إيليا ليونارد فايفر - ماشا.. قصة قصيرة - ترجمة: محمد رشو

كنتُ فتاةً سعيدةً للغاية. ذهبتُ إلى معلمي وقلت: «أنا سعيدةٌ جدّاً؟ ما الذي يمكنني أن أفعل حيال ذلك؟» كان معلم رياضة وصديقي. قال: «ربما ينبغي أن نقضي نصف يومٍ في الغابة». لقد كان صيّاداً، مثلما كلُّ الرجال. لكنه كان، بالنسبة لي، فريسةً سهلة، مثلما كلّ الرجال.

في صباح اليوم التالي غادرنا. ارتديتُ فستاني الصيفي، الأصفر، ذا الأزهار الحمراء القانية والزرقاء بلون السماء، وارتديتُ حذائي الصيفي الأبيض. كانت معه حقيبة ظهر صغيرة، مليئةً بالملح. كان ذلك من أجل غزلان الرنّة. الملحُ طعامها المفضّل. قال معلمي: «يجب أن نأخذ معنا أكبر قدرٍ ممكن من الملح». سوى ذلك، لم نأخذ معنا إلا شطيرتين، لنا نحن الاثنين. كانت هناك شمسٌ دافئة تنفذُ خلال أوراق الشجر. غنيّتُ كل كوبليهات أغنيةِ الأطفال عن الأقزام السعيدة، حيث كنتُ بين حينٍ وآخر أغيّر سطراً لأجعله يبدو أكثر جمالاً. ما كان يجعله يضحك ويضحك بشدّة.

فجأةً، أومأ لي أنه ينبغي أن أكون هادئة. كان قد رأى شبحاً يسرع هناك في البعيد بين الأشجار. تركنا الطريقَ وتسللنا إلى المكان حيث ظنّ أنه قد رآه فيه. بدأتْ تمطرُ خفيفاً. لم يكن هو مخطئاً. أنا أيضاً، رأيتُ، الآن، شبحاً على مسافةٍ في ما بين جذوع الأشجار التي كانت تغطيها الطحالب. حاولنا أن ندنو منه، هادئين، قدر ما نستطيع. حينها شاهدنا قرنيه، كليهما، معاً، وبوضوح. كان قد مضى عميقاً في الغابة. اتبعناه. حين وصلنا إلى مكانٍ منفرج، تناولنا مكعبات الملح من حقيبة الظهر ونثرناها على الطحالب. ذهبنا لنجلس على جذع شجرة على مسافةٍ ما وانتظرنا. بدأت تمطر بشدة أكثر، لكننا لم نلاحظ ذلك، لأنه كان هناك: خجولاً ومهيباً في الوقت نفسه. كلُّ ساقٍ من سيقانه كانت بقوة أربعة معلمي رياضة، لكنه كان يملك عينيّ فتاة صغيرةٍ تعيسة. كانت قرناه كبيرين مخيفين، لكنهما بديا في الوقت نفسه كإشارة عجزٍ من إمرئٍ يُفرد ذراعيه حوله لشدّة ما هو وحيد. ظلّ ينظر نحوي وهو يلعقُ مكعبات الملح. شعرتُ أنه كان يحاول أن يخبرني شيئاً. غزلانُ الرنة أيضاً في حاجةٍ إلى فتاة. وحينها فرّ بعيداً، موغلاً في عمق الغابة.

كنتُ سعيدةً للغاية أنني كنتُ قد رأيته. «أنا سعيدةٌ للغاية لرؤيته!» قلتُ لمعلمي. «شكراً لكَ!» أعطيته قبلةً على الفم. «أنتَ مبتلٌّ تماماً»، قلتُ. «إنها تمطر»، قال. كان فستاني الصيفي يلتصق الآن بفخذيّ. حذائي الأبيض كان مغطّىً بالطين. «أجل!» قلتُ. قبلته مرة أخرى. كنتُ فتاة سعيدةً للغاية.

مشينا عائدين إلى الطريق، لكننا لم نستطع أن نعثر عليه على الفور. اتبعته، لأنه كان معلمي. كنتُ جائعة. أكلتُ كلا الشطيرتين، على الرغم من أنه لم يرَ ذلك أمراً حكيماً. لكنه امتثل لمشيئتي. كنتُ أنالُ دائماً كلَّ ما كنتُ أرغب فيه. كان لطيفاً، صديقي، لكنه لم يكن سوى فريسةٍ وحسب.

حاولنا أن نستدلّ على الطريق، استرشدنا بالحشرات والطيور. لقد كان معلم رياضة، وكان خبيراً في هذا أيضاً. كان يعلم أن النمل يدبّ على الجانب الذي تشرق عليه الشمس من جذوع الأشجار. لكن ما من نملٍ كان هناك. كلُّ شيءٍ كان نفسه. لم نسمع صوتَ طائر. بدأت السماء تمطر أشدّ وأشدّ. كانت الغابة هادئةً أبعد مما يمكن تصوره. لا حياة. غزالُ رنة، غزالٌ واحدٌ فقط، ما قد رأينا. سوى ذلك، ما من علاماتٍ أخرى. ما من شيءٍ كان هناك. في غاية الهدوء. شربتُ الماء من لعق المطر الغزير الذي كان يهطل علينا. كان فستاني الصيفي الأصفر مبتلاً وغارقاً بالماء. حذائي كنت قد أضعته. ونحن الاثنين كنا قد ضعنا هناك. كانت قد بدأت تبرد. تساقط الثلجُ في الليل. وفي الثلج نمنا. حلمتُ بالأقزام التي كانت تغيّر جميع الأغاني التي كنتُ أدندنها.

بعد يومين سمعنا مروحيات هليوكوبتر تطير فوقنا. كانوا يبحثون عنا. كنتُ أعرف أن أمي كانت قد أرسلتهم. صرخنا بكلِّ ما فينا من القوّة. فردتُ ذراعيّ وشعرتُ أنني لا حول لي ولا قوة، محض فتاةٍ صغيرة تعيسة. لم تستطع الهليوكوبترات أن ترانا. حلّقتْ بعيداً. وثم عاد الهدوء مرة أخرى.

في اليوم الثالث وحسب وجدنا النهر. كنا سعداء جداً. على الجانب الآخر، رأينا الأضواء تلمع منبعثةً من منزلٍ وحيد هناك أو ربما مزرعة أو عزبة. حاولنا أن نصرخ، لكن النهر كان واسعاً. كان من المستحيل أن يسمعونا. وحينها فردتُ ذراعيَّ واسعاً، واسعاً بقدر ما أستطيع. تمزّقَ فستاني. نظر معلمي إلي. نظرَ إليَّ كصيّاد. نظرَ إلي بتلك الطريقة الخاصة التي لا تشعر بها سوى الفتيات. وحينها قفز في الماء البارد. كان معلم رياضة. كان سيسبح ليصل إلى الضفة الأخرى ويطلب النجدة هناك. نظرتُ إليه وهو يبتعد. نظرتُ إليه وهو يبتعد حتى لم يعد بإمكاني أن أراه. وثمّ لم يدم طويلاً حتى كان على الضفة الآخرى. ينبغي أن النهر كان بارداً برداً قاسياً في ذلك الوقت من العام.

جلستُ وحدي على الشاطئ وانتظرتُ. كنتُ مبتلةً، أتضور جوعاً، وباردةً برداً شديداً، لكنني لم أكن خائفة. انتظرتُ. أظنُّ أنني جلستُ هناك لساعاتٍ طوال، دونما حراك. لم أبكِ، ربما تنهدتُ قليلاً، كأية فتاةٍ يمكن أن تتنهد بينما تنتظرُ حتى يأتي رجلٌ في في آخر المطاف كي ينقذها. حلّ الليل. كنتُ أعرف أنني لن أستطيع أن أنجو من ذلك الليل دونما نجدة. لكنّ هذا لم يكن ليهمني. لستُ مضطرة إلى أن أشرح ذلك لأولئك الذين يفهمون. وأولئك الذين لا يفهمونها، ليس في مقدوري، كذلك، أن أشرح لهم.

أخيراً جاء. أقولُ ذلك خطأً. لم أره وهو يأتي، ولا سمعته يأتي. لقد كان هناك على حين غرّة، وعلى حين غرّة كان هناك منذ أمدٍ بعيد، كما لو أنه لم يكن قد غادر أبداً. لم يكن يفعل شيئاً هناك. كان هناك وحسب. كان موجوداً وكان دافئاً. كانت أنفاسُه على رقبتي. شعرتُ بأنفه الكبير الرطب على أذنيّ. ذراعاه المفرودتان بلا حولٍ ولا قوة كانتا تنقران ظهري بشكلٍ أخرق. نظر إليّ بعينيّ فتاةٍ تعيسةٍ للغاية.

قال: «غزالُ الرنة، كذلك، بحاجة إلى فتاة».

«أفهم ذلك».

«ماذا تفهمين أيضاً؟»، سأل.

«أفهم أنه لا شيء يهمّ».

«هذا ليس صحيحاً،»، قال. «ذلك يهمّ كثيراً».

«وهو كذلك. ربّما. لكن هذا لا يهم».

قبّلني على فمي. «أنتَ مبتّل»، قلتُ. «لقد أمطرتْ»، وقبّلني مرة أخرى. اختفى وجهي كله تحت لسانه البني الداكن الضخم. لم أعد أشعر بالبرد. وحينها بدأ الفرو ينمو على ظهري، على ذراعيّ وساقيّ. لم يعد الثلج يزعجني. حوافري فقط كانت خدرة. أصبح وجهي طويلاً وحاداً. ما وراء أذني، أيضاً، بدأ ينمو وينمو – ينمو وينمو. من الصعب أن أروي ذلك بكلماتٍ بشرية. ما كان ينمو كان ما كنتُ أرغبُ فيه أنا. ما كان ينمو كان ما يشبههُ هو منّي. ما كان ينمو كانت ذراعي اللتان بلا حولٍ ولا قوّة. ما كان ينمو كان قرناي.

هذه هي نهاية القصة. لقد انتهت. معه، عدوتُ في الغابة. معاً ذهبنا لنبحث عن الملح. لم تعد لديه عينا فتاةٍ تعيسة. لم تعد لديّ عينا فتاة سعيدةٍ للغاية. لقد كنتُ. لا يمكن تفسير ذلك لأولئك الذين لا يفهمون. كنتُ غزال رنّة لأنه كان،كذلك، غزال رنّة. هكذا كان الأمر وهكذا كان على خير ما يرام، إذ أنه كان على خير ما يرام، لأنه، كان هكذا، وحسب. هذه قصتي. لا شيء آخر لديّ لأرويه. إنها قصةٌ بسيطة. لكن ذلك لا يهمّ.

الشيءُ الوحيد الذي ينبغي عليّ أن أضيفه هنا، أنه كان معلمي، معلم الرياضة. كان ماهراً في السباحة.

ينبغي أن النهر كان بارداً برداً قاسياً في ذلك الوقت من العام، لكنه أدرك الضفة الأخرى. طلب النجدة، عاد وبحث عني لأيام، جنباً إلى جنب، مع هليكوبترات أمي. في نهاية المطاف، أرادت السلطاتُ أن تقول أنه استسلم. أنا، كان قد أُعلن رسمياً أنني ميتة.

لكن لم يكن في مقدوره أن يتقبّل الأمر. ظلَّ يفكّر فيّ، وظلّ يفكر فيّ بقسوة، أقسى وأقسى. كان يشعرُ بالذنب. كان كل ذلك بسبب غزال رنّة. كان سببَ كلِّ شيء. لو أننا لم نكن قد رأينا غزال الرنة، لبقينا نسيرُ على الطريق، لقضينا نصفَ يومٍ في الغابة، ولكنتُ ما أزال فتاةً سعيدةً للغاية. هكذا كان يفكّر. قام وحشى حقيبته، حقيبةَ الظهر، على آخرها بالملح، تناول بندقيةً وعاد إلى الغابة.

كان ذلك في المكان المنفرج نفسه. كان قد نثر مكعبات الملح على الطحالب واتخذ وضعاً هناك من مكمنه خلف جذع شجرةٍ، بندقيته ملقّمة ويده على الزناد. لقد رأيتُ كل شيء وكنتُ سعيدةً بأن أراه. كنتُ سعيدةً لأنه لم يكن قد نساني. كنتُ أدرك أنني لن أستطيع أن أشرح ذلك له، لكنه سيفهمُ عليّ إذا ما تحدّثتُ إليه. شعرتُ مرة أخرى وكأنني فتاةٌ سعيدة. عدوتُ نحوه، بقرنيَّ اللتين كذراعين مفرودتين بلا حولٍ ولا قوّة عدوت.

لم يستطع أبداً أن يستوعب حقيقة أنني كنتُ قد فُقدتُ في الغابة. لكنه يستمدّ، وحتى يومنا هذا، شكلاً من العزاء من كون أن رأس غزال الرنّة الذي تسببَ في كلِّ هذا، مسمّرٌ هناك على جدار بيته، ككأسِ نصرٍ قاتمة. ومن سمو هذه الموضع الرفيع، يحدّق نحو الأسفل، في عبثِ حياته. يأتون ويذهبون. أحياناً، يتنهدون. لا يهمّ. أتكلّمُ أنا معه، لكنه لا يسمع، إذ أنه لا يصدّق أن رأس غزال الرنة الذي أطلق عليه الطلقات بيديه، ما يزال يمكنه أن يتكلم. عليه أن يتعلّم الكثير بعد. عليه أن يتعلّم الكثير جداً بعد. عليه أن يتعلّم حتى يصدّق أنني لا ألومه مثقالَ ذرّة.

دي ريفيسور (2008)

إيليا ليونارد فايفر (1968) كاتب هولندي، روائي وشاعر وكاتب قصص ومقالات ونصوص مسرحية وأغاني، يقيم ويعمل في جنوة بإيطاليا، نال جائزة ليبريس للآداب في عام 2014 عن روايته لا سوبيربا (2013)، من أعماله الأخرى: التحف (2000) تارخ أدبي موجز، باسم الكلب (2005) قصائد، رسائل من جنوة (2016)، فندق غراند أوروبا (2019) رواية.








تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...