« إنه لمما تعجز عن وصفه الكلمات كم كان ذلك الوادي مقفراً وشائكاً وعصياً على العبور».
دانتي - النشيد الأول من «الجحيم»
كنت أجلس على الأرض في زنزانتي في سجن الحلة ألعب الشطرنج مع زميل لي حينما سمعت الحارس ينادي على اسمي، فنهضت لأرى ما يريده مني. قال لي الحارس، مستعجلا إياي:
- هيا جهز نفسك، سوف تنقل الى بغداد بعد قليل.
قلت مستغربا، وقد فاجأني الأمر:
- خير، إطلاق سراح إن شاء الله!.
نظر الي مستهزئا:
- من أين يأتيكم الخير؟ أي إطلاق سراح؟ أنت تحلم. ارتد ملابسك بسرعة واتبعني!
ثم أضاف بعد أن رآني واجما وحائرا بعض الشيء:
- خذ أيضا متاعك معك، فقد يطول سفرك.
- ماذا؟ هل تقرر نقلي الى سجن آخر؟
- لا تستعجل، سوف تعرف ذلك بعد قليل من مأمور السجن، العجلة من الشيطان.
***
كنت محكوما بالسجن ثلاث سنوات، أمضيت عاما ونصف العام منها، متنقلا بين العديد من المعتقلات والسجون، لذلك لم أعرف سببا يجعلهم يقررون نقلي ثانية الى بغداد. وبدا لي أنهم ربما يريدون إعادة النظر في الحكم الذي كان قد صدر عليّ، اعتمادا على أضابير لجان تحقيق الحرس القومي الملطخة بالدماء في سراديب تعذيبهم المعتمة، بعد أن نشرت حكومة عبدالسلام عارف الجديدة نفسها كتابا أسود عن الجرائم التي ارتكبها الحراس القوميون ضد ضحاياهم من المعتقلين الذين كانوا يرغمونهم على الإعتراف بكل ما يمكن أن يخطر على البال من جرائم حتى أن فتى لم يحتمل التعذيب اعترف ذات مرة بأنهم يخفون طائرة هليكوبتر في بستان يملكونه وأخذهم معه ليدلهم عليها. كان مستعدا ليعترف أن ملكة بريطانيا نفسها تقود أعمال التخريب التي تقوم بها منظمتهم الثورية من أجل الإفلات من التعذيب ولو لبضع ساعات.
إن أصعب ما في التعذيب هو أن يظل المرء حيا رغم كل آلامه، حيث يصبح الموت وحده ما يمكن للضحية أن تهزم به جلادها. ولكي نفهم ذلك علينا أن نعود القهقرى الى فترات مختلفة من تاريخ العراق الحديث، حيث كنا نرى بين الفينة والأخرى زعماء سياسيين ورجال دولة كبارا يظهرون على شاشة التلفزيون ويعترفون بكل ما يطلب منهم، آملين أن يقودهم ذلك الى الموت الذي سيعني نهاية محنتهم مع جلاديهم. بل أن أحدهم وهو جنرال كان حاكما عسكريا عاما للبلاد ذات يوم وقاد هو نفسه الكثيرين الى الموت ظهر على شاشة التلفزيون ذات مرة وراح يعلن بكل وقار:
- أجل، كنت أعمل جاسوسا مدسوسا منذ البداية.
فيرد عليه المذيع الذي يستجوبه، وكأنه يستغرب ما قاله الرجل ضمن المسرحية التي يمثل هو الآخر دوره فيها:
- كيف؟ هل يعقل هذا؟ ولماذا؟
فيرد عليه الجنرال:
- بلى، بلى، كنت والله العظيم جاسوسا جندتني وكالة المخابرات المركزية الأميركية، طمعا بالمال، إنني أعترف بذلك.
كانت فلسفة التعذيب الذي يمارسه الجميع بكل همة في ظل كل العهود العسكرية الدكتاتورية التي مرت بالعراق، وفيما بعد في ظل الإحتلال الأميركي وهيمنة سدنة الظلام الذين يستلمون رسالتهم عادة من الله نفسه على الحكم، تقوم دائما على فكرة تحويل الضحية الى حطام ليكون جديرا بالعيش في ظل راياتهم المرفرفة عاليا فوق خرائب فراديسهم المفترضة الملأى بالحوريات العاريات والغلمان المخلدين. ففي "قصر النهاية" الذي صار رمزا للتعذيب الذي كان يمارسه الجلاد المعروف ناطم كزار، طالب المدرسة التكنولوجية السابق ومدير الأمن العام بعد انقلاب 1968، كانت مهمة الكنس وتنظيف المراحيض العامة تسند دائما الى الوزراء السابقين المعتقلين، أما من كان رئيسا للوزراء كطاهر يحيى وعبدالرحمن البزاز فكان يتولى منصب رئيس الكناسين بحكم التسلسل الوظيفي ويقود فريق العمل بنفسه، مصدرا أوامره اليهم كالعادة: "هيا يا وزراء، حان وقت الشغل!".
في صيف العام 1963 عندما كنت موقوفا في سجن بغداد المركزي كان الحراس القوميون يرغمون الأساتذة الجامعيين المعتقلين معنا على تولي مهمة تنظيف المراحيض وكنس قاعات السجناء العاديين وتنظيفها. ولم يعد سرا بالطبع ما فعله الأميركيون بالمعتقلين في سجن "أبو غريب" من انتهاكات جنسية يندى لها جبين البشرية. أما الإسلاميون فيفضلون كما يبدو الإغتصاب واستخدام المسدس كاتم الصوت وقطع الرؤوس أحيانا لشحنها في سلال مغطاة بالقش الى التجار في الشورجة، وأخيرا إحياء طقس صلب المسيح على الطريقة الرومانية في الشوارع والساحات العامة والرجم بالحجارة حتى الموت او حرق الضحايا أحياء في احتفالات عامة. وهنا يتساوى الجميع، إذ لا فرق كبيرا بين جلاد وآخر، مهما اختلفت الأسماء التي يطلقونها على أنفسهم والأقنعة الآيديولوجية التي يضعونها على وجوههم.
***
عندما رزمت فراشي وحملته مع متاعي القليل على كتفي قادني الشرطي الى مكتب مأمور السجن الذي أبلغني أن ثمة أمرا بنقلي الى موقف السراي في بغداد في انتظار محاكمتي مجددا من قبل المجلس العرفي العسكري على قضية لم يكن يعرف عنها شيئا، فظللت أضرب أخماسا بأسداس، بدون الوصول الى نتيجة. ترى ما الذي يريدونه مني هذه المرة بعد أن حكموا علي بالسجن ثلاث سنوات عما اقترفته من آثام في نظرهم؟ ومع ذلك كنت قد وطنت نفسي مع الزمن على ألا أكترث بما يمكن أن تأتيني به الأقدار. فقد كنت يائسا تماما من أي احتمال في الإفلات من المصيدة التي انتهيت اليها في "جمهورياتهم الخالدة أبد الدهر". ففي ظل ما شاهدته وعشته وأنا لا أزال بعد في مقتبل حياتي فقدت ايماني الطفولي الساذج القديم بما كانوا يدعونه العدالة والإنسانية وأدركت أن بربرية ما قبل التاريخ قد تسفر مثل ذئب مخبول عن أنيابها من جديد حين تسود روح القطيع بين الناس، فيعود الإنسان وحشا لا حد لضراوته.
لا أعرف أي جنون ملائكي جعلني أعتقد وأنا لا أزال فتى أن في إمكاني أن أغير العالم وأن ثمة مسؤولية أخلاقية تلزمني كشاعر وكاتب شاب أن أقاوم البؤس الذي كنت أشهده في كل مكان، وأن أطلق صرختي، مهما بدت خرساء، ضد الليل كله، حتى اكتشفت أن الخيار الوحيد الذي تركوه لي لأفعل ذلك كان هو أن أتحول أنا نفسي الى ضحية في لعبة خاسرة في كل الأحوال. ومع ذلك فان اكتشافي لتلك الحقيقة التي قادتني الى ما وراء مفهوم الخير والشر واعترافي بها بدل التشبث بذيل أوهام متعالية على واقع بؤس العالم وهمجية الوعي البشري قد منحني القوة التي كنت احتاجها لمواجهة مصيري الفردي، فحين يكون المرء محكوما بالسجن ثلاث سنوات ومفصولا من الجامعة ومعزولا عن عالمه وبعيدا عن أقرب الناس اليه ولا يكاد يملك فلسا في جيبه لا يعود ثمة ما يخشى أن يخسره بعد ذلك. لم يعد حتى الموت نفسه يخيفني بعد أن رأيت كل ذلك الموت في حياتي.
***
في موقف السراي في بغداد أبلغت مندهشا بالتهمة الجديدة الموجهة الي والتي سيحاكمني المجلس العرفي العسكري عليها، وفق صياغتهم الخاصة لها: العثور عند التفتيش على قصائد ممنوعة مخفية تحت فراش المتهم أثناء وجوده في معتقل العيواضية في العام 1961، وهي خواطر من الشعر المنثور موجهة ضد سياسة الحكومة والجمهورية الخالدة.
قصة تكاد تكون سوريالية تماما، بل أنها، والحق يقال، تصلح أن تكون قصة يكتبها فرانز كافكا بالذات. كنت قد أوقفت في العام 1961 مع عدد من طلبة كلية التربية في بغداد بعد اجتماع احتجاجي في نادي الطلبة، ألقيت فيه كلمة ضد الدكتاتورية العسكرية، ولكن تدخل الرجل الطيب الذي كان يتعامل معنا مثلما يتعامل مع أولاده، الدكتور يوسف عبود، عميد الكلية، والمقرب من الزعيم عبدالكريم قاسم، جعلهم بعد أكثر من شهرين من الإعتقال يلغون القضية ويطلقون سراحنا، فانتهت بذلك القصة.
ومع ذلك لم تنته القصة بالنسبة لي كما يبدو، فقد حدث أثناء وجودي حينذاك في موقف العيواضية ببغداد، وهو سرداب تحت الأرض، أن عثروا خلال تفتيش مفاجئ لنا تحت البطانية التي ألتحفها على قصائد كنت قد كتبتها قتلا للوقت الكثير الذي كنا نملكه، ومن بينها قصيدة طويلة لا أزال أتذكر عنوانها وهو "المسيح يصلب مرة أخرى"، بعد أن كان جمال سري، وهو رجل أمن يعمل هناك، قد لمحني وأنا أخفي شيئا ما تحت فراشي، فاعتقد أنه منشورات سرية جرى تهريبها الينا بطريقة ما.
أوضحت أثناء التحقيق الذي جرى معي أنني عضو في اتحاد الأدباء العراقيين وأن القصائد التي عثروا عليها تحت فراشي هي قصائد لي كتبتها أثناء توقيفي كجزء من هوايتي الشعرية، موضحا أنها كتابة أدبية لا علاقة لها بالسياسة أبدا. لكن معاون الأمن الذي حقق معي ظل يصر على أنها كتابات شيوعية ممنوعة. لم يكن من اللائق أن أقول له إن أكثر ما أبغضه في الأدب هو ما كان الشيوعيون يطلقون عليه يومذاك إسم "الواقعية الإشتراكية"، ولكن حتى لو عرف ذلك لما اهتم به، فقد كان كل ما يريده هو الايقاع بي بأي ثمن.
وللبت في الأمر، وربما أيضا بتدخل من الدكتور يوسف عبود، تشكلت لجنة من أربعة او خمسة من الأساتذة الجامعيين الذين قرروا بعد استجواب شكلي أجروه معي أن ما يعتبره الأمن أدلة جرمية ضدي هو في الحقيقة قصائد ذات طبيعة أدبية بحتة يمكن نشرها في أي جريدة من الجرائد العلنية. وبذلك انتهت القضية التي لم يسألني أحد عنها بعد ذلك حتى الإشعار الذي تلقيته الآن بعد ثلاث سنوات بتقديمي الى المحكمة العسكرية العرفية بسبب ذلك.
كان الأمر أشبه ما يكون بالمهزلة في ظل التغييرات التي شهدها العراق. فالتهمة هي انها قصائد تهاجم حكومة عبدالكريم قاسم التي كانوا هم أنفسهم قد أسقطوها بالدبابات والطائرات وحفلات الإعدام بالرصاص، حيث يقتضي منطقهم نفسه أن أكافأ عليها لا أن أحاكم بسببها، إن كانت تهاجم حكومة عبدالكريم قاسم حقا. ولكن القصائد لم تكن في الحقيقة سوى ذريعة للإنتقام. وكنت أعرف أن المنطق هو آخر ما يمكن أن يخطر ببال العسكريين المتعصبين في المجالس العرفية، فهم يقسمون البشر دائما الى أصدقاء وأعداء. فإن لم يعتبروك صديقا لهم فأنت عدو لهم بالضرورة، وحينذاك لن تنفعك أي حجة لإثبات براءتك او للدفاع عن موقفك.
***
قبل أن أسرد تفاصيل تلك الرحلة المثيرة التي قادتني من الحلة الى بغداد ومن بغداد الى البصرة ومن البصرة الى بغداد ثم العودة ثانية الى الحلة، وأنا أجر للحاق بالمحكمة العسكرية التي لم أفلح في الوصول اليها الا بعد أعوام من ذلك كما سترون في نهاية هذه القصة، أجد ضرورة في أن أبدأها أولا من تاريخ لا يمكن أن يمحى من الذاكرة أبدا هو تاريخ ذلك الموت الذي عصف بالعراق في الثامن من شباط 1963، رغم أن مأساتنا كانت قد بدأت قبل سنين من ذلك والتي صرت أنا نفسي بطلا فيها بقوة الواقع.
ربما لا يدرك من لم يعش ذلك التاريخ أن الكثير مما يحدث في بلد مثل العراق يحدث غالبا بمحض الصدفة، وهي صدفة قد ترفعك الى السماء السابعة او تحط بك أسفل سافلين. وحتى بقاء المرء حيا يظل رهنا بها. فقد كان يمكن لي أن أموت او أن أقتل أكثر من مرة مثلما مات الكثيرون غيري، سواء برصاصة طائشة من أحمق في الشارع او من قاتل يترصد خطاي في الظلام او تحت سياط جلاد ما في زنزانة سرية في معتقل ناء في صحراء. أجل، لقد نجوت من الموت بأعجوبة أكثر من مرة، وهو ما ينبغي لي أن أشكر الله عليه الآن.
عندما اعتقلت مساء اليوم الثالث من ذلك الإنقلاب الذي هاجم فيه الإنقلابيون المتظاهرين ضده بالطائرات وقصفوهم، كما حدث عند ساحة وزارة الدفاع، وكان قد صدر البيان رقم 13 الذي خول كتائب الحرس القومي التي كانت تتكون أساسا من طلبة جامعيين وعمال عاطلين عن العمل ومصارعين ورياضيين فاشلين وموظفين ببدلات بإعدام كل من تأسره من الأعداء والخصوم المنتمين الى قبائل سياسية أخرى، في شقة قريبة من شارع السعدون، ليس بعيدا عن
ساحة الزهور، أنزلوني باللكمات والعصي من الطابق الأول الذي كنت فيه الى الشارع، مع زميل آخر لي كان معي، وأسندونا الى جدار بنايتنا التي بدت ساكنة بشكل غريب تحت ضوء مصابيح باهتة متباعدة وحكموا علينا بالموت، مقررين إطلاق النار علينا، بدعوى اننا هربنا من الشقة حينما جاؤوا "يمشطون" المنطقة، باحثين عن الأعداء، وكان ذلك في نظرهم دليلا على المقاومة وسوء النية. وهنا تدخل الحظ السعيد، ففي اللحظة التي كان فيها الحراس الموتورون يوجهون فوهات رشاشاتهم الينا ويضعون أصابعهم على زناد رشاشاتهم، وصلت سيارة جيب عسكرية مسرعة هبط منها ضابط شاب ربما كان في الثلاثين من عمره، وهو يشهر مسدسه، متبوعا بعدد من الجنود المسلحين وراح يصرخ بهم:
- قفوا، ما ذا تفعلون؟
توقف الحراس القوميون مرتبكين وخفضوا رشاشاتهم:
- سيدي، لقد قررنا إعدامهم، إنهم معادون للثورة.
سأل الضابط:
- معادون للثورة، ماذا يعني ذلك؟ ما هذه الخرابيط؟
رد أحد الحراس :
- لقد هربوا عندما قرعنا عليهم باب الشقة ورفضوا أن يفتحوا لنا الباب، وانظر ما الذي عثرنا عليه عندهم، كتب باللغة الانكليزية، لا بد أنهم جواسيس يا سيدي.
وانبرى واحد آخر منهم قائلا، ربما ليبرر قرار قتلنا:
- سيدي لقد رفضوا أن يشتموا عبدالكريم قاسم، عندما طلبنا ذلك منهم.
تجاهل الضابط ما قاله الحارس القومي واقترب مني سائلا، وهو يلقي نظرة على بعض الكتب التي حملها بيده:
- هل هذه الكتب لك؟
قلت:
- نعم إنها لي. إنني طالب أدب انكليزي في الجامعة. لقد هربنا حقا خوفا، لتجنب الأذى الذي يمكن أن يلحق بنا، ففي مثل هذه الظروف يمكن أن يحدث أي شيء.
- ولماذا لم تشتموا عبدالكريم قاسم؟
أجبته مبررا:
- لا يليق بنا أن نشتم أحدا، هذا أمر يتعلق بالكرامة.
رد ساخرا وهو يحدق في عيني:
- مثقفون على الطريقة العراقية! هل لو شتمت أحدا ما سيقلل ذلك من قدرك؟
ثم جرني أنا وزميلي الذي التزم الصمت الى سيارة الجيب الواقفة وسط الشارع وقال آمرا الحراس القوميين:
- هيا انصرفوا الى عملكم، سوف آخذهم معي لأسلمهم الى مركز الشرطة للتأكد من هوياتهم قبل إطلاق سراحهم.
وفي الطريق قال لنا مؤنبا:
- أي غباء هذا الذي يملأ رؤوسكم! هل يستحق الأمر كل هذه المجازفة؟ هل عبدالكريم قاسم هو الله حتى ترفضوا شتمه؟ كس أم العالم كله!
منذ ذلك اليوم لم يغادرني قط الشعور بأنني أعيش في "الوقت الإضافي" او "الوقت الضائع" كما يسميه لاعبو كرة القدم، فقد كان يمكن لي أن أقتل وتنتهي هذه القصة التي لن يسمع بها أحد، مع شعور بالعرفان للقدر الذي ارتدى بدلة ضابط مجهول لم أعرف حتى إسمه وأنقذ حياتي.
***
في مركز شرطة البتاويين الذي استلمنا من الضابط الشاب بدا كل شيء عاديا. سجلوا أسماءنا وقالوا لنا إنهم سوف يسلموننا لمديرية الأمن العامة الواقعة في السعدون للتحقيق معنا. وحتى يتم نقلنا الى هناك رموا بنا في موقف المركز، وهو سرداب واسع تحت الأرض، مزدحم حتى الإختناق بالموقوفين، ما كدنا نهبط اليه حتى نادى الشرطي الواقف في الباب، مخاطبا بعض النزلاء الذين هبوا لاستقبالنا:
- يا جماعة عندكم ضيوف اليوم، إنهم من ربع الزعيم.
ما كاد يقول ذلك حتى ضج السرداب بهتاف كورالي موحد:
- وحدة، حرية، اشتراكية.
ثم هجموا علينا وراحوا يركلوننا ويصفعوننا بعد أن أسقطونا أرضا، حتى صاح بهم الشرطي:
- يكفي، يكفي، اتركوهم، لقد نالوا جزاءهم!
في الساعة او الساعتين اللتين أمضيناهما في ذلك السرداب المزدحم بأكثر من خمسين او ستين موقوفا عرفنا أن معظمهم كانوا قوادين ولصوصا ومجرمين قتلة راحوا يأملون بأن يطلق الإنقلابيون سراحهم حين يسمعون هتافاتهم المؤيدة ويعتبرونهم مناضلين وثوريين مثلهم. ولم يكن بينهم سوى اثنين او ثلاثة من المعتقلين السياسيين الذين كانوا هم أيضا قد تعرضوا للضرب قبلنا.
كل هذا كان في الحقيقة مجرد بداية لقصة لم تبدأ فعلا الا في مديرية الأمن العامة واستمرت طوال سنين في رحلة بدت لشاب مثلي في العشرين من عمره بلا نهاية، ما بين معتقل ومعتقل، ما بين سجن وسجن، ما بين موت في الحياة وحياة في الموت، وكأن كل ما يحدث معي او أمامي فيلم كتب قصته الشيطان وأنتجه مخرج مجنون لا هم له سوى الإنتقام من كل ما يمتلك قيمة في الحياة.
حينما وصلنا الى مبنى مديرية الأمن كانت الساعة تشير الى حوالي العاشرة ليلا وثمة رجال بملابس مدنية يحملون الرشاشات يقفون عند البوابة تحت لافتة كبيرة،علقها الإنقلابيون، خط عليها باللون الأحمر "يا أعداء الشيوعية اتحدوا!"، فاستقبلونا بوابل من الشتائم والصفعات والركلات حتى قبل أن يعرفوا أي شيء عنا، ثم أوقفونا في الفناء قريبا من الجدار حيث جاءنا إثنان يحملان قضيبين مطاطيين يهزانهما في يديهما وقالا إنهما هما أيضا طالبان في الجامعة مثلنا ثم سألنا أحدهم:
- لماذا أنتم ضد الثورة؟ لماذا تدافعون عن دكتاتور مثل عبدالكريم قاسم؟
رد زميلي: نحن طلبة ولم نفعل شيئا.
قال أحد الشخصين وهو يرفع يده بالقضيب في وجهينا:
- "حسنا، لتثبتوا براءتكم اهتفوا ضد الزعيم والشيوعيين."
التزمنا الصمت:
- زين، اهتفوا إذن ضد البعثيين.
واقترح الآخر:
- حسنا، إهتفوا "يسقط الله"، فأنتم لا تؤمنون به، أليس كذلك؟
كان من الواضح لي أنهما يستمتعان باللعب معنا، كما يستمتع القط باللعب مع الفأر قبل الإجهاز عليه، وأن لا خلاص لنا من الفخ الذي وقعنا فيه، لذلك قلت له:
- نحن لا نتدخل في السياسة، ولن نهتف ضد أي أحد.
قال:
- حتى ضد ميشيل عفلق.
ثم أضاف:
- هيا اهتفوا بصوت عال يسقط ميشيل عفلق القواد، ابن القحبة.
قلنا: لن نشتم أحدا.
ما كادا يسمعان ذلك حتى انهالا علينا ضربا بالقضبان مع سيل من الشتائم قبل أن ينضم اليهما آخرون راحوا يصفعوننا ويركلوننا بدون توقف. وكان ثمة من يصرخ مستنكرا:
- مبدئيون، كلاب لا يشتمون أحدا، سوف نقتلكم جميعا يا أبناء القحاب.
وأخيرا جاء من أنقذنا من أيديهم وقادنا الى موقف الأمن، واضعا إيانا في زنزانة مستطيلة كبيرة نوعا ما، لم يكن فيها سوى شخص واحد قبلنا، وهي الزنزانة اليسرى القريبة من المراحيض وأغلق الباب علينا، فشعرنا أننا قد نجونا.
***
ينسى المرء مع الزمن الكثير من الوقائع التي عاشها او التي مر بها، مهما كانت قاسية ومؤلمة، لكن ثمة ما يظل عالقا بالذاكرة حتى النهاية مثل جرح لا يندمل أبدا. كانت ثمة ثلاث زنزانات أخرى في موقف مديرية الأمن العامة، أعرفها جميعا، إذ كنت قد أمضيت في العام 1961 أكثر من شهر فيها، زنزانتان واسعتان بعض الشيء، متقابلتان عند المدخل، ثم الزنزانة التي كانوا قد رموا بنا فيها في مواجهة زنزانة ضيقة صغيرة، مع فناء من بضعة أمتار ينتهي بالمراحيض، ولكن بدون أي حمامات للإغتسال. كانت الغرفة خالية تماما من أي فراش او بطانية فتوجب علينا أن نجلس ونضطجع على الأرض العارية في مثل ذلك الشهر القارس من شباط، إذ كان من الخيال أن نطالب في مثل ذلك الوضع بتزويدنا بالأفرشة او أن نحتج على بؤس حالنا، ولكن كل ذلك بدا لنا ترفا يمكن الإستغناء عنه في مواجهة مشكلة الرجل الآخر المرمي في ركن من الزنزانة. كان الرجل وهو في حوالي الأربعين من عمره مصابا بطلقة في بطنه ويصرخ طوال الوقت، طالبا نقله الى المستشفى لعلاجه، بدون جدوى. كان ثمة من يأتي حين يشتد عويله ويصيح به من خلف الباب ذي القضبان الحديد:
- إخرس يا قواد، هذه عاقبة من يقاوم الثورة. لماذا المستشفى؟ سوف تعدم في كل الأحوال.
وكان الجريح يتوسل:
- أرجوكم، خذوني الى المستشفى، أقسم بالله أنني لم أفعل شيئا.
فيردون عليه:
- بل كنت تطلق الرصاص علينا وأصبت في المعركة، أين أخفيت سلاحك؟ سوف نتركك تموت مثل أي كلب.
وهكذا ظل يئن واضعا كفه على جرحه النازف طوال الليل الذي بدا أطول من الأبدية نفسها، بدون أن نكون قادرين على فعل شيء من أجله. كان الصمت يخيم على زنزانتي المدخل المتقابلتين اللتين لم تكونا تضمان بعد سوى عدد قليل من المعتقلين، مقطوعا بين الحين والآخر بصرخات آتية من الغرف الخارجية، حيث توجد مكاتب رجال الأمن والمحققون والجلادون او بدوي طلقات رصاص في الشارع. لم ننم بالطبع لحظة واحدة تلك الليلة، متوقعين أن يأتي من يأخذنا ليطلق الرصاص علينا، ولكنهم كما يبدو كانوا مشغولين لحسن الحظ بآخرين كثيرين غيرنا، فقد كانت المقاومة في اليوم الثالث من الإنقلاب لا تزال مستمرة في العديد من شوارع وأحياء بغداد. كان ما يقلقني أكثر من أي شيء آخر هو أن يموت الرجل الجريح الذي صار يتوقف عن الأنين بين الفينة والأخرى، فاقدا الوعي لبرهة من الزمن، قبل أن يعود الى نفسه ثانية. ورحت أتساءل مع نفسي "ماذا نفعل إن مات؟ هل ينبغي أن ننادي على الحارس الذي كان يقف عادة خارج بوابة الموقف المغلقة؟" في الصباح فقط وكان الرجل أقرب الى الموت منه الى الحياة جاؤوا وحملوه الى الخارج، بدون أن يكفوا عن شتمه وتهديده بالقتل. لا أعرف إن كانوا قد أخذوه الى المستشفى ام الى مكان آخر ليطلقوا عليه الرصاص.
في الصباح بدأت أفواج المعتقلين تتدفق على الموقف، وهم في الأغلب موطفون وعمال التحقوا بأعمالهم فالتقطوهم من مكاتبهم ومراكز عملهم او قبضوا عليهم خلال عمليات مداهمتهم للأحياء السكنية المعروفة بميولها اليسارية حتى امتلأت زنزانتنا الى الحد الذي لم يعد ممكنا فيه سوى الوقوف على القدمين. ومع ذلك ظلوا يدفعون بالمزيد من المعتقلين طوال ثلاثة أيام الى زنزانتنا، فكنا نظل واقفين ملتصقين الى بعضنا الليل كله. ومما لا أنساه أبدا، وهو أمر قد يبدو أشبه بالخيال، أنني في بعض تلك الليالي الثلاث كنت أغفو أحيانا واقفا فلا أسقط أرضا.
لم يكن رجال الأمن قادرين على التعامل مع هذا العدد الكبير من المعتقلين، لذلك لجأوا الى نقل الكثيرين منهم واحدا بعد الآخر الى المعتقلات والسجون الأخرى والنوادي الرياضية والبيوت التي احتلها الحرس القومي بعد اعتقال أهلها او طردهم منها لتكون معتقلات خاصة بهم. ولأنه كان من المستحيل عليهم البحث عن معلومات عن كل من قادته الصدفة اليهم في مثل تلك الفوضى كانوا يلجأون الى الضرب لعلهم يظفرون بما يبغون الوصول اليه بأسرع ما يمكن وربما أيضا بحكم العادة. ولكن الأمر كان يختلف مع من يعرفونه او يعتبر إسما معروفا لديهم، فقد جاؤوا بالشاعر محمد صالح بحر العلوم، وهو شيخ كبير السن وعلقوه من يديه بالنافذة الى الأعلى في زنزانة منفردة مواجهة لنا فظل هكذا طوال الليل بدون أن تصدر منه حتى نأمة واحدة. وفي تلك الأيام الأولى أيضا جلبوا المحامي حمزة سلمان من سجنه في نقرة السلمان، مكبلا بالأغلال في رجليه ويديه وشدوه الى النافذة في نفس الغرفة التي كان فيها الشاعر بحر العلوم الذي نقلوه الى مكان آخر. كانوا قد منعوا عنه الطعام فقمت بتهريب سندويتشه اليه خفية أثناء خروجنا الى الباحة الصغيرة. في المساء جاء الحراس القوميون وأخرجوه من الزنزانة وجعلوه يقرفص على الأرض قليلا،مكبلا بالسلاسل، قبل أن يقتادوه معهم الى النادي الأولمبي ويطلقوا النار عليه. كنت قد تعرفت على حمزة سلمان حين اعتقالي في الموقف العام ببغداد قبل ذلك بشهور، وأوحى لي فيما بعد بشخصية "سلام" في رواية "القلعة الخامسة".
***
كانت الساعة تشير الى حوالي العاشرة صباحا عندما جاء الحارس واقتادني الى غرفة خارج الموقف في الممر الذي تقع فيه مكاتب العاملين في الأمن للتحقيق معي. طلب مني المعاون الذي كان يجلس وراء مكتبه وأمامه كومة من الأوراق أن أعترف بكل ما لدي من معلومات حتى لا يضطر الى استخدام وسائل أخرى معي، بينما وقف ورائي شابان كان من الواضح أنهما من المختصين بالضرب وراحا يزعقان بي:
- هيا قل كل ما عندك ولا تجعل السيد المعاون يزعل عليك، وإلا كسرنا لك أضلاعك.
كان من الواضح لي أنهم في خضم ذلك الطوفان من المعتقلين وفوضى الإنقلاب لا يملكون شيئا ضدي وأنهم يلعبون معي نفس لعبتهم القديمة التي كنت أعرفها والتي سوف يبدأونها بالتأكيد بالضرب.
قلت: ماذا تريدون مني؟ إنني طالب في الكلية ولا أعرف حتى سببا لاعتقالي، فأنا لم أرتكب أي ذنب.
ما كدت أقول ذلك حتى انهالا علي ضربا وجرني أحدهم من شعري فانقلب الكرسي الذي كنت أجلس عليه وسقطت على الأرض، ورأيت أحدهم يسحب عصا كانت مركونة جانبا، راح يضربني بها، شاتما إياي بلا انقطاع. حاولت عبثا حماية وجهي ورأسي، فيما كان المعاون الذي لم يغادر مكانه يطلق الشتائم ضدي صارخا ويهددني بالويل والثبور. لا أعرف كم استمر ذلك، لكن كل ما أذكره الآن هو أنني كنت مرميا على الأرض ألهث منقطع الأنفاس حين لمحت شخصا أسمر متين البنية ويميل الى الطول يدخل الغرفة. لم أتبين ملامحه في البداية وأنا في موقفي ذاك حتى رأيته ينحني علي ويقول مندهشا:
- آه، هذا فاضل! مرحبا يا فاضل.
لم أرد عليه. توقف رجلا الأمن عن ضربي. سأله معاون الأمن المسؤول عن التحقيق:
- هل تعرفه يا معاون قاسم؟
ضحك الرجل الذي كان قد سلم علي وقال:
- أعرفه، ماذا تقول؟ كنا سوية في نفس الصف في الثانوية وكان صديقا لي قبل أن يختار الطريق الخطأ. إنه شاعر وأكثرنا ثقافة وموهبة، ولكن الله ابتلاه بمرض الأفكار الهدامة.
ثم التفت الي وقال مؤنبا:
- ألم أقل لك يا فاضل إن طريقك هذا سوف يؤدي بك الى الهلاك؟ أنظر ماذا فعلت بنفسك!
وخرج بدون أن يضيف شيئا آخر، وهو يدمدم مع نفسه.
كان ذلك الرجل هو قاسم حمد الذي كان زميلا لي بالفعل في نفس الصف خلال مرحلة الدراسة الثانوية في كركوك. كان منتميا الى حزب البعث، ومع ذلك ظلت علاقتي به قائمة، وإن شابتها خلافاتنا السياسية التي لم تدفعنا الى حد القطيعة او الشجار. وحين أكملنا الدراسة الثانوية ذهب كل منا في طريق مختلف: انتميت أنا الى جامعة بغداد لدراسة الأدب في حين انتمى قاسم الى كلية الشرطة في بغداد، ضمن السياسة التي اتبعها حزب البعث حينذاك في إغراق الشرطة والجيش بالموالين له.
لم أعر اهتماما لظهور قاسم حمد الدراماتيكي حتى انني لم أرد عليه بكلمة واحدة، لكنني لاحظت أن معاملتهم لي ولهجتهم معي تغيرت بعض الشيء، إذ لم أضرب بعد ذلك حيث جعلوني أجلس على الكرسي ثانية وراحوا ينصحون لي بالإهتمام بمستقبلي.
بعد قليل دخل الغرفة رجل متوسط الطول ونحيف نوعا ما، يرتدي بدلة أنيقة برباط وقدم نفسه لي بأدب:
- هل تعرفني؟ أنا مالك سيف، لا بد أنك سمعت بإسمي وتعرف قصتي.
رغم هذه المفاجأة التي لم أتوقعها قلت بتلقائية:
- يؤسفني أنني لم أسمع باسمك ولم يحصل لي الشرف بسماع قصتك.
إبتسم وهو يربت على كتفي بكفه:
- لا يمكن لك أن تخدع شخصا مثلي أيها الشاب، فقد مر علي كثيرون من أمثالك وكانوا يصلون دائما الى النهاية ذاتها ولكن بعد أن يكونوا قد دفعوا الثمن غاليا.
ثم أضاف بنبرة أبوية:
- إسمع ما أقوله لك، أنت تضحي بنفسك من أجل قضية خاسرة وأناس لا يستحقون ذلك. إنهم يستغلون أمثالك من المثقفين ويضحون بهم من أجل أهدافهم الخاصة. مكانك الصحيح هو في الكلية التي تدرس فيها وليس هنا.
ثم خرج تاركا الغرفة.
كنت بالطبع أعرف قصة مالك سيف، وهو صابئي كان يعمل معلما في العمارة، كما أعتقد، فقد عثرت قبل ذلك في مكتبة الكلية على نسخة من الموسوعة السرية التي كانت مديرية الأمن العامة قد أصدرتها وفيها كل تفاصيل قصة مالك سيف الذي تولى قيادة الحزب الشيوعي فترة من الزمن ثم ارتد وراح ينكل برفاقه، مسلما إياهم الى السلطات، حيث جرى تعيينه مستشارا او خبيرا في مديرية الأمن العامة.
كان مجيء مالك سيف للحديث معي غريبا بعض الشيء، إذ لم تكن حالتي ولا المعلومات التي يملكونها عني تقتضي ذلك، فقد كنت في نظرهم واحدا من ألوف المعتقلين الذين جيء بهم من كل حدب وصوب، حتى أن معاون الأمن الذي كان يحقق معي هددني بأنني قد أمضي ستة أشهر في المعتقل إذا ما أصررت على موقفي. ولكن اتضح لي السر بعد ذلك من خلال تعليق للحارس الذي أعادني الى زنزانتي. فحينما ترك قاسم حمد الغرفة راح يروي غاضبا وربما حزينا قصتي لزملائه الآخرين وكان مالك سيف حاضرا بينهم، فأراد الرجل أن يظهر شطارته كجميل يسديه لقاسم الذي صار يملك نفوذا كبيرا باعتباره بعثيا أصيلا وليس مجرد معاون أمن بحكم المهنة، بإقناع صديق قاسم القديم بالعدول عن أفكاره ومواقفه الهدامة او ربما كان قاسم نفسه قد طلب منه القيام بدوره ذاك معي.
وفي كل الأحوال فان مجرد معرفتهم بوجود علاقة صداقة سابقة بيني وبين قاسم، رغم انه شهد ضدي بطريقة أغاظتني وأحرجتني ولم يقل شيئا لصالحي، جعلتهم يتعاملون معي بطريقة مختلفة تماما، لا ضرب فيها ولا شتائم، مثلما ركز المحقق بعد ذلك في أسئلته على أمور عادية تتعلق بهويتي مثل الإسم والمهنة والعنوان وعما إذا كنت منتميا الى حزب سياسي وعن سبب اعتقالي، مدونا أجوبتي كما هي بدون تدخل من قبله.
هذه الحادثة صارت بعد سنوات الأساس الذي بنيت عليه رواية "مدينة من رماد" التي نشرت في العام 1989 وصدرت ترجمتها الانكليزية في العام 2011 بعنوان "المسافر وصاحب الخان".
وهكذا انتهى هذا الفصل الذي جعلهم بعد أيام من ذلك يقررون نقلي الى الموقف العام - القلعة الخامسة في بغداد مع عدد آخر من الذين انتهى التحقيق معهم في انتظار تقرير مصيرهم لتبدأ ملحمة أخرى قادتني بعد شهرين من ذلك الى معتقلات الحرس القومي التي كانت تمارس التعذيب حتى الموت مع ضحاياها ومن ثم الإنتهاء الى معسكر خلف السدة، حيث كانوا يأتوننا بين الحين والآخر برجال مغطاة رؤوسهم بأكياس سوداء ولا تبين منهم سوى عيونهم للكشف عن رفاقهم المتخفين بين حشود المعتقلين، وبعد ذلك النقل الى سجن بغداد، حيث وضعت في زنزانة ملاصقة لزنازين الإعدام، وعشت أياما في خيمة نصبت للمعتقلين الأكراد ( بينهم صالح اليوسفي، عضو الوفد المفاوض الذي جرى اعتقاله بعد فشل مفاوضاته في بغداد) في ساحة السجن، وأخيرا التسفير الى سجن الحلة. ولكن لأدع كل ذلك الآن جانبا، وأكمل رواية حكايتي التي لا تزال ناقصة والتي كنت قد بدأت بها هذه الذكرى لذلك الزمن الضائع من حياتي.
***
إقتادوني الى سيارة نقل مغلقة ومخصصة لنقل المعتقلين مع ستة او سبعة شبان آخرين بعد أن قيدوا كل إثنين منا بسلسلة واحدة. كان جميع الآخرين هم من البعثيين الذين كانت حكومة عبدالسلام عارف قد بدأت باعتقالهم، متهمة إياهم بارتكاب جرائم مختلفة والذين جيء بهم من مراكز أخرى في المدينة. طوال الطريق ظل شريكي في القيد يعلن عن مخاوفه:
- سوف يستلم الشيوعيون السلطة، لقد أعادوا تنظيم أنفسهم.
ثم يكرر:
- سوف يقتلوننا جميعا.
لم يكن الرجل، وهو شاب أسمر يميل الى البدانة، ربما كان في الثلاثين من عمره، مخطئا كثيرا في تقديراته، فلو قيض للشيوعيين الوصول الى السلطة لانتقموا من أعدائهم البعثيين شر انتقام، ولكن ذلك لم يكن أكثر من كابوس يعكس خوف مثل ذلك الشاب الذي بدا لي أنه كان جلادا من أن يدفع ثمن جرائمه التي ارتكبها.
ما كدنا نصل الى موقف السراي ويبدأ المفوض المسؤول بتدوين أسمائنا لتوزيعنا وفق اتجاهاتنا السياسية على الزنزانات حتى تناهى الى أسماعنا صوت جوقة كبيرة راحت تردد بصوت عال وبدون انقطاع أغنية وحيدة خليل المشهورة:
سبحانه الجمعنا بغير ميعاد
أحباب وتلاقينا، تعاتبنا وتراضينا
هذا اليوم أجمل يوم عدنا
سبحانه الجمعنا بغير ميعاد.
فضحك المفوض وقال ساخرا:
- ها هم الشيوعيون يرحبون بكم، لقد عرفوا بوصولكم.
كان موقف السراي صغيرا جدا، وهو مخصص أساسا للتسفيرات او التقديم الى المحاكم، حيث يتكون من ثلاث غرف كبيرة نوعا ما وغرفة صغيرة جدا ومرحاض واحد، مع فناء ربما بلغ طوله خمسة عشر مترا وعرضه ستة أمتار كانت الغرفتان الأولى والثانية تضمان عادة الموقوفين العاديين من القتلة واللصوص والقوادين والمهربين والمجانين، أما الثالثة والغرفة الصغيرة فكانت مخصصة في كل العهود تقريبا للمعتقلين السياسيين، وهم عادة من الشيوعيين واليساريين. فكان ظهور البعثيين هذه المرة مشكلة بالنسبة للشرطة، إذ ما كان يمكن وضعهم مع الشيوعيين الذين قد يفتكون بهم. لذلك خصصوا لهم غرفة على السطح. لكنني أبلغت المفوض أنني لست معهم، فوضعني حيث يجب أن أكون.
حينما انفتح الباب ودخلت كان كورس من عشرين او ثلاثين معتقلا لا يزال يردد بغبطة:
سبحانه الجمعنا بغير ميعاد.
***
مكثت بضعة أيام هناك قبل أن يأتوا ويأخذوني ذات صباح في سيارة مقفلة الى معسكر الرشيد ليحاكمني المجلس العسكري على تهمة لا أعرف عنها شيئا، بدون شهود او محام يدرأ التهمة عني، فزج بي في غرفة ما هناك وظللت أنتظر دوري. مرت ساعة وساعتان وثلاث ساعات بدون أن يسأل أحد عني حتى مللت الإنتظار. ثم جاء أخيرا من قال لي: "لقد تأجلت المحاكمة الى موعد آخر سوف تبلغ به. المحكمة مشغولة جدا." فأجبته منزعجا: "وما ذنبي أنا، كنت أريد أن أنتهي من هذا الأمر أيضا." فنظر الي الشرطي شزرا: "سوف تحصل على ما تريده، يبدو أنك مستعجل على الحكم عليك. لا أحد يخرج من هنا بأقل من بضع سنوات سجن." سكت، مفكرا مع نفسي، ليكن ما يكون، فحين يلقى بك في الجحيم لا يعود ثمة فارق بالنسبة لك بين نار ونار، وسيكون العذاب هو ذاته في كل الأحوال.
عدت الى موقف السراي وانتظرت أياما قبل أن يأتوا ويأخذوني ثانية الى المحكمة الغارقة في الشغل حتى الأذنين، فانتظرت هناك كما انتظرت في المرة الأولى، ولكن بدون جدوى، فأعادوني الى مستقري في انتظار موعد آخر لمحاكمتي. ثم حدث ما لم أتوقعه أبدا، إذ جاؤوا ذات مساء وقالوا لي إن المحكمة انتقلت الى البصرة وأمرت بتسفيري الى هناك للحكم علي. وهكذا نقلت الى محطة القطار وقد وضعوا القيد في يدي، مع امرأة شابة في حوالي الخامسة والعشرين من عمرها ترتدي العباءة، بحراسة شرطيين سوف يرافقاننا الليل كله حتى البصرة.
صعدنا في عربة درجة ثانية فجلست أنا والفتاة على مقعد واحد فيما جلس الشرطيان على المقعد الآخر إزاءنا. كان أحد الشرطيين في حوالي الخمسين من عمره والآخر يبدو أصغر منه وقليل الكلام. قدمت لهما السيجاير مثلما اشتريت لهما وللفتاة بعض الساندويتشات من الفلوس القليلة التي كانت معي، لأجعلهما يتخففان في رقابتهما علينا والتعامل معنا. وحين سألني الشرطي الأكبر سنا عن مهنتي، ولم يكونا يعرفان أي شيء عني او عن الفتاة قلت له:
- مدرس.
فسأل عن سبب توقيفي:
- شنو؟ لازم عركة.
فأيدت قوله:
- عركة بسيطة بين أصدقاء، تنتهي إن شاء الله بخير.
فقال مطمئنا إياي:
- مو مشكلة، لقد خمنت ذلك حالما رأيتك.
ثم التفت سائلا الفتاة عن قصتها، فقالت:
- ماكو شي، تحقيق هوية، متوهمين باسمي.
كنت متأكدا أن الفتاة تكذب هي الأخرى وتحاول طمأنتهم مثلي. تجنبت الدخول في أي حديث معها بحضور الشرطيين الجالسين إزاءنا واللذين راحا يتثاءبان بعد قليل وقد بدا الإنهاك عليهما، فنهض الشرطي الأصغر سنا واضطجع على مقعد فارغ في الطرف الآخر من العربة، ثم سرعان ما تناهى الينا صوت شخيره.
سألت الفتاة: "هل أنت من بغداد؟" قالت: "كلا، إنني من البصرة، لكنني كنت عند أقارب لي في بغداد." يبدو أن حديثي مع الفتاة شجع الشرطي الجالس إزاءنا والذي كان يقاوم النعاس هو الآخر على أن يمد يده بالمفتاح ويفك الطرف الأيمن من القيد الذي كان يشد يدي ويشد معصم يدي اليسرى الى معصم اليد اليمنى للفتاة، قائلا إنه يريد أن يغفو قليلا هو الآخر فالليل طويل وعليه أن يطمئن علينا من أي محاولة للإنسلال او الهروب. لم تعترض الفتاة، كما شعرت أنا الآخر براحة أكثر في تحرر يدي اليمنى على الأقل من القيد. ومع ذلك قلت له:
- ولماذا نهرب؟ والى أين؟ كن واثقا أننا لن نرمي بأنفسنا من هذا القطار المسرع؟
رد معتذرا، وهو يضطجع على المقعد المواجه لنا، بعد أن نزع حذاءه:
- أعرف، أعرف، ولكنها التعليمات، ماذا نفعل؟
جرت الفتاة يدينا المقيدتين الى تحت عباءتها فوجدت كفي فوق فخذها، شاعرا برجة كهربائية في أعضائي كلها، فهذه هي المرة الأولى بعد أكثر من عام ونصف العام أقترب فيها من امرأة وألمسها. ورغم انني كنت قد دربت نفسي على الإستغناء عن كل شعور إنساني في عالم لا يعرف معنى للحياة فان هذه اللمسة الملأى بالعاطفة والحنان من الفتاة جعلتني أسترد بعضا من روحي القديمة. فقد أدركت الفتاة أنني كنت في محنة وأرادت مواساتي على طريقتها، مثلما روت لي خلال رحلة الليل الطويلة الحقيقة عن نفسها وهي أنها كانت تعمل عاهرة في أحد بيوت الهوى السرية في البصرة فطعنت بالسكين شخصا ضربها وهربت الى بغداد حيث ألقي القبض عليها، وهي الآن عائدة للتحقيق معها ومحاكمتها على فعلتها. أخبرتها أنا الآخر بأنني طالب كلية وسجين سياسي وإنني ذاهب الى البصرة لمحاكمتي أمام المجلس العرفي، وحين سألتني إن كان أهلي يزورونني قلت لها إنهم يعيشون في مدينة بعيدة ويصعب عليهم الوصول الي. ما كدت أقول لها ذلك حتى رأيت الدموع في عينيها، لكنني طمأنتها بأنهم على اتصال بي وأن الأمر ليس سيئا جدا. كانت قد غطتنا بعباءتها وتكورت، واضعة رأسها في حضني، فيما راحت أصابعها تداعب جسدي برقة. لقد قدم لي المجلس العرفي العسكري أخيرا هدية كان ينبغي لي أن أشكره عليها وبدت لي هذه الرحلة للحاق به واستدرار عطفه لمحاكمتي قد استحقت عناءها حقا.
في الصباح كنا قد وصلنا البصرة التي ما كنت قد زرتها من قبل، فاقتادنا الشرطيان اللذان كانا قد اطمأنا الى عدم رغبتنا بالهروب، بدون قيود هذه المرة الى ما بدا لي أنه سراي الحكومة، بسبب كثرة أقسامه وتزاحم الناس فيه، حيث جرى ايقافنا كما أتذكر في ممر أرضي تحت شجرة وراح الشرطي الأصغر سنا يسأل عن المكان الذي ينبغي ايصال كل منا، أنا والفتاة، اليه قبل أن يعود ليأخذ الفتاة معه والتي ودعتني بكلمات طيبة وإبتسامة مشجعة، فظللت أنتظر مع الشرطي الأكبر سنا أوبته، لكنه حين تأخر كثيرا ذهب الشرطي الآخر أيضا ليستطلع الأمر، فانتبهت فجأة الى أنني أقف وحيدا بين الناس بدون أي حراسة، فخطر لي أن أهرب. كان كل ما أحتاجه هو أن أختلط بالناس القادمين والذاهبين وأخرج من الباب معهم بدون أن أثير شكا. لكنني لم أكن قد فكرت بالأمر أساسا قبل ذلك وما كنت أعرف أحدا في مدينة أجد نفسي لأول مرة فيها، فضلا عن انني لم أكن أملك ما يكفي من النقود لأقيم في فندق حتى لليلة واحدة او استقل سيارة تنقلني الى بغداد. وحتى إذا هربت ماذا يمكن أن أفعل بحياتي؟ سأظل مطاردا دائما وعاجزا عن العثور على أي عمل. كل ذلك مر في لحظة واحدة في ذهني، فتخليت عن الفكرة وظللت أتمشى في الممر ذاته جيئة وذهابا في انتظار عودة الشرطي الذي ظهر أخيرا وهو يتلفت يمنة ويسرى، بادي القلق، لكنه ما كاد يراني واقفا في مكاني حتى استعاد أنفاسه وفرح وجاء يبشرني:
- تأجلت المحاكمة، المجلس العرفي رجع الى بغداد.
سألت:
- وماذا أفعل في البصرة؟
- لا شيء، ستعود معنا الليلة الى بغداد.
بعد ساعة او ساعتين وأنا أمد يدي أبحث عن شيء ما داخل سترتي عثرت على نصف دينار لم يكن لي. فعرفت أن الفتاة دسته في جيبي خلسة خلال رحلتنا الليلية الطويلة بالقطار، رغم انها كانت تعرف أننا لن نلتقي بعد ذلك أبدا.
لا أتذكر كيف أمضيت بقية ذلك النهار في البصرة. لا بد أنهم احتجزوني في موقف ما، ومع ذلك لا أتذكر أنني كنت في أي زنزانة في البصرة. كل ما أتذكره الآن هو انني كنت مرة أخرى في القطار العائد الى بغداد مع نفس الشرطيين بصحبة عجوز ريفي مجنون لا يكاد يكف عن ترداد عبارة أثيرة الى نفسه وهي "شنو هالطركاعة!"، متصورا أن ثمة بئرا أمامه وأنه سوف يسقط فيها "ها .. ها ... شنو هالطركاعة!" ثم يأخذ بالبكاء والتوسل والصراخ.
هذا المجنون الريفي مكث بضعة أيام في موقف السراي قبل نقله الى مستشفى الشماعية، نائما خارج الغرف في الفناء، إذ ما كان أحد يريده أن يكون معه، بل أن بعض الموقوفين العاديين راح يسخر منه ويتخذ منه وسيلة للتسلية "ها .. ها .. دير بالك، باوع زين قدامك!" فيصرخ مهتاجا "ها ها شنو هالطركاعة!" قبل أن يسقط في البئر.
كان عدد الذين لا يملكون مكانا في غرف الموقف ويعيشون في العراء لا يقل عن عشرة أشخاص. كان السياسيون يوفرون مكانا لرفاقهم في زنزانتهم مهما ضاق بهم المكان، لكن الأمر كان يختلف مع الموقوفين العاديين الذين كانوا يطبقون قانون الغاب في ما بينهم، بتواطؤ كامل مع الشرطة المرتشين. فقد كان القتلة وتجار الحشيش والقوادين الأقوياء يتصرفون كسادة يهابهم الآخرون، لهم غلمانهم الذين يخدمونهم كجوار لهم. أما الضعفاء والذين لا يملكون مالا يدفعونه كجزية لهم فكانوا يضربون ويطردون خارجا. لكنهم كانوا يتجنبون كقاعدة أي تماس مع السياسيين او تدخل في شؤونهم، وكان السياسيون يتعاملون بمثل ذلك أيضا معهم. ومما جرح ضميري الى الأبد ما شهدته ذات مرة حين هبط المطر مدرارا فجأة فهرع بعض الذين يعيشون في العراء الى المرحاض الوحيد ليحتموا بسقفه واقفين، ولكن حين زاحمهم آخرون على المكان جرت بينهم معركة سالت فيها الدماء، مختلطة بزخات المطر. ذلك المنظر الذي لا أنساه ما دمت حيا جعلني أفكر في البؤس البشري في مواجهة كل الدعاوى الكاذبة عن التقدم الذي يفترض أننا قد حققناه في عصرنا.
بقيت أياما أخرى أنتظر أن يرأف المجلس العسكري بي ويحاكمني، لكنهم بدل أن يقتادوني اليه مثل كل المرات السابقة جاؤوا وقالوا لي:
- لا محاكمة، ستعود الى سجنك في الحلة.
لم أعرف ما حدث: هل ألغيت القضية أم تأجلت؟ لم يقل لي أحد ذلك. لقد حالفني الحظ قليلا هذه المرة، فلو لم ينشغل المجلس بآخرين غيري لما خرجت بحفنة من سنين أخرى يضيفها الى سجني، حيث يكفي حضورك وحده أمامهم، مهما كانت تهمتك متهافتة، أن يصدروا عليك ما يحلو لهم من حكم، بدون حسيب او رقيب طبعا.
***
فرحت جدا بالعودة الى قاعدتي التي كنت قد تركتها ورائي، فقد كان سجن الحلة أفضل مكان يمكن أن أقضي فيه أيامي العاطلة، فقد كانت إدارة السجن غير آبهة بالسياسة وتقلباتها وما كان يعنيها من أمر السجناء السياسيين شيء سوى سير الأمور بلا مشاكل. والأكثر من ذلك أنها كانت قابلة للرشوة، فقد حدث أثناء وجودي في السجن أن أطلق سراح بعضهم، ومن بينهم طبيب كان محكوما بالسجن عشر سنوات، لقاء مبلغ 600 دينار إتفق عليه أهله مع مسؤولي السجن والأمن. ورغم السرية المحيطة بالموضوع عرفت كيف يفعلون ذلك: كانوا يغيرون فقط تاريخ إطلاق السراح فقط، فبدل أن يتم ذلك بعد سنوات يكون التاريخ بعد شهر مثلا، مثلما يزودون الشخص بجواز سفر يتيح له المغادرة. وبالفعل فان ذلك الطبيب الشاب الذي قصد أميركا حال خروجه أفلت من المصيدة بهذه الطريقة. وبصورة عامة كانت إدارة السجن متساهلة مع السجناء السياسيين وتغض النظر عن كل ما تعتبره ممنوعا مثل الحصول على أجهزة راديو. حتى أن أصدقاء لي كانوا قد حصلوا ذات مرة على قنينة عرق ودعوني الى مشاركتهم الشرب في زاويتهم خلسة، ليتجنبوا إنتقاد زملائهم المتشددين لهم. ولكن سلوك إدارة السجن مع السجناء العاديين الذين كانوا يحتلون جناحا خاصا بهم ولا يكادون يختلطون بنا كان مختلفا تماما، فقد شاهدت أكثر من مرة سجناء توضع أرجلهم في الفلقة وسط الساحة ويضربون بالعصي.
كانت أبواب الزنزانات تظل مفتوحة ليل نهار، مع ساحة واسعة لا تكاد تتوقف الحركة فيها، حيث تجد العشرات من السجناء يسيرون جيئة وذهابا بين جدار وجدار او يجلسون في الزوايا يحوكون النمنم، صانعين منه محافظ وعقودا وأقراطا ملونة ليقدموها هدايا لأحبائهم في مواعيد الزيارات. ولسمعتي بينهم كشاعر وكاتب لم يكن مسؤولو السجن يكلفونني بالقيام بأي عمل، بل يتركونني أنام حتى الظهيرة، بعد أن أكون قد أمضيت معظم الليل في القراءة والكتابة. والأكثر من ذلك هو انني كنت أملك ما يكفي من الكتب باللغتين العربية والانكليزية وما يكفي من الورق لأواصل كتابة قصائدي ومذكراتي التي لم أكن أعدم وسيلة لتهريبها الى الخارج أيضا. وقد أفلحت بالفعل في العام 1964 في تهريب قصيدتين طويلتين لي وهما "إنني اؤمن بالريح" و"قضية هاملت" الى مجلة "الآداب" اللبنانية فنشرتهما في عددين من أعدادها. لم أبلغ الدكتور سهيل ادريس، رئيس تحرير المجلة، في المظروف الذي أرسل اليه عن طريق البريد العادي في بغداد بوجودي في السجن، فقد كنت أعرف أن ثمة رقابة على الرسائل المرسلة الى خارج العراق. فإذا ما اكتشف الرقيب العسكري الحقيقة فانه لن يصادر القصيدة وحدها فحسب، وانما قد تكون سببا في توجيه تهمة جديدة الي وهي مواصلة نشاطي السياسي من داخل السجن ومحاولة تشويه سمعة الحكومة التي كانت تدعي ليل نهار أنها جاءت لتزيل الظلم الذي لحق بالناس على يد من سبقها. وفيما بعد، في العام 1970 أثناء زيارة لي الى بيروت أبلغني الشاعر العراقي بلند الحيدري الذي عمل فترة مع سهيل إدريس كمحرر للشعر في المجلة أنهم كانوا يعرفون بحقيقة وجودي في السجن، بل انهم اعتبروا نشر قصائدي محاولة للضغط على الحكومة العراقية لإطلاق سراحي. فقد كان بلند الحيدري نفسه قبل عام من ذلك موقوفا معي في "معتقل خلف السدة" في بغداد، مع أدباء وفنانين معروفين آخرين مثل علي الشوك ويوسف العاني. ثم حين أطلق سراح بلند الحيدري، بوساطة من الملا مصطفى البرزاني كما كان يقول، ترك بغداد وسافر الى بيروت التي أقام فيها. كنت أعرف بلند الحيدري من اتحاد الأدباء وكان قد كتب عني بحماسة قبل ذلك. لذلك أطلعته أثناء وجودنا في معتقل خلف السدة على بعض القصائد التي كنت قد كتبتها سرا على ورق السيجاير وأخفيتها في طوايا بطانيتي وهربتها من معتقل الى آخر، فاستغرب أن أكون قادرا على الكتابة وسط مثل ذاك الدمار.
كانت تصلني كتب بالانكليزية أيضا، من بينها كما أتذكر رواية أرثر كويستلر "ظلام في الظهيرة" ورواية د.ج. لورنس "عشيق الليدي تشاترلي" ورواية سومرست موم "القمر وستة بنسات" ورواية جورج اورويل "حقل الحيوان"، فضلا عن الكتب العربية التي كانت تصلنا أحدث إصداراتها من بيروت والقاهرة. وفي ظل ذاك الوقت الوافر كتبت مئات الصفحات عن ذكريات السجن والكثير من القصائد والقصص القصيرة التي فرطت بها بسذاجة عندما تركتها ورائي في السجن عند اطلاق سراحي، حفاظا عليها من احتمال تفتيشي ومصادرتها، لأعود وأسترجعها فيما بعد أثناء إحدى المواجهات. لكنها كما يبدو كانت قد وصلت الى بعض المسؤولين السياسيين الجامدين فكريا فوجدوها ضارة وقرروا هم أنفسهم مصادرتها، حيث ادعوا كذبا حين رحت لأستعيدها أن أحدا ما قد أطلق سراحه وأخذها معه. فكان ذلك صدمة لي ما زالت تؤرقني حتى الآن. فقد حرموني مما لا يمكن تعويضه أبدا، مؤكدين لي الحقيقة التي كنت قد اكتشفتها قبل ذلك في زمن سجني وهي أن الضحية نفسها غالبا ما تتوق الى تقليد جلادها.
في ذلك الخريف من العام 1964 كان ثمة ما بدأ يتغير في المزاج السياسي العام، فقد كانت الدولة نفسها ممزقة بين أكثر من اتجاه: عسكريون تتحكم بهم روح الإنتقام القديمة في مواجهة أجنحة قومية انتقلت، ربما بتأثير من اتجاه جمال عبدالناصر الإشتراكي والحملة العالمية ضد القمع والإرهاب في العراق والتحولات الآيديولوجية داخل الحركة الشيوعية العالمية نفسها الى مواقع فكرية وسياسية أقل تشنجا وأكثر وعيا وتفتحا على اليسار. وبدأت السلطة تحاول باستحياء تخفيف الضغط الموجه ضدها بإطلاق سراح بعض من ألوف الذين كان الحرس القومي قد اعتقلهم وسامهم سوء العذاب. أتذكر أن طاهر يحيى، رئيس الوزراء، نفسه زارنا ذات مرة في السجن، ملقيا نظرة متفحصة على المكان، بدون أن ينبري أحد منا للتحدث اليه، مثلما لم يفه هو الآخر بكلمة واحدة. وخرج مثلما جاء وكأن شيئا لم يحدث. بعد أيام من ذلك وصلت لجنة شكلتها وزارة الدفاع من عسكريين وقضاة، معلنة عن رغبتها في إعادة النظر في الأحكام الصادرة من المجالس العرفية العسكرية. حققت اللجنة مع من طلب منهم ذلك ولم أكن أحدهم، فقد كنت فاقدا الثقة بأي عمل تقوم به الدولة، بل وكنت أخشى أن يؤدي حضوري أمام اللجنة الى ما هو أسوأ حتى من الحكم الصادر علي. كنت في الحقيقة قد بلغت الضفة الأخرى من اليأس وغاضبا على البشرية كلها، حتى انني قبضت على نفسي متلبسا بأفكار جنونية حول خوفي حتى من احتمال اطلاق سراحي ورحت أفكر مع نفسي، كيف يمكن لي أن أعيش في الخارج، أنا العاطل عن العمل والمفصول من الدراسة؟ لا يمكن لي أن أعود خائبا الى أهلي في كركوك، وماذا سأفعل هناك؟ في السجن كنت أملك على الأقل مكانا أنام فيه، ولكن أين أذهب إذا ما وجدت نفسي في بغداد ثانية؟
ثم حدث ما لم أكن أتوقعه أبدا، إذ صدر بيان رسمي نشر في الصحف بإعلان العفو عني وإطلاق سراحي، ففوجئت به وكأنني أخرج الى العالم لأول مرة في حياتي. أمام بوابة السجن وقبل أن أصعد في سيارة الشرطة التي سوف تنقلني الى مديرية الأمن العامة في بغداد لإطلاق سراحي وجدت أحدا ما جاء بسيارته وظل يتنظرني حتى خروجي. كان ذلك صديقا قديما لي من كركوك لم أره منذ سنين، قرأ خبر إطلاق سراحي في الجريدة فجاء ليصطحبني معه. مفاجأة وفاء لم أتوقعها حتى في أحلامي. وقد تبعنا بسيارته حتى بغداد وظل ينتظرني ساعات أمام مديرية الأمن حتى خروجي الى الشارع، فاقتادني الى بيته الذي مكثت فيه أياما قبل أن أدبر أموري.
ولكن هل نجوت أخيرا حقا من الفخ الذي وجدته في طريقي؟ ما زال في القصة بقية تستحق أن تروى.
***
بعد شهر او شهرين من ذلك عثرت على عمل صغير في مجلة جديدة اسمها "القنديل" كنت أحرر معظم موادها، أتاح لي أن أدفع ايجار غرفتي وأعيل نفسي. وبعد ذلك بقليل عينت محررا ومترجما براتب جيد في أهم جريدة يومية كانت تصدر في العراق حينذاك وهي جريدة "المنار"، فضلا عن تحريري الصفحات الثقافية في جريدة "الثورة العربية". وفي الوقت ذاته أكملت دراستي الجامعية بعد إلغاء فصلي. كانت مقالاتي السياسية والأدبية وترجماتي وقصائدي تنشر بصورة يومية في الصحف والمجلات. في خلال عامين من ذلك تكرس إسمي في بغداد كصحافي وكاتب معروف، إذ غالبا ما كنت أدعى لإجراء مقابلات معي في التلفزيون والإذاعة او حتى لحضور الحفلات الرسمية حتى انني تلقيت ذات مرة دعوة من رئيس الجمهورية نفسه، بدون أن تطاوعني نفسي لتلبيتها. كما توطدت علاقاتي وصلاتي وصداقاتي مع أناس متنفذين في المجتمع والدولة من مختلف الإتجاهات: رؤساء تحرير ووزراء ورجال دولة وقادة سياسيون وفنانون ومثقفون. لقد استمر ذلك حتى حرب حزيران 1967 التي أدت الى زخم ثوري منقطع النظير ورفض لكل السياسات القائمة على القمع والدكتاتورية. وسط ذلك الغليان الثوري حدثت المفاجأة ثانية: تلقيت بلاغا من المجلس العرفي العسكري، نشر في الصحف، بتقديمي الى المحاكمة.
ولكن أي محاكمة؟ في البداية اعتقدت أن الأمر يتعلق ببيان كنت قد وقعته مع أكثر من عشرين شخصية بارزة في المجتمع، طالبنا فيه بالديمقراطية وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين وإعادة المنفيين. ولكن لا، إذ لم يعتقلنا او يحقق معنا أحد حول ذاك الأمر. صار كل وضعي مهددا مرة أخرى، ولكن هل يمكنهم النيل مني هذه المرة أيضا؟
ما كاد أصدقائي الكثيرون يطلعون على الخبر حتى اتصلوا بي لطمأنتي "لا تهتم بالأمر مهما كان شأنه!" وبالفعل اتصلوا بمحام يعرفون بعلاقاته الوثيقة مع أجهزة الدولة فتطوع مجانا ليس فقط للدفاع عني وانما لجلب كل المعلومات المتعلقة بالموضوع: إنها نفس القضية القديمة التي أخذوني بسببها الى البصرة ذات يوم والتي تأجلت المرة بعد الأخرى. لقد وجد المجلس العرفي العسكري كما يبدو الوقت أخيرا بعد حرب حزيران ليحاكمني على قضية هزلية من عهد عبدالكريم قاسم. ولكي يطمئن بالي أخذني صديق آخر قبل أيام من المحاكمة لمقابلة المدعي العام الذي كان من عائلة القشطيني كما أتذكر، فشربنا الشاي معه. واتصل آخرون برئيس المحكمة، مثلما أُبلغ الشاهدان وهما من الأمن بعدم الشهادة ضدي.
وهكذا بدأت المحاكمة بمرافعة كاد يطلب فيها المدعي العام بتقليدي وساما على المستوى الرفيع لثقافتي وقصائدي. ولكن حين حضر الشاهد الأول، وهو معاون أمن كان يكرهني، سبق له أن شارك بتعذيبي في الأزمنة الماضية، بدا محرجا ومترددا في التراجع عن شهادته المدونة ضدي حيث قال إن قسمه بالقرآن يفرض عليه أن يقول الحقيقة وهي أنني كنت الأكثر ثورية وألقي الخطب وأحرض الطلبة ضد السلطات.
فرد عليه رئيس المحكمة:
- وماذا في ذلك؟ كلنا ثوريون.
- ولكنه كان يتبنى الأفكار الهدامة. الجميع يتحدثون عنه، كتاباته التي صادرناها تظهر ذلك.
- أنت لا تصلح أن تكون حكما في مثل هذا الأمر المتعلق بالأدب والثقافة.
أما الشاهد الثاني فكان شرطي الأمن جمال سري الذي كان قد دلهم هو نفسه ذات مرة على القصائد التي عثروا عليها تحت بطانيتي وكان الأكثر ملاحقة لي. قال جمال وهو يضع يده على القرآن:
- كل ما يقال عن المتهم باطل. إنه إنسان من أطيب الناس ولم يصدر منه أي عمل سوء.
- ولكنك قد شهدت ضده فيما مضى.
- كنا متوهمين يا سيدي، نعتمد على الإشاعات.
وقدم المحامي هو الآخر دفاعا مجيدا عني أشار فيه الى المركز الذي احتله في الحياة الثقافية العراقية وتهافت التهمة الموجهة الي.
لم يكن صعبا بالطبع بعد ذلك معرفة الحكم الذي سوف تصدره المحكمة علي لتنهي به هذه القضية التي ظلت عالقة تطل برأسها بين الحين والآخر طوال كل تلك السنين.
في طريق العودة من المحكمة صعد جمال سري في السيارة التي أقلتني الى المدينة وجلس جنبي، شاكيا لي كيف انه خسر حياته بالعمل مع أناس يشبهون الذئاب في ضراوتهم وكيف انهم رموا به في النهاية مثل كلب في الشارع.
حين وصلنا وغادرنا السيارة لحق بي طالبا مني بحياء أن أكافأه على شهادته في الدفاع عني بقنينة من العرق فاشتريت له بضع قنان، مثلما وضعت في جيبه دينارا او دينارين، مازحا معه:
- أرأيت يا جمال، كيف أن الأخيار ينتصرون على الأشرار في النهاية؟
رد وهو يكاد يبكي، مودعا:
- الحياة غريبة، سأشرب الليلة في صحتك.
ثم مضى، غائبا في الزحام.
*كاتب وشاعر عراقي مقيم في برلين
مقطع من كتاب جديد بعنوان "الشاعر في السجن"
www.facebook.com
دانتي - النشيد الأول من «الجحيم»
كنت أجلس على الأرض في زنزانتي في سجن الحلة ألعب الشطرنج مع زميل لي حينما سمعت الحارس ينادي على اسمي، فنهضت لأرى ما يريده مني. قال لي الحارس، مستعجلا إياي:
- هيا جهز نفسك، سوف تنقل الى بغداد بعد قليل.
قلت مستغربا، وقد فاجأني الأمر:
- خير، إطلاق سراح إن شاء الله!.
نظر الي مستهزئا:
- من أين يأتيكم الخير؟ أي إطلاق سراح؟ أنت تحلم. ارتد ملابسك بسرعة واتبعني!
ثم أضاف بعد أن رآني واجما وحائرا بعض الشيء:
- خذ أيضا متاعك معك، فقد يطول سفرك.
- ماذا؟ هل تقرر نقلي الى سجن آخر؟
- لا تستعجل، سوف تعرف ذلك بعد قليل من مأمور السجن، العجلة من الشيطان.
***
كنت محكوما بالسجن ثلاث سنوات، أمضيت عاما ونصف العام منها، متنقلا بين العديد من المعتقلات والسجون، لذلك لم أعرف سببا يجعلهم يقررون نقلي ثانية الى بغداد. وبدا لي أنهم ربما يريدون إعادة النظر في الحكم الذي كان قد صدر عليّ، اعتمادا على أضابير لجان تحقيق الحرس القومي الملطخة بالدماء في سراديب تعذيبهم المعتمة، بعد أن نشرت حكومة عبدالسلام عارف الجديدة نفسها كتابا أسود عن الجرائم التي ارتكبها الحراس القوميون ضد ضحاياهم من المعتقلين الذين كانوا يرغمونهم على الإعتراف بكل ما يمكن أن يخطر على البال من جرائم حتى أن فتى لم يحتمل التعذيب اعترف ذات مرة بأنهم يخفون طائرة هليكوبتر في بستان يملكونه وأخذهم معه ليدلهم عليها. كان مستعدا ليعترف أن ملكة بريطانيا نفسها تقود أعمال التخريب التي تقوم بها منظمتهم الثورية من أجل الإفلات من التعذيب ولو لبضع ساعات.
إن أصعب ما في التعذيب هو أن يظل المرء حيا رغم كل آلامه، حيث يصبح الموت وحده ما يمكن للضحية أن تهزم به جلادها. ولكي نفهم ذلك علينا أن نعود القهقرى الى فترات مختلفة من تاريخ العراق الحديث، حيث كنا نرى بين الفينة والأخرى زعماء سياسيين ورجال دولة كبارا يظهرون على شاشة التلفزيون ويعترفون بكل ما يطلب منهم، آملين أن يقودهم ذلك الى الموت الذي سيعني نهاية محنتهم مع جلاديهم. بل أن أحدهم وهو جنرال كان حاكما عسكريا عاما للبلاد ذات يوم وقاد هو نفسه الكثيرين الى الموت ظهر على شاشة التلفزيون ذات مرة وراح يعلن بكل وقار:
- أجل، كنت أعمل جاسوسا مدسوسا منذ البداية.
فيرد عليه المذيع الذي يستجوبه، وكأنه يستغرب ما قاله الرجل ضمن المسرحية التي يمثل هو الآخر دوره فيها:
- كيف؟ هل يعقل هذا؟ ولماذا؟
فيرد عليه الجنرال:
- بلى، بلى، كنت والله العظيم جاسوسا جندتني وكالة المخابرات المركزية الأميركية، طمعا بالمال، إنني أعترف بذلك.
كانت فلسفة التعذيب الذي يمارسه الجميع بكل همة في ظل كل العهود العسكرية الدكتاتورية التي مرت بالعراق، وفيما بعد في ظل الإحتلال الأميركي وهيمنة سدنة الظلام الذين يستلمون رسالتهم عادة من الله نفسه على الحكم، تقوم دائما على فكرة تحويل الضحية الى حطام ليكون جديرا بالعيش في ظل راياتهم المرفرفة عاليا فوق خرائب فراديسهم المفترضة الملأى بالحوريات العاريات والغلمان المخلدين. ففي "قصر النهاية" الذي صار رمزا للتعذيب الذي كان يمارسه الجلاد المعروف ناطم كزار، طالب المدرسة التكنولوجية السابق ومدير الأمن العام بعد انقلاب 1968، كانت مهمة الكنس وتنظيف المراحيض العامة تسند دائما الى الوزراء السابقين المعتقلين، أما من كان رئيسا للوزراء كطاهر يحيى وعبدالرحمن البزاز فكان يتولى منصب رئيس الكناسين بحكم التسلسل الوظيفي ويقود فريق العمل بنفسه، مصدرا أوامره اليهم كالعادة: "هيا يا وزراء، حان وقت الشغل!".
في صيف العام 1963 عندما كنت موقوفا في سجن بغداد المركزي كان الحراس القوميون يرغمون الأساتذة الجامعيين المعتقلين معنا على تولي مهمة تنظيف المراحيض وكنس قاعات السجناء العاديين وتنظيفها. ولم يعد سرا بالطبع ما فعله الأميركيون بالمعتقلين في سجن "أبو غريب" من انتهاكات جنسية يندى لها جبين البشرية. أما الإسلاميون فيفضلون كما يبدو الإغتصاب واستخدام المسدس كاتم الصوت وقطع الرؤوس أحيانا لشحنها في سلال مغطاة بالقش الى التجار في الشورجة، وأخيرا إحياء طقس صلب المسيح على الطريقة الرومانية في الشوارع والساحات العامة والرجم بالحجارة حتى الموت او حرق الضحايا أحياء في احتفالات عامة. وهنا يتساوى الجميع، إذ لا فرق كبيرا بين جلاد وآخر، مهما اختلفت الأسماء التي يطلقونها على أنفسهم والأقنعة الآيديولوجية التي يضعونها على وجوههم.
***
عندما رزمت فراشي وحملته مع متاعي القليل على كتفي قادني الشرطي الى مكتب مأمور السجن الذي أبلغني أن ثمة أمرا بنقلي الى موقف السراي في بغداد في انتظار محاكمتي مجددا من قبل المجلس العرفي العسكري على قضية لم يكن يعرف عنها شيئا، فظللت أضرب أخماسا بأسداس، بدون الوصول الى نتيجة. ترى ما الذي يريدونه مني هذه المرة بعد أن حكموا علي بالسجن ثلاث سنوات عما اقترفته من آثام في نظرهم؟ ومع ذلك كنت قد وطنت نفسي مع الزمن على ألا أكترث بما يمكن أن تأتيني به الأقدار. فقد كنت يائسا تماما من أي احتمال في الإفلات من المصيدة التي انتهيت اليها في "جمهورياتهم الخالدة أبد الدهر". ففي ظل ما شاهدته وعشته وأنا لا أزال بعد في مقتبل حياتي فقدت ايماني الطفولي الساذج القديم بما كانوا يدعونه العدالة والإنسانية وأدركت أن بربرية ما قبل التاريخ قد تسفر مثل ذئب مخبول عن أنيابها من جديد حين تسود روح القطيع بين الناس، فيعود الإنسان وحشا لا حد لضراوته.
لا أعرف أي جنون ملائكي جعلني أعتقد وأنا لا أزال فتى أن في إمكاني أن أغير العالم وأن ثمة مسؤولية أخلاقية تلزمني كشاعر وكاتب شاب أن أقاوم البؤس الذي كنت أشهده في كل مكان، وأن أطلق صرختي، مهما بدت خرساء، ضد الليل كله، حتى اكتشفت أن الخيار الوحيد الذي تركوه لي لأفعل ذلك كان هو أن أتحول أنا نفسي الى ضحية في لعبة خاسرة في كل الأحوال. ومع ذلك فان اكتشافي لتلك الحقيقة التي قادتني الى ما وراء مفهوم الخير والشر واعترافي بها بدل التشبث بذيل أوهام متعالية على واقع بؤس العالم وهمجية الوعي البشري قد منحني القوة التي كنت احتاجها لمواجهة مصيري الفردي، فحين يكون المرء محكوما بالسجن ثلاث سنوات ومفصولا من الجامعة ومعزولا عن عالمه وبعيدا عن أقرب الناس اليه ولا يكاد يملك فلسا في جيبه لا يعود ثمة ما يخشى أن يخسره بعد ذلك. لم يعد حتى الموت نفسه يخيفني بعد أن رأيت كل ذلك الموت في حياتي.
***
في موقف السراي في بغداد أبلغت مندهشا بالتهمة الجديدة الموجهة الي والتي سيحاكمني المجلس العرفي العسكري عليها، وفق صياغتهم الخاصة لها: العثور عند التفتيش على قصائد ممنوعة مخفية تحت فراش المتهم أثناء وجوده في معتقل العيواضية في العام 1961، وهي خواطر من الشعر المنثور موجهة ضد سياسة الحكومة والجمهورية الخالدة.
قصة تكاد تكون سوريالية تماما، بل أنها، والحق يقال، تصلح أن تكون قصة يكتبها فرانز كافكا بالذات. كنت قد أوقفت في العام 1961 مع عدد من طلبة كلية التربية في بغداد بعد اجتماع احتجاجي في نادي الطلبة، ألقيت فيه كلمة ضد الدكتاتورية العسكرية، ولكن تدخل الرجل الطيب الذي كان يتعامل معنا مثلما يتعامل مع أولاده، الدكتور يوسف عبود، عميد الكلية، والمقرب من الزعيم عبدالكريم قاسم، جعلهم بعد أكثر من شهرين من الإعتقال يلغون القضية ويطلقون سراحنا، فانتهت بذلك القصة.
ومع ذلك لم تنته القصة بالنسبة لي كما يبدو، فقد حدث أثناء وجودي حينذاك في موقف العيواضية ببغداد، وهو سرداب تحت الأرض، أن عثروا خلال تفتيش مفاجئ لنا تحت البطانية التي ألتحفها على قصائد كنت قد كتبتها قتلا للوقت الكثير الذي كنا نملكه، ومن بينها قصيدة طويلة لا أزال أتذكر عنوانها وهو "المسيح يصلب مرة أخرى"، بعد أن كان جمال سري، وهو رجل أمن يعمل هناك، قد لمحني وأنا أخفي شيئا ما تحت فراشي، فاعتقد أنه منشورات سرية جرى تهريبها الينا بطريقة ما.
أوضحت أثناء التحقيق الذي جرى معي أنني عضو في اتحاد الأدباء العراقيين وأن القصائد التي عثروا عليها تحت فراشي هي قصائد لي كتبتها أثناء توقيفي كجزء من هوايتي الشعرية، موضحا أنها كتابة أدبية لا علاقة لها بالسياسة أبدا. لكن معاون الأمن الذي حقق معي ظل يصر على أنها كتابات شيوعية ممنوعة. لم يكن من اللائق أن أقول له إن أكثر ما أبغضه في الأدب هو ما كان الشيوعيون يطلقون عليه يومذاك إسم "الواقعية الإشتراكية"، ولكن حتى لو عرف ذلك لما اهتم به، فقد كان كل ما يريده هو الايقاع بي بأي ثمن.
وللبت في الأمر، وربما أيضا بتدخل من الدكتور يوسف عبود، تشكلت لجنة من أربعة او خمسة من الأساتذة الجامعيين الذين قرروا بعد استجواب شكلي أجروه معي أن ما يعتبره الأمن أدلة جرمية ضدي هو في الحقيقة قصائد ذات طبيعة أدبية بحتة يمكن نشرها في أي جريدة من الجرائد العلنية. وبذلك انتهت القضية التي لم يسألني أحد عنها بعد ذلك حتى الإشعار الذي تلقيته الآن بعد ثلاث سنوات بتقديمي الى المحكمة العسكرية العرفية بسبب ذلك.
كان الأمر أشبه ما يكون بالمهزلة في ظل التغييرات التي شهدها العراق. فالتهمة هي انها قصائد تهاجم حكومة عبدالكريم قاسم التي كانوا هم أنفسهم قد أسقطوها بالدبابات والطائرات وحفلات الإعدام بالرصاص، حيث يقتضي منطقهم نفسه أن أكافأ عليها لا أن أحاكم بسببها، إن كانت تهاجم حكومة عبدالكريم قاسم حقا. ولكن القصائد لم تكن في الحقيقة سوى ذريعة للإنتقام. وكنت أعرف أن المنطق هو آخر ما يمكن أن يخطر ببال العسكريين المتعصبين في المجالس العرفية، فهم يقسمون البشر دائما الى أصدقاء وأعداء. فإن لم يعتبروك صديقا لهم فأنت عدو لهم بالضرورة، وحينذاك لن تنفعك أي حجة لإثبات براءتك او للدفاع عن موقفك.
***
قبل أن أسرد تفاصيل تلك الرحلة المثيرة التي قادتني من الحلة الى بغداد ومن بغداد الى البصرة ومن البصرة الى بغداد ثم العودة ثانية الى الحلة، وأنا أجر للحاق بالمحكمة العسكرية التي لم أفلح في الوصول اليها الا بعد أعوام من ذلك كما سترون في نهاية هذه القصة، أجد ضرورة في أن أبدأها أولا من تاريخ لا يمكن أن يمحى من الذاكرة أبدا هو تاريخ ذلك الموت الذي عصف بالعراق في الثامن من شباط 1963، رغم أن مأساتنا كانت قد بدأت قبل سنين من ذلك والتي صرت أنا نفسي بطلا فيها بقوة الواقع.
ربما لا يدرك من لم يعش ذلك التاريخ أن الكثير مما يحدث في بلد مثل العراق يحدث غالبا بمحض الصدفة، وهي صدفة قد ترفعك الى السماء السابعة او تحط بك أسفل سافلين. وحتى بقاء المرء حيا يظل رهنا بها. فقد كان يمكن لي أن أموت او أن أقتل أكثر من مرة مثلما مات الكثيرون غيري، سواء برصاصة طائشة من أحمق في الشارع او من قاتل يترصد خطاي في الظلام او تحت سياط جلاد ما في زنزانة سرية في معتقل ناء في صحراء. أجل، لقد نجوت من الموت بأعجوبة أكثر من مرة، وهو ما ينبغي لي أن أشكر الله عليه الآن.
عندما اعتقلت مساء اليوم الثالث من ذلك الإنقلاب الذي هاجم فيه الإنقلابيون المتظاهرين ضده بالطائرات وقصفوهم، كما حدث عند ساحة وزارة الدفاع، وكان قد صدر البيان رقم 13 الذي خول كتائب الحرس القومي التي كانت تتكون أساسا من طلبة جامعيين وعمال عاطلين عن العمل ومصارعين ورياضيين فاشلين وموظفين ببدلات بإعدام كل من تأسره من الأعداء والخصوم المنتمين الى قبائل سياسية أخرى، في شقة قريبة من شارع السعدون، ليس بعيدا عن
ساحة الزهور، أنزلوني باللكمات والعصي من الطابق الأول الذي كنت فيه الى الشارع، مع زميل آخر لي كان معي، وأسندونا الى جدار بنايتنا التي بدت ساكنة بشكل غريب تحت ضوء مصابيح باهتة متباعدة وحكموا علينا بالموت، مقررين إطلاق النار علينا، بدعوى اننا هربنا من الشقة حينما جاؤوا "يمشطون" المنطقة، باحثين عن الأعداء، وكان ذلك في نظرهم دليلا على المقاومة وسوء النية. وهنا تدخل الحظ السعيد، ففي اللحظة التي كان فيها الحراس الموتورون يوجهون فوهات رشاشاتهم الينا ويضعون أصابعهم على زناد رشاشاتهم، وصلت سيارة جيب عسكرية مسرعة هبط منها ضابط شاب ربما كان في الثلاثين من عمره، وهو يشهر مسدسه، متبوعا بعدد من الجنود المسلحين وراح يصرخ بهم:
- قفوا، ما ذا تفعلون؟
توقف الحراس القوميون مرتبكين وخفضوا رشاشاتهم:
- سيدي، لقد قررنا إعدامهم، إنهم معادون للثورة.
سأل الضابط:
- معادون للثورة، ماذا يعني ذلك؟ ما هذه الخرابيط؟
رد أحد الحراس :
- لقد هربوا عندما قرعنا عليهم باب الشقة ورفضوا أن يفتحوا لنا الباب، وانظر ما الذي عثرنا عليه عندهم، كتب باللغة الانكليزية، لا بد أنهم جواسيس يا سيدي.
وانبرى واحد آخر منهم قائلا، ربما ليبرر قرار قتلنا:
- سيدي لقد رفضوا أن يشتموا عبدالكريم قاسم، عندما طلبنا ذلك منهم.
تجاهل الضابط ما قاله الحارس القومي واقترب مني سائلا، وهو يلقي نظرة على بعض الكتب التي حملها بيده:
- هل هذه الكتب لك؟
قلت:
- نعم إنها لي. إنني طالب أدب انكليزي في الجامعة. لقد هربنا حقا خوفا، لتجنب الأذى الذي يمكن أن يلحق بنا، ففي مثل هذه الظروف يمكن أن يحدث أي شيء.
- ولماذا لم تشتموا عبدالكريم قاسم؟
أجبته مبررا:
- لا يليق بنا أن نشتم أحدا، هذا أمر يتعلق بالكرامة.
رد ساخرا وهو يحدق في عيني:
- مثقفون على الطريقة العراقية! هل لو شتمت أحدا ما سيقلل ذلك من قدرك؟
ثم جرني أنا وزميلي الذي التزم الصمت الى سيارة الجيب الواقفة وسط الشارع وقال آمرا الحراس القوميين:
- هيا انصرفوا الى عملكم، سوف آخذهم معي لأسلمهم الى مركز الشرطة للتأكد من هوياتهم قبل إطلاق سراحهم.
وفي الطريق قال لنا مؤنبا:
- أي غباء هذا الذي يملأ رؤوسكم! هل يستحق الأمر كل هذه المجازفة؟ هل عبدالكريم قاسم هو الله حتى ترفضوا شتمه؟ كس أم العالم كله!
منذ ذلك اليوم لم يغادرني قط الشعور بأنني أعيش في "الوقت الإضافي" او "الوقت الضائع" كما يسميه لاعبو كرة القدم، فقد كان يمكن لي أن أقتل وتنتهي هذه القصة التي لن يسمع بها أحد، مع شعور بالعرفان للقدر الذي ارتدى بدلة ضابط مجهول لم أعرف حتى إسمه وأنقذ حياتي.
***
في مركز شرطة البتاويين الذي استلمنا من الضابط الشاب بدا كل شيء عاديا. سجلوا أسماءنا وقالوا لنا إنهم سوف يسلموننا لمديرية الأمن العامة الواقعة في السعدون للتحقيق معنا. وحتى يتم نقلنا الى هناك رموا بنا في موقف المركز، وهو سرداب واسع تحت الأرض، مزدحم حتى الإختناق بالموقوفين، ما كدنا نهبط اليه حتى نادى الشرطي الواقف في الباب، مخاطبا بعض النزلاء الذين هبوا لاستقبالنا:
- يا جماعة عندكم ضيوف اليوم، إنهم من ربع الزعيم.
ما كاد يقول ذلك حتى ضج السرداب بهتاف كورالي موحد:
- وحدة، حرية، اشتراكية.
ثم هجموا علينا وراحوا يركلوننا ويصفعوننا بعد أن أسقطونا أرضا، حتى صاح بهم الشرطي:
- يكفي، يكفي، اتركوهم، لقد نالوا جزاءهم!
في الساعة او الساعتين اللتين أمضيناهما في ذلك السرداب المزدحم بأكثر من خمسين او ستين موقوفا عرفنا أن معظمهم كانوا قوادين ولصوصا ومجرمين قتلة راحوا يأملون بأن يطلق الإنقلابيون سراحهم حين يسمعون هتافاتهم المؤيدة ويعتبرونهم مناضلين وثوريين مثلهم. ولم يكن بينهم سوى اثنين او ثلاثة من المعتقلين السياسيين الذين كانوا هم أيضا قد تعرضوا للضرب قبلنا.
كل هذا كان في الحقيقة مجرد بداية لقصة لم تبدأ فعلا الا في مديرية الأمن العامة واستمرت طوال سنين في رحلة بدت لشاب مثلي في العشرين من عمره بلا نهاية، ما بين معتقل ومعتقل، ما بين سجن وسجن، ما بين موت في الحياة وحياة في الموت، وكأن كل ما يحدث معي او أمامي فيلم كتب قصته الشيطان وأنتجه مخرج مجنون لا هم له سوى الإنتقام من كل ما يمتلك قيمة في الحياة.
حينما وصلنا الى مبنى مديرية الأمن كانت الساعة تشير الى حوالي العاشرة ليلا وثمة رجال بملابس مدنية يحملون الرشاشات يقفون عند البوابة تحت لافتة كبيرة،علقها الإنقلابيون، خط عليها باللون الأحمر "يا أعداء الشيوعية اتحدوا!"، فاستقبلونا بوابل من الشتائم والصفعات والركلات حتى قبل أن يعرفوا أي شيء عنا، ثم أوقفونا في الفناء قريبا من الجدار حيث جاءنا إثنان يحملان قضيبين مطاطيين يهزانهما في يديهما وقالا إنهما هما أيضا طالبان في الجامعة مثلنا ثم سألنا أحدهم:
- لماذا أنتم ضد الثورة؟ لماذا تدافعون عن دكتاتور مثل عبدالكريم قاسم؟
رد زميلي: نحن طلبة ولم نفعل شيئا.
قال أحد الشخصين وهو يرفع يده بالقضيب في وجهينا:
- "حسنا، لتثبتوا براءتكم اهتفوا ضد الزعيم والشيوعيين."
التزمنا الصمت:
- زين، اهتفوا إذن ضد البعثيين.
واقترح الآخر:
- حسنا، إهتفوا "يسقط الله"، فأنتم لا تؤمنون به، أليس كذلك؟
كان من الواضح لي أنهما يستمتعان باللعب معنا، كما يستمتع القط باللعب مع الفأر قبل الإجهاز عليه، وأن لا خلاص لنا من الفخ الذي وقعنا فيه، لذلك قلت له:
- نحن لا نتدخل في السياسة، ولن نهتف ضد أي أحد.
قال:
- حتى ضد ميشيل عفلق.
ثم أضاف:
- هيا اهتفوا بصوت عال يسقط ميشيل عفلق القواد، ابن القحبة.
قلنا: لن نشتم أحدا.
ما كادا يسمعان ذلك حتى انهالا علينا ضربا بالقضبان مع سيل من الشتائم قبل أن ينضم اليهما آخرون راحوا يصفعوننا ويركلوننا بدون توقف. وكان ثمة من يصرخ مستنكرا:
- مبدئيون، كلاب لا يشتمون أحدا، سوف نقتلكم جميعا يا أبناء القحاب.
وأخيرا جاء من أنقذنا من أيديهم وقادنا الى موقف الأمن، واضعا إيانا في زنزانة مستطيلة كبيرة نوعا ما، لم يكن فيها سوى شخص واحد قبلنا، وهي الزنزانة اليسرى القريبة من المراحيض وأغلق الباب علينا، فشعرنا أننا قد نجونا.
***
ينسى المرء مع الزمن الكثير من الوقائع التي عاشها او التي مر بها، مهما كانت قاسية ومؤلمة، لكن ثمة ما يظل عالقا بالذاكرة حتى النهاية مثل جرح لا يندمل أبدا. كانت ثمة ثلاث زنزانات أخرى في موقف مديرية الأمن العامة، أعرفها جميعا، إذ كنت قد أمضيت في العام 1961 أكثر من شهر فيها، زنزانتان واسعتان بعض الشيء، متقابلتان عند المدخل، ثم الزنزانة التي كانوا قد رموا بنا فيها في مواجهة زنزانة ضيقة صغيرة، مع فناء من بضعة أمتار ينتهي بالمراحيض، ولكن بدون أي حمامات للإغتسال. كانت الغرفة خالية تماما من أي فراش او بطانية فتوجب علينا أن نجلس ونضطجع على الأرض العارية في مثل ذلك الشهر القارس من شباط، إذ كان من الخيال أن نطالب في مثل ذلك الوضع بتزويدنا بالأفرشة او أن نحتج على بؤس حالنا، ولكن كل ذلك بدا لنا ترفا يمكن الإستغناء عنه في مواجهة مشكلة الرجل الآخر المرمي في ركن من الزنزانة. كان الرجل وهو في حوالي الأربعين من عمره مصابا بطلقة في بطنه ويصرخ طوال الوقت، طالبا نقله الى المستشفى لعلاجه، بدون جدوى. كان ثمة من يأتي حين يشتد عويله ويصيح به من خلف الباب ذي القضبان الحديد:
- إخرس يا قواد، هذه عاقبة من يقاوم الثورة. لماذا المستشفى؟ سوف تعدم في كل الأحوال.
وكان الجريح يتوسل:
- أرجوكم، خذوني الى المستشفى، أقسم بالله أنني لم أفعل شيئا.
فيردون عليه:
- بل كنت تطلق الرصاص علينا وأصبت في المعركة، أين أخفيت سلاحك؟ سوف نتركك تموت مثل أي كلب.
وهكذا ظل يئن واضعا كفه على جرحه النازف طوال الليل الذي بدا أطول من الأبدية نفسها، بدون أن نكون قادرين على فعل شيء من أجله. كان الصمت يخيم على زنزانتي المدخل المتقابلتين اللتين لم تكونا تضمان بعد سوى عدد قليل من المعتقلين، مقطوعا بين الحين والآخر بصرخات آتية من الغرف الخارجية، حيث توجد مكاتب رجال الأمن والمحققون والجلادون او بدوي طلقات رصاص في الشارع. لم ننم بالطبع لحظة واحدة تلك الليلة، متوقعين أن يأتي من يأخذنا ليطلق الرصاص علينا، ولكنهم كما يبدو كانوا مشغولين لحسن الحظ بآخرين كثيرين غيرنا، فقد كانت المقاومة في اليوم الثالث من الإنقلاب لا تزال مستمرة في العديد من شوارع وأحياء بغداد. كان ما يقلقني أكثر من أي شيء آخر هو أن يموت الرجل الجريح الذي صار يتوقف عن الأنين بين الفينة والأخرى، فاقدا الوعي لبرهة من الزمن، قبل أن يعود الى نفسه ثانية. ورحت أتساءل مع نفسي "ماذا نفعل إن مات؟ هل ينبغي أن ننادي على الحارس الذي كان يقف عادة خارج بوابة الموقف المغلقة؟" في الصباح فقط وكان الرجل أقرب الى الموت منه الى الحياة جاؤوا وحملوه الى الخارج، بدون أن يكفوا عن شتمه وتهديده بالقتل. لا أعرف إن كانوا قد أخذوه الى المستشفى ام الى مكان آخر ليطلقوا عليه الرصاص.
في الصباح بدأت أفواج المعتقلين تتدفق على الموقف، وهم في الأغلب موطفون وعمال التحقوا بأعمالهم فالتقطوهم من مكاتبهم ومراكز عملهم او قبضوا عليهم خلال عمليات مداهمتهم للأحياء السكنية المعروفة بميولها اليسارية حتى امتلأت زنزانتنا الى الحد الذي لم يعد ممكنا فيه سوى الوقوف على القدمين. ومع ذلك ظلوا يدفعون بالمزيد من المعتقلين طوال ثلاثة أيام الى زنزانتنا، فكنا نظل واقفين ملتصقين الى بعضنا الليل كله. ومما لا أنساه أبدا، وهو أمر قد يبدو أشبه بالخيال، أنني في بعض تلك الليالي الثلاث كنت أغفو أحيانا واقفا فلا أسقط أرضا.
لم يكن رجال الأمن قادرين على التعامل مع هذا العدد الكبير من المعتقلين، لذلك لجأوا الى نقل الكثيرين منهم واحدا بعد الآخر الى المعتقلات والسجون الأخرى والنوادي الرياضية والبيوت التي احتلها الحرس القومي بعد اعتقال أهلها او طردهم منها لتكون معتقلات خاصة بهم. ولأنه كان من المستحيل عليهم البحث عن معلومات عن كل من قادته الصدفة اليهم في مثل تلك الفوضى كانوا يلجأون الى الضرب لعلهم يظفرون بما يبغون الوصول اليه بأسرع ما يمكن وربما أيضا بحكم العادة. ولكن الأمر كان يختلف مع من يعرفونه او يعتبر إسما معروفا لديهم، فقد جاؤوا بالشاعر محمد صالح بحر العلوم، وهو شيخ كبير السن وعلقوه من يديه بالنافذة الى الأعلى في زنزانة منفردة مواجهة لنا فظل هكذا طوال الليل بدون أن تصدر منه حتى نأمة واحدة. وفي تلك الأيام الأولى أيضا جلبوا المحامي حمزة سلمان من سجنه في نقرة السلمان، مكبلا بالأغلال في رجليه ويديه وشدوه الى النافذة في نفس الغرفة التي كان فيها الشاعر بحر العلوم الذي نقلوه الى مكان آخر. كانوا قد منعوا عنه الطعام فقمت بتهريب سندويتشه اليه خفية أثناء خروجنا الى الباحة الصغيرة. في المساء جاء الحراس القوميون وأخرجوه من الزنزانة وجعلوه يقرفص على الأرض قليلا،مكبلا بالسلاسل، قبل أن يقتادوه معهم الى النادي الأولمبي ويطلقوا النار عليه. كنت قد تعرفت على حمزة سلمان حين اعتقالي في الموقف العام ببغداد قبل ذلك بشهور، وأوحى لي فيما بعد بشخصية "سلام" في رواية "القلعة الخامسة".
***
كانت الساعة تشير الى حوالي العاشرة صباحا عندما جاء الحارس واقتادني الى غرفة خارج الموقف في الممر الذي تقع فيه مكاتب العاملين في الأمن للتحقيق معي. طلب مني المعاون الذي كان يجلس وراء مكتبه وأمامه كومة من الأوراق أن أعترف بكل ما لدي من معلومات حتى لا يضطر الى استخدام وسائل أخرى معي، بينما وقف ورائي شابان كان من الواضح أنهما من المختصين بالضرب وراحا يزعقان بي:
- هيا قل كل ما عندك ولا تجعل السيد المعاون يزعل عليك، وإلا كسرنا لك أضلاعك.
كان من الواضح لي أنهم في خضم ذلك الطوفان من المعتقلين وفوضى الإنقلاب لا يملكون شيئا ضدي وأنهم يلعبون معي نفس لعبتهم القديمة التي كنت أعرفها والتي سوف يبدأونها بالتأكيد بالضرب.
قلت: ماذا تريدون مني؟ إنني طالب في الكلية ولا أعرف حتى سببا لاعتقالي، فأنا لم أرتكب أي ذنب.
ما كدت أقول ذلك حتى انهالا علي ضربا وجرني أحدهم من شعري فانقلب الكرسي الذي كنت أجلس عليه وسقطت على الأرض، ورأيت أحدهم يسحب عصا كانت مركونة جانبا، راح يضربني بها، شاتما إياي بلا انقطاع. حاولت عبثا حماية وجهي ورأسي، فيما كان المعاون الذي لم يغادر مكانه يطلق الشتائم ضدي صارخا ويهددني بالويل والثبور. لا أعرف كم استمر ذلك، لكن كل ما أذكره الآن هو أنني كنت مرميا على الأرض ألهث منقطع الأنفاس حين لمحت شخصا أسمر متين البنية ويميل الى الطول يدخل الغرفة. لم أتبين ملامحه في البداية وأنا في موقفي ذاك حتى رأيته ينحني علي ويقول مندهشا:
- آه، هذا فاضل! مرحبا يا فاضل.
لم أرد عليه. توقف رجلا الأمن عن ضربي. سأله معاون الأمن المسؤول عن التحقيق:
- هل تعرفه يا معاون قاسم؟
ضحك الرجل الذي كان قد سلم علي وقال:
- أعرفه، ماذا تقول؟ كنا سوية في نفس الصف في الثانوية وكان صديقا لي قبل أن يختار الطريق الخطأ. إنه شاعر وأكثرنا ثقافة وموهبة، ولكن الله ابتلاه بمرض الأفكار الهدامة.
ثم التفت الي وقال مؤنبا:
- ألم أقل لك يا فاضل إن طريقك هذا سوف يؤدي بك الى الهلاك؟ أنظر ماذا فعلت بنفسك!
وخرج بدون أن يضيف شيئا آخر، وهو يدمدم مع نفسه.
كان ذلك الرجل هو قاسم حمد الذي كان زميلا لي بالفعل في نفس الصف خلال مرحلة الدراسة الثانوية في كركوك. كان منتميا الى حزب البعث، ومع ذلك ظلت علاقتي به قائمة، وإن شابتها خلافاتنا السياسية التي لم تدفعنا الى حد القطيعة او الشجار. وحين أكملنا الدراسة الثانوية ذهب كل منا في طريق مختلف: انتميت أنا الى جامعة بغداد لدراسة الأدب في حين انتمى قاسم الى كلية الشرطة في بغداد، ضمن السياسة التي اتبعها حزب البعث حينذاك في إغراق الشرطة والجيش بالموالين له.
لم أعر اهتماما لظهور قاسم حمد الدراماتيكي حتى انني لم أرد عليه بكلمة واحدة، لكنني لاحظت أن معاملتهم لي ولهجتهم معي تغيرت بعض الشيء، إذ لم أضرب بعد ذلك حيث جعلوني أجلس على الكرسي ثانية وراحوا ينصحون لي بالإهتمام بمستقبلي.
بعد قليل دخل الغرفة رجل متوسط الطول ونحيف نوعا ما، يرتدي بدلة أنيقة برباط وقدم نفسه لي بأدب:
- هل تعرفني؟ أنا مالك سيف، لا بد أنك سمعت بإسمي وتعرف قصتي.
رغم هذه المفاجأة التي لم أتوقعها قلت بتلقائية:
- يؤسفني أنني لم أسمع باسمك ولم يحصل لي الشرف بسماع قصتك.
إبتسم وهو يربت على كتفي بكفه:
- لا يمكن لك أن تخدع شخصا مثلي أيها الشاب، فقد مر علي كثيرون من أمثالك وكانوا يصلون دائما الى النهاية ذاتها ولكن بعد أن يكونوا قد دفعوا الثمن غاليا.
ثم أضاف بنبرة أبوية:
- إسمع ما أقوله لك، أنت تضحي بنفسك من أجل قضية خاسرة وأناس لا يستحقون ذلك. إنهم يستغلون أمثالك من المثقفين ويضحون بهم من أجل أهدافهم الخاصة. مكانك الصحيح هو في الكلية التي تدرس فيها وليس هنا.
ثم خرج تاركا الغرفة.
كنت بالطبع أعرف قصة مالك سيف، وهو صابئي كان يعمل معلما في العمارة، كما أعتقد، فقد عثرت قبل ذلك في مكتبة الكلية على نسخة من الموسوعة السرية التي كانت مديرية الأمن العامة قد أصدرتها وفيها كل تفاصيل قصة مالك سيف الذي تولى قيادة الحزب الشيوعي فترة من الزمن ثم ارتد وراح ينكل برفاقه، مسلما إياهم الى السلطات، حيث جرى تعيينه مستشارا او خبيرا في مديرية الأمن العامة.
كان مجيء مالك سيف للحديث معي غريبا بعض الشيء، إذ لم تكن حالتي ولا المعلومات التي يملكونها عني تقتضي ذلك، فقد كنت في نظرهم واحدا من ألوف المعتقلين الذين جيء بهم من كل حدب وصوب، حتى أن معاون الأمن الذي كان يحقق معي هددني بأنني قد أمضي ستة أشهر في المعتقل إذا ما أصررت على موقفي. ولكن اتضح لي السر بعد ذلك من خلال تعليق للحارس الذي أعادني الى زنزانتي. فحينما ترك قاسم حمد الغرفة راح يروي غاضبا وربما حزينا قصتي لزملائه الآخرين وكان مالك سيف حاضرا بينهم، فأراد الرجل أن يظهر شطارته كجميل يسديه لقاسم الذي صار يملك نفوذا كبيرا باعتباره بعثيا أصيلا وليس مجرد معاون أمن بحكم المهنة، بإقناع صديق قاسم القديم بالعدول عن أفكاره ومواقفه الهدامة او ربما كان قاسم نفسه قد طلب منه القيام بدوره ذاك معي.
وفي كل الأحوال فان مجرد معرفتهم بوجود علاقة صداقة سابقة بيني وبين قاسم، رغم انه شهد ضدي بطريقة أغاظتني وأحرجتني ولم يقل شيئا لصالحي، جعلتهم يتعاملون معي بطريقة مختلفة تماما، لا ضرب فيها ولا شتائم، مثلما ركز المحقق بعد ذلك في أسئلته على أمور عادية تتعلق بهويتي مثل الإسم والمهنة والعنوان وعما إذا كنت منتميا الى حزب سياسي وعن سبب اعتقالي، مدونا أجوبتي كما هي بدون تدخل من قبله.
هذه الحادثة صارت بعد سنوات الأساس الذي بنيت عليه رواية "مدينة من رماد" التي نشرت في العام 1989 وصدرت ترجمتها الانكليزية في العام 2011 بعنوان "المسافر وصاحب الخان".
وهكذا انتهى هذا الفصل الذي جعلهم بعد أيام من ذلك يقررون نقلي الى الموقف العام - القلعة الخامسة في بغداد مع عدد آخر من الذين انتهى التحقيق معهم في انتظار تقرير مصيرهم لتبدأ ملحمة أخرى قادتني بعد شهرين من ذلك الى معتقلات الحرس القومي التي كانت تمارس التعذيب حتى الموت مع ضحاياها ومن ثم الإنتهاء الى معسكر خلف السدة، حيث كانوا يأتوننا بين الحين والآخر برجال مغطاة رؤوسهم بأكياس سوداء ولا تبين منهم سوى عيونهم للكشف عن رفاقهم المتخفين بين حشود المعتقلين، وبعد ذلك النقل الى سجن بغداد، حيث وضعت في زنزانة ملاصقة لزنازين الإعدام، وعشت أياما في خيمة نصبت للمعتقلين الأكراد ( بينهم صالح اليوسفي، عضو الوفد المفاوض الذي جرى اعتقاله بعد فشل مفاوضاته في بغداد) في ساحة السجن، وأخيرا التسفير الى سجن الحلة. ولكن لأدع كل ذلك الآن جانبا، وأكمل رواية حكايتي التي لا تزال ناقصة والتي كنت قد بدأت بها هذه الذكرى لذلك الزمن الضائع من حياتي.
***
إقتادوني الى سيارة نقل مغلقة ومخصصة لنقل المعتقلين مع ستة او سبعة شبان آخرين بعد أن قيدوا كل إثنين منا بسلسلة واحدة. كان جميع الآخرين هم من البعثيين الذين كانت حكومة عبدالسلام عارف قد بدأت باعتقالهم، متهمة إياهم بارتكاب جرائم مختلفة والذين جيء بهم من مراكز أخرى في المدينة. طوال الطريق ظل شريكي في القيد يعلن عن مخاوفه:
- سوف يستلم الشيوعيون السلطة، لقد أعادوا تنظيم أنفسهم.
ثم يكرر:
- سوف يقتلوننا جميعا.
لم يكن الرجل، وهو شاب أسمر يميل الى البدانة، ربما كان في الثلاثين من عمره، مخطئا كثيرا في تقديراته، فلو قيض للشيوعيين الوصول الى السلطة لانتقموا من أعدائهم البعثيين شر انتقام، ولكن ذلك لم يكن أكثر من كابوس يعكس خوف مثل ذلك الشاب الذي بدا لي أنه كان جلادا من أن يدفع ثمن جرائمه التي ارتكبها.
ما كدنا نصل الى موقف السراي ويبدأ المفوض المسؤول بتدوين أسمائنا لتوزيعنا وفق اتجاهاتنا السياسية على الزنزانات حتى تناهى الى أسماعنا صوت جوقة كبيرة راحت تردد بصوت عال وبدون انقطاع أغنية وحيدة خليل المشهورة:
سبحانه الجمعنا بغير ميعاد
أحباب وتلاقينا، تعاتبنا وتراضينا
هذا اليوم أجمل يوم عدنا
سبحانه الجمعنا بغير ميعاد.
فضحك المفوض وقال ساخرا:
- ها هم الشيوعيون يرحبون بكم، لقد عرفوا بوصولكم.
كان موقف السراي صغيرا جدا، وهو مخصص أساسا للتسفيرات او التقديم الى المحاكم، حيث يتكون من ثلاث غرف كبيرة نوعا ما وغرفة صغيرة جدا ومرحاض واحد، مع فناء ربما بلغ طوله خمسة عشر مترا وعرضه ستة أمتار كانت الغرفتان الأولى والثانية تضمان عادة الموقوفين العاديين من القتلة واللصوص والقوادين والمهربين والمجانين، أما الثالثة والغرفة الصغيرة فكانت مخصصة في كل العهود تقريبا للمعتقلين السياسيين، وهم عادة من الشيوعيين واليساريين. فكان ظهور البعثيين هذه المرة مشكلة بالنسبة للشرطة، إذ ما كان يمكن وضعهم مع الشيوعيين الذين قد يفتكون بهم. لذلك خصصوا لهم غرفة على السطح. لكنني أبلغت المفوض أنني لست معهم، فوضعني حيث يجب أن أكون.
حينما انفتح الباب ودخلت كان كورس من عشرين او ثلاثين معتقلا لا يزال يردد بغبطة:
سبحانه الجمعنا بغير ميعاد.
***
مكثت بضعة أيام هناك قبل أن يأتوا ويأخذوني ذات صباح في سيارة مقفلة الى معسكر الرشيد ليحاكمني المجلس العسكري على تهمة لا أعرف عنها شيئا، بدون شهود او محام يدرأ التهمة عني، فزج بي في غرفة ما هناك وظللت أنتظر دوري. مرت ساعة وساعتان وثلاث ساعات بدون أن يسأل أحد عني حتى مللت الإنتظار. ثم جاء أخيرا من قال لي: "لقد تأجلت المحاكمة الى موعد آخر سوف تبلغ به. المحكمة مشغولة جدا." فأجبته منزعجا: "وما ذنبي أنا، كنت أريد أن أنتهي من هذا الأمر أيضا." فنظر الي الشرطي شزرا: "سوف تحصل على ما تريده، يبدو أنك مستعجل على الحكم عليك. لا أحد يخرج من هنا بأقل من بضع سنوات سجن." سكت، مفكرا مع نفسي، ليكن ما يكون، فحين يلقى بك في الجحيم لا يعود ثمة فارق بالنسبة لك بين نار ونار، وسيكون العذاب هو ذاته في كل الأحوال.
عدت الى موقف السراي وانتظرت أياما قبل أن يأتوا ويأخذوني ثانية الى المحكمة الغارقة في الشغل حتى الأذنين، فانتظرت هناك كما انتظرت في المرة الأولى، ولكن بدون جدوى، فأعادوني الى مستقري في انتظار موعد آخر لمحاكمتي. ثم حدث ما لم أتوقعه أبدا، إذ جاؤوا ذات مساء وقالوا لي إن المحكمة انتقلت الى البصرة وأمرت بتسفيري الى هناك للحكم علي. وهكذا نقلت الى محطة القطار وقد وضعوا القيد في يدي، مع امرأة شابة في حوالي الخامسة والعشرين من عمرها ترتدي العباءة، بحراسة شرطيين سوف يرافقاننا الليل كله حتى البصرة.
صعدنا في عربة درجة ثانية فجلست أنا والفتاة على مقعد واحد فيما جلس الشرطيان على المقعد الآخر إزاءنا. كان أحد الشرطيين في حوالي الخمسين من عمره والآخر يبدو أصغر منه وقليل الكلام. قدمت لهما السيجاير مثلما اشتريت لهما وللفتاة بعض الساندويتشات من الفلوس القليلة التي كانت معي، لأجعلهما يتخففان في رقابتهما علينا والتعامل معنا. وحين سألني الشرطي الأكبر سنا عن مهنتي، ولم يكونا يعرفان أي شيء عني او عن الفتاة قلت له:
- مدرس.
فسأل عن سبب توقيفي:
- شنو؟ لازم عركة.
فأيدت قوله:
- عركة بسيطة بين أصدقاء، تنتهي إن شاء الله بخير.
فقال مطمئنا إياي:
- مو مشكلة، لقد خمنت ذلك حالما رأيتك.
ثم التفت سائلا الفتاة عن قصتها، فقالت:
- ماكو شي، تحقيق هوية، متوهمين باسمي.
كنت متأكدا أن الفتاة تكذب هي الأخرى وتحاول طمأنتهم مثلي. تجنبت الدخول في أي حديث معها بحضور الشرطيين الجالسين إزاءنا واللذين راحا يتثاءبان بعد قليل وقد بدا الإنهاك عليهما، فنهض الشرطي الأصغر سنا واضطجع على مقعد فارغ في الطرف الآخر من العربة، ثم سرعان ما تناهى الينا صوت شخيره.
سألت الفتاة: "هل أنت من بغداد؟" قالت: "كلا، إنني من البصرة، لكنني كنت عند أقارب لي في بغداد." يبدو أن حديثي مع الفتاة شجع الشرطي الجالس إزاءنا والذي كان يقاوم النعاس هو الآخر على أن يمد يده بالمفتاح ويفك الطرف الأيمن من القيد الذي كان يشد يدي ويشد معصم يدي اليسرى الى معصم اليد اليمنى للفتاة، قائلا إنه يريد أن يغفو قليلا هو الآخر فالليل طويل وعليه أن يطمئن علينا من أي محاولة للإنسلال او الهروب. لم تعترض الفتاة، كما شعرت أنا الآخر براحة أكثر في تحرر يدي اليمنى على الأقل من القيد. ومع ذلك قلت له:
- ولماذا نهرب؟ والى أين؟ كن واثقا أننا لن نرمي بأنفسنا من هذا القطار المسرع؟
رد معتذرا، وهو يضطجع على المقعد المواجه لنا، بعد أن نزع حذاءه:
- أعرف، أعرف، ولكنها التعليمات، ماذا نفعل؟
جرت الفتاة يدينا المقيدتين الى تحت عباءتها فوجدت كفي فوق فخذها، شاعرا برجة كهربائية في أعضائي كلها، فهذه هي المرة الأولى بعد أكثر من عام ونصف العام أقترب فيها من امرأة وألمسها. ورغم انني كنت قد دربت نفسي على الإستغناء عن كل شعور إنساني في عالم لا يعرف معنى للحياة فان هذه اللمسة الملأى بالعاطفة والحنان من الفتاة جعلتني أسترد بعضا من روحي القديمة. فقد أدركت الفتاة أنني كنت في محنة وأرادت مواساتي على طريقتها، مثلما روت لي خلال رحلة الليل الطويلة الحقيقة عن نفسها وهي أنها كانت تعمل عاهرة في أحد بيوت الهوى السرية في البصرة فطعنت بالسكين شخصا ضربها وهربت الى بغداد حيث ألقي القبض عليها، وهي الآن عائدة للتحقيق معها ومحاكمتها على فعلتها. أخبرتها أنا الآخر بأنني طالب كلية وسجين سياسي وإنني ذاهب الى البصرة لمحاكمتي أمام المجلس العرفي، وحين سألتني إن كان أهلي يزورونني قلت لها إنهم يعيشون في مدينة بعيدة ويصعب عليهم الوصول الي. ما كدت أقول لها ذلك حتى رأيت الدموع في عينيها، لكنني طمأنتها بأنهم على اتصال بي وأن الأمر ليس سيئا جدا. كانت قد غطتنا بعباءتها وتكورت، واضعة رأسها في حضني، فيما راحت أصابعها تداعب جسدي برقة. لقد قدم لي المجلس العرفي العسكري أخيرا هدية كان ينبغي لي أن أشكره عليها وبدت لي هذه الرحلة للحاق به واستدرار عطفه لمحاكمتي قد استحقت عناءها حقا.
في الصباح كنا قد وصلنا البصرة التي ما كنت قد زرتها من قبل، فاقتادنا الشرطيان اللذان كانا قد اطمأنا الى عدم رغبتنا بالهروب، بدون قيود هذه المرة الى ما بدا لي أنه سراي الحكومة، بسبب كثرة أقسامه وتزاحم الناس فيه، حيث جرى ايقافنا كما أتذكر في ممر أرضي تحت شجرة وراح الشرطي الأصغر سنا يسأل عن المكان الذي ينبغي ايصال كل منا، أنا والفتاة، اليه قبل أن يعود ليأخذ الفتاة معه والتي ودعتني بكلمات طيبة وإبتسامة مشجعة، فظللت أنتظر مع الشرطي الأكبر سنا أوبته، لكنه حين تأخر كثيرا ذهب الشرطي الآخر أيضا ليستطلع الأمر، فانتبهت فجأة الى أنني أقف وحيدا بين الناس بدون أي حراسة، فخطر لي أن أهرب. كان كل ما أحتاجه هو أن أختلط بالناس القادمين والذاهبين وأخرج من الباب معهم بدون أن أثير شكا. لكنني لم أكن قد فكرت بالأمر أساسا قبل ذلك وما كنت أعرف أحدا في مدينة أجد نفسي لأول مرة فيها، فضلا عن انني لم أكن أملك ما يكفي من النقود لأقيم في فندق حتى لليلة واحدة او استقل سيارة تنقلني الى بغداد. وحتى إذا هربت ماذا يمكن أن أفعل بحياتي؟ سأظل مطاردا دائما وعاجزا عن العثور على أي عمل. كل ذلك مر في لحظة واحدة في ذهني، فتخليت عن الفكرة وظللت أتمشى في الممر ذاته جيئة وذهابا في انتظار عودة الشرطي الذي ظهر أخيرا وهو يتلفت يمنة ويسرى، بادي القلق، لكنه ما كاد يراني واقفا في مكاني حتى استعاد أنفاسه وفرح وجاء يبشرني:
- تأجلت المحاكمة، المجلس العرفي رجع الى بغداد.
سألت:
- وماذا أفعل في البصرة؟
- لا شيء، ستعود معنا الليلة الى بغداد.
بعد ساعة او ساعتين وأنا أمد يدي أبحث عن شيء ما داخل سترتي عثرت على نصف دينار لم يكن لي. فعرفت أن الفتاة دسته في جيبي خلسة خلال رحلتنا الليلية الطويلة بالقطار، رغم انها كانت تعرف أننا لن نلتقي بعد ذلك أبدا.
لا أتذكر كيف أمضيت بقية ذلك النهار في البصرة. لا بد أنهم احتجزوني في موقف ما، ومع ذلك لا أتذكر أنني كنت في أي زنزانة في البصرة. كل ما أتذكره الآن هو انني كنت مرة أخرى في القطار العائد الى بغداد مع نفس الشرطيين بصحبة عجوز ريفي مجنون لا يكاد يكف عن ترداد عبارة أثيرة الى نفسه وهي "شنو هالطركاعة!"، متصورا أن ثمة بئرا أمامه وأنه سوف يسقط فيها "ها .. ها ... شنو هالطركاعة!" ثم يأخذ بالبكاء والتوسل والصراخ.
هذا المجنون الريفي مكث بضعة أيام في موقف السراي قبل نقله الى مستشفى الشماعية، نائما خارج الغرف في الفناء، إذ ما كان أحد يريده أن يكون معه، بل أن بعض الموقوفين العاديين راح يسخر منه ويتخذ منه وسيلة للتسلية "ها .. ها .. دير بالك، باوع زين قدامك!" فيصرخ مهتاجا "ها ها شنو هالطركاعة!" قبل أن يسقط في البئر.
كان عدد الذين لا يملكون مكانا في غرف الموقف ويعيشون في العراء لا يقل عن عشرة أشخاص. كان السياسيون يوفرون مكانا لرفاقهم في زنزانتهم مهما ضاق بهم المكان، لكن الأمر كان يختلف مع الموقوفين العاديين الذين كانوا يطبقون قانون الغاب في ما بينهم، بتواطؤ كامل مع الشرطة المرتشين. فقد كان القتلة وتجار الحشيش والقوادين الأقوياء يتصرفون كسادة يهابهم الآخرون، لهم غلمانهم الذين يخدمونهم كجوار لهم. أما الضعفاء والذين لا يملكون مالا يدفعونه كجزية لهم فكانوا يضربون ويطردون خارجا. لكنهم كانوا يتجنبون كقاعدة أي تماس مع السياسيين او تدخل في شؤونهم، وكان السياسيون يتعاملون بمثل ذلك أيضا معهم. ومما جرح ضميري الى الأبد ما شهدته ذات مرة حين هبط المطر مدرارا فجأة فهرع بعض الذين يعيشون في العراء الى المرحاض الوحيد ليحتموا بسقفه واقفين، ولكن حين زاحمهم آخرون على المكان جرت بينهم معركة سالت فيها الدماء، مختلطة بزخات المطر. ذلك المنظر الذي لا أنساه ما دمت حيا جعلني أفكر في البؤس البشري في مواجهة كل الدعاوى الكاذبة عن التقدم الذي يفترض أننا قد حققناه في عصرنا.
بقيت أياما أخرى أنتظر أن يرأف المجلس العسكري بي ويحاكمني، لكنهم بدل أن يقتادوني اليه مثل كل المرات السابقة جاؤوا وقالوا لي:
- لا محاكمة، ستعود الى سجنك في الحلة.
لم أعرف ما حدث: هل ألغيت القضية أم تأجلت؟ لم يقل لي أحد ذلك. لقد حالفني الحظ قليلا هذه المرة، فلو لم ينشغل المجلس بآخرين غيري لما خرجت بحفنة من سنين أخرى يضيفها الى سجني، حيث يكفي حضورك وحده أمامهم، مهما كانت تهمتك متهافتة، أن يصدروا عليك ما يحلو لهم من حكم، بدون حسيب او رقيب طبعا.
***
فرحت جدا بالعودة الى قاعدتي التي كنت قد تركتها ورائي، فقد كان سجن الحلة أفضل مكان يمكن أن أقضي فيه أيامي العاطلة، فقد كانت إدارة السجن غير آبهة بالسياسة وتقلباتها وما كان يعنيها من أمر السجناء السياسيين شيء سوى سير الأمور بلا مشاكل. والأكثر من ذلك أنها كانت قابلة للرشوة، فقد حدث أثناء وجودي في السجن أن أطلق سراح بعضهم، ومن بينهم طبيب كان محكوما بالسجن عشر سنوات، لقاء مبلغ 600 دينار إتفق عليه أهله مع مسؤولي السجن والأمن. ورغم السرية المحيطة بالموضوع عرفت كيف يفعلون ذلك: كانوا يغيرون فقط تاريخ إطلاق السراح فقط، فبدل أن يتم ذلك بعد سنوات يكون التاريخ بعد شهر مثلا، مثلما يزودون الشخص بجواز سفر يتيح له المغادرة. وبالفعل فان ذلك الطبيب الشاب الذي قصد أميركا حال خروجه أفلت من المصيدة بهذه الطريقة. وبصورة عامة كانت إدارة السجن متساهلة مع السجناء السياسيين وتغض النظر عن كل ما تعتبره ممنوعا مثل الحصول على أجهزة راديو. حتى أن أصدقاء لي كانوا قد حصلوا ذات مرة على قنينة عرق ودعوني الى مشاركتهم الشرب في زاويتهم خلسة، ليتجنبوا إنتقاد زملائهم المتشددين لهم. ولكن سلوك إدارة السجن مع السجناء العاديين الذين كانوا يحتلون جناحا خاصا بهم ولا يكادون يختلطون بنا كان مختلفا تماما، فقد شاهدت أكثر من مرة سجناء توضع أرجلهم في الفلقة وسط الساحة ويضربون بالعصي.
كانت أبواب الزنزانات تظل مفتوحة ليل نهار، مع ساحة واسعة لا تكاد تتوقف الحركة فيها، حيث تجد العشرات من السجناء يسيرون جيئة وذهابا بين جدار وجدار او يجلسون في الزوايا يحوكون النمنم، صانعين منه محافظ وعقودا وأقراطا ملونة ليقدموها هدايا لأحبائهم في مواعيد الزيارات. ولسمعتي بينهم كشاعر وكاتب لم يكن مسؤولو السجن يكلفونني بالقيام بأي عمل، بل يتركونني أنام حتى الظهيرة، بعد أن أكون قد أمضيت معظم الليل في القراءة والكتابة. والأكثر من ذلك هو انني كنت أملك ما يكفي من الكتب باللغتين العربية والانكليزية وما يكفي من الورق لأواصل كتابة قصائدي ومذكراتي التي لم أكن أعدم وسيلة لتهريبها الى الخارج أيضا. وقد أفلحت بالفعل في العام 1964 في تهريب قصيدتين طويلتين لي وهما "إنني اؤمن بالريح" و"قضية هاملت" الى مجلة "الآداب" اللبنانية فنشرتهما في عددين من أعدادها. لم أبلغ الدكتور سهيل ادريس، رئيس تحرير المجلة، في المظروف الذي أرسل اليه عن طريق البريد العادي في بغداد بوجودي في السجن، فقد كنت أعرف أن ثمة رقابة على الرسائل المرسلة الى خارج العراق. فإذا ما اكتشف الرقيب العسكري الحقيقة فانه لن يصادر القصيدة وحدها فحسب، وانما قد تكون سببا في توجيه تهمة جديدة الي وهي مواصلة نشاطي السياسي من داخل السجن ومحاولة تشويه سمعة الحكومة التي كانت تدعي ليل نهار أنها جاءت لتزيل الظلم الذي لحق بالناس على يد من سبقها. وفيما بعد، في العام 1970 أثناء زيارة لي الى بيروت أبلغني الشاعر العراقي بلند الحيدري الذي عمل فترة مع سهيل إدريس كمحرر للشعر في المجلة أنهم كانوا يعرفون بحقيقة وجودي في السجن، بل انهم اعتبروا نشر قصائدي محاولة للضغط على الحكومة العراقية لإطلاق سراحي. فقد كان بلند الحيدري نفسه قبل عام من ذلك موقوفا معي في "معتقل خلف السدة" في بغداد، مع أدباء وفنانين معروفين آخرين مثل علي الشوك ويوسف العاني. ثم حين أطلق سراح بلند الحيدري، بوساطة من الملا مصطفى البرزاني كما كان يقول، ترك بغداد وسافر الى بيروت التي أقام فيها. كنت أعرف بلند الحيدري من اتحاد الأدباء وكان قد كتب عني بحماسة قبل ذلك. لذلك أطلعته أثناء وجودنا في معتقل خلف السدة على بعض القصائد التي كنت قد كتبتها سرا على ورق السيجاير وأخفيتها في طوايا بطانيتي وهربتها من معتقل الى آخر، فاستغرب أن أكون قادرا على الكتابة وسط مثل ذاك الدمار.
كانت تصلني كتب بالانكليزية أيضا، من بينها كما أتذكر رواية أرثر كويستلر "ظلام في الظهيرة" ورواية د.ج. لورنس "عشيق الليدي تشاترلي" ورواية سومرست موم "القمر وستة بنسات" ورواية جورج اورويل "حقل الحيوان"، فضلا عن الكتب العربية التي كانت تصلنا أحدث إصداراتها من بيروت والقاهرة. وفي ظل ذاك الوقت الوافر كتبت مئات الصفحات عن ذكريات السجن والكثير من القصائد والقصص القصيرة التي فرطت بها بسذاجة عندما تركتها ورائي في السجن عند اطلاق سراحي، حفاظا عليها من احتمال تفتيشي ومصادرتها، لأعود وأسترجعها فيما بعد أثناء إحدى المواجهات. لكنها كما يبدو كانت قد وصلت الى بعض المسؤولين السياسيين الجامدين فكريا فوجدوها ضارة وقرروا هم أنفسهم مصادرتها، حيث ادعوا كذبا حين رحت لأستعيدها أن أحدا ما قد أطلق سراحه وأخذها معه. فكان ذلك صدمة لي ما زالت تؤرقني حتى الآن. فقد حرموني مما لا يمكن تعويضه أبدا، مؤكدين لي الحقيقة التي كنت قد اكتشفتها قبل ذلك في زمن سجني وهي أن الضحية نفسها غالبا ما تتوق الى تقليد جلادها.
في ذلك الخريف من العام 1964 كان ثمة ما بدأ يتغير في المزاج السياسي العام، فقد كانت الدولة نفسها ممزقة بين أكثر من اتجاه: عسكريون تتحكم بهم روح الإنتقام القديمة في مواجهة أجنحة قومية انتقلت، ربما بتأثير من اتجاه جمال عبدالناصر الإشتراكي والحملة العالمية ضد القمع والإرهاب في العراق والتحولات الآيديولوجية داخل الحركة الشيوعية العالمية نفسها الى مواقع فكرية وسياسية أقل تشنجا وأكثر وعيا وتفتحا على اليسار. وبدأت السلطة تحاول باستحياء تخفيف الضغط الموجه ضدها بإطلاق سراح بعض من ألوف الذين كان الحرس القومي قد اعتقلهم وسامهم سوء العذاب. أتذكر أن طاهر يحيى، رئيس الوزراء، نفسه زارنا ذات مرة في السجن، ملقيا نظرة متفحصة على المكان، بدون أن ينبري أحد منا للتحدث اليه، مثلما لم يفه هو الآخر بكلمة واحدة. وخرج مثلما جاء وكأن شيئا لم يحدث. بعد أيام من ذلك وصلت لجنة شكلتها وزارة الدفاع من عسكريين وقضاة، معلنة عن رغبتها في إعادة النظر في الأحكام الصادرة من المجالس العرفية العسكرية. حققت اللجنة مع من طلب منهم ذلك ولم أكن أحدهم، فقد كنت فاقدا الثقة بأي عمل تقوم به الدولة، بل وكنت أخشى أن يؤدي حضوري أمام اللجنة الى ما هو أسوأ حتى من الحكم الصادر علي. كنت في الحقيقة قد بلغت الضفة الأخرى من اليأس وغاضبا على البشرية كلها، حتى انني قبضت على نفسي متلبسا بأفكار جنونية حول خوفي حتى من احتمال اطلاق سراحي ورحت أفكر مع نفسي، كيف يمكن لي أن أعيش في الخارج، أنا العاطل عن العمل والمفصول من الدراسة؟ لا يمكن لي أن أعود خائبا الى أهلي في كركوك، وماذا سأفعل هناك؟ في السجن كنت أملك على الأقل مكانا أنام فيه، ولكن أين أذهب إذا ما وجدت نفسي في بغداد ثانية؟
ثم حدث ما لم أكن أتوقعه أبدا، إذ صدر بيان رسمي نشر في الصحف بإعلان العفو عني وإطلاق سراحي، ففوجئت به وكأنني أخرج الى العالم لأول مرة في حياتي. أمام بوابة السجن وقبل أن أصعد في سيارة الشرطة التي سوف تنقلني الى مديرية الأمن العامة في بغداد لإطلاق سراحي وجدت أحدا ما جاء بسيارته وظل يتنظرني حتى خروجي. كان ذلك صديقا قديما لي من كركوك لم أره منذ سنين، قرأ خبر إطلاق سراحي في الجريدة فجاء ليصطحبني معه. مفاجأة وفاء لم أتوقعها حتى في أحلامي. وقد تبعنا بسيارته حتى بغداد وظل ينتظرني ساعات أمام مديرية الأمن حتى خروجي الى الشارع، فاقتادني الى بيته الذي مكثت فيه أياما قبل أن أدبر أموري.
ولكن هل نجوت أخيرا حقا من الفخ الذي وجدته في طريقي؟ ما زال في القصة بقية تستحق أن تروى.
***
بعد شهر او شهرين من ذلك عثرت على عمل صغير في مجلة جديدة اسمها "القنديل" كنت أحرر معظم موادها، أتاح لي أن أدفع ايجار غرفتي وأعيل نفسي. وبعد ذلك بقليل عينت محررا ومترجما براتب جيد في أهم جريدة يومية كانت تصدر في العراق حينذاك وهي جريدة "المنار"، فضلا عن تحريري الصفحات الثقافية في جريدة "الثورة العربية". وفي الوقت ذاته أكملت دراستي الجامعية بعد إلغاء فصلي. كانت مقالاتي السياسية والأدبية وترجماتي وقصائدي تنشر بصورة يومية في الصحف والمجلات. في خلال عامين من ذلك تكرس إسمي في بغداد كصحافي وكاتب معروف، إذ غالبا ما كنت أدعى لإجراء مقابلات معي في التلفزيون والإذاعة او حتى لحضور الحفلات الرسمية حتى انني تلقيت ذات مرة دعوة من رئيس الجمهورية نفسه، بدون أن تطاوعني نفسي لتلبيتها. كما توطدت علاقاتي وصلاتي وصداقاتي مع أناس متنفذين في المجتمع والدولة من مختلف الإتجاهات: رؤساء تحرير ووزراء ورجال دولة وقادة سياسيون وفنانون ومثقفون. لقد استمر ذلك حتى حرب حزيران 1967 التي أدت الى زخم ثوري منقطع النظير ورفض لكل السياسات القائمة على القمع والدكتاتورية. وسط ذلك الغليان الثوري حدثت المفاجأة ثانية: تلقيت بلاغا من المجلس العرفي العسكري، نشر في الصحف، بتقديمي الى المحاكمة.
ولكن أي محاكمة؟ في البداية اعتقدت أن الأمر يتعلق ببيان كنت قد وقعته مع أكثر من عشرين شخصية بارزة في المجتمع، طالبنا فيه بالديمقراطية وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين وإعادة المنفيين. ولكن لا، إذ لم يعتقلنا او يحقق معنا أحد حول ذاك الأمر. صار كل وضعي مهددا مرة أخرى، ولكن هل يمكنهم النيل مني هذه المرة أيضا؟
ما كاد أصدقائي الكثيرون يطلعون على الخبر حتى اتصلوا بي لطمأنتي "لا تهتم بالأمر مهما كان شأنه!" وبالفعل اتصلوا بمحام يعرفون بعلاقاته الوثيقة مع أجهزة الدولة فتطوع مجانا ليس فقط للدفاع عني وانما لجلب كل المعلومات المتعلقة بالموضوع: إنها نفس القضية القديمة التي أخذوني بسببها الى البصرة ذات يوم والتي تأجلت المرة بعد الأخرى. لقد وجد المجلس العرفي العسكري كما يبدو الوقت أخيرا بعد حرب حزيران ليحاكمني على قضية هزلية من عهد عبدالكريم قاسم. ولكي يطمئن بالي أخذني صديق آخر قبل أيام من المحاكمة لمقابلة المدعي العام الذي كان من عائلة القشطيني كما أتذكر، فشربنا الشاي معه. واتصل آخرون برئيس المحكمة، مثلما أُبلغ الشاهدان وهما من الأمن بعدم الشهادة ضدي.
وهكذا بدأت المحاكمة بمرافعة كاد يطلب فيها المدعي العام بتقليدي وساما على المستوى الرفيع لثقافتي وقصائدي. ولكن حين حضر الشاهد الأول، وهو معاون أمن كان يكرهني، سبق له أن شارك بتعذيبي في الأزمنة الماضية، بدا محرجا ومترددا في التراجع عن شهادته المدونة ضدي حيث قال إن قسمه بالقرآن يفرض عليه أن يقول الحقيقة وهي أنني كنت الأكثر ثورية وألقي الخطب وأحرض الطلبة ضد السلطات.
فرد عليه رئيس المحكمة:
- وماذا في ذلك؟ كلنا ثوريون.
- ولكنه كان يتبنى الأفكار الهدامة. الجميع يتحدثون عنه، كتاباته التي صادرناها تظهر ذلك.
- أنت لا تصلح أن تكون حكما في مثل هذا الأمر المتعلق بالأدب والثقافة.
أما الشاهد الثاني فكان شرطي الأمن جمال سري الذي كان قد دلهم هو نفسه ذات مرة على القصائد التي عثروا عليها تحت بطانيتي وكان الأكثر ملاحقة لي. قال جمال وهو يضع يده على القرآن:
- كل ما يقال عن المتهم باطل. إنه إنسان من أطيب الناس ولم يصدر منه أي عمل سوء.
- ولكنك قد شهدت ضده فيما مضى.
- كنا متوهمين يا سيدي، نعتمد على الإشاعات.
وقدم المحامي هو الآخر دفاعا مجيدا عني أشار فيه الى المركز الذي احتله في الحياة الثقافية العراقية وتهافت التهمة الموجهة الي.
لم يكن صعبا بالطبع بعد ذلك معرفة الحكم الذي سوف تصدره المحكمة علي لتنهي به هذه القضية التي ظلت عالقة تطل برأسها بين الحين والآخر طوال كل تلك السنين.
في طريق العودة من المحكمة صعد جمال سري في السيارة التي أقلتني الى المدينة وجلس جنبي، شاكيا لي كيف انه خسر حياته بالعمل مع أناس يشبهون الذئاب في ضراوتهم وكيف انهم رموا به في النهاية مثل كلب في الشارع.
حين وصلنا وغادرنا السيارة لحق بي طالبا مني بحياء أن أكافأه على شهادته في الدفاع عني بقنينة من العرق فاشتريت له بضع قنان، مثلما وضعت في جيبه دينارا او دينارين، مازحا معه:
- أرأيت يا جمال، كيف أن الأخيار ينتصرون على الأشرار في النهاية؟
رد وهو يكاد يبكي، مودعا:
- الحياة غريبة، سأشرب الليلة في صحتك.
ثم مضى، غائبا في الزحام.
*كاتب وشاعر عراقي مقيم في برلين
مقطع من كتاب جديد بعنوان "الشاعر في السجن"
فاضل العزاوي. Fadhil Al-Azzawi
فاضل العزاوي. Fadhil Al-Azzawi. Gefällt 3.336 Mal. فاضل العزاوي شاعر وروائي ومترجم عراقي ولد في كركوك في العراق عام 1940. هذه النافذة يهتم بها ويديمها معجبوه ومحبوه ،اي ليست له شخصيا .مرحبا بكم .