهمني؟ "( ). وبذلك فقد خضع كل من بطل كافكا وزكريا – لحظة الاعدام – إلى الخنوع وعدم المقاومة لانعدام القوة المسبوقة بانعدام المغزى من المقاومة، التي تقع ضمن خيار واحد (الموت) والعجز المغلق باليأس المبرر كل ذلك، في حالة من الاغتراب التي يقنع الفرد من خلالها بأن لا ضرورة لمقاومة فاشلة منذ البداية.
وهناك الكثير من قصص تامر التي تعتبر تجسيداً لضعف الإنسان المهزوم ومعاناته النفسية والسياسية والاجتماعية، كما أن من أبرز الآثار السلبية للاغتراب هي تحول الإنسان عن طبيعته الأصلية واغترابه عنها فيتحول إلى إنسان زائف أو سادي أو حيوان كما حصل مع عمر السعدي في قصة " النهر" ( )، والذي قبض عليه دون أن يقترف ذنباً، وبقي في الزنزانة حتى بات يتخيل أن الحارس الذي يحضر له الطعام ليس له لحم أو عظم، كما أن إحساسه بالغربة الذي ولدته الوحشة والوحدة قد تضاعف عندما استرعى انتباهه حركة يده في الهواء، إذ خامره إحساس بأن هذه اليد غريبة عنه، وكانت هذه هي الخطوة الأولى في فقد الإحساس بالذات كما أن نهايته كانت أشد وقعاً من أمثاله: سليمان الحلبي، وجوزيف. ك. إذ التفت حوله ذيول الغربة والوحشة فتجرد من إنسانيته متحولاً إلى حيوان ينتظر ركلة الحارس بلهفة.
في كل ما أسلفنا تأكيد على أن كل ما يحيط بالفرد هو عدو له، وما العالم إلا عبارة عن مؤامرة كبيرة هدفها القضاء على الفرد وسحقه في بوتقة الجماعة الخانعة المجردة من كل إحساس ن حتى أن رجال الدين كانوا قد ساهموا في هذه المؤامرة فطوت السلطة السياسية رجال الدين تحت لوائها، وصار رجل الدين جزءاً من بطانة الحاكم، فكما أن جوزي. ك يشف عن واقع الكاهن الذي صدفه في إحدى الكنائس، وتبين له فيما بعد أنه يستدعي من قبل القاضي للمشاركة في معالجة قضيته، يكشف زكريا كذلك عن رجال الدين الذين يقفون موقف العداء من العلم والعلماء، ويساهمون في طمس شخصية الفرد باسم الدين، لذا فقد اعتبروا أن كل مستجدات العصر كفراً وإلحاداً وتصدوا للعالم الذي صنع طائرة لإنقاذ دمشق، كما اتهموه بالكفر والإلحاد لأن في هذا الاختراع تقليداً لما يخلق الله ومخالفة لمشيئته، وما كان من الجل ذي اللحية الطويلة (رمز رجل الدين المتطرف) إلا أن أشار قائلاً: " هذا ليس عالماً، إنه إبليس متنكر، يريد إغواءنا وإبعادنا عن ديننا"( ) فما كان من السلطان إلا أن أمر بإعدام العالم.
لقد تعمد زكريا أن يكشف عن الوجه المتطرف لرجال الدين والذي يعكس من خلاله ممارستهم السلبية تجاه الفرد، فرسم صورتهم – بدلالة اللحى الطويلة جداً (التطرف) – أنهم جهلة لا يفقهون شيئاً ملمحاً لذلك من خلال أحد رجال الدين الذي صرح أمام حاشية السلطان بأن إبليس يتجسد في الطابة التي اخترعها العالم للأطفال( )، ولم يكتف بوصفهم بالجهلة بل ينسب لهم الهزيمة الميتة التي حصلت في قصة " اللحى"( ) أمام تيمورلنك الغاشم.
لقد ساهم رجال الدين في تجسيد المواقف الانهزامية بمعاونة السلطة السياسية فدعو للخنوع وعدم المقاومة وفق مبدأ القضاء والقدر( ). فوقع في الحيرة بين حقيقة الدين الحنيف وتفسيرات رجاله الخاطئة له، ففقد الدين قداسته وضاع الفرد بين قهره وتمزقه.
وتجدر الإشارة إلى أن رؤية زكريا تامر العامة تنبثق من مواقفه السياسية وآرائه، لذا فقد ظهرت آثار الرؤية السياسية في موقفه من المجتمع والسلطة الأبوية والمرأة، والمدينة، والتراث وغيرها إذ جاءت كل هذه المضامين لتخدم موقفه من السياسة لذلك لا نجد فضلاً للاستمرار في عرض موقفه من السياسة في باب مستقل.