لم أكن أعرف أن الأديب السوري حسيب كيالي ترجم رواية الكاتب الفرنسي انطوان دي سانت إكسوبري "أرض الرجال" إلا حين اكتشفت نسخة نادرة أثناء الجرد السنوي شتاء عام 2014 في مكتبة المركز الثقافي العربي بمدينة إدلب والتي احتوت على أزيد من ثلاثة وثلاثين ألف كتاب في أصناف المعرفة-كنتُ موظفاً مؤقتاً لستة أشهر حرثتُ فيها المكتبة حرثاً عميقاً- دُهشت وفرحتُ يومها بهذه المصادفة السعيدة. الترجمة صادرة عن منشورات عويدات في بيروت، مطبعة قلفاط، أيار 1963.
نصُّ رواية "أرض الرجال" يُشبه قصيدة ملحمية. يعيد حسيب كيالي، بتلك الترجمة الأنيقة، كتابة النص الروائي من جديد. وبقدر ما أهتم إكسوبري بنصه الفرنسي وجد حسيب كيالي معادلاً له: لغة عربية شفافة تمس شغاف القلب، وتترك القارئ في حيرة من أمره، أهو تأليف أم قدرة عالية في محاكاة النص الأصلي يُجيدها الأدباء الكبار؟
حقل الكاتب الفرنسي واسع فسيح، الرجل من مواليد عام 1900 وفي الحادي والثلاثين من شهر تموز عام 1944 بينما كان عائداً من مهمة قتالية في العام الأخير من الحرب العالمية الثانية اُسقطت طائرته من قبل الطائرات الألمانية المقاتلة قرب شواطئ كورسيكا في الشمال الغربي من البحر الأبيض المتوسط. مات إكسوبري في أوج عطائه الروائي وكان قد ترك جملة من الروايات الناجحة، من أبرزها روايته الشهيرة الأمير الصغير وروايته الأقل شهرة أرض الرجال، أو أرض البشر، كما تُترجم أحياناً، والتي يرى فيها النقاد الغربيون تحفة أدبية من روائع القرن العشرين.
كان إكسوبري يعشق عمله كطيار مدني في مجال البريد الجوي. يقول في رواية أرض الرجال: الطائرات آلات ولا شك، ولكن أية أدوات تحليل هي؟ هذه الأدوات جعلتنا نستكشف الوجه الحقيقي للأرض والبشر. والواقع أن الطرق قد خدعتنا طوال قرون. وكنا نشبه الملكة التي رغبت في زيارة رعاياها ومعرفة ما إذا كانوا هانئين في ظل حكمها. ولكن حاشيتها، رغبة منهم في خداعها عن الحقيقة، أقاموا على طريقها زينات بديعة، واشتروا مؤيدين مأجورين ليرقصوا، ويظهروا الأفراح، فلم تشاهد من مملكتها شيئاً خارج هذا الخيط الهزيل المهيأ، وما علمت قط أن في أرجاء الأرياف العريضة أناساً يموتون من الجوع ويلعنونها.
الأدب بالنسبة لإكسوبري وسيلة تفكير، والكاتب عنده لا يتمتع فقط بالقدرة على ملاحظة تفاصيل الحياة بألوانها وروائحها وكلماتها المميزة ودقائقها، بل بالتفكير المضني في مغزى الحياة. تلك هي قوة هذا الأديب الفرنسي الفذّ. فعندما نقرأ كلماته يعترينا الخجل من أنفسنا، وهذه أبرز سمات عبقريته، فهو يجبرنا على أن نستحي، ويقضي على كافة محاولات التهرب وتبرير الشر والفساد الخلقي. وهو يسعى لنكون بشراً يمدون ظلالهم على آفاق شاسعة. وكونك بشراً يعني على وجه الدقة أن تكون مسؤولاً. يعني أن تعرف الخجل أمام بؤس لا يبدو أنه يتعلق بك، أن تزهو بنصر كلّل هامات الرفاق، أن تحس وأنت تضع حجرك أنك تعمّر العالم. وها هو يقص علينا محنة صديقه مرموز الذي رافقه في حله وترحاله، وأخذ حيزاً مهماً في رواية أرض الرجال.
محاسب صغير في مكان ما من برشلونة يهتم بالأرقام أكثر من اهتمامه بالسياسة والانقسامات التي تحدث في وطنه. ولكن أحد رفاقه قد تطوع في جبهة الثوار ضد الطاغية فرانكو، ثم رفيق ثان، ثم ثالث، وإذا هو يعاني اندهاشاً وتحولاً غريباً: ظهرت له شواغل جديدة ما كان يلتفت إليها من قبل. وجاء أخيراً خبر مقتل أحد رفاقه في جبهة القتال. لم تكن القضية قضية صديق يود الثأر له. وأما السياسة وأهلها فكانت على هامش حياته. ومع ذلك أحس بغصة. نظر إليه أحد الرفاق ذات صباح، وقال: نذهب إلى الجبهة؟ قال: نذهب. وذهبا. حين سمع انطوان دي سانت إكسوبري القصة ، وفدت عليه صور هيمنت عليه فراح يقص:
عندما تمرُّ أسراب البط البري في موسم الهجرة من موطنها المؤقت إلى تلك المنازل، التي لها في القلوب منازل صحيح أنها مقفرة، ولكنه يعود إليها بعد غياب لجعلها عامرة، يسمع البط الداجن على الأرض، الذي نسي الطيران من دهور مديدة، الجلبة التي هبت مع وصول تلك الأسراب إلى مسقط رأسها، تنقلب فجأة أحوال البط الداجن. وهو يسمع ذلك النداء المتوحش الكامن في الأعماق، وإذا بط المزارع قد انقلب خلال دقيقة واحدة إلى طيور حرة، تندفع في مظاهرة صاخبة، تفرد جناحيها، وتنطلق في قفزات خرقاء، يحملها شوقها إلى الحرية للمغامرة بمصيرها. هل تريد أن تصبح بطاً برياً حراً يصفق بجناحيه في الهواء الطلق؟ والسؤال: أتستطيع ذلك؟ ويكمل الروائي الفرنسي:
أستعيد على الأخص صورة الغزلان التي ربيناها في جوبي المحطة الجوية لطائرات البريد على حدود الصحراء الأفريقية. كنا نحتجزها في فناء مكشوف مسيّج لأن الغزلان لا تستطيع الاستغناء عن الهواء الطلق، وليس في الدنيا حيوان أكثر هشاشة ورهافة من الغزلان. وهذه الغزلان قد أسرت في حداثة السن، ومع ذلك فإنها تحيا وترعى من يدك. وهي تدع لك أن تُداعبها وتحسب أنك استأنستها. وجعلتها في منجى من الحزن المجهول الذي يطفئ الغزلان من غير جلبة، ويجعل موتها لطيفاً هيناً. ولكن لابد أن يأتي اليوم الذي تراها فيه قد ارتكَتْ بقرونها الصغيرة على الحواجز، في اتجاه الصحراء إنها ممغنطة. وهي لا تعلم أنها تهرب منك. والحليب الذي جلبته لها قد شربته. وهي مازالت تدعك تداعبها، وتدفن أفواهها في راحة كفك في عذوبة أشد. ولكن ما إن تفلتها حتى تجدها، بعد قفزات متظاهرة بالسعادة، تعود إلى غرس قرونها في الحاجز. وتظل هناك لا تحاول حتى قراع الحاجز، ولكنها تتركّى عليه وحسب، مطأطئة الرأس، تركي قرونها الصغيرة حتى الموت، تحلم بالحرية المفقودة، ترقص رقصتها الأخيرة. وأنت تنظر إليها وتفكر: ها هي ذي يتملكها الحنين إلى تلك الفيافي الشاسعة التي يفوح منها عبق العشب البري في الصحراء الممتدة نحو تخوم البحر الهادر. وتفكر من جديد، ونحن كبشر، ماذا ينقصنا؟
نصُّ رواية "أرض الرجال" يُشبه قصيدة ملحمية. يعيد حسيب كيالي، بتلك الترجمة الأنيقة، كتابة النص الروائي من جديد. وبقدر ما أهتم إكسوبري بنصه الفرنسي وجد حسيب كيالي معادلاً له: لغة عربية شفافة تمس شغاف القلب، وتترك القارئ في حيرة من أمره، أهو تأليف أم قدرة عالية في محاكاة النص الأصلي يُجيدها الأدباء الكبار؟
حقل الكاتب الفرنسي واسع فسيح، الرجل من مواليد عام 1900 وفي الحادي والثلاثين من شهر تموز عام 1944 بينما كان عائداً من مهمة قتالية في العام الأخير من الحرب العالمية الثانية اُسقطت طائرته من قبل الطائرات الألمانية المقاتلة قرب شواطئ كورسيكا في الشمال الغربي من البحر الأبيض المتوسط. مات إكسوبري في أوج عطائه الروائي وكان قد ترك جملة من الروايات الناجحة، من أبرزها روايته الشهيرة الأمير الصغير وروايته الأقل شهرة أرض الرجال، أو أرض البشر، كما تُترجم أحياناً، والتي يرى فيها النقاد الغربيون تحفة أدبية من روائع القرن العشرين.
كان إكسوبري يعشق عمله كطيار مدني في مجال البريد الجوي. يقول في رواية أرض الرجال: الطائرات آلات ولا شك، ولكن أية أدوات تحليل هي؟ هذه الأدوات جعلتنا نستكشف الوجه الحقيقي للأرض والبشر. والواقع أن الطرق قد خدعتنا طوال قرون. وكنا نشبه الملكة التي رغبت في زيارة رعاياها ومعرفة ما إذا كانوا هانئين في ظل حكمها. ولكن حاشيتها، رغبة منهم في خداعها عن الحقيقة، أقاموا على طريقها زينات بديعة، واشتروا مؤيدين مأجورين ليرقصوا، ويظهروا الأفراح، فلم تشاهد من مملكتها شيئاً خارج هذا الخيط الهزيل المهيأ، وما علمت قط أن في أرجاء الأرياف العريضة أناساً يموتون من الجوع ويلعنونها.
الأدب بالنسبة لإكسوبري وسيلة تفكير، والكاتب عنده لا يتمتع فقط بالقدرة على ملاحظة تفاصيل الحياة بألوانها وروائحها وكلماتها المميزة ودقائقها، بل بالتفكير المضني في مغزى الحياة. تلك هي قوة هذا الأديب الفرنسي الفذّ. فعندما نقرأ كلماته يعترينا الخجل من أنفسنا، وهذه أبرز سمات عبقريته، فهو يجبرنا على أن نستحي، ويقضي على كافة محاولات التهرب وتبرير الشر والفساد الخلقي. وهو يسعى لنكون بشراً يمدون ظلالهم على آفاق شاسعة. وكونك بشراً يعني على وجه الدقة أن تكون مسؤولاً. يعني أن تعرف الخجل أمام بؤس لا يبدو أنه يتعلق بك، أن تزهو بنصر كلّل هامات الرفاق، أن تحس وأنت تضع حجرك أنك تعمّر العالم. وها هو يقص علينا محنة صديقه مرموز الذي رافقه في حله وترحاله، وأخذ حيزاً مهماً في رواية أرض الرجال.
محاسب صغير في مكان ما من برشلونة يهتم بالأرقام أكثر من اهتمامه بالسياسة والانقسامات التي تحدث في وطنه. ولكن أحد رفاقه قد تطوع في جبهة الثوار ضد الطاغية فرانكو، ثم رفيق ثان، ثم ثالث، وإذا هو يعاني اندهاشاً وتحولاً غريباً: ظهرت له شواغل جديدة ما كان يلتفت إليها من قبل. وجاء أخيراً خبر مقتل أحد رفاقه في جبهة القتال. لم تكن القضية قضية صديق يود الثأر له. وأما السياسة وأهلها فكانت على هامش حياته. ومع ذلك أحس بغصة. نظر إليه أحد الرفاق ذات صباح، وقال: نذهب إلى الجبهة؟ قال: نذهب. وذهبا. حين سمع انطوان دي سانت إكسوبري القصة ، وفدت عليه صور هيمنت عليه فراح يقص:
عندما تمرُّ أسراب البط البري في موسم الهجرة من موطنها المؤقت إلى تلك المنازل، التي لها في القلوب منازل صحيح أنها مقفرة، ولكنه يعود إليها بعد غياب لجعلها عامرة، يسمع البط الداجن على الأرض، الذي نسي الطيران من دهور مديدة، الجلبة التي هبت مع وصول تلك الأسراب إلى مسقط رأسها، تنقلب فجأة أحوال البط الداجن. وهو يسمع ذلك النداء المتوحش الكامن في الأعماق، وإذا بط المزارع قد انقلب خلال دقيقة واحدة إلى طيور حرة، تندفع في مظاهرة صاخبة، تفرد جناحيها، وتنطلق في قفزات خرقاء، يحملها شوقها إلى الحرية للمغامرة بمصيرها. هل تريد أن تصبح بطاً برياً حراً يصفق بجناحيه في الهواء الطلق؟ والسؤال: أتستطيع ذلك؟ ويكمل الروائي الفرنسي:
أستعيد على الأخص صورة الغزلان التي ربيناها في جوبي المحطة الجوية لطائرات البريد على حدود الصحراء الأفريقية. كنا نحتجزها في فناء مكشوف مسيّج لأن الغزلان لا تستطيع الاستغناء عن الهواء الطلق، وليس في الدنيا حيوان أكثر هشاشة ورهافة من الغزلان. وهذه الغزلان قد أسرت في حداثة السن، ومع ذلك فإنها تحيا وترعى من يدك. وهي تدع لك أن تُداعبها وتحسب أنك استأنستها. وجعلتها في منجى من الحزن المجهول الذي يطفئ الغزلان من غير جلبة، ويجعل موتها لطيفاً هيناً. ولكن لابد أن يأتي اليوم الذي تراها فيه قد ارتكَتْ بقرونها الصغيرة على الحواجز، في اتجاه الصحراء إنها ممغنطة. وهي لا تعلم أنها تهرب منك. والحليب الذي جلبته لها قد شربته. وهي مازالت تدعك تداعبها، وتدفن أفواهها في راحة كفك في عذوبة أشد. ولكن ما إن تفلتها حتى تجدها، بعد قفزات متظاهرة بالسعادة، تعود إلى غرس قرونها في الحاجز. وتظل هناك لا تحاول حتى قراع الحاجز، ولكنها تتركّى عليه وحسب، مطأطئة الرأس، تركي قرونها الصغيرة حتى الموت، تحلم بالحرية المفقودة، ترقص رقصتها الأخيرة. وأنت تنظر إليها وتفكر: ها هي ذي يتملكها الحنين إلى تلك الفيافي الشاسعة التي يفوح منها عبق العشب البري في الصحراء الممتدة نحو تخوم البحر الهادر. وتفكر من جديد، ونحن كبشر، ماذا ينقصنا؟