إن «بني هلال» ليسوا قبيلة افتراضية، ولكنهم جزء من تاريخنا الصعب. أتحدث عن القبيلة وليس عن «التغريبة الهلالية» التي تعني شيئاً آخر، أي تحويل رحلة قبيلة حقيقية، من بلاد نجد إلى البلاد المغاربية، إلى نص إبداعي «التغريبة الهلالية» فيه الكثير من التخييل وجرأة الحكي والنقد.
تنتمي «السيرة الهلالية» إلى الثقافة الشعبية المتأصّلة وإن اختلفت تأويلاتها بين الراوي في المشرق العربي والراوي في البلدان المغاربية؛ الأول مثلاً ينظر إلى الزناتي خليفة أمير تونس، بوصفه شخصية قتالية قوية لكنها مرفوضة، ويوم قتَله دياب الزغبي برمح مسموم اهتزت القبيلة كلها بأبطالها وناسها العاديين. أما الثاني؛ أي الراوي في بلاد المغرب، فيرى في انتصارات الزناتي خليفة انتصاراً للحق أمام قوم لم يطلبوا القِرى ولكنهم جاؤوا كمستعمرين لأرض ليست لهم. وموته هو موت بطل دافع عن أرضه حتى آخر قطرة من دمه، ويصبح دياب الزغبي بهذا المعنى، ليس بطلاً، ولكن مجرد عبد في خدمة سيده الأمير حسن بن سرحان، الذي دخل بلاد المغرب لاحتلالها، لا للتآخي معها وطلب العون. أكثر من هذا كله، لم يكن وفياً في المعركة، فقد دخل المبارزة بالسيف وجهاً لوجه كما في التقاليد النبيلة القديمة، لكنه استعمل رمحه المسموم كخديعة، وهذا لا يعليه مطلقاً، وإنما بالعكس يصغره، بالنسبة للراوي المغاربي من ليبيا حتى المغرب مروراً بتونس والجزائر. والرؤية المغاربية تستند بقوة إلى رؤية ابن خلدون العنصرية في كثير من صفاتها. فقد وصف الهلاليين بشكل قبيح وشبههم بالجراد الذي يدمر كل شيء في طريقه: «لما أجازوا النيل إلى برقة، ونزلوا بها واستباحوها، وتقارعوا على البلاد، فحصل لسليم الشرق ولهلال الغرب، وخربوا المدينة الحمراء وأجدابية وأسمرا وسرت، وسارت بطون هلال إلى أفريقية كالجراد المنتشر، لا يمرون بشيء إلّا أتوا عليه، حتى وصلوا أفريقية سنة 443هـ/ 1053م».
بهذا المنطق، وفي ظل هذه الظروف، يصبح من المشكوك فيه تاريخياً، وليس أدبياً، أن تقبل الجازية الزواج من أمير برقة، هكذا بسهولة. التغريبة تقول إنها ظلت وفية لزوجها حتى موتها، وندمت أنها دخلت المغامرة، وتركت زوجها وابنها محمد. حالة واحدة يكون فيها ذلك ممكناً، وهي اتفاق قبائل الهلاليين مع الجازية لاستمالة المغاربة والسماح لهم بالاستقرار.
التغريبة واحدة من أهم السرديات العربية التي تعاملت مع التاريخ من موقع الحكي والقص، أي لا يمكن اعتمادها كوثيقة تاريخية على الرغم من تماسها معه. لا أعتقد أنه يوجد شخص مثقف لا يعرف هذه السيرة أو لم يقرأها أو ما سمع عنها. فقد ارتبطت بحكايات مجموعات بشرية في لحظة تأزم تاريخي، وجدت نفسها بين الموت أو التغرّب، فغادرت أراضيها باتجاه بلاد المغرب بحثاً عن الحياة. ولم تصل القبيلة الهلالية إلى مبتغاها إلا بعد حروب طاحنة لم تتوقف، وملأت جزءاً مهماً من القرن الحادي عشر.
لن نعتمد تاريخ بني هلال بتفاصيله، فهو لا يهمنا كثيراً في هذا التحليل. على الرغم من قيمة بعض تفاصيله في السيرة، سنهتم أكثر بالمروية الشعبية أو السيرة، أو «التغريبة»؛ أي بالصياغة الفنية التي اعتمدت الأساطير والتاريخ مرتكزاً لها، فشيدت عالماً قصصياً يعج بالشخصيات الأدبية التي لعبت دوراً مهماً في تحريك النص السردي. يهمنا جداً، في هذا السياق، اشتغال الشخصيات كعلامات ذات معنى داخل النص.
شمل مضمون السيرة ثلاث مراحل، يمكن تخيلها كالآتي:
مرحلة أولى، وتبدأ حينما انطلق أبو زيد الهلالي، بطل بني هلال الذي سخر حياته كلها لخدمة قبيلته وخدمة أميرها وحاميها حسن بن سرحان. وذهب في مهمة سرية لاستكشاف تونس عن قرب. ويبدو أن الجازية كانت وراء هذه الرحلة الاستقصائية لمعرفة ظروف العيش هناك. وفي التغريبة، تكون هي التي أشارت على الهلاليين بإرسال أبي زيد الهلالي واثنين من فرسانهم لاستطلاع مملكة الزناتي خليفة في تونس قبل مهاجمتها. وتبعاً لذلك، خرج أبو زيد ورفيقاه يحيى ويونس، في رحلة استطلاعية استغرقت خمسين يوماً، وعرفت في التغريبة باسم «رحلة الريادة» لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ كشف سرهم. أسر الزناتي خليفة يحيى ويونس، بينما تمكن أبو زيد من الهرب، وعاد إلى قبيلته بوصف دقيق لبلاد تونس التي اندهش من خيرها وخضرتها. وتأكد لحظتها خيار الهجرة والتوجه غرباً.
مرحلة ثانية، وشملت بداية الرحلة القاسية الصعبة نحو أمكنة اختبرها أبو زيد ورفاقه الذين تم سجنهم وحبسهم. لكن الوصول لها صعب، لأنه كان على القبيلة قطع الرحلة كلها من نجد، مروراً بمصر، ثم الدخول إلى البلاد المغاربية بدءاً من ليبيا وتونس والجزائر، وانتهاء بالمغرب. وكان على القبيلة تحمل الجوع والأمراض والعطش والمخاطر الكبرى التي لا تنتهي. وكذلك تحمل الحروب التي نتجت عنها ومقاومة الزناتي خليفة الذي لم يقبل بهذا الارتحال الذي رأى فيه اجتياحاً وغزواً خطيراً. وفي هذه المرحلة تتجلى خصائص الشخصيات جميعها بكل قوتها وثباتها ونبلها وخياناتها السرية. ولكن إرادتهم تنتصر على كل المعوقات ويستقرون بتونس بعد مقتل الزناتي خليفة وقبل أن ينتشروا كلياً في المغرب العربي الكبير.
المرحلة الثالثة والأخيرة مرتبطة بسلسلة من الخسارات الكبرى، حيث يخسر الهلاليون وحدتهم وتدخلهم الأنانيات الصغيرة التي تذكر بملوك الطوائف في الأندلس، في كل شيء لدرجة التساؤل إذا لم يكن راوي/ رواة القصة على تماس بما كان يحدث في الأندلس من حروب بينية أدت إلى سقوط الكثير من المدن الأندلسية، ومنها طليطلة على وجه الخصوص. لتكون نهاية بني هلال المفجعة وتيههم في بلاد المغرب، هي أكبر تراجيدية لحقت بهم. توجد اليوم الكثير من العائلات الهلالية منها بنو عامر، وسليم، وغيرهما من القبائل الأخرى. لكن هذه المحن المتراكمة هي التي أثرت التغريبة وأعطتها بعدها الملحمي، وحولتها من مجرد رحلة للبحث عن سبل العيش من كلأ وماء أو هرب من البطش الفاطمي، إلى ملحمة بكل المقاييس، من حروب ومآس وصراع لا ينتهي مع قوى الطبيعة من جفاف وعواصف بحسب المناطق التي كانوا يرتادونها، ومع الجيوش التي كان عليهم مواجهتها.
ففي التغريبة الهلالية، حكي سردي ثري يشد انتباه المتلقي، وذلك لما فيه من أحداث يمتزج فيها التاريخي بالاجتماعي، كما ذكرنا آنفاً، في قالب بطولي اختاره لها الرواة والمدونون، وفيه تبرز الفروسية والشجاعة والتضحية من أجل الكيانات العامة، ولا ينقصها شيء لتكون في رتبة أو قريبة من روايات الفروسية الغربية. فمن خلال العمليات السردية الغنية العامة، أو الوحدات الصغيرة، يتجلى المعنى الكبير لهذا النص غير المنقطع عن جهد فني كبير خلد رحلة التيه العربي بذكاء كبير.
عندما أتأمل الوضع العربي من حولنا، أشعر بهزة داخلية فادحة، وكأننا منذ تيه «بني هلال» في الصحاري، في القرن الحادي عشر، لم نتحرك. ما نزال في نفس «السبخة» نقاوم الغرق بكل ما نملك، دون جدوى. هل هو قدرنا؟ أم أن هناك من لا يتوقف ثانية واحدة عن التفكير فينا، ليجعلنا هكذا دوماً، أمة تموت على نار هادئة، وكلما قام أحد من أبنائها ليقاوم المذلة ولو بالوسائل البدائية، أضرمت النار أكثر لتلتهمه وتلتهم كل من يفكر في الخروج من السبخة.
تنتمي «السيرة الهلالية» إلى الثقافة الشعبية المتأصّلة وإن اختلفت تأويلاتها بين الراوي في المشرق العربي والراوي في البلدان المغاربية؛ الأول مثلاً ينظر إلى الزناتي خليفة أمير تونس، بوصفه شخصية قتالية قوية لكنها مرفوضة، ويوم قتَله دياب الزغبي برمح مسموم اهتزت القبيلة كلها بأبطالها وناسها العاديين. أما الثاني؛ أي الراوي في بلاد المغرب، فيرى في انتصارات الزناتي خليفة انتصاراً للحق أمام قوم لم يطلبوا القِرى ولكنهم جاؤوا كمستعمرين لأرض ليست لهم. وموته هو موت بطل دافع عن أرضه حتى آخر قطرة من دمه، ويصبح دياب الزغبي بهذا المعنى، ليس بطلاً، ولكن مجرد عبد في خدمة سيده الأمير حسن بن سرحان، الذي دخل بلاد المغرب لاحتلالها، لا للتآخي معها وطلب العون. أكثر من هذا كله، لم يكن وفياً في المعركة، فقد دخل المبارزة بالسيف وجهاً لوجه كما في التقاليد النبيلة القديمة، لكنه استعمل رمحه المسموم كخديعة، وهذا لا يعليه مطلقاً، وإنما بالعكس يصغره، بالنسبة للراوي المغاربي من ليبيا حتى المغرب مروراً بتونس والجزائر. والرؤية المغاربية تستند بقوة إلى رؤية ابن خلدون العنصرية في كثير من صفاتها. فقد وصف الهلاليين بشكل قبيح وشبههم بالجراد الذي يدمر كل شيء في طريقه: «لما أجازوا النيل إلى برقة، ونزلوا بها واستباحوها، وتقارعوا على البلاد، فحصل لسليم الشرق ولهلال الغرب، وخربوا المدينة الحمراء وأجدابية وأسمرا وسرت، وسارت بطون هلال إلى أفريقية كالجراد المنتشر، لا يمرون بشيء إلّا أتوا عليه، حتى وصلوا أفريقية سنة 443هـ/ 1053م».
بهذا المنطق، وفي ظل هذه الظروف، يصبح من المشكوك فيه تاريخياً، وليس أدبياً، أن تقبل الجازية الزواج من أمير برقة، هكذا بسهولة. التغريبة تقول إنها ظلت وفية لزوجها حتى موتها، وندمت أنها دخلت المغامرة، وتركت زوجها وابنها محمد. حالة واحدة يكون فيها ذلك ممكناً، وهي اتفاق قبائل الهلاليين مع الجازية لاستمالة المغاربة والسماح لهم بالاستقرار.
التغريبة واحدة من أهم السرديات العربية التي تعاملت مع التاريخ من موقع الحكي والقص، أي لا يمكن اعتمادها كوثيقة تاريخية على الرغم من تماسها معه. لا أعتقد أنه يوجد شخص مثقف لا يعرف هذه السيرة أو لم يقرأها أو ما سمع عنها. فقد ارتبطت بحكايات مجموعات بشرية في لحظة تأزم تاريخي، وجدت نفسها بين الموت أو التغرّب، فغادرت أراضيها باتجاه بلاد المغرب بحثاً عن الحياة. ولم تصل القبيلة الهلالية إلى مبتغاها إلا بعد حروب طاحنة لم تتوقف، وملأت جزءاً مهماً من القرن الحادي عشر.
لن نعتمد تاريخ بني هلال بتفاصيله، فهو لا يهمنا كثيراً في هذا التحليل. على الرغم من قيمة بعض تفاصيله في السيرة، سنهتم أكثر بالمروية الشعبية أو السيرة، أو «التغريبة»؛ أي بالصياغة الفنية التي اعتمدت الأساطير والتاريخ مرتكزاً لها، فشيدت عالماً قصصياً يعج بالشخصيات الأدبية التي لعبت دوراً مهماً في تحريك النص السردي. يهمنا جداً، في هذا السياق، اشتغال الشخصيات كعلامات ذات معنى داخل النص.
شمل مضمون السيرة ثلاث مراحل، يمكن تخيلها كالآتي:
مرحلة أولى، وتبدأ حينما انطلق أبو زيد الهلالي، بطل بني هلال الذي سخر حياته كلها لخدمة قبيلته وخدمة أميرها وحاميها حسن بن سرحان. وذهب في مهمة سرية لاستكشاف تونس عن قرب. ويبدو أن الجازية كانت وراء هذه الرحلة الاستقصائية لمعرفة ظروف العيش هناك. وفي التغريبة، تكون هي التي أشارت على الهلاليين بإرسال أبي زيد الهلالي واثنين من فرسانهم لاستطلاع مملكة الزناتي خليفة في تونس قبل مهاجمتها. وتبعاً لذلك، خرج أبو زيد ورفيقاه يحيى ويونس، في رحلة استطلاعية استغرقت خمسين يوماً، وعرفت في التغريبة باسم «رحلة الريادة» لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ كشف سرهم. أسر الزناتي خليفة يحيى ويونس، بينما تمكن أبو زيد من الهرب، وعاد إلى قبيلته بوصف دقيق لبلاد تونس التي اندهش من خيرها وخضرتها. وتأكد لحظتها خيار الهجرة والتوجه غرباً.
مرحلة ثانية، وشملت بداية الرحلة القاسية الصعبة نحو أمكنة اختبرها أبو زيد ورفاقه الذين تم سجنهم وحبسهم. لكن الوصول لها صعب، لأنه كان على القبيلة قطع الرحلة كلها من نجد، مروراً بمصر، ثم الدخول إلى البلاد المغاربية بدءاً من ليبيا وتونس والجزائر، وانتهاء بالمغرب. وكان على القبيلة تحمل الجوع والأمراض والعطش والمخاطر الكبرى التي لا تنتهي. وكذلك تحمل الحروب التي نتجت عنها ومقاومة الزناتي خليفة الذي لم يقبل بهذا الارتحال الذي رأى فيه اجتياحاً وغزواً خطيراً. وفي هذه المرحلة تتجلى خصائص الشخصيات جميعها بكل قوتها وثباتها ونبلها وخياناتها السرية. ولكن إرادتهم تنتصر على كل المعوقات ويستقرون بتونس بعد مقتل الزناتي خليفة وقبل أن ينتشروا كلياً في المغرب العربي الكبير.
المرحلة الثالثة والأخيرة مرتبطة بسلسلة من الخسارات الكبرى، حيث يخسر الهلاليون وحدتهم وتدخلهم الأنانيات الصغيرة التي تذكر بملوك الطوائف في الأندلس، في كل شيء لدرجة التساؤل إذا لم يكن راوي/ رواة القصة على تماس بما كان يحدث في الأندلس من حروب بينية أدت إلى سقوط الكثير من المدن الأندلسية، ومنها طليطلة على وجه الخصوص. لتكون نهاية بني هلال المفجعة وتيههم في بلاد المغرب، هي أكبر تراجيدية لحقت بهم. توجد اليوم الكثير من العائلات الهلالية منها بنو عامر، وسليم، وغيرهما من القبائل الأخرى. لكن هذه المحن المتراكمة هي التي أثرت التغريبة وأعطتها بعدها الملحمي، وحولتها من مجرد رحلة للبحث عن سبل العيش من كلأ وماء أو هرب من البطش الفاطمي، إلى ملحمة بكل المقاييس، من حروب ومآس وصراع لا ينتهي مع قوى الطبيعة من جفاف وعواصف بحسب المناطق التي كانوا يرتادونها، ومع الجيوش التي كان عليهم مواجهتها.
ففي التغريبة الهلالية، حكي سردي ثري يشد انتباه المتلقي، وذلك لما فيه من أحداث يمتزج فيها التاريخي بالاجتماعي، كما ذكرنا آنفاً، في قالب بطولي اختاره لها الرواة والمدونون، وفيه تبرز الفروسية والشجاعة والتضحية من أجل الكيانات العامة، ولا ينقصها شيء لتكون في رتبة أو قريبة من روايات الفروسية الغربية. فمن خلال العمليات السردية الغنية العامة، أو الوحدات الصغيرة، يتجلى المعنى الكبير لهذا النص غير المنقطع عن جهد فني كبير خلد رحلة التيه العربي بذكاء كبير.
عندما أتأمل الوضع العربي من حولنا، أشعر بهزة داخلية فادحة، وكأننا منذ تيه «بني هلال» في الصحاري، في القرن الحادي عشر، لم نتحرك. ما نزال في نفس «السبخة» نقاوم الغرق بكل ما نملك، دون جدوى. هل هو قدرنا؟ أم أن هناك من لا يتوقف ثانية واحدة عن التفكير فينا، ليجعلنا هكذا دوماً، أمة تموت على نار هادئة، وكلما قام أحد من أبنائها ليقاوم المذلة ولو بالوسائل البدائية، أضرمت النار أكثر لتلتهمه وتلتهم كل من يفكر في الخروج من السبخة.