كثيرة هي القراءات التي تحاول الاقتراب من الأسباب أو المرجعية الفكرية التي تنطلق منها الجماعات الإرهابية، والتي تمارس الإرهاب باسم الإسلام، وكثير من الباحثين يرجعون تلك الاسباب لما في التراث العربي الإسلامي من نزعات طائفية أو عنصرية خصوصا على صعيد علمي الفقه والرواية، بغض النظر عن قراءة السياقات السياسية والثقافية التي أنتجت هذه العلوم، كأن الإرهاب في أصل الدين، دون التفريق بين الدين والتدين، ومتناسين أن جل المدونات الفقهية هي في المقام الأول تاريخ للفكر السياسي العربي.
ومن هذا المنطلق نحاول قراءة "الاعتقاد القادري" وما يمثله من نقطة فارقة بين عصرين مختلفين تمام الاختلاف، بين حرية الفكر والتعبير من ناحية، والاقصاء وكبت الحريات وامتلاك الحقيقة من ناحية أخري.
فقد اعتمدت الدولة الإسلامية على المسيحيين في إدارة الدولة ودواوينها حيث كان للمسيحيين العرب دور بارز في العصر الأموي، في إنشاء الدواوين، وكذلك تم الاستفادة من خبراتهم من قبل الأمويون والعباسيون في تعريب الدواوين والإدارة وأبقوهم على رأس وظائفهم؛ وكذلك فعل الفاطميون في مصر، ولم يقتصر الأمر على موظفي الإدارة، بل تعداه إلى الوظائف الكبيرة في الدولة.
وبداية من صراع المعتزلة ومحاولتهم فرض نظريتهم الشهيرة حول كلام الله أى "القرآن"، ووصل هذا الصراع ذروته عندما حدثت محنة "خلق القرآن"، فلا خلاف بين المعتزلة وخصومهم من الفرق الإسلامية على أن الله تعالى متكلم وأن له كلاماً وأن القرآن كلامه، لكن الخلاف حول معنى الكلام وحقيقة المتكلم وهل القرآن مخلوق حادث أم غير مخلوق؟ أولى المعتزلة مشكلة الكلام الإلهي وخلق القرآن عناية خاصة، رغم أنها لا تعدو إلا أن تكون ضمن مشكلة الصفات والتي نفوا قِدَمها، ولقد كان السبب في ذلك، هو خوفهم من أن القول بقدم الكلام الإلهي أن يشبه قول النصارى في قِدَم المسيح وألوهيته وهو كلمة الله، لذلك اهتم المعتزلة بهذه المشكلة اهتماماً خاصاً، وأخذت طابعاً سياسياً حين أوعز أحمد بن داوود وثمامة بن الأشرس إلى الخليفة المأمون بأن يجعل القول بخلق القرآن عقيدة رسمية للدولة يتتبع كل معارض لها بالقتل والحبس والجلد وقطع الأرزاق، ومحنة الإمام أحمد بن حنبل في ذلك مشهورة.
واستمر الصراع سجالا الى وقت ظهور الاعتقاد القادري، فأغلقت جميع ابواب المناقشة والجدال والمناظرة، بقرار سياسي، حينما أعلن الخليفة العباسي القادر بالله قبل ألف عام اهدار دم المعتزلة وبدء حملة ملاحقتهم واحراق كتبهم ومخطوطاتهم بتهمة "المروق والزندقة"، ليس المعتزلة وحدهم بل طال الأمر الفلاسفة والفرق الكلامية والمؤرخين ونقاد الفكر الديني المنغلق على نفسه، وفرق الشيعة، ومن حينها إلى الآن تم استعادة نصوص السلف استعادة عمياء وغلق باب الاجتهاد، فغابت حرية النقد والتفكير واختيار المعتقد الديني وغير الديني في صالح الاستبداد السياسي والفكر التكفيري المتحالف مع هذا الاستبداد سواء كان في الماضي أو ما نشاهده اليوم في بعض أو جل البلدان العربية.
أهمية الاعتقاد القادري
يعد الاعتقاد القادري من أهم الوثائق القانونية والعقائدية التي تتضمن تقرير أصول العقائد لدى أهل الحديث الذي أطلق عليهم فيما بعد "أهل السنة والجماعة"، وفيه رد صارم على المعتزلة والشيعة والمجسمة، والمشبهة، دون ان يسمي أي طائفة باسمها، على ان اهم الردود كانت ردوده – اى الاعتقاد القادري - على الأشاعرة - الذين يرون أن ألفاظ الصفات لها معان ظاهرة، وهي الحسية التي نراها وهي محالة على الله تعالى، ومعان أخرى «مجازية» يعرفها العربي من غير تأويل، على حد تعبير أبو حامد الغزالي، كما يرى الأشاعرة أنه من الخطأ الوقوع في التشبيه والقول بأن لله وجها، الأمر الذي ينطبق على اليد وغيرها من الصفات، مستدلين على إثبات ذلك بالنقل والعقل، ومن هنا كان الخلاف بين الاعتقاد القادري والأشاعرة والذي استمر حتى الان بين المدارس السلفية على اختلافها وبين الاشاعرة - ذلك الخلاف الذي ما زال موجودا بين أكبر مؤسسة دينية سنية في العالم الإسلامي "الأزهر" وبين جماعات الإسلام السياسي من الإخوان إلى داعش، فالحرب بين الازهر والمنتمين إليه وبين هذه الجماعات هي حرب على امتلاك الدين فكل فريق يدافع عن ملكيته للدين.
السياق التاريخي
كثيرة هى النصوص التاريخية التي تكشف المناخ الفكري الديني و السياسي المتأزم ومدى القسوة والعنف المستخدم مع خلفاء الرأي أو العقيدة في هذا العصر. يقول المبرد في الكامل في التاريخ ج 7 ص 649 :
" كانت ببَغْدَاذَ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ مِنَ الشِّيعَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنَ السُّنَّةِ اشْتَدَّتْ. وَفِيهَا اسْتَتابَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ الْمُعْتَزِلَةَ وَالشِّيعَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ أَرْبَابِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَنَهَى مِنَ الْمُنَاظَرَةِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ نُكِّلَ بِهِ وَعُوقِبَ).
ويقول ابن الجوزي في المنتظم:
" أخبرنا سعد الله بن علي البزار أنبأ أبو بكر الطريثيثي، أنبأ هبة الله بن الحسن الطبري قال: وفي سنة ثمان وأربعمائة استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة، فأظهروا الرجوع وتبرأوا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذت خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوا أحل فيهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك واستن بسنته في اعماله التي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها، في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة، وصلبهم وحبسهم ونفاهم، وأمر بلعنهم على المنابر، وابعد جميع طوائف أهل البدع، ونفاهم عن ديارهم، وصار ذلك سنة في الإسلام.
يتضح لنا مما سبق حالة الصراع في المجتمع الإسلامي بين الفرق والمذاهب والذي كان في أوجه بداية من تخلي دولة بني بويه عن المعتزلة ومحاربتهم، حيث تتابعت اجراءات الدولة العباسية ضد التواجد المعتزلي وغيره من المذاهب بعد انحيازها لمدرسة الحديث، وتعرضت المراكز المذهبية للسلب ، وعاد الاعتزال اثر هذه الهزيمة ليعيش في الظل، فبدأت السلطة العباسية ممارساتها العميقة إلى حد تصفية رجاله جسديا، بينما أمر الخليفة القادر بالله بالاحتفاء بالكتاب وبالتالي اصبح بمثابة وثيقة رسمية في ادانة الاعتزال وانصاره، وغيره من المذاهب، واحتكار مدرسة الحديث للدين، وكانت اشارة البدء في تصعيد حملات التشويه وملاحقة أصحاب المذاهب الأخرى ومعتنقيها، بعد أن أصبح شائعا وتقليدا أن يتلى فقرات من "الاعتقاد القادري" بجامع المهدي أيام الجمعة، فيجيء الناس لسماع قرار ادانة الاعتزال وباقي المذاهب وتفنيد أصولها ونقض مسائلها.
من خلال ما تم طرحه حول السياقات المحيطة بالاعتقاد القادري، ونص الاعتقاد نفسه نكتشف ضرورة الوعي بأن الفكر الإسلامي محكوم بسلطة المرجع الثقافي والمذهبي، وأنه مرتبط ارتباطا مباشرا بالسلطة السياسية، ومن هنا لابد من وضع أسس قراءة علمية تكشف عن خفايا الخطاب الديني وتميط اللثام عن دور السياسي في بناء الفكر الديني ومقالات الأصوليين والمتكلّمين فإن للأفكار تاريخا يبين أن ما قام به القدامى لا يعدو أن يكون اجتهادات لابد من تجاوزها، فالمؤسسة الدينية والجماعات الإسلامية على حد سواء قاموا بتحويل اجتهادات القدامى ومدوناتهم الفقهية والتفسيرية.. إلى نصوص مقدسة ماحين الحدود الفاصلة بين النص القرآني، والأحاديث والروايات المختلفة التي نسبت للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيه، ساعين إلى التوحيد بين الفكر والدين بإلغاء المسافة التي تفصل بين الذات والموضوع، متخذين من الاعتقاد القادري نموذج يحتذى به، وبهذا الشكل نصب الفقهاء والدعاة والوعاظ أنفسهم أوصياء على الدين يكلمون الناس بلسان الله.
وذلك كي يتحكموا في العباد باستعارة سلطة دينية مطلقة مقدسة ينكرها النص القرآني ذاته، وهي ممارسة تؤدي إلى إلغاء المسافة المعرفية بين الذات الباحثة في النص القرآني وموضوعها. ومن مظاهر ذلك رفع اجتهادات السلف أمثال الشافعي (ت204هـ) إلى منزلة القرآن الكريم ومحاولة إسقاطها على حياتنا الراهنة بكل ملابساتها ومستجداتها ومتغيراتها، وفي ذلك "إهدار للبعد التاريخي". فالارتباط العضوي بين "التوحيد بين الفكر والدين" و"اليقين الذهني والحسم الفكري" ينتهي إلى محو المسافة التاريخية الفاصلة بين واقعنا وواقع السلف، وما يؤكد ذلك اعتماد الخطاب الديني آلية الإسقاط المتمثّلة في رد جملة من المفاهيم المعاصرة مثل الديمقراطية والبرلمان إلى مبدأ الشورى.
بالإضافة إلى أن الجماعات الإسلامية على اختلافها ما انفكت تتلاعب بالنص القرآني وبالمقدس خدمة للسياسي الذي يسعى إلى الإبقاء على الأوضاع الاجتماعية والسياسية بما يلائم حاجتها، وذلك باستخدام الدين حجة دامغة تضمن ولاء العامة وانصياعها لصاحب السلطان، فالدين من هذا المنظور سلطة رمزية مؤثّرة في حيوات المؤمنين وسلوكياتهم ومواقفهم، وبهذا يهيمن النص القادري وما شابهه، على العقلية الدينية سواء كانت في اطار مؤسسة الدولة او خارجها، تقوم هذه العقليات بتطبيقه على الاخر طوال الوقت ولو على مستوى المخيال الشخصي، مما يؤدي إلى زيادة الكراهية للآخر واقصاءه والتحريض عليه وربما قتله بقلب بارد مثلما حدث في المنيا في 2 نوفمبر 2018، وردود الأفعال التبريرية في كثير من الأحيان، وقد وصل ببعضهم اتهام المجني عليهم بانهم لم يقوموا بأخذ تصاريح من الحكومة للذهاب الى الدير والصلاة هناك.
ومن هذا المنطلق نحاول قراءة "الاعتقاد القادري" وما يمثله من نقطة فارقة بين عصرين مختلفين تمام الاختلاف، بين حرية الفكر والتعبير من ناحية، والاقصاء وكبت الحريات وامتلاك الحقيقة من ناحية أخري.
فقد اعتمدت الدولة الإسلامية على المسيحيين في إدارة الدولة ودواوينها حيث كان للمسيحيين العرب دور بارز في العصر الأموي، في إنشاء الدواوين، وكذلك تم الاستفادة من خبراتهم من قبل الأمويون والعباسيون في تعريب الدواوين والإدارة وأبقوهم على رأس وظائفهم؛ وكذلك فعل الفاطميون في مصر، ولم يقتصر الأمر على موظفي الإدارة، بل تعداه إلى الوظائف الكبيرة في الدولة.
وبداية من صراع المعتزلة ومحاولتهم فرض نظريتهم الشهيرة حول كلام الله أى "القرآن"، ووصل هذا الصراع ذروته عندما حدثت محنة "خلق القرآن"، فلا خلاف بين المعتزلة وخصومهم من الفرق الإسلامية على أن الله تعالى متكلم وأن له كلاماً وأن القرآن كلامه، لكن الخلاف حول معنى الكلام وحقيقة المتكلم وهل القرآن مخلوق حادث أم غير مخلوق؟ أولى المعتزلة مشكلة الكلام الإلهي وخلق القرآن عناية خاصة، رغم أنها لا تعدو إلا أن تكون ضمن مشكلة الصفات والتي نفوا قِدَمها، ولقد كان السبب في ذلك، هو خوفهم من أن القول بقدم الكلام الإلهي أن يشبه قول النصارى في قِدَم المسيح وألوهيته وهو كلمة الله، لذلك اهتم المعتزلة بهذه المشكلة اهتماماً خاصاً، وأخذت طابعاً سياسياً حين أوعز أحمد بن داوود وثمامة بن الأشرس إلى الخليفة المأمون بأن يجعل القول بخلق القرآن عقيدة رسمية للدولة يتتبع كل معارض لها بالقتل والحبس والجلد وقطع الأرزاق، ومحنة الإمام أحمد بن حنبل في ذلك مشهورة.
واستمر الصراع سجالا الى وقت ظهور الاعتقاد القادري، فأغلقت جميع ابواب المناقشة والجدال والمناظرة، بقرار سياسي، حينما أعلن الخليفة العباسي القادر بالله قبل ألف عام اهدار دم المعتزلة وبدء حملة ملاحقتهم واحراق كتبهم ومخطوطاتهم بتهمة "المروق والزندقة"، ليس المعتزلة وحدهم بل طال الأمر الفلاسفة والفرق الكلامية والمؤرخين ونقاد الفكر الديني المنغلق على نفسه، وفرق الشيعة، ومن حينها إلى الآن تم استعادة نصوص السلف استعادة عمياء وغلق باب الاجتهاد، فغابت حرية النقد والتفكير واختيار المعتقد الديني وغير الديني في صالح الاستبداد السياسي والفكر التكفيري المتحالف مع هذا الاستبداد سواء كان في الماضي أو ما نشاهده اليوم في بعض أو جل البلدان العربية.
أهمية الاعتقاد القادري
يعد الاعتقاد القادري من أهم الوثائق القانونية والعقائدية التي تتضمن تقرير أصول العقائد لدى أهل الحديث الذي أطلق عليهم فيما بعد "أهل السنة والجماعة"، وفيه رد صارم على المعتزلة والشيعة والمجسمة، والمشبهة، دون ان يسمي أي طائفة باسمها، على ان اهم الردود كانت ردوده – اى الاعتقاد القادري - على الأشاعرة - الذين يرون أن ألفاظ الصفات لها معان ظاهرة، وهي الحسية التي نراها وهي محالة على الله تعالى، ومعان أخرى «مجازية» يعرفها العربي من غير تأويل، على حد تعبير أبو حامد الغزالي، كما يرى الأشاعرة أنه من الخطأ الوقوع في التشبيه والقول بأن لله وجها، الأمر الذي ينطبق على اليد وغيرها من الصفات، مستدلين على إثبات ذلك بالنقل والعقل، ومن هنا كان الخلاف بين الاعتقاد القادري والأشاعرة والذي استمر حتى الان بين المدارس السلفية على اختلافها وبين الاشاعرة - ذلك الخلاف الذي ما زال موجودا بين أكبر مؤسسة دينية سنية في العالم الإسلامي "الأزهر" وبين جماعات الإسلام السياسي من الإخوان إلى داعش، فالحرب بين الازهر والمنتمين إليه وبين هذه الجماعات هي حرب على امتلاك الدين فكل فريق يدافع عن ملكيته للدين.
السياق التاريخي
كثيرة هى النصوص التاريخية التي تكشف المناخ الفكري الديني و السياسي المتأزم ومدى القسوة والعنف المستخدم مع خلفاء الرأي أو العقيدة في هذا العصر. يقول المبرد في الكامل في التاريخ ج 7 ص 649 :
" كانت ببَغْدَاذَ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ مِنَ الشِّيعَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنَ السُّنَّةِ اشْتَدَّتْ. وَفِيهَا اسْتَتابَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ الْمُعْتَزِلَةَ وَالشِّيعَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ أَرْبَابِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَنَهَى مِنَ الْمُنَاظَرَةِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ نُكِّلَ بِهِ وَعُوقِبَ).
ويقول ابن الجوزي في المنتظم:
" أخبرنا سعد الله بن علي البزار أنبأ أبو بكر الطريثيثي، أنبأ هبة الله بن الحسن الطبري قال: وفي سنة ثمان وأربعمائة استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة، فأظهروا الرجوع وتبرأوا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذت خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوا أحل فيهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك واستن بسنته في اعماله التي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها، في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة، وصلبهم وحبسهم ونفاهم، وأمر بلعنهم على المنابر، وابعد جميع طوائف أهل البدع، ونفاهم عن ديارهم، وصار ذلك سنة في الإسلام.
يتضح لنا مما سبق حالة الصراع في المجتمع الإسلامي بين الفرق والمذاهب والذي كان في أوجه بداية من تخلي دولة بني بويه عن المعتزلة ومحاربتهم، حيث تتابعت اجراءات الدولة العباسية ضد التواجد المعتزلي وغيره من المذاهب بعد انحيازها لمدرسة الحديث، وتعرضت المراكز المذهبية للسلب ، وعاد الاعتزال اثر هذه الهزيمة ليعيش في الظل، فبدأت السلطة العباسية ممارساتها العميقة إلى حد تصفية رجاله جسديا، بينما أمر الخليفة القادر بالله بالاحتفاء بالكتاب وبالتالي اصبح بمثابة وثيقة رسمية في ادانة الاعتزال وانصاره، وغيره من المذاهب، واحتكار مدرسة الحديث للدين، وكانت اشارة البدء في تصعيد حملات التشويه وملاحقة أصحاب المذاهب الأخرى ومعتنقيها، بعد أن أصبح شائعا وتقليدا أن يتلى فقرات من "الاعتقاد القادري" بجامع المهدي أيام الجمعة، فيجيء الناس لسماع قرار ادانة الاعتزال وباقي المذاهب وتفنيد أصولها ونقض مسائلها.
من خلال ما تم طرحه حول السياقات المحيطة بالاعتقاد القادري، ونص الاعتقاد نفسه نكتشف ضرورة الوعي بأن الفكر الإسلامي محكوم بسلطة المرجع الثقافي والمذهبي، وأنه مرتبط ارتباطا مباشرا بالسلطة السياسية، ومن هنا لابد من وضع أسس قراءة علمية تكشف عن خفايا الخطاب الديني وتميط اللثام عن دور السياسي في بناء الفكر الديني ومقالات الأصوليين والمتكلّمين فإن للأفكار تاريخا يبين أن ما قام به القدامى لا يعدو أن يكون اجتهادات لابد من تجاوزها، فالمؤسسة الدينية والجماعات الإسلامية على حد سواء قاموا بتحويل اجتهادات القدامى ومدوناتهم الفقهية والتفسيرية.. إلى نصوص مقدسة ماحين الحدود الفاصلة بين النص القرآني، والأحاديث والروايات المختلفة التي نسبت للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيه، ساعين إلى التوحيد بين الفكر والدين بإلغاء المسافة التي تفصل بين الذات والموضوع، متخذين من الاعتقاد القادري نموذج يحتذى به، وبهذا الشكل نصب الفقهاء والدعاة والوعاظ أنفسهم أوصياء على الدين يكلمون الناس بلسان الله.
وذلك كي يتحكموا في العباد باستعارة سلطة دينية مطلقة مقدسة ينكرها النص القرآني ذاته، وهي ممارسة تؤدي إلى إلغاء المسافة المعرفية بين الذات الباحثة في النص القرآني وموضوعها. ومن مظاهر ذلك رفع اجتهادات السلف أمثال الشافعي (ت204هـ) إلى منزلة القرآن الكريم ومحاولة إسقاطها على حياتنا الراهنة بكل ملابساتها ومستجداتها ومتغيراتها، وفي ذلك "إهدار للبعد التاريخي". فالارتباط العضوي بين "التوحيد بين الفكر والدين" و"اليقين الذهني والحسم الفكري" ينتهي إلى محو المسافة التاريخية الفاصلة بين واقعنا وواقع السلف، وما يؤكد ذلك اعتماد الخطاب الديني آلية الإسقاط المتمثّلة في رد جملة من المفاهيم المعاصرة مثل الديمقراطية والبرلمان إلى مبدأ الشورى.
بالإضافة إلى أن الجماعات الإسلامية على اختلافها ما انفكت تتلاعب بالنص القرآني وبالمقدس خدمة للسياسي الذي يسعى إلى الإبقاء على الأوضاع الاجتماعية والسياسية بما يلائم حاجتها، وذلك باستخدام الدين حجة دامغة تضمن ولاء العامة وانصياعها لصاحب السلطان، فالدين من هذا المنظور سلطة رمزية مؤثّرة في حيوات المؤمنين وسلوكياتهم ومواقفهم، وبهذا يهيمن النص القادري وما شابهه، على العقلية الدينية سواء كانت في اطار مؤسسة الدولة او خارجها، تقوم هذه العقليات بتطبيقه على الاخر طوال الوقت ولو على مستوى المخيال الشخصي، مما يؤدي إلى زيادة الكراهية للآخر واقصاءه والتحريض عليه وربما قتله بقلب بارد مثلما حدث في المنيا في 2 نوفمبر 2018، وردود الأفعال التبريرية في كثير من الأحيان، وقد وصل ببعضهم اتهام المجني عليهم بانهم لم يقوموا بأخذ تصاريح من الحكومة للذهاب الى الدير والصلاة هناك.