مامعنى القيمة ، وما الدور الذى تلعبه القيمة فى العالم الحقيقى ؟
هذا هو السؤال الذى تسعى الفلسفة للاجابة عليه تحت عنوان نظرية القيم أو الاكسيولوجيا .ولقد قدمت أجوبة متنوعة ومتناقضة – كما هو الحال – فى معظم المشكلات الفلسفية . الحلقات التى نشأت فى الانطولوجيا قد انتقلت الى مجال الاكسيولوجيا .
ففى احدى وجهات النظر من يعتربها خاصية غير قابلة للنعريف الموضوعى ، ولا علاقة لها بالعالم الحالى ، فى حين أن وجهة نظر أخرى تعتقد بأن كل القيم تعتمد على الشعور بها من قبل شخص ما ، وأن وجهتى نظر أخريين تنكران على الأقل احدى هاتين الوجهتين ، بالاضافة الى انكار كل منهما للأخرى ؛ ولكن تتفقان على أن القيمة تعد مقولة نهائية اكثر من الحقيقة ، وتعرفان الحقيقة بمصطلحات القيمة : وهى النظريات الوسيلية والفيختية "1".
وما زال هناك من يعارض موقف " رويس " القائل بأن القيمة هى موضوع تقدير وليست موضوع تعريف ، ورأى " بوزانكيت " الذى رفض فصل القيمة عن العقلانية والحقيقة حتى لا يكاد يميز بينهما . هذه ببساطة الواقعية الحديثة ، والذاتية ، والارادية والبراجماتية ، ووجهات النظر المثالية مطبقة على هذه المشكلة الخاصة بالذات .
اذا كان فى مجال الانطولوجيا انعدم الاتفاق بين المختصين ، فان ما كان عندهم نراه بالكاد هنا ( عند دارسى القيم ) . وهكذا منذ البدء يبدو من المستحيل أن نضع بعين الاعتبار القيمة التى تلقى أدنى احتمال للقبول العام .
فى مثل هذه الحالة يكون من واجبنا البحث عن أسباب الخلاف . فاذا درسنا تفسيرات القيمة المعروضة يتضح أن أيا منها لا يتضمن أو يقوم على تعريف لا لبس فيه ، وغير دائرى . على سبيل المثال ، نفترض أن القيمة تم تعريفها بمصطلحات الذاتية ، باعتبارها – دعنا نقول – مانحة للمتعة . هذا ليس تعريفا حقيقيا لأنه لا يضع فى اعتباره القيمة ( النفاسة valuableness ) .
لماذا يجب على المتعة اضفاء القيمة ؟ . من الواضح بما فيه الكفاية أن هنا تكمن الحلقة المفرغة . او لنفترض ان القيمة هى كل ما ينمى الحياة . قد يكون هذا التصريح صحيحا ، الاانه لا يحدد أى مبرربالنسبة للخير ، وفيما يتعلق ب "لماذا يجب أن يكون نمو الحياة خيرا "؟ . يجوز تقديم انتقاد مماثل لوجهات النظر التى تجعل القيمة أولية وتعرفها بمصطلحات القيمة .
فهى لا تزيد معرفتنا بما تكون عليه القيمة ؛ بل انها تتخلى عن المشكلة الحقيقية بالجهر بمقولة عدم القابلية للتعريف .فأولئك الذين يزعمون عدم القابلية للتعريف – مع ذلك – وبقدر ما أمكننى معرفته ، لا يقدمون أية محاولة جذرية ( معمقة ) للنظر فى جميع هذه التعريفات الممكنة . هذه، وبشكل عام ، لا يمكن اثبات مصطلح عدم القابلية للتعريف المفترض ؛ هذا النفى الشامل يمكنه فقط ان يسمح بالاستقراء .
يمكننا القول انه فى الغالب لايوجد تعريف محدد كاف . وحيث لاوجود لمصطلح كاف فان الصراع يندلع بسبب الحرية فى التفسير التى تعد بلا قيود بدرجة أكثر او اقل . والطريقة الوحيدة للتعامل مع هذا الوضع هى المزيد من البحث ، حتى نستطيع تقديم تعريف غير دائرى وايجابى . ولهذا ليست هناك طريقة مرضية ، بل تعقب البنية المشتركة لكل الموضوعات ذات القيمة المعروفة لخبراتنا ، اى معالجة القيمة باعتبارها " شاملة وملموسة " بدلا من اعتبارها مجردة ، والحصول على تعريف القيم الموجودة فى حالات محددة . من هذا التعريف وحده نتعلم شيئا عن وضع القيمة فى الحقيقة .
مما لاشك فيه ، من العبث محاولة بحث مشكلة بهذا الحجم والأهمية فى مقال مختصر الى حد ما . يمكن فحسب تقديم نوع غير سلس لرسم تخطيطى مع العديد من الثغرات فى الأدلة . وينبغى أن تكون المقالة الأولى فى هذا الاتجاه ناقصة ، ولكن دعنا نأمل فى أن اخطاءنا سيتم تصحيحها ، وتكون قد أشارت الى طريق مزيد من النتائج .
الموضوعات التى تعد ذات قيمة جيدة أو سيئة ، وتستحق الموافقة او الرفض ، من المسلم به عموما أنها تنتمى الى فئة من الفئات الست التالية :
( 1 ) تلك التى تلبى بشكل مباشر ميل احساس غريزى للكائن الحى . ( 2 ) السلع الاقتصادية . ( 3 ) القيم الجمالية والموضوع الجميل . ( 4 ) السلوك الأخلاقى . ( 5 ) الموضوعات الدينية . ( 6 ) القيم الثقافية ( العقلانية ) . يختلف هذا التصنيف مع وجهة نظر " اربان " ، على الرغم من أنه ليس – فيما اعتقد – مختلفا معها ، فتحليلها ( اى من وجهة نظر اربان ) سيكولوجية ووراثية او تاريخية ، فى حين ان وجهة نظرنا موضوعية وليست سيكولوجية ، وتتبع مخطط " ج. فونسجريف G. Fonsegrive ""2" . دعونا نتأمل هذه الفئات فيما يلى :
( 1 ) تحتوى الفئة الأولى فى معظم الأحوال موضوعات المتعة الحسية ، وتعتمد فى قيمتها للوهلة الأولى على بعض الكائنات الحية .ونحن قد نقول – الى حد ما – بان المتعة تشير ضمنا الى ما يعد طبيعيا ، ويتم اداؤها دون عوائق للكائن الحى . فاذا كانت قيمة هذه الموضوعات تكمن فى المتعة التى تقدمها ، حينئذ تكمن قيمتها فى حقيقة أنها تسهم فى الاداء الطبيعى دون عوائق للكائن الحى .
مثل هذا السلوك الخاص بالكائن الحى يعد جزءا أساسيا من حياته المتواصلة . تعريف الحياة لم يقدم بعد من قبل البيولوجيا ، ولكن تم الاتفاق على بعض خصائصها ، واحدى هذه الخصائص هى أن الكائن الحى يميل الى تمديد حياته الخاصة واطالتها . وان الكائن الحى يميل الى تكريس الطبيعى بالنسبة له ، والعمل دون عوائق .
عندما تتحقق موضوعات الرغبة الحسية تساعد على انجاز هذا الاتجاه . وعندما يعيها الكائن الحى ، فانه يشعر أنها خير ( واذا كانت تميل الى الالم والاحباط ، فانها تعد سيئة ) وحتى لو لم يكن واعيا ، باعتبار أنه ربما ربما بعض الكائنات الأدنى لا تعى ، وأى موضوع يدل على رد الفعل المتفق مع ميل هذا الكائن يعد خيرا لهذا الكائن . ماتبتلعه الاميبا يعد خيرا للاميبا ، على الرغم من أن الاميبا لا تستغرق فى البهجة الواعية بذلك . الكيفية المحددة لهذا النوع من القيمة تكمن فى تحقيق الميل الأساسى المحدد المتوطن فى الكائن الحى .
( 2 ) القيم الاقتصادية ؛ فى مجال الاقتصاد ، القيمة هى فقط القدرة على السيطرة على الأشياء المرغوبة للاخرين فى التبادل السلمى والطوعى . وتتميز القيمة عن الفائدة . فهذه الأخيرة – الفائدة – لها نوع معين من القيمة لأنها مفيدة لمن يريدها ، الا أنها مفيدة فحسب لأنها مطلوبة ، وليس باعتبارها قوة فى التبادل مع منافع الآخرين .
من هنا تأتى الفائدة ضمن الفئة الأولى من القيم " قيم حالة " ، فى حين أن القيمة كما تستخدم فى الأشكال الاقتصادية تعد نوعا مميزا ، نظرا لامكانية تبادلها مع ممتلكيها . ويوجد الآن اثنان من القوانين ينطبقان على القيمة فى هذا المجال – قانون بداية ( عتبة ) القيمة ، وقانون القيم المتناقصة . وهما قانونان هامان ، على الرغم من أنهما يبدوان – مع ذلك – غير جوهريين بالنسبة لأهدافنا .
ينص قانون البداية على أن هناك قدرا معينا أقل ، وكمية كبيرة من سلعة معينة ، تختفى بعدها القيمة .كما أثبت " اربان " هذا قانون سيكولوجى خالص وبسيط ، يشبه قوانين " فيبر " "3"و " فخته " وينطبق على الفائدة كما ينطبق على القيمة . و " هذا المبدأ يعبر عن حقيقة أن قوة الموضوع لمناداة الشعور بالقيمة لا تعتمد على الموضوع وحده ، بل تعتمد على الشعور أو الميل الفطرى للذات أيضا ..
المفاهيم المألوفة عن الحد الادنى و " المنفعة الحدية " ، والمجال الكامل لهذا القانون ، تشكل حينئذ جزءا من التفرقة بين القيم . ويمكن قول الشىء ذاته عن قانون القيم المتناقضة . فهو أيضا لديه أصل سيكولوجى على الرغم من عدم اختزاله الى مصطلحى التحفيز والحساسية . " انها. ظاهرة الحد من القدرة على الحكم بدلا من القدرة على التحفيز " . ليس لأن القيم الاقتصادية قيما ، وليست منافع ( فوائد ) ، وان هذه القوانين مسيطرة ، ولكن لأنها مثل قيم المنفعة ، ذات صلة بالتقدير الانسانى . من ثم ما الفرق الايجابى للقيم الاقتصادية ؟ .
احدى الخصائص المحددة للقيمة هى امكانية التبادل ، وخاصية أخرى هى أن القيمة تعد دالة على الندرة . فوجود القليل من الذهب يعد الأعظم قيمة ، فاذا وجدت كمية لا نهائية منه يصير بلا قيمة . بعبارة اخرى توجد القيمة فقط عندما تكون كمية السلعة ذات القيمة محدودة ، واذا كانت محدودة جدا ، كانت قيمتها أكبر ( وتصل الى العتبة السيكولوجية ) .
واذا استدعينا المقارنة لمساعدتنا على تفسير هذه الحقيقة ، فان هذا مثل ضغط الغاز . والذى يوجد فحسب عندما يكون الغاز حبيسا ويزداد عندما يتقلص حجمه . فى الواقع التشابه بين القيمة وضغط الغاز بالأحرى هو الأقرب . اذا كان كتابا معينا ذا قيمة كبيرة بالنسبة لى ، وأنا على استعداد لدفع أعلى سعر بالنسبة له ، فانه يزيح من حافظة نقودى مبلغا من المال يتناسب مع قيمته .
وبالتالى فان حجم الغاز يقاس بكمية الكتلة المزاحة . مرة أخرى كما يعنى ضغط الغاز الميل الى التوسع واحتلال مساحة تشغلها بعض الموضوعات المادية ، كذلك فان القيمة الاقتصادية لسلعة ما تعنى الميل الى اتخاذ المكان عن طريق الشراء أو التبادل مع السلع الأخرى . حقيقة ان هذه السلعة التى تعد قيمتها مطلوبة من قبل شخص ما مما يجعل هذا الميل ليس مجرد شكل من الكلام ، بل ميلا سيكولوجيا ، أو حتى ماديا ، وحقيقة .
حينئذ تبدو القيمة هنا تعنى احتمالا حقيقيا أو ميلا حقيقيا للموضوع الاقتصادى فى المستقبل ، من خلال الاستبدال بموضوع آخر فى حوزة شحص يرغب فى ذلك . اذا كان كل شخص لديه هذه السلعة ، وان لم تكن هناك ندرة ، فلا يمكن أن تكون هناك رغبة او ميلا ، لانهما متحققان فعلا ، ولا وجود لهما ؛ وبالتالى تعد الندرة ضرورية للقيمة .
ويترتب على ذلك الان ان القيم الاقتصادية تميل الى أمربن : تميل الى تحسين حياة المشترى المحتمل بتحقيق رغباته ، وتميل الى اثراء الحياة الاقتصادية للجميع من خلال تشجيع التجارة . الميل الأول ليس غريبا على القيمة ، فالمنافع تفعل نفس الشىء ، اما الميل الثانى فيعد غريبا على القيمة ، ويجب ان يشكل نتيجة نحن نبحث عنها .
للسلع قيمة اقتصادية لانها تميل الى التبادل ، وبالتالى ترسخ وتنعش الحياة الاقتصادية فى المجتمع . فتصبح من وجهة نظر الحياة الاقتصادية خيرا لاسهامها فى هذه الحياة . هذه النتيجة تعد مماثلة لتلك التى وصلنا اليها من دراسة الفئة الاولى ، والبسيطة ، و" قيم الحالة " . فقيمة الموضوع ذى القيمة تتمثل فى المساهمة فى النزعة القائمة بالفعل ، ومجموعة من الميول .
( 3 ) القيم الجمالية أو الموضوعات الجميلة . تعد مشكلة تعريف الجمال المشكلة الأصعب للغاية ، ويوجد حل مقبول عموما . فهناك مع ذلك ، بعض السمات الراسخة عن الجمال ،ويجب علينا العمل ببساطة بكل ما فى وسعنا مع هذه السمات . تبدو الموضوعات الجميلة فى نوعين ، وتميز تقريبا باعتبارها كلاسيكية ورومانتيكية . الاول – الكلاسيكى – لديه جمال الشكل والبنية ، ويتم عرض عناصره فى انسجام واقتصاد ،او فى عبارة ذات مغزى اكبر من السذاجة ، والوحدة والتنوع . كان هذا هو النمط الأكثر اثارة للاعجاب فى العصور الكلاسيكية القديمة .
الثانى ؛ الجمال الرومانتيكى ، يمكن تعريفه على أنه يؤكد على أهمية فكرة التعبير ، التعبير عن كل ماتتضمنه الحياة بشكل عام ، وهذا يعنى فى مفهوم هذه الخاصية ؛ " انها مصاحبة للرغبة فى التحرر والتعبير العاطفى " . هذا الفن الحديث بصفة خاصة ، مرتبط بالاهتمام الحديث بالشخصية ، والانسان والذاتية عموما . وحافز اللعب ، " والاسايب مماثلة " ، والخيال والحرية ، وتعبيرات من هذا النوع .
تتصل الفئتان نوعا ما بما هو ثابت وديناميكى . ولا يقتصر التمييز على الأعمال الفنية ، بل يمتد الى الموضوعات الطبيعية أيضا . فالجمال البشرى – على سبيل المثال – كما رآه افلاطون ، ينقسم بشكل تقريبى الى نوعين : الجمال الانثوى ، وهو بشكل رئيسى ثابت ، وجمال الاسترخاء ، وتماثل التكوين ؛ اما الجمال الذكورى فيعد بالاحرى ديناميكيا ، وتعبيرا نشطا عن الفعالية الداخلية فى الافعال والمروءة . دعونا ننظر الآن فى طبيعة كل نوع .
تبدو الوحدة فى التنوع على أنها من أكثر العبارات عديمة المعنى . فكومة من الحصى لديها وحدة ، وتكون كومة واحدة ، ومتنوعة ، وتوجد بها حصوات عديدة من مختلف الاحجام والأشكال ، ولكنها ليست جميلة . مع ذلك ، فهذه ليست وحدة فى التنوع . بل وحدة وتنوع . حرف الجر ( فى ) يدل على أن الكل يتضمن الآخر . القضية الصحيحة ستكون واحدة حيث ان كل عنصر محدد يساهم بشكل واضح فى الوجود وطبيعة الدعم المتبادل والمساهمة المميزان للنمط الكلاسيكى .
على الرغم من ثبات النوع ، الا أنه ليس خاملا ، ولكل عنصر تأثير ايجابى ومتميز عن العناصر الأخرى . كما هو الحال فى علم توازن السكون فهو لا يعنى مجرد غياب الحركة ، بل بالاحرى توازن الضغوط والتجاذبات والتنافرات ؛ حتى من ثم يكون الشىء أكثر مما لو كان ديناميكيا . ونحن قد نشيد بهذه الحقيقة لهؤلاء الفلاسفة الذين يميلون الى ادانة الثابت باعتباره لاحياة فبه وعقيما ، وبذلك يستخدمون" الثابت المطلق " كمصطلح لوم رافضين الاعتقاد فى المؤثرات أو اى شىء سوى المنهج .
المذهب القديم للسكون كان فى الواقع ، بعيدا عن كونه نصيحة للموت . الآن هو فى الدعامة المشتركة التى نجد السبيل الى وصفها بالقيمة . كل جزء فى الموضوع الجمالى متضمن من قبل كل الأجزاء الاخرى ، وبالتالى تحقيق المعنى الذى تميل الأجزاء الأخرى الى التعبير عنه ، ولكن لا يمكن فى حد ذاتها التعبير بشكل كامل.
كل موضوع يعد تحقيقا للميول الكامنة فى كل اجزائه ، من وجهة نظر تلك الأجزاء ، ومن ثم ،يكون الموضوع لديه قيمة أو قيما . هذا يماثل النتيجة التى تم الحصول عليها فى القيم الاقتصادية والقيم الحسية . ولكن بما ان القيمة هنا كلية بين جميع أجزاء الموضوع الخاصة ، فانها تصبح جوهرية وجمال الموضوع الجميل يكمن بشكل كلى داخل ذاته . وبالتالى فهو مستقل عن الملاحظ الخاص للنتائج العملية او الميل المجرد .
يبدو الجمال الرومانتيكى مختلف تماما . التحديد المتبادل لجزء بجزء ، مثلما فى التمثال او اللوحة ، يخضع الى " التعبير العاطفى " . وعلى النقيض من ذلك مشابه لما بين الحرية والحتمية . يقاس الفن الرومانتيكى بالعمق ، والصدق وكثافة الجاذبية العاطفية ؛ وليس البنية ، بل الدور والجانب الديناميكى هو الاكثر ظهورا .
لست أعنى – بالطبع – أن البنية والشكل غير متواجدين ، بل – كما راينا فى الفن الحديث والرومانتيكى بشكل اساسى فى الموسيقى – ( الشكل والبنية ) كانا موجودين باعتبارهما خلفية أساسية بدلا من ان يكونا مصدرا مباشرا للاثارة الجمالية . ما الذى يدفعنا حينئذ الى القول بأن الفن الرومانتيكى جيد ؟ . أليس لانه يكشف الاعماق داخل الشخصية التى تناضل طوال الحياة من أجل التعبير ؟ . لا اعتقد أننا ينبغى ان نعتبر الموسيقى والرواية والدراما ، أكثر من مجرد متعة اذا لم تبين لنا – مع ذلك دون بلاغة – طبيعة حياتنا الشخصية .
تسعى الحياة الشخصية للتعبير عن نفسها ، والجمال الرومانتيكى يساعد على – ويحقق - هذا المسعى . ولكن هذا المسعى لا يلزم ان يكون شخصيا دائما . الجمال الجامح من عاصفة شتوية ، ومن انفجار بركانى ، او من حدث ديناميكى جليل فى الطبيعة يكشف عن القوة الخفية والمكبوتة للطبيعة باعتبارها حرة طليقة .
ونحن من ثم نغامر لتحديد الجمال الرومانتيكى ليكون تصويرا للموضوع كما ندركه ، دون كبت أو تقييد ما يميل اليه بطبيعته الداخلية لتحقيقه تحقيقا يعد جيدا من وجهة نظر الموضوع . لان القيمة تكمن فى علاقة الموضوع بنزعاته الداخلية الخاصة به ، فان الجمال يعد جوهريا ومستقلا .
فى هذه المرحلة قد يكون جيدا ان نواجه انتقادا طبيعيا محددا . وسوف نكون متهمين – على الأرجح – بالحديث بتعبيرات اسطورية . هل توجد مثل هذه " الطبيعة الداخلية " ، و " الميل الى التعبير عن نفسه " و " والمسعى " وما الى ذلك باعتبار ماتكلمنا عنه ؟ . انصار المذهب الاسمى لا تعجبهم هذه الكلمات . لكن ليس من الضرورى اثبات أنهم موضوعيون حقا . " نحن لانميز الحقيقة من المظهر فى الاستمتاع الجمالى " .
يصور الموضوع فى الفن الرومانتيكى على اته تعبير عما نشعر به من الطبيعة الداخلية للموضوع . ومسألة الوهم ليست ذات صلة . فى الحقيقة هذا الاعتراض هو بمثابة شكل من اشكال الاعتراضات المبتذلة على قراءة الرواية على اساس أن الرواية مجرد خيال .
على الجانب النفسى للجماليات نجد التماثل الذى يؤكد ما سبق . تعميم التحفيز وتوازن الدوافع ، وتعزيز الحياة من خلال السكون – هذه هى الخبرة الجمالية . او كما يقول " فونسيجريف " ؛ " جميع القيم الجمالية مناظرة للازدهار ، وجميع القيم ليست معتمة ( خافتة ) ، وهى مفاهيم حيوية داخلية " . وعند النظر فى الأمر بشكل وراثى أو تاريخى ، يرى " اربان " أن الموضوع الجيد للفن المتحضر يجب – فى الواقع – أن يكون مساعدا لهذا التوازن من الدوافع وسكونا للميول الفطربة ،والا فانه لن يكون متطورا .
فى حالة عدم وجود هذا السكون ، سيكون هناك دافع يسود ويتبع ذلك موقف عملى ورغبة أو حكم . العنصر الشكلى للأمر يعد ذا مغزى فحسب باعتباره يعنى تأمين السكون فى الموضوع أو المحتوى الذى عندما يختبر جماليا يكون موضوعا للرغبة الصريحة والحكم . فى الواقع – كما يرى - " اربان " هذا التنظيم والتوازن يعدان حلة لقانون سيكولوجى عام ، ومن القيم المكملة . والآن هذا يعنى ببساطة أن الدوافع تتحد فى كل هذا ويؤثر كل عضو ويتفاعل مع الدوافع الأخرى . والدوافع الأخرى مماثلة تماما للتعريف الوارد فى الجمال الكلاسيكى على الرغم من صياغتها فى مصطلحات الدوافع والمشاعر .
( 4 ) القيم الأخلاقية ؛ احكامنا الأخلاقية تعد احكام قيمة فى التحليل الاخير ؛ ونحن نعنى بالقيمة الاخلاقية عموما نوعا خاصا من القيمة التى نعزوها الى صاحب الشخصية الخيرة . وعلى الرغم من الكم الهائل من الصراع والخلاف بين الأنساق الاخلاقية ، نحن نتعامل مع هذا المجال بايجاز . بالنسبة للخلافات لاتتعلق كثيرا بوصف ملموس للشخصية الخيرة باعتبارها الصياغة الميتافيزيقية النهائية لها . وهناك اتفاق معقول فى الممارسة على أنها الشخصية التى تميل الى المحافظة بقدر الامكان ، والاعتراف بقيم الحياة بالنسبة للفرد والمجتمع .
ان قيمتها الخاصة تكمن – من ثم – فى المساهمة فى الحياة الشخصية ككل . وقد وجد أن من المستحيل ان نعرف الشخصية الخيرة فى تجريد من القيم الملموسة لحياة الفرد ؛ حتى الارادة الذاتية عند "كانط " يجب أن تتصرف بحيث يمكن ان يستطيع القول المأثور- فى الحياة العقلية - أن يصبح قانونا عاما . ويصبح ذلك ممكنا فحسب من خلال المساعدة على رفاهية المجتمع والفرد .
( 5 ) الدين والاخلاق بالكاد محددان – فيما اعتقد – على الرغم من أنهما لم يكونا منفصلين على المدى الطويل ، غير أن القيم الدينية تبدو لى ذات طابع مماثل للقيم الأخلاقية . ولعل تعريف الدين الذى يفترض أنه ل "هوفدنج Hoffding " – " البديهية الأولية للدين ، التى تعبر عن النزعة الأعمق لكل الأديان ، وهى بديهية الحفاظ على القيم " . وفى حين يجوز للمرء أن يعتقد شخصيا بأن الدين يمكن أن يكون أكثر بكثير من هذا ، فانه لا يبدو من الممكن أن يكون اقل اهمية اذا كان يمثل موقفا قيميا وليس موقفا انطولوجيا .
لكن حتى فى هذا الحد الأدنى للطابع قد يكون السبب فى أن الدين نفسه يعد بالنسبة للمتعصب أسمى من كل القيم . هذا لانه يبدو مساهما فى الحفاظ على كل القيم ، سواء فى هذه الحياة أو الحياة الأخرى . هناك يبدو أنه لا فرق بين القيم الدينية والاخلاقية ، ما عدا درجة واحدة ؛ فتعد القيم الدينية الأعظم وتستند الى قوة أسمى من ارادة الانسان . وكلاهما – القيم الدينية والقيم الاخلاقية – يساعدان فى تعزيز الخير النهائى الذى يسعى الاشخاص اليه للاطمئنان .
( 6 ) القيم الفكرية ؛ تعد الحقيقة حول الاشياء – بالنسبة لمعظم البشر – قيمة . والبرهان على ذلك أن البشر يحاولون جاهدين الحصول عليها . وقد اختلف الفلاسفة – كما يمكننا أن نتوقع - حول طبيعة هذه القيمة . يرى الطرف الأول انها ذات صلة بالقيم الأخرى والقيم العملية ؛ بينما يرى الطرف الثانى أنها قيمة جوهرية ، وأنها الخير فى ذاته .
اذا كان الراى الاول صحيحا ، فان قيمة الحقيقة تعد مماثلة لتلك التى للأخلاق ؛ وتتشكل فى المساعدة على نمو الحياة . أما اذا كان الرأى الثانى صائبا ، فان الحقيقة تعد مماثلة للقيمةا الجمالية . وهنا نلتقى بوجهتى نظر متصارعتين . الاتجاهات غير البراجماتية عموما اما مثالية أو واقعية . يعلن المثاليون ان الحقيقة تمثل نسقا متماسكا من الافتراضات ، ويعتقد الواقعيون بان جوهرها يكمن فى تناظره مع الواقع الخارجى .
نجد فى وجهة النظر المثالية فى قيمة الحقيقة نفس البنية التى فى الجمال الكلاسيكى ؛ نظام الاجزاء المحددة المتبادل ، والانسجام والاقتصاد . وتتكون الحقيقة – فى وجهة النظر الواقعية – فى التعبير عما يعد حقيقيا فى تعبيرات المعرفة الانسانية . تكمن قيمة الحقيقة فى الصدق ، أى فى حقيقة انها تعبر لنا عن طبيعة الحقيقة . وهذا مماثل للجمال فى الرومانتيكية التى وجدنا أنها تتشكل فى التعبير عن الطبيعة الداخلية للموضوع .
البحث عن الحقيققة من جانبنا نحن البشر هو بحث للحصول على هذه الحقيقة المعبرة عن خبرتنا . الحقيقة هى تحقيق هذا السعى بعد التعبير ، وقيمتها يجب أن تكون – من ثم – قابلة للتعريف فى نفس المصطلحات مثل الجمال الرومانتيكى . ومن الغريب أن الرأى المعتاد هو أن المثالية هى الاقرب الى الرومانتيكية من الواقعية ؛ لكن هذا يعنى – فيما اعتقد – أنه ليس صحيحا أن المثالية الموضوعية الحديثة هى الاقرب الى الكلاسيكية ، من حيث النسق والنظام ، ففى حين تسعى الواقعية الى الميل للتعبير عن الاستقلال والحرية ، وبالتالى تعد رومانتيكية بشكل أساسى .
المواد اللازمة لتعريف القيم هى الآن فى متناول اليد ، ولقد وجدنا فى كل الحالات أن قيمة الموضوع تتشكل فى مساعدته لاكمال أو تحقيق بعض الميل الموجود بالفعل . فى معظم الحالات التى يضع فيها الانسان القيمة بعين الاعتبار ، هى تحقيق الميول فى الكائن البشرى الحى ، مادية وشعورية . وبالتالى تعتمد القيم بشكل عام على الشخصية . الا أن هذا يعد تعميما متسرعا .
تميز الدليل الدقيق لتكوين الجمال الكلاسيكى فى اقتصاد بنيته والتحديد المتبادل لأجزائه ، واستمراره باعتباره متميزا عندما لا يقرؤه أحد ، ليتم تشكيله من خلال تضمينات موضوعية منطقية . جمال البرهان صالح بشكل شامل ومستقل عن التغيرات فى المدرك ، وهو ماتعنيه الموضوعية لأصحاب المذهبين الذاتى والمثالى على حد سواء . انه الاتفاق اللاواعى مع تعريفنا غير الشخصى الذى يقول بان ضوء الشمس يعد خيرا للنبات ، أو ضارا للنسخة السالبة ( النيجاتيف ) للتصوير الفوتوغرافى .
اذا كنا نتحدث هكذا عن الطبيعة غير العضوية ، فذلك لأن الميول الثابتة والمهيمنة ، مثلما تبدو فى الكائنات الحية ، لا توجد متطفلة على اهتماماتنا . ونحن اعتدنا على التفكير فى الطبيعة باعتبارها نظاما منفصلا وموضوعيا ، وذلك للترهيب ( هل أقول هذا ؟ ) من خلال انتصارات الموقف العلمى الحصرى ، واننا لا نجرؤ على الحصول على التناظر بين قيمنا الخاصة ولعمليات المدروسة فى الفيزياء .
لكن هناك – على ما اعتقد – تماثلا وثيقا راينا ذلك فى القيم الاقتصادية ، وحالات اخرى أظهرت نفس البنية المنطقية . بالنظر فى اى ميل ، وفى الطبيعة الميتة ، وفى الكائنات الحية وفى العقول الواعية التى تضغط تجاه غاية معينة ؛ اى ميل آخر يعزز هذا يعد خيرا ، وأى مقاوم له يعد سيئا .
هل ندعى هنا أننا نستنتج مفهوم القيمة من مقولات واقعية بحتة ؟ . الصفة المحددة للخير والشر تم العثور عليها امبريقيا لتكون تعزيزا او عرقلة للميل . تمت صياغة هذا التصريح بالكامل الآن فى مصطلحات اخرى غير مصطلحات القيمة ، ولكننا قد نكون متهمين بالوقوع فى حلقة مفرغة معينة . ففيما يتعلق بالقول بأن تعزيز الميل يعد نزوعا للخير متضمنا تحقيق الخير . ولماذا بعد كل شىء ، ينبغى أن يكون ذلك ؟ .
يبدو هذا الاتهام معقولا ، ونحن نلتمس مفهوم الخير ببساطة ، ونترك القيمة ، أو على الأقل جوهر القيمة بدون تعريف . والآن حتى لو كان هذا هوالحال ، فان تعريفنا مازال له الكثير من الفائدة لأنه يكشف جوهر الخاصية المحددة للقيمة ، وهذه المعرفة لاغنى عنها لأى ميتافيزيقا عن الذات . وفى غضون هذه السمات قد نقع على عدم امكانية تعريفها ، ولا يمكن الوصول الى الجوهر ، ولا يمكن تجريد التعريف من الحقيقة أو الفائدة لأنه لا غنى عنهما .
لكن بالنسبة لى ، اعترف بأنه سابقا كانت تبدو الصيغة وقد وضعت مجردة من الجوهر الأعمق للغاية للقيمة ؛ وذلك للسببين الآتيين :
( 1 ) ليس هناك بقدر ما استطيع أن ارى المزيد من امكانية التسمية وكيفية التعريف ، ويبدو الادعاء بالنسبى لى غموضا لامبرر له واقامة مجهول لا يمكن تعلم شىء منه. "الخير " مفهوم مختلف بلا شك عن " التحقق " ، وبالتالى يبدو أنه يتضمن شبئا غير مصرح به فى محتوى المفهوم الأخير .
( 2 ) لكن ذلك لأن " الخير " هو العلاقة بين التحقق ( مواصلة التعزيز ) والميل ، علاقة فريدة محددة ، ومحددة بما يكفى من خلال الاثنين التحقق والميل . وبسبب هذه العلاقة الفريدة من نوعها والتحديد بما فيه الكفاية – فيما اعتقد – فان لدينا الحق فى القول بأن مفهوم " الخير " ليس توسلا بل استنتاجا .
وفقا لهذا أنا أجرؤ على تقديم التعريف السابق نظرا لانه غير دائرى ، فهو التعريف الايجابى الذى أراه حتى الآن .
الاعتراضات التى ربما يشعر بها الحس السليم ، بالنسبة لأى ادعاء من هذا القبيل لاستنتاج القيمة من الواقع ، سوف يكون الاستنتاج السليم تماما ، ألا تتضمن الحقيقة مقولة الميل او الامكانية . بدون امقولة ، نحن قد نعترف بوجود هوة بين القيمة والواقع . العالم الوحيد الذى يؤكد تلك المصطلحات الموجودة فعلا والعلاقات سواء كانت دائمة أو متغيرة ، سيكون العالم الذى يمكن ان تنشأ فيه القيم .
بوسعنا القول بأن كذا وكذا موجودان ، وكانا أو سيكونا ن ولكن ليس بوسعنا القول أكثر من ذلك . لكن الامكانية تنطوى على الغاية ، وان لم تكن بالضرورة فى المعنى الغائئ . والامكانية هى مقولة فى الاستخدام الجيد فى مجال السكون ، نظرية الحرارة وغيرها من فروع الفيزياء . الان فى هذا المجال الواقعى ، وفى هذا وحده ، يمكن أن ينشأ مفهوم الخير أو الشر أو القيمة. .
مع ذلك ، هناك اعتراض آخر على أن تعريفنا مستمد من نتائجه ، ليترك دون تنويه ما قد يبدو تسترا على نقطة ضعف قاتلة . تظهر صيغتنا ( واعتقد بان هذا الاظهار حقيقة ) التزامنا بوجهة النظر الكمية المجردة . اذا كانت القيمة تتشكل فى المساهمة فى تحقيق ميل معين ، فمن ثم فان المعنى الوحيد الذى تكون فيه القيمة أكبر ، وأفضل وأسمى من غيرها ، هو المساهمة بقوة أكبر لميل معين ، او المساهمة فى عدد كبير من الميول .
يبدو هذا للكثير وسيلة لاثبات أن النتيجة المنطقية متناقضة ، لأنه يعتقد على نطاق واسع أن مذهب المتعة سقط أمام اعتراض مماثل ، وأن القيم مثل الملذات أسمى او أدنى من الناحية الكيفية . لكن فى المقام الاول يمكن أن تتم الجاذبية بالكاد فى الفلسفة لاى مذهب ، فى المقام الاول يمكن أن يتم الطعن بالكاد فى الفلسفة على أى مذهب من اجل الخلط بمذهب آخر . الراى الكيفى ، مثل أغلب الآراء الفلسفية لا يمكن اعتباره على النحو المقرر من خلال توافق الخبراء ، واذا تصارعت الأدلة الامبريقية مع ذلك ، وبينت أن القيمة كمية ( تعد شأنا كميا ) ، ويبدو الافتراض ضد الرأى الكيفى .
لكن أبعد من ذلك ، مناشدة الصفات ، تعد بشكل عام مناشدة لعدم امكانية تعريفها ( أى تعريف القيمة ) . ليس هذا مصدر قوة بل مصدر ضعف ، التخلى عن ا لمشكلات ورفض التحليل . ونحن نود ان نعرف السبب فى أن حسن الخلق أفضل من عشاء جيد . يشير رأينا الى أن السبب هو أن الخلق الجيد يساهم فى عدد كبير من الميول لدى الكائنات الحية أكثر مما يمكن ان يقوم به العشاء ا لجيد فى حد ذاته .
الاكثر شمولا ، و الأكثر كثافة يعد الأسمى والافضل ، فى حالة تساوى العوامل الاخرى . هذا النوع من التقدير يفسر درجة القيمة بينما التقدير النوعى لا يفسر شيئا . لكن العمل التفصيلى عن نتائج هذا التصريح لا يعد ممكنا هنا بالنسبة لنظرية سلم القيم .
من ثم ، هل القيم موجودة ؟ نعم ، اذا تم الشعور بها ، بنفس القدر الذى نشعر فيه بالجاذبية والضغط ووجود الاصطدامات . ويمكن أن تكون الميول المادية أو أى نوع آخر ، طالما انها قابلة للتحقق باعتبارها مساعدة أو معوقة للميول الاخرى من اى نوع كانت . لا توجد هوة بين القيمة والحقيقة . دعونا لا نعترض على ماجعلناها قيمة كلية الوجود وذلك حتى لا تفقد المغزى . ويمكن القول كذلك بان الجاذبية لا معنى لها لأنها تطبق على جميع الأجسام .
بالطبع ، ليست كل القيم المتصورة تعد ميولا حقيقية . تعد ثروة الانسان الخاصة قيمة تخيلية ، ولكن من دون دليل ملموس على فعاليتها . ولكن على الرغم من ذلك تبقى قيمة خاصة اقل ، انها القدرة المتناقصة بالقيم الكبرى والاكثر شمولية . هنا نأتى قريبا من نتيجة ميتافيزيقية لتعريفنا التى يبدو أنها موجودة – واعتقد – انها نتيجة مثمرة وموجبة .
بعض القيم أسمى واكثر شمولا من غيرها . وهكذا تكون لدى شخص ما قيمة كبيرة ، لأنه من خلال التبصر يكون قادرا على مواصلة العديد من الميول ؛ التى لدى الكائن المادى عن الفكروالأخلاق والفن وما الى ذلك . ونحن قد نتصور شخصية فائقة القيمة ستشتمل على امكانيات اكبر بكثير من هذا النوع ، وحتى الشامل لكل ا القيمة التى من شانها تلبية جميع الميول فى الكون . تترك هذه القيم الأكثر شمولية والاقل ميولا خارج ما يتعارض مع تحققها الكامل لذاتها .
اذا كانت شاملة فلن يكون هناك شىء يمنع مرورها من الامكانية الى الفعالية . القيمة المثالية أو الكينونة المثالية يجب أن تكونا فعليتين ، كما جاء فى البرهان الانطولوجى . ولكن يظل السؤال ، هل توجد اية أدلة امبريقية على على هذه القيمة الشاملة للكل او المثالية ، حتى باعتبارها مجرد امكانية ؟ . هل يظهر المثل الاعلى للكمال نفسه على أنه ميل حقيقى ، ويعمل فى الخبرة ؟ .
يزعم الاناس المتدينون انهم يفعلون ذلك فى تجربتهم الشخصية الخاصة بهم . وهذا خارج مجال مناقشتنا . الا أنه – فيما اعتقد – خبرة امبيريقية بالكامل . تعريف القيمة الذى حصلنا عليه سابقا يبدو لاظهار أنه اذا كان مثل هذا المثل الأعلى يمكن تحقيقه باعتباره ميلا للعمل فى حياتنا ، فان البرهان الانطولوجى يمكن أن يتم .
دحض " كانط " لهذا البرهان يقوم على افتراض – ورثه من ديكارت – عن الهوة الثابتة بين الذات والموضوع ، والقيمة والحقيقة . لكن تعريفنا عبر عن هذه الهوة ، واظهر بالأحرى انه لا توجد هوة . شىء من خصوبة التعريف يكمن فى – فيما اعتقد – اغلاق باب الخلل القائم منذ امد بعيد .
يمكن ان يتم اكثر من تطبيق للتعريف . يستند النطق والتفكير والبرهان والمعرفة فى الأساس على مبادىء معينة تحمل ادلتها الخاصة . هذه هى بديهيات المنطق ، بديهية أن الحقيقة يمكن الوصول اليها بالخبرة فقط ، الخ . وقد تم قبول هذه المبادىء لأنهاتعتبر ذات قيمة . فهى وحدها التى تجعل المعرفة ممكنة ، وبالتالى تساهم فى رغبتنا فى المعرفة .
لمعرفة ماذا يكون الاله بالنسبة للمتدين المتعصب : انه القيم المعرفية الشاملة للكل ، والمؤسسة لكل الأحكام وصلاتها . لأنها اساس كل المعرفة ولا يوجد ما يتعارض معها ، ومجرد مظهرها يضمن حقيقتها ؛ وهى بالنسبة لنا وسائل تبصر مباشرة .
من ثم ، فقيمتها اكثر من الامكانيات ، وتصبح حقائق . هذا ليس هو الحال مع الافتراضات الاقل جوهرية ، وان كانت ذات فائدة ، بالنسبة لهذا الأخير ، لا اساس لكل معرفة وبعض الافترضات قد تتعارض معها . تشكل البديهيات لكل المعارف حالة خاصة ، مثل الكائن المثالى ، حيث تعنى القيمة التحقق الموضوعى .
***********************************************
هوامش
1- المقصود هو الفيلسوف : جون جوتلب فخته Johann Gottlieb Fichte ( 1762-1814 ) .
2- جورج فونسجريف George Fonsegrive – ( 1852- 1917 )- فيلسوف فرنسى وروائى – نشر عدة روايات تحت الاسم المستعار : George Fonsegrive .
3- ماكس فيبر (كارل إميل ماكسيميليان "ماكس" فيبر ) Karl Emil Maximilian "Max" Weber ( 1864-1920 )- عالم الاجتماع والفيلسوف، والاقتصاد السياسي الألماني أثرت أفكاره بعمق في النظرية الاجتماعية والبحث الاجتماعي .
هذا هو السؤال الذى تسعى الفلسفة للاجابة عليه تحت عنوان نظرية القيم أو الاكسيولوجيا .ولقد قدمت أجوبة متنوعة ومتناقضة – كما هو الحال – فى معظم المشكلات الفلسفية . الحلقات التى نشأت فى الانطولوجيا قد انتقلت الى مجال الاكسيولوجيا .
ففى احدى وجهات النظر من يعتربها خاصية غير قابلة للنعريف الموضوعى ، ولا علاقة لها بالعالم الحالى ، فى حين أن وجهة نظر أخرى تعتقد بأن كل القيم تعتمد على الشعور بها من قبل شخص ما ، وأن وجهتى نظر أخريين تنكران على الأقل احدى هاتين الوجهتين ، بالاضافة الى انكار كل منهما للأخرى ؛ ولكن تتفقان على أن القيمة تعد مقولة نهائية اكثر من الحقيقة ، وتعرفان الحقيقة بمصطلحات القيمة : وهى النظريات الوسيلية والفيختية "1".
وما زال هناك من يعارض موقف " رويس " القائل بأن القيمة هى موضوع تقدير وليست موضوع تعريف ، ورأى " بوزانكيت " الذى رفض فصل القيمة عن العقلانية والحقيقة حتى لا يكاد يميز بينهما . هذه ببساطة الواقعية الحديثة ، والذاتية ، والارادية والبراجماتية ، ووجهات النظر المثالية مطبقة على هذه المشكلة الخاصة بالذات .
اذا كان فى مجال الانطولوجيا انعدم الاتفاق بين المختصين ، فان ما كان عندهم نراه بالكاد هنا ( عند دارسى القيم ) . وهكذا منذ البدء يبدو من المستحيل أن نضع بعين الاعتبار القيمة التى تلقى أدنى احتمال للقبول العام .
فى مثل هذه الحالة يكون من واجبنا البحث عن أسباب الخلاف . فاذا درسنا تفسيرات القيمة المعروضة يتضح أن أيا منها لا يتضمن أو يقوم على تعريف لا لبس فيه ، وغير دائرى . على سبيل المثال ، نفترض أن القيمة تم تعريفها بمصطلحات الذاتية ، باعتبارها – دعنا نقول – مانحة للمتعة . هذا ليس تعريفا حقيقيا لأنه لا يضع فى اعتباره القيمة ( النفاسة valuableness ) .
لماذا يجب على المتعة اضفاء القيمة ؟ . من الواضح بما فيه الكفاية أن هنا تكمن الحلقة المفرغة . او لنفترض ان القيمة هى كل ما ينمى الحياة . قد يكون هذا التصريح صحيحا ، الاانه لا يحدد أى مبرربالنسبة للخير ، وفيما يتعلق ب "لماذا يجب أن يكون نمو الحياة خيرا "؟ . يجوز تقديم انتقاد مماثل لوجهات النظر التى تجعل القيمة أولية وتعرفها بمصطلحات القيمة .
فهى لا تزيد معرفتنا بما تكون عليه القيمة ؛ بل انها تتخلى عن المشكلة الحقيقية بالجهر بمقولة عدم القابلية للتعريف .فأولئك الذين يزعمون عدم القابلية للتعريف – مع ذلك – وبقدر ما أمكننى معرفته ، لا يقدمون أية محاولة جذرية ( معمقة ) للنظر فى جميع هذه التعريفات الممكنة . هذه، وبشكل عام ، لا يمكن اثبات مصطلح عدم القابلية للتعريف المفترض ؛ هذا النفى الشامل يمكنه فقط ان يسمح بالاستقراء .
يمكننا القول انه فى الغالب لايوجد تعريف محدد كاف . وحيث لاوجود لمصطلح كاف فان الصراع يندلع بسبب الحرية فى التفسير التى تعد بلا قيود بدرجة أكثر او اقل . والطريقة الوحيدة للتعامل مع هذا الوضع هى المزيد من البحث ، حتى نستطيع تقديم تعريف غير دائرى وايجابى . ولهذا ليست هناك طريقة مرضية ، بل تعقب البنية المشتركة لكل الموضوعات ذات القيمة المعروفة لخبراتنا ، اى معالجة القيمة باعتبارها " شاملة وملموسة " بدلا من اعتبارها مجردة ، والحصول على تعريف القيم الموجودة فى حالات محددة . من هذا التعريف وحده نتعلم شيئا عن وضع القيمة فى الحقيقة .
مما لاشك فيه ، من العبث محاولة بحث مشكلة بهذا الحجم والأهمية فى مقال مختصر الى حد ما . يمكن فحسب تقديم نوع غير سلس لرسم تخطيطى مع العديد من الثغرات فى الأدلة . وينبغى أن تكون المقالة الأولى فى هذا الاتجاه ناقصة ، ولكن دعنا نأمل فى أن اخطاءنا سيتم تصحيحها ، وتكون قد أشارت الى طريق مزيد من النتائج .
الموضوعات التى تعد ذات قيمة جيدة أو سيئة ، وتستحق الموافقة او الرفض ، من المسلم به عموما أنها تنتمى الى فئة من الفئات الست التالية :
( 1 ) تلك التى تلبى بشكل مباشر ميل احساس غريزى للكائن الحى . ( 2 ) السلع الاقتصادية . ( 3 ) القيم الجمالية والموضوع الجميل . ( 4 ) السلوك الأخلاقى . ( 5 ) الموضوعات الدينية . ( 6 ) القيم الثقافية ( العقلانية ) . يختلف هذا التصنيف مع وجهة نظر " اربان " ، على الرغم من أنه ليس – فيما اعتقد – مختلفا معها ، فتحليلها ( اى من وجهة نظر اربان ) سيكولوجية ووراثية او تاريخية ، فى حين ان وجهة نظرنا موضوعية وليست سيكولوجية ، وتتبع مخطط " ج. فونسجريف G. Fonsegrive ""2" . دعونا نتأمل هذه الفئات فيما يلى :
( 1 ) تحتوى الفئة الأولى فى معظم الأحوال موضوعات المتعة الحسية ، وتعتمد فى قيمتها للوهلة الأولى على بعض الكائنات الحية .ونحن قد نقول – الى حد ما – بان المتعة تشير ضمنا الى ما يعد طبيعيا ، ويتم اداؤها دون عوائق للكائن الحى . فاذا كانت قيمة هذه الموضوعات تكمن فى المتعة التى تقدمها ، حينئذ تكمن قيمتها فى حقيقة أنها تسهم فى الاداء الطبيعى دون عوائق للكائن الحى .
مثل هذا السلوك الخاص بالكائن الحى يعد جزءا أساسيا من حياته المتواصلة . تعريف الحياة لم يقدم بعد من قبل البيولوجيا ، ولكن تم الاتفاق على بعض خصائصها ، واحدى هذه الخصائص هى أن الكائن الحى يميل الى تمديد حياته الخاصة واطالتها . وان الكائن الحى يميل الى تكريس الطبيعى بالنسبة له ، والعمل دون عوائق .
عندما تتحقق موضوعات الرغبة الحسية تساعد على انجاز هذا الاتجاه . وعندما يعيها الكائن الحى ، فانه يشعر أنها خير ( واذا كانت تميل الى الالم والاحباط ، فانها تعد سيئة ) وحتى لو لم يكن واعيا ، باعتبار أنه ربما ربما بعض الكائنات الأدنى لا تعى ، وأى موضوع يدل على رد الفعل المتفق مع ميل هذا الكائن يعد خيرا لهذا الكائن . ماتبتلعه الاميبا يعد خيرا للاميبا ، على الرغم من أن الاميبا لا تستغرق فى البهجة الواعية بذلك . الكيفية المحددة لهذا النوع من القيمة تكمن فى تحقيق الميل الأساسى المحدد المتوطن فى الكائن الحى .
( 2 ) القيم الاقتصادية ؛ فى مجال الاقتصاد ، القيمة هى فقط القدرة على السيطرة على الأشياء المرغوبة للاخرين فى التبادل السلمى والطوعى . وتتميز القيمة عن الفائدة . فهذه الأخيرة – الفائدة – لها نوع معين من القيمة لأنها مفيدة لمن يريدها ، الا أنها مفيدة فحسب لأنها مطلوبة ، وليس باعتبارها قوة فى التبادل مع منافع الآخرين .
من هنا تأتى الفائدة ضمن الفئة الأولى من القيم " قيم حالة " ، فى حين أن القيمة كما تستخدم فى الأشكال الاقتصادية تعد نوعا مميزا ، نظرا لامكانية تبادلها مع ممتلكيها . ويوجد الآن اثنان من القوانين ينطبقان على القيمة فى هذا المجال – قانون بداية ( عتبة ) القيمة ، وقانون القيم المتناقصة . وهما قانونان هامان ، على الرغم من أنهما يبدوان – مع ذلك – غير جوهريين بالنسبة لأهدافنا .
ينص قانون البداية على أن هناك قدرا معينا أقل ، وكمية كبيرة من سلعة معينة ، تختفى بعدها القيمة .كما أثبت " اربان " هذا قانون سيكولوجى خالص وبسيط ، يشبه قوانين " فيبر " "3"و " فخته " وينطبق على الفائدة كما ينطبق على القيمة . و " هذا المبدأ يعبر عن حقيقة أن قوة الموضوع لمناداة الشعور بالقيمة لا تعتمد على الموضوع وحده ، بل تعتمد على الشعور أو الميل الفطرى للذات أيضا ..
المفاهيم المألوفة عن الحد الادنى و " المنفعة الحدية " ، والمجال الكامل لهذا القانون ، تشكل حينئذ جزءا من التفرقة بين القيم . ويمكن قول الشىء ذاته عن قانون القيم المتناقضة . فهو أيضا لديه أصل سيكولوجى على الرغم من عدم اختزاله الى مصطلحى التحفيز والحساسية . " انها. ظاهرة الحد من القدرة على الحكم بدلا من القدرة على التحفيز " . ليس لأن القيم الاقتصادية قيما ، وليست منافع ( فوائد ) ، وان هذه القوانين مسيطرة ، ولكن لأنها مثل قيم المنفعة ، ذات صلة بالتقدير الانسانى . من ثم ما الفرق الايجابى للقيم الاقتصادية ؟ .
احدى الخصائص المحددة للقيمة هى امكانية التبادل ، وخاصية أخرى هى أن القيمة تعد دالة على الندرة . فوجود القليل من الذهب يعد الأعظم قيمة ، فاذا وجدت كمية لا نهائية منه يصير بلا قيمة . بعبارة اخرى توجد القيمة فقط عندما تكون كمية السلعة ذات القيمة محدودة ، واذا كانت محدودة جدا ، كانت قيمتها أكبر ( وتصل الى العتبة السيكولوجية ) .
واذا استدعينا المقارنة لمساعدتنا على تفسير هذه الحقيقة ، فان هذا مثل ضغط الغاز . والذى يوجد فحسب عندما يكون الغاز حبيسا ويزداد عندما يتقلص حجمه . فى الواقع التشابه بين القيمة وضغط الغاز بالأحرى هو الأقرب . اذا كان كتابا معينا ذا قيمة كبيرة بالنسبة لى ، وأنا على استعداد لدفع أعلى سعر بالنسبة له ، فانه يزيح من حافظة نقودى مبلغا من المال يتناسب مع قيمته .
وبالتالى فان حجم الغاز يقاس بكمية الكتلة المزاحة . مرة أخرى كما يعنى ضغط الغاز الميل الى التوسع واحتلال مساحة تشغلها بعض الموضوعات المادية ، كذلك فان القيمة الاقتصادية لسلعة ما تعنى الميل الى اتخاذ المكان عن طريق الشراء أو التبادل مع السلع الأخرى . حقيقة ان هذه السلعة التى تعد قيمتها مطلوبة من قبل شخص ما مما يجعل هذا الميل ليس مجرد شكل من الكلام ، بل ميلا سيكولوجيا ، أو حتى ماديا ، وحقيقة .
حينئذ تبدو القيمة هنا تعنى احتمالا حقيقيا أو ميلا حقيقيا للموضوع الاقتصادى فى المستقبل ، من خلال الاستبدال بموضوع آخر فى حوزة شحص يرغب فى ذلك . اذا كان كل شخص لديه هذه السلعة ، وان لم تكن هناك ندرة ، فلا يمكن أن تكون هناك رغبة او ميلا ، لانهما متحققان فعلا ، ولا وجود لهما ؛ وبالتالى تعد الندرة ضرورية للقيمة .
ويترتب على ذلك الان ان القيم الاقتصادية تميل الى أمربن : تميل الى تحسين حياة المشترى المحتمل بتحقيق رغباته ، وتميل الى اثراء الحياة الاقتصادية للجميع من خلال تشجيع التجارة . الميل الأول ليس غريبا على القيمة ، فالمنافع تفعل نفس الشىء ، اما الميل الثانى فيعد غريبا على القيمة ، ويجب ان يشكل نتيجة نحن نبحث عنها .
للسلع قيمة اقتصادية لانها تميل الى التبادل ، وبالتالى ترسخ وتنعش الحياة الاقتصادية فى المجتمع . فتصبح من وجهة نظر الحياة الاقتصادية خيرا لاسهامها فى هذه الحياة . هذه النتيجة تعد مماثلة لتلك التى وصلنا اليها من دراسة الفئة الاولى ، والبسيطة ، و" قيم الحالة " . فقيمة الموضوع ذى القيمة تتمثل فى المساهمة فى النزعة القائمة بالفعل ، ومجموعة من الميول .
( 3 ) القيم الجمالية أو الموضوعات الجميلة . تعد مشكلة تعريف الجمال المشكلة الأصعب للغاية ، ويوجد حل مقبول عموما . فهناك مع ذلك ، بعض السمات الراسخة عن الجمال ،ويجب علينا العمل ببساطة بكل ما فى وسعنا مع هذه السمات . تبدو الموضوعات الجميلة فى نوعين ، وتميز تقريبا باعتبارها كلاسيكية ورومانتيكية . الاول – الكلاسيكى – لديه جمال الشكل والبنية ، ويتم عرض عناصره فى انسجام واقتصاد ،او فى عبارة ذات مغزى اكبر من السذاجة ، والوحدة والتنوع . كان هذا هو النمط الأكثر اثارة للاعجاب فى العصور الكلاسيكية القديمة .
الثانى ؛ الجمال الرومانتيكى ، يمكن تعريفه على أنه يؤكد على أهمية فكرة التعبير ، التعبير عن كل ماتتضمنه الحياة بشكل عام ، وهذا يعنى فى مفهوم هذه الخاصية ؛ " انها مصاحبة للرغبة فى التحرر والتعبير العاطفى " . هذا الفن الحديث بصفة خاصة ، مرتبط بالاهتمام الحديث بالشخصية ، والانسان والذاتية عموما . وحافز اللعب ، " والاسايب مماثلة " ، والخيال والحرية ، وتعبيرات من هذا النوع .
تتصل الفئتان نوعا ما بما هو ثابت وديناميكى . ولا يقتصر التمييز على الأعمال الفنية ، بل يمتد الى الموضوعات الطبيعية أيضا . فالجمال البشرى – على سبيل المثال – كما رآه افلاطون ، ينقسم بشكل تقريبى الى نوعين : الجمال الانثوى ، وهو بشكل رئيسى ثابت ، وجمال الاسترخاء ، وتماثل التكوين ؛ اما الجمال الذكورى فيعد بالاحرى ديناميكيا ، وتعبيرا نشطا عن الفعالية الداخلية فى الافعال والمروءة . دعونا ننظر الآن فى طبيعة كل نوع .
تبدو الوحدة فى التنوع على أنها من أكثر العبارات عديمة المعنى . فكومة من الحصى لديها وحدة ، وتكون كومة واحدة ، ومتنوعة ، وتوجد بها حصوات عديدة من مختلف الاحجام والأشكال ، ولكنها ليست جميلة . مع ذلك ، فهذه ليست وحدة فى التنوع . بل وحدة وتنوع . حرف الجر ( فى ) يدل على أن الكل يتضمن الآخر . القضية الصحيحة ستكون واحدة حيث ان كل عنصر محدد يساهم بشكل واضح فى الوجود وطبيعة الدعم المتبادل والمساهمة المميزان للنمط الكلاسيكى .
على الرغم من ثبات النوع ، الا أنه ليس خاملا ، ولكل عنصر تأثير ايجابى ومتميز عن العناصر الأخرى . كما هو الحال فى علم توازن السكون فهو لا يعنى مجرد غياب الحركة ، بل بالاحرى توازن الضغوط والتجاذبات والتنافرات ؛ حتى من ثم يكون الشىء أكثر مما لو كان ديناميكيا . ونحن قد نشيد بهذه الحقيقة لهؤلاء الفلاسفة الذين يميلون الى ادانة الثابت باعتباره لاحياة فبه وعقيما ، وبذلك يستخدمون" الثابت المطلق " كمصطلح لوم رافضين الاعتقاد فى المؤثرات أو اى شىء سوى المنهج .
المذهب القديم للسكون كان فى الواقع ، بعيدا عن كونه نصيحة للموت . الآن هو فى الدعامة المشتركة التى نجد السبيل الى وصفها بالقيمة . كل جزء فى الموضوع الجمالى متضمن من قبل كل الأجزاء الاخرى ، وبالتالى تحقيق المعنى الذى تميل الأجزاء الأخرى الى التعبير عنه ، ولكن لا يمكن فى حد ذاتها التعبير بشكل كامل.
كل موضوع يعد تحقيقا للميول الكامنة فى كل اجزائه ، من وجهة نظر تلك الأجزاء ، ومن ثم ،يكون الموضوع لديه قيمة أو قيما . هذا يماثل النتيجة التى تم الحصول عليها فى القيم الاقتصادية والقيم الحسية . ولكن بما ان القيمة هنا كلية بين جميع أجزاء الموضوع الخاصة ، فانها تصبح جوهرية وجمال الموضوع الجميل يكمن بشكل كلى داخل ذاته . وبالتالى فهو مستقل عن الملاحظ الخاص للنتائج العملية او الميل المجرد .
يبدو الجمال الرومانتيكى مختلف تماما . التحديد المتبادل لجزء بجزء ، مثلما فى التمثال او اللوحة ، يخضع الى " التعبير العاطفى " . وعلى النقيض من ذلك مشابه لما بين الحرية والحتمية . يقاس الفن الرومانتيكى بالعمق ، والصدق وكثافة الجاذبية العاطفية ؛ وليس البنية ، بل الدور والجانب الديناميكى هو الاكثر ظهورا .
لست أعنى – بالطبع – أن البنية والشكل غير متواجدين ، بل – كما راينا فى الفن الحديث والرومانتيكى بشكل اساسى فى الموسيقى – ( الشكل والبنية ) كانا موجودين باعتبارهما خلفية أساسية بدلا من ان يكونا مصدرا مباشرا للاثارة الجمالية . ما الذى يدفعنا حينئذ الى القول بأن الفن الرومانتيكى جيد ؟ . أليس لانه يكشف الاعماق داخل الشخصية التى تناضل طوال الحياة من أجل التعبير ؟ . لا اعتقد أننا ينبغى ان نعتبر الموسيقى والرواية والدراما ، أكثر من مجرد متعة اذا لم تبين لنا – مع ذلك دون بلاغة – طبيعة حياتنا الشخصية .
تسعى الحياة الشخصية للتعبير عن نفسها ، والجمال الرومانتيكى يساعد على – ويحقق - هذا المسعى . ولكن هذا المسعى لا يلزم ان يكون شخصيا دائما . الجمال الجامح من عاصفة شتوية ، ومن انفجار بركانى ، او من حدث ديناميكى جليل فى الطبيعة يكشف عن القوة الخفية والمكبوتة للطبيعة باعتبارها حرة طليقة .
ونحن من ثم نغامر لتحديد الجمال الرومانتيكى ليكون تصويرا للموضوع كما ندركه ، دون كبت أو تقييد ما يميل اليه بطبيعته الداخلية لتحقيقه تحقيقا يعد جيدا من وجهة نظر الموضوع . لان القيمة تكمن فى علاقة الموضوع بنزعاته الداخلية الخاصة به ، فان الجمال يعد جوهريا ومستقلا .
فى هذه المرحلة قد يكون جيدا ان نواجه انتقادا طبيعيا محددا . وسوف نكون متهمين – على الأرجح – بالحديث بتعبيرات اسطورية . هل توجد مثل هذه " الطبيعة الداخلية " ، و " الميل الى التعبير عن نفسه " و " والمسعى " وما الى ذلك باعتبار ماتكلمنا عنه ؟ . انصار المذهب الاسمى لا تعجبهم هذه الكلمات . لكن ليس من الضرورى اثبات أنهم موضوعيون حقا . " نحن لانميز الحقيقة من المظهر فى الاستمتاع الجمالى " .
يصور الموضوع فى الفن الرومانتيكى على اته تعبير عما نشعر به من الطبيعة الداخلية للموضوع . ومسألة الوهم ليست ذات صلة . فى الحقيقة هذا الاعتراض هو بمثابة شكل من اشكال الاعتراضات المبتذلة على قراءة الرواية على اساس أن الرواية مجرد خيال .
على الجانب النفسى للجماليات نجد التماثل الذى يؤكد ما سبق . تعميم التحفيز وتوازن الدوافع ، وتعزيز الحياة من خلال السكون – هذه هى الخبرة الجمالية . او كما يقول " فونسيجريف " ؛ " جميع القيم الجمالية مناظرة للازدهار ، وجميع القيم ليست معتمة ( خافتة ) ، وهى مفاهيم حيوية داخلية " . وعند النظر فى الأمر بشكل وراثى أو تاريخى ، يرى " اربان " أن الموضوع الجيد للفن المتحضر يجب – فى الواقع – أن يكون مساعدا لهذا التوازن من الدوافع وسكونا للميول الفطربة ،والا فانه لن يكون متطورا .
فى حالة عدم وجود هذا السكون ، سيكون هناك دافع يسود ويتبع ذلك موقف عملى ورغبة أو حكم . العنصر الشكلى للأمر يعد ذا مغزى فحسب باعتباره يعنى تأمين السكون فى الموضوع أو المحتوى الذى عندما يختبر جماليا يكون موضوعا للرغبة الصريحة والحكم . فى الواقع – كما يرى - " اربان " هذا التنظيم والتوازن يعدان حلة لقانون سيكولوجى عام ، ومن القيم المكملة . والآن هذا يعنى ببساطة أن الدوافع تتحد فى كل هذا ويؤثر كل عضو ويتفاعل مع الدوافع الأخرى . والدوافع الأخرى مماثلة تماما للتعريف الوارد فى الجمال الكلاسيكى على الرغم من صياغتها فى مصطلحات الدوافع والمشاعر .
( 4 ) القيم الأخلاقية ؛ احكامنا الأخلاقية تعد احكام قيمة فى التحليل الاخير ؛ ونحن نعنى بالقيمة الاخلاقية عموما نوعا خاصا من القيمة التى نعزوها الى صاحب الشخصية الخيرة . وعلى الرغم من الكم الهائل من الصراع والخلاف بين الأنساق الاخلاقية ، نحن نتعامل مع هذا المجال بايجاز . بالنسبة للخلافات لاتتعلق كثيرا بوصف ملموس للشخصية الخيرة باعتبارها الصياغة الميتافيزيقية النهائية لها . وهناك اتفاق معقول فى الممارسة على أنها الشخصية التى تميل الى المحافظة بقدر الامكان ، والاعتراف بقيم الحياة بالنسبة للفرد والمجتمع .
ان قيمتها الخاصة تكمن – من ثم – فى المساهمة فى الحياة الشخصية ككل . وقد وجد أن من المستحيل ان نعرف الشخصية الخيرة فى تجريد من القيم الملموسة لحياة الفرد ؛ حتى الارادة الذاتية عند "كانط " يجب أن تتصرف بحيث يمكن ان يستطيع القول المأثور- فى الحياة العقلية - أن يصبح قانونا عاما . ويصبح ذلك ممكنا فحسب من خلال المساعدة على رفاهية المجتمع والفرد .
( 5 ) الدين والاخلاق بالكاد محددان – فيما اعتقد – على الرغم من أنهما لم يكونا منفصلين على المدى الطويل ، غير أن القيم الدينية تبدو لى ذات طابع مماثل للقيم الأخلاقية . ولعل تعريف الدين الذى يفترض أنه ل "هوفدنج Hoffding " – " البديهية الأولية للدين ، التى تعبر عن النزعة الأعمق لكل الأديان ، وهى بديهية الحفاظ على القيم " . وفى حين يجوز للمرء أن يعتقد شخصيا بأن الدين يمكن أن يكون أكثر بكثير من هذا ، فانه لا يبدو من الممكن أن يكون اقل اهمية اذا كان يمثل موقفا قيميا وليس موقفا انطولوجيا .
لكن حتى فى هذا الحد الأدنى للطابع قد يكون السبب فى أن الدين نفسه يعد بالنسبة للمتعصب أسمى من كل القيم . هذا لانه يبدو مساهما فى الحفاظ على كل القيم ، سواء فى هذه الحياة أو الحياة الأخرى . هناك يبدو أنه لا فرق بين القيم الدينية والاخلاقية ، ما عدا درجة واحدة ؛ فتعد القيم الدينية الأعظم وتستند الى قوة أسمى من ارادة الانسان . وكلاهما – القيم الدينية والقيم الاخلاقية – يساعدان فى تعزيز الخير النهائى الذى يسعى الاشخاص اليه للاطمئنان .
( 6 ) القيم الفكرية ؛ تعد الحقيقة حول الاشياء – بالنسبة لمعظم البشر – قيمة . والبرهان على ذلك أن البشر يحاولون جاهدين الحصول عليها . وقد اختلف الفلاسفة – كما يمكننا أن نتوقع - حول طبيعة هذه القيمة . يرى الطرف الأول انها ذات صلة بالقيم الأخرى والقيم العملية ؛ بينما يرى الطرف الثانى أنها قيمة جوهرية ، وأنها الخير فى ذاته .
اذا كان الراى الاول صحيحا ، فان قيمة الحقيقة تعد مماثلة لتلك التى للأخلاق ؛ وتتشكل فى المساعدة على نمو الحياة . أما اذا كان الرأى الثانى صائبا ، فان الحقيقة تعد مماثلة للقيمةا الجمالية . وهنا نلتقى بوجهتى نظر متصارعتين . الاتجاهات غير البراجماتية عموما اما مثالية أو واقعية . يعلن المثاليون ان الحقيقة تمثل نسقا متماسكا من الافتراضات ، ويعتقد الواقعيون بان جوهرها يكمن فى تناظره مع الواقع الخارجى .
نجد فى وجهة النظر المثالية فى قيمة الحقيقة نفس البنية التى فى الجمال الكلاسيكى ؛ نظام الاجزاء المحددة المتبادل ، والانسجام والاقتصاد . وتتكون الحقيقة – فى وجهة النظر الواقعية – فى التعبير عما يعد حقيقيا فى تعبيرات المعرفة الانسانية . تكمن قيمة الحقيقة فى الصدق ، أى فى حقيقة انها تعبر لنا عن طبيعة الحقيقة . وهذا مماثل للجمال فى الرومانتيكية التى وجدنا أنها تتشكل فى التعبير عن الطبيعة الداخلية للموضوع .
البحث عن الحقيققة من جانبنا نحن البشر هو بحث للحصول على هذه الحقيقة المعبرة عن خبرتنا . الحقيقة هى تحقيق هذا السعى بعد التعبير ، وقيمتها يجب أن تكون – من ثم – قابلة للتعريف فى نفس المصطلحات مثل الجمال الرومانتيكى . ومن الغريب أن الرأى المعتاد هو أن المثالية هى الاقرب الى الرومانتيكية من الواقعية ؛ لكن هذا يعنى – فيما اعتقد – أنه ليس صحيحا أن المثالية الموضوعية الحديثة هى الاقرب الى الكلاسيكية ، من حيث النسق والنظام ، ففى حين تسعى الواقعية الى الميل للتعبير عن الاستقلال والحرية ، وبالتالى تعد رومانتيكية بشكل أساسى .
المواد اللازمة لتعريف القيم هى الآن فى متناول اليد ، ولقد وجدنا فى كل الحالات أن قيمة الموضوع تتشكل فى مساعدته لاكمال أو تحقيق بعض الميل الموجود بالفعل . فى معظم الحالات التى يضع فيها الانسان القيمة بعين الاعتبار ، هى تحقيق الميول فى الكائن البشرى الحى ، مادية وشعورية . وبالتالى تعتمد القيم بشكل عام على الشخصية . الا أن هذا يعد تعميما متسرعا .
تميز الدليل الدقيق لتكوين الجمال الكلاسيكى فى اقتصاد بنيته والتحديد المتبادل لأجزائه ، واستمراره باعتباره متميزا عندما لا يقرؤه أحد ، ليتم تشكيله من خلال تضمينات موضوعية منطقية . جمال البرهان صالح بشكل شامل ومستقل عن التغيرات فى المدرك ، وهو ماتعنيه الموضوعية لأصحاب المذهبين الذاتى والمثالى على حد سواء . انه الاتفاق اللاواعى مع تعريفنا غير الشخصى الذى يقول بان ضوء الشمس يعد خيرا للنبات ، أو ضارا للنسخة السالبة ( النيجاتيف ) للتصوير الفوتوغرافى .
اذا كنا نتحدث هكذا عن الطبيعة غير العضوية ، فذلك لأن الميول الثابتة والمهيمنة ، مثلما تبدو فى الكائنات الحية ، لا توجد متطفلة على اهتماماتنا . ونحن اعتدنا على التفكير فى الطبيعة باعتبارها نظاما منفصلا وموضوعيا ، وذلك للترهيب ( هل أقول هذا ؟ ) من خلال انتصارات الموقف العلمى الحصرى ، واننا لا نجرؤ على الحصول على التناظر بين قيمنا الخاصة ولعمليات المدروسة فى الفيزياء .
لكن هناك – على ما اعتقد – تماثلا وثيقا راينا ذلك فى القيم الاقتصادية ، وحالات اخرى أظهرت نفس البنية المنطقية . بالنظر فى اى ميل ، وفى الطبيعة الميتة ، وفى الكائنات الحية وفى العقول الواعية التى تضغط تجاه غاية معينة ؛ اى ميل آخر يعزز هذا يعد خيرا ، وأى مقاوم له يعد سيئا .
هل ندعى هنا أننا نستنتج مفهوم القيمة من مقولات واقعية بحتة ؟ . الصفة المحددة للخير والشر تم العثور عليها امبريقيا لتكون تعزيزا او عرقلة للميل . تمت صياغة هذا التصريح بالكامل الآن فى مصطلحات اخرى غير مصطلحات القيمة ، ولكننا قد نكون متهمين بالوقوع فى حلقة مفرغة معينة . ففيما يتعلق بالقول بأن تعزيز الميل يعد نزوعا للخير متضمنا تحقيق الخير . ولماذا بعد كل شىء ، ينبغى أن يكون ذلك ؟ .
يبدو هذا الاتهام معقولا ، ونحن نلتمس مفهوم الخير ببساطة ، ونترك القيمة ، أو على الأقل جوهر القيمة بدون تعريف . والآن حتى لو كان هذا هوالحال ، فان تعريفنا مازال له الكثير من الفائدة لأنه يكشف جوهر الخاصية المحددة للقيمة ، وهذه المعرفة لاغنى عنها لأى ميتافيزيقا عن الذات . وفى غضون هذه السمات قد نقع على عدم امكانية تعريفها ، ولا يمكن الوصول الى الجوهر ، ولا يمكن تجريد التعريف من الحقيقة أو الفائدة لأنه لا غنى عنهما .
لكن بالنسبة لى ، اعترف بأنه سابقا كانت تبدو الصيغة وقد وضعت مجردة من الجوهر الأعمق للغاية للقيمة ؛ وذلك للسببين الآتيين :
( 1 ) ليس هناك بقدر ما استطيع أن ارى المزيد من امكانية التسمية وكيفية التعريف ، ويبدو الادعاء بالنسبى لى غموضا لامبرر له واقامة مجهول لا يمكن تعلم شىء منه. "الخير " مفهوم مختلف بلا شك عن " التحقق " ، وبالتالى يبدو أنه يتضمن شبئا غير مصرح به فى محتوى المفهوم الأخير .
( 2 ) لكن ذلك لأن " الخير " هو العلاقة بين التحقق ( مواصلة التعزيز ) والميل ، علاقة فريدة محددة ، ومحددة بما يكفى من خلال الاثنين التحقق والميل . وبسبب هذه العلاقة الفريدة من نوعها والتحديد بما فيه الكفاية – فيما اعتقد – فان لدينا الحق فى القول بأن مفهوم " الخير " ليس توسلا بل استنتاجا .
وفقا لهذا أنا أجرؤ على تقديم التعريف السابق نظرا لانه غير دائرى ، فهو التعريف الايجابى الذى أراه حتى الآن .
الاعتراضات التى ربما يشعر بها الحس السليم ، بالنسبة لأى ادعاء من هذا القبيل لاستنتاج القيمة من الواقع ، سوف يكون الاستنتاج السليم تماما ، ألا تتضمن الحقيقة مقولة الميل او الامكانية . بدون امقولة ، نحن قد نعترف بوجود هوة بين القيمة والواقع . العالم الوحيد الذى يؤكد تلك المصطلحات الموجودة فعلا والعلاقات سواء كانت دائمة أو متغيرة ، سيكون العالم الذى يمكن ان تنشأ فيه القيم .
بوسعنا القول بأن كذا وكذا موجودان ، وكانا أو سيكونا ن ولكن ليس بوسعنا القول أكثر من ذلك . لكن الامكانية تنطوى على الغاية ، وان لم تكن بالضرورة فى المعنى الغائئ . والامكانية هى مقولة فى الاستخدام الجيد فى مجال السكون ، نظرية الحرارة وغيرها من فروع الفيزياء . الان فى هذا المجال الواقعى ، وفى هذا وحده ، يمكن أن ينشأ مفهوم الخير أو الشر أو القيمة. .
مع ذلك ، هناك اعتراض آخر على أن تعريفنا مستمد من نتائجه ، ليترك دون تنويه ما قد يبدو تسترا على نقطة ضعف قاتلة . تظهر صيغتنا ( واعتقد بان هذا الاظهار حقيقة ) التزامنا بوجهة النظر الكمية المجردة . اذا كانت القيمة تتشكل فى المساهمة فى تحقيق ميل معين ، فمن ثم فان المعنى الوحيد الذى تكون فيه القيمة أكبر ، وأفضل وأسمى من غيرها ، هو المساهمة بقوة أكبر لميل معين ، او المساهمة فى عدد كبير من الميول .
يبدو هذا للكثير وسيلة لاثبات أن النتيجة المنطقية متناقضة ، لأنه يعتقد على نطاق واسع أن مذهب المتعة سقط أمام اعتراض مماثل ، وأن القيم مثل الملذات أسمى او أدنى من الناحية الكيفية . لكن فى المقام الاول يمكن أن تتم الجاذبية بالكاد فى الفلسفة لاى مذهب ، فى المقام الاول يمكن أن يتم الطعن بالكاد فى الفلسفة على أى مذهب من اجل الخلط بمذهب آخر . الراى الكيفى ، مثل أغلب الآراء الفلسفية لا يمكن اعتباره على النحو المقرر من خلال توافق الخبراء ، واذا تصارعت الأدلة الامبريقية مع ذلك ، وبينت أن القيمة كمية ( تعد شأنا كميا ) ، ويبدو الافتراض ضد الرأى الكيفى .
لكن أبعد من ذلك ، مناشدة الصفات ، تعد بشكل عام مناشدة لعدم امكانية تعريفها ( أى تعريف القيمة ) . ليس هذا مصدر قوة بل مصدر ضعف ، التخلى عن ا لمشكلات ورفض التحليل . ونحن نود ان نعرف السبب فى أن حسن الخلق أفضل من عشاء جيد . يشير رأينا الى أن السبب هو أن الخلق الجيد يساهم فى عدد كبير من الميول لدى الكائنات الحية أكثر مما يمكن ان يقوم به العشاء ا لجيد فى حد ذاته .
الاكثر شمولا ، و الأكثر كثافة يعد الأسمى والافضل ، فى حالة تساوى العوامل الاخرى . هذا النوع من التقدير يفسر درجة القيمة بينما التقدير النوعى لا يفسر شيئا . لكن العمل التفصيلى عن نتائج هذا التصريح لا يعد ممكنا هنا بالنسبة لنظرية سلم القيم .
من ثم ، هل القيم موجودة ؟ نعم ، اذا تم الشعور بها ، بنفس القدر الذى نشعر فيه بالجاذبية والضغط ووجود الاصطدامات . ويمكن أن تكون الميول المادية أو أى نوع آخر ، طالما انها قابلة للتحقق باعتبارها مساعدة أو معوقة للميول الاخرى من اى نوع كانت . لا توجد هوة بين القيمة والحقيقة . دعونا لا نعترض على ماجعلناها قيمة كلية الوجود وذلك حتى لا تفقد المغزى . ويمكن القول كذلك بان الجاذبية لا معنى لها لأنها تطبق على جميع الأجسام .
بالطبع ، ليست كل القيم المتصورة تعد ميولا حقيقية . تعد ثروة الانسان الخاصة قيمة تخيلية ، ولكن من دون دليل ملموس على فعاليتها . ولكن على الرغم من ذلك تبقى قيمة خاصة اقل ، انها القدرة المتناقصة بالقيم الكبرى والاكثر شمولية . هنا نأتى قريبا من نتيجة ميتافيزيقية لتعريفنا التى يبدو أنها موجودة – واعتقد – انها نتيجة مثمرة وموجبة .
بعض القيم أسمى واكثر شمولا من غيرها . وهكذا تكون لدى شخص ما قيمة كبيرة ، لأنه من خلال التبصر يكون قادرا على مواصلة العديد من الميول ؛ التى لدى الكائن المادى عن الفكروالأخلاق والفن وما الى ذلك . ونحن قد نتصور شخصية فائقة القيمة ستشتمل على امكانيات اكبر بكثير من هذا النوع ، وحتى الشامل لكل ا القيمة التى من شانها تلبية جميع الميول فى الكون . تترك هذه القيم الأكثر شمولية والاقل ميولا خارج ما يتعارض مع تحققها الكامل لذاتها .
اذا كانت شاملة فلن يكون هناك شىء يمنع مرورها من الامكانية الى الفعالية . القيمة المثالية أو الكينونة المثالية يجب أن تكونا فعليتين ، كما جاء فى البرهان الانطولوجى . ولكن يظل السؤال ، هل توجد اية أدلة امبريقية على على هذه القيمة الشاملة للكل او المثالية ، حتى باعتبارها مجرد امكانية ؟ . هل يظهر المثل الاعلى للكمال نفسه على أنه ميل حقيقى ، ويعمل فى الخبرة ؟ .
يزعم الاناس المتدينون انهم يفعلون ذلك فى تجربتهم الشخصية الخاصة بهم . وهذا خارج مجال مناقشتنا . الا أنه – فيما اعتقد – خبرة امبيريقية بالكامل . تعريف القيمة الذى حصلنا عليه سابقا يبدو لاظهار أنه اذا كان مثل هذا المثل الأعلى يمكن تحقيقه باعتباره ميلا للعمل فى حياتنا ، فان البرهان الانطولوجى يمكن أن يتم .
دحض " كانط " لهذا البرهان يقوم على افتراض – ورثه من ديكارت – عن الهوة الثابتة بين الذات والموضوع ، والقيمة والحقيقة . لكن تعريفنا عبر عن هذه الهوة ، واظهر بالأحرى انه لا توجد هوة . شىء من خصوبة التعريف يكمن فى – فيما اعتقد – اغلاق باب الخلل القائم منذ امد بعيد .
يمكن ان يتم اكثر من تطبيق للتعريف . يستند النطق والتفكير والبرهان والمعرفة فى الأساس على مبادىء معينة تحمل ادلتها الخاصة . هذه هى بديهيات المنطق ، بديهية أن الحقيقة يمكن الوصول اليها بالخبرة فقط ، الخ . وقد تم قبول هذه المبادىء لأنهاتعتبر ذات قيمة . فهى وحدها التى تجعل المعرفة ممكنة ، وبالتالى تساهم فى رغبتنا فى المعرفة .
لمعرفة ماذا يكون الاله بالنسبة للمتدين المتعصب : انه القيم المعرفية الشاملة للكل ، والمؤسسة لكل الأحكام وصلاتها . لأنها اساس كل المعرفة ولا يوجد ما يتعارض معها ، ومجرد مظهرها يضمن حقيقتها ؛ وهى بالنسبة لنا وسائل تبصر مباشرة .
من ثم ، فقيمتها اكثر من الامكانيات ، وتصبح حقائق . هذا ليس هو الحال مع الافتراضات الاقل جوهرية ، وان كانت ذات فائدة ، بالنسبة لهذا الأخير ، لا اساس لكل معرفة وبعض الافترضات قد تتعارض معها . تشكل البديهيات لكل المعارف حالة خاصة ، مثل الكائن المثالى ، حيث تعنى القيمة التحقق الموضوعى .
***********************************************
هوامش
1- المقصود هو الفيلسوف : جون جوتلب فخته Johann Gottlieb Fichte ( 1762-1814 ) .
2- جورج فونسجريف George Fonsegrive – ( 1852- 1917 )- فيلسوف فرنسى وروائى – نشر عدة روايات تحت الاسم المستعار : George Fonsegrive .
3- ماكس فيبر (كارل إميل ماكسيميليان "ماكس" فيبر ) Karl Emil Maximilian "Max" Weber ( 1864-1920 )- عالم الاجتماع والفيلسوف، والاقتصاد السياسي الألماني أثرت أفكاره بعمق في النظرية الاجتماعية والبحث الاجتماعي .