( 1 )
يبدو واضحا أن موضوع مؤتمرنا على الرغم من ان اطاره الواسع للغاية فى اعلان الدعوة للمشاركة المبلغة لنا ، والمسكونة بالاشباخ من خلال سلسلة من الصور التى تبدأ بظل طائرة فى مقابل سماء زرقاء تختفى فى أحد أبراج مركز التجارة العالمى ، حيث تنتهى – حسنا هل أنا لست متأكدا تماما اين تنتهى – أو حتى لو كانت انتهت فعلا ؟ . ربما كانت نهايتها بداية فعلية . على أى حال ،يصل التسلسل الى ذروة معينة مع انهيار البرجين فى سحب من الغبار والركام .
من يستطيع - خصوصا اليوم - تجنب تلك الصور التى تبث باستمرار على شاشة التليفزيون ، فيما يبدو لاحياء الذكرى السنوية العاشرة للحادى عشر من سبتمبر 2001 ؟ ماذا يمكن أن يكون أكثر وضوحا من هذه الصور المدهشة للموت والدمار؟ . ولكن ماذا يمكن أن يكون اكثر غموضا ؟ .
فيما يلى أنا ماض الى تقديم بعض الأفكار المتعلقة بتلك الصور ، واتمنى أن يتم تقديمها بأسلوب أكثر اتساقا ، وأن تكون مرتبة بكثافة أكبر وأكثر شمولا وان تكون أكثر تماسكا فى طابعها وتقدم حجة مقنعة ومتماسكة باحكام . الا أنى أخشى عدم قدرتى على انجاز هذا وارجو المعذرة فى البداية لطبيعتها غير المكتملة ، والمجزأة والاستكشافية . ربما يتم التعويض عن ذلك فى المناقشة التالية .
عندما نتحدث عن الصور – نحن هنا أكاديميين وغير أكاديميين – نتوقع بشكل عام شفافية معينة . فمن المتوقع أن تظهر الصور اشياءا ، ملهمة ،تكون نوافذ للعالم بصورة ما أو بأخرى . وهذه الصور تعمل بكل تأكيد على ذلك ، ولكن شفافيتها يمكن أن تعمل على الاخفاء بقدر ما تعمل على الكشف . وهذا هو الحال بشكل خاص عندما تكون لدينا علاقة بصور الذكرى : وفى الواقع أليست كل الصور صور ذكرى ؟ .
اذا كان الأمر كذلك ، فان الفكرة التى وضحها " فرويد " يمكن أن تضعنا على مسار من التعقيدات المترتبة على هذه الصور. انا افكر فى الذكريات التى أسماها " ذكريات الشاشة " . وقد كان المصطلح بالالمانية يختلف قليلا (Deckerinnerungen ذكريات الشاشة ) وحرفيا الذكريات التى "تخفى أو تستر ". ولا يلزم لهذه الذكريات استنادها الى التصورات ؛ ولا يلزم أن تكون الصور دقيقة بالنسبة للحواس ، ولكنها غالبا ماتكون هكذا .
وقد طور " فرويد " هذه الفكرة على أساس تكرار بعض صور الذاكرة الواضحة جدا فى سياق التحليل . مع ذلك ، فان الصور التى تعمل على الاخفاء – والتستر - أكثر من التى تعمل على الكشف والاظهار . فهى تخفى - فى الوقت نفسه -الثغرات التى من شأنها أن تجعل هذا القمع ظاهرا . والترجمة الانجليزية ل (Deckerinnerung ) باعتبارها " ذاكرة الشاشة " تعد موفقة ، بقدر ماتشير الى وظيفة مزدوجة للصورة على أنها " شاشة " . اولا لتوفير الدعم للتمثيلات والتأكيدات ، وثانيا ؛ لغربلة الصور والعناصر الأخرى ، والتى يمكن أن تؤثر سلبيا على وحدة الوعى وبالتالى الوقوع فريسة للقمع .
اود ان اشير الى أن مسائل الارهاب ترتبط بسلسلة من الصور محفورة فى ذاكرتنا للطائرتين اللتين ضربتا مركز التجارة العالمى ، وجعلته يحترق وفى النهاية كانت سحابة من الغبار . وأود أن أقول ايضا بأن فى هذه العملية سلسلة من الصور التى وظفت باعتبارها جماعية – جماعية على مستوى العالم – ذاكرة الشاشة ، وكانت وظيفتها الأساسية تعمل باستمرار لتركيز انتباهنا على الأعمال الفردية والاطراف الفاعلة فى حين تستبعد الاعتبارات الأخرى ، وليس الصور الاخرى بالضبط ؛ بل وتستبعد الأفكار الأخرى التى قد يكون لها – بل ينبغى أن يكون لها – ايقاظا واستكشافا لما يتعلق بهذا الحدث .
وقد كان هذا النوع من الفرز ( الغربلة ) فى الولايات المتحدة بشكل خاص ، حيث تتمتع بالدعم الكامل والتعاون من وسائل الاعلام السائدة ، وبشكل خاص التليفزيونية ووسائل الاعلام الأخرى . فعلى سبيل المثال فى أوروبا وآسيا كان الانتقاد على أشده وذلك بوضع صور 11/ 9 فى سياق فى سياق أوسع .
بل وصل الى حد استغلال صور 11/9 لتبرير رد عسكرى – الى حد كبير – " الحرب ضد الارهاب " وكان الجانب الأكثر بروزا لهذا الرد – مما يمكن ان أسميه اضفاء السمة الجمالية على الصورة عبر وسائل الاعلام ( والتكيف مع فكرة ل " بنيامين " سوف أعود اليها فيما بعد ) التى تستمر لتكون عاملا حاسما .
عندما أتحدث عن اضفاء السمة الجمالية على الصورة فى وسائل الاعلام فاننى احتاج الى اضافة تحذيرهام . كلمة " علم الجمال " مثل أغلب كل الكلمات الاخرى ، وخصوصا المصطلحات ذات التاريخ الطويل الملحوظ ، تعد مفرطة فى التحديد والغموض . وقد تدل احيانا على عكس ما أراه تماما ، وأنا اتخذ اشارتى من " بنيامين " ( بل من " بول دى مان Paul de Man ايضا ، ومن " هايدجر" ) وسوف أنتقد المعنى – المعنى المرتبط بافكار " الشكل" و" العمل " .
انا أشعر بالتبرير – مع ذلك – لاستخدامها بهذه الطريقة بسبب التقاليد القوية التى جمعت عن هذا الاستخدام والتى لها تشعبات عديدة فى مناطق بعيدة منعزلة عن التطبيق المباشر ، اى للفن والجمال ،من خلال هذا المصطلح ( علم الجمال ) أو أن أشير الى تفاليد معينة قوية لعلم الجمال سهلت وحتى روجت الاستفادة من الصور باعتبارها ذكريات شاشة بالمعنى الفرويدى .
هذا التفليد يميل الى حجب وظيفة الشاشة وتثمين الصورة باعتبارها اكثر أو اقل طبيعية ، ونافذة اكثر أو اقل صدقا فى العالم . كان هذا التقليد الجمالى الخاص هو ما وضعه " والتر بنيامين " فى الاعتبار عندما كتب مقاله عن " العمل الفنى فى عصر الاستنساخ التكنولوجى " ، فقد سعى الى تطوير بديل "لاضفاء السمة الجمالية على السياسة " التى نسبها الى الفاشية . ولسوف أعود الى ذلك فيما بعد .
ولكن بداية ، لكى نفهم كيف يمكن أن تسهم تقاليد معينة لعلم الجمال فى ما يسمى " ثقافة الخوف " التى تسير جنبا الى جنب مع السياسة التى تحدد " الارهاب " و " مذهب الارهاب " ( عقيدة الارهاب ) ليكونا العدوين الأساسين ، وسوف يكون من المفيد ادخال مفهوم " فرويد " الثانى المتعلق بالاول ، حتى لو كان فرويد – على حد علمى – لم يربط بينهما أبدا او لم يناقش العلاقة بينهما.
لقد تم التغاضى عن هذا المفهوم – الى حد كبير – فى المناقشات النظرية ، وربما لأنه على العكس " ذاكرة الشاشة " ، فانه يجعل منه كلمة عادية تماما وغير تكنيكية ولا يتم تحليلها سيكولوجيا على وجه التحديد بخصوص ذلك ، وربما كان بسبب ذلك أنه من المألوف للغاية تقييد خيال أى شخص . وعلى النقيض من ذاكرة الشاشة – المفهوم الذى اكتشفه وناقشه فرويد فى وقت مبكر من حياته العملية ، بدئا بمقال كتبه عام 1899، والمفهوم الثانى الذى جاء فى وقت متأخر من حياته ، فقد ناقشه فى كتابه عام 1925 ، " الكبت " ، والاعراض والقلق .
وانا أشير الى مفهوم العزلة الذى أدخله فرويد فى هذا الكتاب فى سياق مناقشته ل " آليات الدفاع " التى وضعتها الأنا ، لا سيما ، فى العصاب الوسواسى obsessional neurosis ( الاضطراب العصبى الوسواسى ) . على النقيض من القمع أو الكبت الذى يستثنى تمثيلات الوعى من خلال الاستعاضة عنها بتمثيلات أخرى ( او اعراض أخرى ) ، ولا تستبعد العزلة تمثيل نفسها من الوعى – وبالتالى من الذاكرة . بل بالأحرى تلغى كافة الاتصالات التى يمكن أن تسمح لها بممارسة سلطتها التخريبية . هذه هى الطريقة التى يصف بها فرويد العملية :
" عندما يحدث أى شىء غير سار للذات ، أو عندما يفعل الشخص نفسه شيئا ذا مغزى لاضطراباته العصبية ، فانه يقحم فاصلا ، خلاله يجب ألا يحدث أى شىء - وخلاله – اى خلال الفاصل – يجب ألا يدرك شيئا ( ... ) لايتم نسيان الخبرة ، ولكن بدلا من ذلك ، يجرد من تأثيرها ، واتصالاته الترابطية ( الجمعية ) يتم قمعها أو توقف بحيث يظل كما لو كان معزولا " .
ما يستحق التركيز هنا نقطتان بشكل خاص . أولا ؛ مالذى يتم الحرمان منه عن طريق العزلة – اتصالاته الترابطية ( الجمعية ) – وقد بطها فرويد " بالتاثير " - " الايتم نسيان الخبرة ولكن بالأحرى يحرم من تأثيرها " – " العزلة المتعلقة بالخبرات " ، قبل كل شىء هى ما لا يستطيع القيام به وفقا لفرويد ؛ انها تزيح الآثار ( يمكنك تذكر أن فرويد مصر على حقيقة أن الكبت يتعلق فحسب بالتمثيلات ، لا بالآثار ، حيث يقول بأنه لا يمكن أن يكون من ذوى الخبرة دون وعى وبالتالى لا يمكن أن يكون مكبوتا ) .
لكن اذا كان فرويد يستخدم كلمة ( خبرات ) هنا للدلالة على موضوع ( العزلة ) ، فذلك لانه هنا مرة أخرى يرغب فى تمييزها عن الكبت ، الذى يتعلق باتمثيلات فحسب والعزلة – كما راينا – تتعلق بالآثار أيضا ولكن نتيجة لذلك تنطوى على الجسم . وكما وضعها فرويد فان "حدوثها يكون فى مجال الحركة " .
بعبارة أخرى ، فان اقحام الفاصل الذى لا يحدث خلاله أى شىء وبالتالى يشكل العزلة ، يجب أن يكون مفهوما ليس باعتباره حدثا عقليا ، بل بوصفه حدثا حركيا . وتأثير العزلة هو نفسه تأثير الكبت مع فقدان الذاكرة ( النسيان ) ، هذا ما لاحظه فرويد ولكن مع ملحق :
" انها تقدم فى الوقت نفسه تعزيزا للحركية من أجل أغراض سحرية . والعناصر التى جاءت بعيدا عن هذا السبيل هى على وجه التحديد تلك التى تنتمى معا بترابط . والمقصود بعزلة الحركة أن تضمن انقطاع الاتصال فى الفكر " .
ما وصفه فرويد يقع عند نقطة الالتقاء بين الذهنى والجسدى ، أو بالاحرى يحطم التمييز الواضح بينهما . ويتجلى هذا بوضوح فى الفعل وهو يستخدم لوصف العملية الفعلية للعزلة : الأشياء التى تنتمى معا بترابط ، هى ، التى تبقى بعيدا بطريقة سحرية ؛ من خلال اقتحام العزلة .
لماذا " السحر " ؟ . من اجل تعيين العملية –على وجه التحديد – التى وصفت ، وان لم يكن بوعى أو بارادة متعمدة ،ومع ذلك تنطوى على فعل عمدى او متعمد ، وهذا يتم باحساس مزدوج . أولا من اجل شىء ما يمكن أن ينقطع كما هو الحال مع العزلة . ويجب ان تكون حركته موجهة وعلى المستوى المعترف به على هذا النحو . والعزلة تعمل بقصدية ،وان لم تكن النفس واعية – بمقاطعة ليست أقل تعمدا ، موجهة الهدف والحركة الهادفة للذهن والجسم .
هى تفعل ذلك عن طريق ادخال المصطلح الالمانى الفرويدى Einschub : حرفيا " اندفع فى " شىء فى مسار الحركة للمحرك . ومع ذلك ، بما ان وظيفتها الأولية هى الوقف او الفطع والتعليق و" الادخال " ، فيمكن ان تكون فارغة من المحتوى . على سبيل المثال يمكن ان تكون فى مساحة خالية . ويجب كبح الدفع الأساسى للديناميكية ، لا شىء أكثر بل ولا شىء أقل .
مع ذلك ، لكى يكون تدخل العزلة فعالا ، يجب أن يكون لمدة معينة . ويجب أن يكون الانقطاع يتكون فى اجراء الفعل . يحدد فرويد هذا بصفة خاصة على أنه استثنائى لابقاء الأمور بعيدة بعضها عن بعض ، مع ذلك ، يجب على المرء بداية اتخاذ التحكم فى التردد . – أى القيام بنوع من الاتصال الاولى . ولكن هذا يخلق مشكلة جديدة . للموافقة على رأى فرويد ، بان العزلة مدفوعة بواحد من أقدم واكثر الأمور جوهرية العصاب الوسواسى ،والتابوهات المؤثرة على المشاعر . ويمضى فرويد فى تفسير سبب قوة هذه التابوهات :
" اذا كان لنا ان نسأل انفسنا لمذا تجنب اللمس ، ويجب ان يلعب الاتصال أو العدوى مثل هذا الدور الكبير فى العصاب ويجب أن يصبح مسألة موضوع أنظمة معقدة ، والجواب هو أن اللمس والاتصال الجسدى هما الهدف المباشر للعدوانى بالاضافة الى تركيز الطاقة النفسية لموضوع الحب . وتتصل الرغبات الايروسية لأنها تسعى الى جعل الأنا وموضوع الحب شيئا واحدا . ولكن التدمير ، ايضا ، والذى ( كان قبل اختراع الاسلحة بعيدة المدى ) لا يمكن أن يؤثر فحسب فى أماكن قريبة ، ويجب ان نفترض ان الاتصالالجسدى يأتى للسيطرة ، ولكن العزلة هى ازالة لامكانية الاتصال . وهى وسيلة لسحب الشىء من كونه ملموسا باى شكل من الأشكال " .
لا يقول فرويد صراحة لماذا أو كيف الخليط المتصارع من الرغبة الجنسية والعدوانية المتضمن فى اللمس سوف يؤدى الى العزلة ، ولكن اشارته الى الأنا توحى بوجود استجابة . فالمهمة الرئيسية للانا هى تنظيم وامكانية التنسيق بين الميول المتناقضة للنفس ،والتى وفقا لما يسميها فرويد " البنية النفسية الثانية " ، وتقع فى (”Id”) والأنا الأعلى والأنا .
ولتسقط الأنا مهمة ادخال مساع متباينة الى حد كبير لها وللانا الاعلى الى نوع من البنية الموحدة واضحة المعالم ومستقرة . " اللمس " – مع ذلك – يجسد استحالة هذه المهمة . وذلك يرمز الى ما يسميه فرويد فى مكان آخر ازدواجية أو تناقض وجود دوافع متعارضة ومتصارعة مع بعضها البعض فى نفس الوقت : المحرك الجنسى للتوحد مع الموضوع او غيره ومحرك العدوانية لذلك . وللانا طريقة واحدة للتعامل مع هذه الصراعات وتكون على وجه التحديد من خلال عزل المحركات العدوانية . فاذا امكن ان تكون هذه المحركات معزولة ومنفصلة ، فانها بذلك لاتتصارع مع بعضها البعض ولا تزعج الوظيفة التكاملية للأنا .
بمعنى ما – سوف يكون مهما لنا فيما بعد - فى عزلة الموضوع ، يقول عن الصورة أو مجموعة الصورأنها مرغوبة للأنا لأنها تعزز وحدة واستقرار الانا التى لاغنى عنها للفرد – حرفيا لاغنى عن وجود ما لا يقبل التجزئة فى جوهره .
حينما يحدث اللمس ، على النقيض من ذلك ، فان حدود هذه التجزئة يتم تسوينها بالاتصال ، ان لم يكن من خلال الصراع . وبالتالى تحاول العزلة اقامة وادامة الوضع الى فيه اللمس – اى الاتصال والصراع – يصبح مستحيلا .
لكن اذا كان السبيل الوحيد لامكانية انجاز الأنا لهذه المهمة عن طريق اجراء على حدة ، وما خلاف ذلك تكون له مشكلة خطيرة . للاجراء – ومن باب أولى –( الاجراء على حدة ) لا يزال ينطوى على الاتصال ، واللمس ، أى الالتقاء معا . ففقط بالالتقاء معا يمكن للمرء الاجراء على حدة . لكن الاجراء على حدة ليس مجرد لمس : انه لمس من أجل ارساء الاجراء والسيطرة والاصلاح فى المكان .
لكن المشكلة التى واجهتها الأنا هنا أكثر تعقيدا . اذا كان يجب أن تلمس الدوافع والرغبات والخبرات والتمثيل من أجل الاجراء بينها كل على حدة ، فلابد أن يكون ذلك لدرجة معينة يمكن لمسه من قبلها . ليس اللمس ببساطة نشاطا وتعديا ، انه سلبى بشكل حتمى فى نفس الوقت أيضا . فى لمس الآخر يكون التأثير من قبل الآخر . اللمس ( كما اشار ديدار ونانسى وغيرهما ) يعد متناقضا بالضرورة فيما بتعلق بالمعارضة والاستقطاب الناشئين عن الذات والموضوع ، والذات والآخر ، والايجابى والسلبى .
كيف أن تعامل الأنا مع هذه الازدواجيات يصبح أكثر وضوحا عندما يربطها فرويد بالفعل الذى يشكل جزءا من مرض " العصاب الوسواسى " ، ولكنه فى الواقع هو العامل الرئيسى فى المزاج المسمى بالعادى أو بالطبيعى والتفكير والسلوك العقلانى .
توفر الظاهرة العادية للتركيز ذريعة لهذا النوع من الاجراء العصابى : وما يبدو هاما لنا فى طريقة انطباعنا أو نموذجا للعمل يجب ألا يتم التدخل به خلال المطالبات المتزامنة مع أى عمليات أو انشطة عقلية أخرى . ولكن الشخص العادى بستخدم التركيز لاستبعاد ليس فقط غير ذى الصلة أو غير المهم ، بل – قبل كل شىء – ما يعد غير مناسب لأنه متناقض .
انه منزعج من تللك العناصر التى كانت تنتمى معا ولكن تم تمزيقها فى سياق عملية التطور – كما على سبيل المثال – فى ازدواجية عقدة الأب فى علاقته بالله .. وهكذا . فى السياق العادى للأشياء يكون للأنا قدرا كبيرا من العمل المنعزل للقيام بوظيفتها لتوجيه مسار ( تيار ) الفكر .
بقدر ماتتمثل الوظيفة المهمة فى توجيه تيار الفكر ، فانه يجب أولا تحديد الهدف فى موضع مستقر ومغلق ذاتيا تجاه أى" تيار " ، ومن ثم يمكن توجيهه . عملية تحديد هذا الهدف – " التركيز " يستلزم بالنسبة لفرويد ليس نشاطا ايجابيا فحسب لتحديد المكان أو الموضوع بل – فى نفس الوقت – يستلزم استقرار المكان . وبالتالى يؤثر التركيز فى موضوعه ، ولكن بما ان هذا الموضوع يقع منذ البداية فى مجال القوى المتصارعة للرغبات والدوافع ، فانه يستطيع فحسب البقاء فى المكان والاحتفاظ ببقائه اكثر من ذلك عن طريق فصله عن التداعيات غير المتجانسة التى تشكلها وتحددها بشكل جزئى .
بالتالى يكون تركيز المؤثرات على نحو متضاعف ، يتطلب عاملين – كما كانا – واذا كان الاجراء الذى يعنى أيضا " عزل " ما ينتميان أصلا معا وما يفترض تركه للالياتهاالخاصة الباقية معا ، وان كانت فى صراع مع بعضها البعض .
لكن التركيز يكون غالبا على النشاط المعرفى . فيركز المرء على شىء ما من أجل ملاحظته بشكل أفضل والتعرف عليه بشكل نهائى . بقدر ما تكون عملية التركيز مفهومة كعملية معرفية ، فانها تختبر باعتبارها عملية " عقلية " بدلا من اعتبارها عملية مادية متضمنة للجسد . اذا لمس التركيز موضوعه ، فان هذا يفهم بشكل عام بانه مجرد وسيلة مجازية لوصف علاقته بالموضوع التى تتجاوز القيود الجسدية للتحديد الزمانى المكانى . وبالنسبة للتركيز فانه يسعى الى أن يكون مركزا على الموضوع فى حد ذاته ، بصرف النظر عن تباينات الزمان والمكان .
كما سمعت او قرأت تماما ، يستعمل غالبا فى اللغة الانجليزية – بل وأيضا فى لغات أخرى -مرادف كلمة " تركيز concentration " وهو كلمة " تركيز focusing " . للتركيز على موضوع يميل الى تفسير هذا الجانب من التركيز بالاشارة الى التصور البصرى . الا أن هذه الاشارة معقولة فحسب بقدر ما تخبر به من خلال الخبرة البصرية التى تتشكل ثقافيا وتاريخيا وبالتالى فهى نسبية وليست عامة ( شاملة ) .
تميل هذه الخبرة – مع ذلك – الى اعتبار نفسها بالضبط على أنها عامة وموضوعية ، وذلك لأسباب داخلية فى جزء منها . لذلك يتشكل فى المساواة مزاج واحد محدد للرؤية مع الخبرة البصرية نفسها . ويتشكل هذا الوضع المحدد فى تفسير الادراك باعتباره فى الأساس صيغة الاعتراف بالموضوعات المفسرة باعتبارها مكتفية بذاتها وذات مغزى .
هذا التصور الموجه لموضوع الادراك البصرى يقسم مجال الرؤية الى شكل وسبب ، ودون تشكيك كيف يكون هذا المجال فقط هو المحدد فى المقام الأول . بعبارة أخرى يؤخذ تأطير مجال الرؤية كأمر مسلم به ، بالنسبة لما هو مقدم ، حتى يتسنى للرؤية فى حد ذاتها امكانية التفسير بالمصطلحات للتفرقة بين " الشكل والسبب" .
يعرف هذا التعرض فى الفرنسية باعتباره تعارضا بين الشكل والجوهر أو صلب الموضوع . انا أذكر هذا من أجل ادخال كلمتين ومفهومين واكبتا موضوعنا فى هذا المؤتمر ، وهما " الشكل والمظهر" ، هذان المفهومان قد لا يغطيان المجال الكامل لعلم الجمال . ولكنهما بالتأكيد يقدمان التفسير وثيق الصلة بالفن واجمال فى التقليد الغربى .
الشكل ، كما كتب "كانط " فى كتابه - نقد ملكة الحكم – حيث يلعب المفهوم دورا حاسما على الرغم من عدم بلورته حقا –والشكل يتشكل عبر التوليف الموحد للمتشعب ( للمتعدد ) فى تفرده ، اى ،دون اللجوء الى المفهوم العام الذى لاغنى عنه بشكل عام ،وسيكون خارجا عن التجربة الجمالية بقدر ما وبالنسبة لكانط على الأقل هذا لا يمكن فصله عن المواجهة الفريدة والتمثيل .
على الرغم من اصراره على تفردها ( أى المواجهة ) ، فان تفسير كانط يتميز عن سابقيه المرموقيين مثل " بومجارتن " وفنكلمان Winckelmann " ، فقد احتفظ بفكرة الشكل وحاول التفيق بين ذلك والطابع الفريد للحكم الجمالى .
احدى النقاط المحددة التى تفصل بين " كانط " واسلافه لها علاقة بمغزى الجسم البشرى باعتباره موضعا للمثل الأعلى للجمال . وفى حين يصر " فينكلمان " على الصفات الجمالية للجسم البشرى باعتبارها موضوع تمثيل ، وخاصة فى النحت اليونانى ، رفض كانط هذه الميزة الجمالية للجسد الانسانى – على وجه التحديد – لأن من شأنه فرض المثل الاعلى للجمال الموضوعى على ما يجب أن يظل خبرة فريدة وذاتية .
هذا هو السبب فى اخضاع كانط العمل الفنى – أى الجمال الفنى – للجمال الطبيعى أيضا : ليس بسبب تفضيله المناظر الطبيعية للناس ، بل لانه اراد الحفاظ على حماية تفرد المواجهة الجمالية من التلوث باى نوع من التعميم المفاهيمى . وهذا من شأنه أن تكون الحالة بالضرورة فى المواجهة مع الجمال الفنى ، حيث أن الأخير يجب أن يكون مفهوما دائما باعتباره تحقيقا لقصد مسبق والذى فى حد ذاته سيكون ذا طابع عام أو قابلا لتعميم .
دون أن نتمكن من مناقشة هذه المسألة بمزيد من التفصيل هنا ، يكفى ان نقول بأنه عند كانط تميل فكرة " الشكل او النموذج " الى الانهيار فى مواجهة اصراره على تفرد المواجهة الجمالية – وانه لهذا السبب كان كانط يستطيع أن يراها على أنها تدشين تقليد حديث متميز لعلم الجمال ، وفى حين كان يسعى الى استمرار مزاعمها الكلاسيكية للتوحيد والهارمونية ، فتح باب علم الجمال للصراع والنزاع .
لم يكن " بنيامين " و هايدجر " و " دريدا " سوى بعض المفكرين الذين قرأوا " كانط " ضد طابع قصده الخاص ، ربما باعتباره مفكرا ذا مشكلات وصراعات لم تحل بدلا من كونه مفكرا ذا أسس راسخة .
عرفت ما قبل وما بعد الكانطية الجسم البشرى باعتباره مثالا للموضوع الجمالى ، والاجساد بوصفها ذات تاريخ طويل وان كان لا يمكن كشفه هنا باى تفصيل . ويجب أن يتم ذكرها مع ذلك ، لأنها لا تزال – وانا اود ا أقول – الشرط الضمنى لكثير مما يسمى " بالارهاب " اليوم . ويكفى ان اقول بأن الكثير من قوتها الانفعالية يرتكز على تقليد عام يسترشد باللاهوت المسيحى ، الذى بالنسبة له يعد النوع البشرى موضعا للمعاناة الأكثر تطرفا وعنفا ، وحتى الآن بسبب هذا ، امكانية القيام أو البعث . والمستمدة من تقرير الكتاب المقدس بأن البشر خلقوا على صورة خالقهم ، ومن اقرار المسيحى بالصلب وقيامة ابن الله ، وقد ظهر فى شكل جسم انسان كموضع للمعاناة والخلاص ، وغالبا يكون التصالح عبر فكرة الاستشهاد .
ما أود الاشارة اليه هو أنه على الرغم من ان هذه الامكانية الخلاصية مرتبطة بشكل خاص بجسم الانسان وهذا يوفر وفقا لذلك الأساس الذى يستند عليه تفسير جميع الأجسام والمجموعات الأخرى . بعبارة اخرى يميز النموذج الجمالى الذى يخدم بدوره كمعيار لكيفية فهم الواقع او كيف ينبغى فهمه . ببساطة ، وبالتأكيد ببساطة للغاية ، اذا نظرنا الى الكون باعتباره خلقا للاله مطابق لذاته بشكل حصرى ، حينئذ تكون كل جوانب هذا الكون ذات معنى وقيمة بقدر ما تعكس عملية منشئها او اصلها .
وبالتالى تفهم الموضوعات الجمالية باعتبارها منتجات للابداع ( للخلق ) ، وهى كلمة تستخدم غالبا فى سياق علمانى ، ولكن مع احتفاظها بالبنية اللاهوتية التى تم اشتقاقها منها . تستمد المخلوقات حياتها من خالقها . وتستمد الموضوعات الفنية قيمتها من مبدعها الفنى – الفنان . ووفقا لهذا النموذج تستمد المخلوقات وجودها بقدر ما هذا الوجود يعد انتاجا للقصد الأصلى .
هذا الموقف الذى يظهر وجهات النظر المسيحية الاصولية للكون باعتباره نتاج " التصميم الذكى" ، بدلا من كونها عملية متوقفة على مصادفة التطور . حقيقة ان العلم المعاصر يؤكد على نحو متزايد على المصادفة ، ليس فى النظرية التطورية فحسب ، بل وفى ميكانيكا الكوانتم ايضا – فعلى سبيل المثال – وبعيدا عن التخلص من المفاهيم اللاهوتية والغائية للواقع ، يمكن – كما نرى – فى الواقع – اثارتها وترويجها باعتبارها رد فعل على وجهة نظر عالمية تقدم القليل من العزاء والسلوى من المخاوف والمعاناة فى الحياة اليومية .
ترتيط المفاهيم الجمالية العلمانية ظاهربا من حيث الشكل والمظهر تقليديا مع هذه النظرة الغائية للعالم ، حتى عندما تسعى – كما هو الحال – لدى كانط لاتخاذ مسافات من ذلك . فصيغة كانط الشهيرة " باعتباره غائية بلا غاية " يعكس هذا الرابط حتى عندما يجعله ذاتيا .
لكن لماذا يساعد مفهوما " التصميم الذكى " – و"الاعتقاد فى نوع من القصد المتعالى السائد فى العالم بشكل عام " – على تهدئة هذه المخاوف والقلق ، وبالتالى الاستمرار فى فرض نفسيهما – على الأقل فى الولايات المتحدة – فى مواجهة المعارضة شبه العالمية للمؤسسة الفكرية والعلمية ؟ . ربما لان المفهومين ذاتهما " قصد " و " تصميم " يعنيان التغلب على الشكوك وان التجربة الزمانية – المكانية وما يترتب عليها بالنسبة للكائنات الحية حتما ، والعلم المعاصر ، وعلى نحو متزايد للغالبية منهم ( مثل الظروف الاجتماعية والاقتصادية للحياة للحياة اصبحت غير مؤكدة على نحو متزايد ، وخاصة ما يسمى بالدول المتقدمة ) .
يمكن تحقيق خطة أو مشروع ضمنا بمفهومى التصميم والقصد كما يجسدان القدرة على التغلب على هذه المخاوف والقلق ، وخاصة حينما كانت الوسائط التقليدية للبقاء على قيد الحياة من العمل تبدو غير مؤكدة الى حد كبير . التوتر فى الثقافات التى أبلغت ( استنارت ) من خلال " الحق فى الحياة ، والحرية والسعى لتحقيق السعادة " من جهة ، وحقيقة كل الظروف المحفوفة بالمخاطر اكثر من أى وقت مضى وبموجبها يجب أن تعاش الحياة ، وتنتج زيادة الرغبة فى أنظمة الاعتقاد التى يبدو انها تكفل مالم يعد المجتمع يقوم به .
جماليات الشكل والمظهر ؛ وجماليات التمثيل – تبدأ هنا العلاقة بموضوعنا الخاص الذى نامل فى ظهرره – تستطيع الاستجابة لهذه الرغبة ، وخصوصا عندما تعمل تلك الجماليات باعتبارها نموذجا يتم وفقا له تفسير الواقع وتصوره . وهو ما أسماه " كارل شميث " – فى عشرينيات القرن العشرين – ( فى كتابه المختصر الكاثوليكية الرومانية والشكل السياسى ) – " مبدأ التمثيل " والذى حدد فيه المغزى السياسى المميز وسلطة الكنيسة الكاثوليكية ، والهيمنة على وسائل الاعلام اليوم ، وفى الولاياتا المتحدة ، بل وفى أجزاء اخرى من العالم .
لقد رأى " شميث " مبدأ التمثيل متجسدا فى الصلب ، والذى وعد فيه الجسد البشرى ببشرى القيامة عبر المعاناة ، ويقدم رؤية لعالم يمكن أن يظهر الرعب والارهاب فيه باعتبارهما مسارين لازمين للخلاص . هذا لا يعنى القول بأن هذا التاثير هو الوحيد الذى يعد تمثيلا قربانيا يمكن تقديمه ، ولكن فقط هذا التقليد العريق يسعى الى البرهان على العلاقة بين الموت عقابا والخلاص عبر التضحية .
من خلال شكل معين من " التمثيل " باعتباره تشكيلا للنموذج وفى نفس الوقت باعتباه تجاوزا له . يمكن لهذه العملية الخلاصية ان تتجسد – كما كانت – فى العالم الذى تعتبر المحدودية فيه عقوبة على الخطيئة . وبالتالى يعيد التمثيل عرض ما لا يمكن الوصول اليه مباشرة ؛ فهو يجعل اللامرئى مرئيا ، وما لا يمكن تصوره حيا . وأود ان اضيف انه بالنسبة لشميث ليس مبدا التمثيل بهذا المعنى جماليا فى المقام الاول . بل يعد مبدآ قانونيا . ليس صيغة جمالية ، بل هو الشكلية القانوتية التى تتوقع المرور أو بالأحرى القفز من المتناهى الى اللامتناهى ، ومن البشرى الى الخالد .
لكن يمكن تطبيق هذه الحجة ايضا باستخدام أشكال ومظاهر جمالية ، خاصة عندما لا يكون المقصود تصوير الجمال على هذا النحو ، بل تصوير الواقع . اذا تتبع المرء الحجة السابقة القائلة بان جسم الانسان الفرد يعد مقدسا ويبلغ تصور الواقع على هذا النحو ، ومن ثم فان استخدام الصور لا يمكن ا ن يكون اقل فاعلية من الشكلية القانونية فى توفير نظام للاعتقاد يزعم بربط المتناهى مع اللامتناهى .
تركيز " شميث " على الشكلية القانونية على الجانب الآخر من الصيغة الجمالية فى رسم الخطوط العريضة لمبدأ التمثيل يعمل بالتأكيد على التجريد الوحانى لمثل هذه الصيغة ، وعلى النقيض من ذلك مع الطبيعة المادية للجمالى . ولكن بسبب علاقتها الحميمية – على وجه التحديد – بالفرد الجسدى ، يمكن للصور تصوير وابراز الوعد المطمئن بالخلاص الذاتى للأ ضحية .
من المؤكد أن مثل هذا التشكيل يحتفظ بعنصر الغموض وعدم اليقين دائما وبالنظر الى زعمه بالتجاوز فانه يرتبط بالضرورة بتمثيل الجوهر . وهنا ربما تدخل وظيفة الغيمة - او بالأحرى الغيوم فى الصورة لأنه تكاد توجد هناك أكثر من غيمة واحدة . أو بالاحرى وحدة الغيمة ليست مستقرة أو مضمونة . هى جزء مما يسمح له بالظهور لسد فجوة بين عالم الفضاء والزمن المحدودين – عالم المظهر وما وراءه .
هذا هو السبب فى أن الغيوم أحيانا تبدو لاخفاء شىء من قبيل السر ، وحتى العنف المحدد الذى يمكن ان يكون مرعبا ومواسيا فى نفس الوقت . وفى الوقت المتبقى اود أن القى نظرة على اثنتين مختلفتين ، وحتى الآن لا علاقة لهما بالغيوم وفيهما جمالية محددة تتطابق مع الارهاب والعقيدة الارهابية ، وان كان ذلك بطرق متباينة جدا وفى لحظات تاريخية مختلفة للغاية .
( 2 )
المثال الأول موجود فى فيلم يرجع تاريخه الى عام 1934 . اننى اتحدث عن المشهد الافتتاحى لفيلم ل" لينى ريفنستال Leni Riefenstah " "1" ( انتصار الارادة Triumph of the Will ) الذى وثق التجمع الحاشد للحزب النازى فى ذلك العام والمنعقد فى " نورمبرج " . ومن ثم هنا بدون مزيد من الضجة ، يعد المشهد الافتتاحى لهذا الفيلم :
فيلم " ريفنستال Riefenstahl " الى جانب فيلم " أولمبياد Olympiade " الذى انتج بعد عامين فى دورة الالعاب الاوليمبية فى برلين فى عام 1934 ، والمتميزان عالميا والمصنفان على أنهما من أفلام الدعاية . وقد رفضت رينفستال نفسها هذا التصنيف ، مشيرة الى ان ليس فى أفلامها ( منعا للتعبير ) والقول للمشاهدين ما ينبغى عليهم ان يفكروا فيه او كيفية الاستجابة . كانت هناك مجرد صور وأصوات لما يجرى تصويره مصحوبا بالتأليف الموسيقى . والآن كان صحيحا ان الموسيقى المصاحبة تسهم بقوة فى انتاج الأجواء ، وتؤثر بصورة عميقة – فى الواقع غالبا - ماتملى الطرية التى تفهم بها الصورة من قبل المشاهد .
تأثير مثل هذه الموسيقى المصاحبة يصبح اكثر فعالية لمرورها تحت مراقبة رادارية لدينا ؛ ونحن نكون بصفة عامة أقل وعيا بكثير فى الموسيقى مما نكونه فى حالة الخطب الملقاة . كل هذا كان فى عمل ربفنسفال للفيلم ، وخاصة فى تتابع الافتتاحية . ومع ذلك يبقى أن الاصوات التى سمعت فى الفيلم هى آراء المشاركين : خطب هتلر ، و " هيس " والمسئولين النازيين الآخرين ، فقد أخرج الفيلم بعناية . وهذا يعنى ان ، العنصر الدعائى فى الفيلم يتكون من الصور والأصوات ، عوضا عن الصوت غير المنظور والمتعالى الذى يخبر المشاهدين بما تعنيه الصور والاصوات حقا .
بيد أن هنا استثناءا جزئيا لهذه القاعدة ويتعلق الأمر بالبداية ، فى ( مقدمة الفيلم ) فقد كانت باعتبارها مقدمة وتأطيرا للفيلم . هذا المصلح الانجليزى (credits ) لا يكاد يعادل المصطلح الألمانى (Vorspann ) وما يعرف بالفرنسية ب (générique ) وهذا الأخير هو الأفضل لانه على الرغم من وظيفته النفعية – الا أنه من كلام الشعب - الناس gens – الذين يشاركون فى الفيلم ، وتشير الكلمة ايضا الى ما يأتى قبل الفيلم ، بمعنى معين يولد الفيلم من خلال تأطير السياق الذى يكون فيه القصد من المشاهدة .
على الرغم من أن ( المقدمة التى تحتوى على اسماء الممثلين ) لا تنطوى على الصوت ، فمازال استخدام الكتابة والنقوش – فى الواقع من الطباعة – من أجل اعداد المشهد . يبدأ الفيلم بشكل ملحوظ ، ليس مع الصورة ، بل مع نفى الصورة والرؤية ، مع شاشة سوداء ، والتى يمكن تفسيرها باعتبارها تمثيلا لليل او الظلام .
وطوال الفيلم تستمر لعبة الضوء والظلمة ، وظهور احدهما من الآخر ومروره فى الآخر ، وسوف تتحول هذه اللعبة الى أن تكون احدى السمات المميزة والملحوظة . لكن الظلام والشاشة السوداء لا يستمران طويلا . انهما توظفان باعتبارهام التباين والانتقال الى ما هو آت .
بعد ثانية أو بعد ثانيتين ينقشع الظلام ببطء ويسمح للصورة بالظهور تدريجيا : يظهر نسر منحوت من الحجر جاثم على شىء فى البداية ، والتى يصعب التعرف عليه فى البدء ، ولكن فى الثوانى التالية تظلل الخلفية مكونة سحبا مضيئة تتحرك فى السماء . وبالتالى فان هذه الغيوم لا تجعل البصر مشوشا بل توفر خلفية مشرقة تنطلق منها الأشكال الضخمة لنسر جاثم على اكليل من الزهور ، التى تحيط الرمز النازى بامتياز : الصليب المعقوف .
يواجه المشاهد فى هذه الثوانى الأولى بالفعل مجموعة من التناقضات التى سوف تسود الفيلم ككل : بين الظلام والضوء والتوقف والحركة والمرئى واللامرثى ، من هذه التناقضات ، التناقض بين التوقف والحركة التى ربما تكون أكثر اهمية ، لانه مفترض مسبقا ( اى التناقض ) من قبل الآخرين . الاجتماع الذى صورته ريفنستال كفبلم ليس لمجرد حزب سياسى ، بل لما تشير الى نفسها باعتباره " حركة Bewegung " .
ريفنستال الى أكدت على انها عرضت لقطة السفر لفيلم وثائقى ، وكانت - على اى حال - تدرك أهمية الحركة تماما ، وحقيقة أن مثل هذه الحركة – بالنسبة لها – تشمل الكاميرا والمشاهد . وقد صممت أفلامها على " تحريك " مشاهديها ، ولقيامها بذلك فانها تصور أنواعا معينة من الحركة من منظور كثير التنقل .
هذه العلاقة بين الحركة والتوقف ، وبين التغير والبقاء ، ويتخلل الفيلم ايضا ما يظهر ذلك فى الطريقة التى تتحرك بها الكاميرا نفسها ، وفى خطب المشاركين . ولكن كل هذه الحركة مؤطرة من البداية بالطريقة التى تتطور بها المقدمة .
يتكون هذا التأطير التمهيدى من ثلاثة اقسام ، استمرت لنحو ثلاث ثوان لكل منها ويفصل بينها تلاشى العموميات . اول ما وصفناه للتو : هو ما ينطلق من الشاشة السوداء والتى تضىء تدريجيا ، ويظهر النسر على الاكليل مؤطرا بالصليب المعقوف ، ثم ننزل تدريجيا الى العنوان : " انتصار الارادة " .
تبدو النقوش كلها منحوتة من الحجر فى زخرفة على الجدار ، مكونة مجموعات مربعة كبيرة . والنقوش فى حروف شبه قوطية ، وقد شدد على الأهمية النسبية لها من خلال الظلال الملقاة على الجدار الذى حمل النقوش . مفهوم " رايخ ألف عام " بالرغم من أن لا مكان لذكره صراحة ، قد أوحى به من خلال حروف الحجر الضخمة .
فى الواقع هناك نوعان من التلاشى فى القسم الأول ، تلاشى صورة فى صورة أخرى ، والقيام بالتحول المستمر . والتلاشى فى الشاشة السوداء الذى يفصل الأقسام عن بعضها البعض . هذا التلاشى الى الأسود يمكن أن يفسر على أنه اقحم للفاصل الزمنى المطلوب لفصل العناصر الفردية عن بعضها البعض . ترتبط الصور – بطبيعة الحال – وبالتالى لا تنعزل ، ولكن التلاشى يعطى كل جزء منها الاستقلال النسبى . كل صورة منقوشة بحروف على الحجر تهدف الى الصمود امام اختبار الزمن وقد صممت هذه الصور منذ البدء لكى تدوم .
هذا البعد الزمنى لم يظهر بوضوح فى القسمين الثانى والثالث من هذا التتابع التمهيدى ، وكل منهما يكشف تاريخا معينا . اولا ان الفيلم نفسه كان يطلق عليه انه " وثيقة " عندما ظهر الى حيز الوجود بناءا على طلب من " الفوهرر " وهو ما يعطى الوثيقة شرفا خاصا وتقريبا فيما يتعلق بما يتم تصويره .
لكن الصورة التالية تعلن أن الفيلم نفسه تم تشكيله من " لينى ريفنستال " . يستخدم العنوان الفرعى الانجليزى كلمة مألوفة للغاية " ابدع / خلق “created " ، لكن العنوان الألمانى اكثر دقة وتحديدا : " صممته ريفنستال Gestaltet von Leni Riefenstahl " . وكلمة Gestalt مهمة لانه تنطوى على الخلق من العدم ، بدلا من التشكيل الذى يعطى الشكل والمظهر للمادة الموجودة فعلا .
لقد كتب الكثير عن مفهوم الجشطالت وخاصة فى أعقاب " هايدجر " الذى راى فى المصطلح العنصر الجمالى الأساسى المساهم فى التغاضى الميتافيزيقى عن الفرق الانطولوجى بين الوجود والكينونة .فبالنسبة ل " هايدجر " تشير الكلمة الى شىء يتكون بشكل مستقل عن الزمن والتاريخ ، وما يمكن ان يحدد مسارهما على حد سواء . مثل نفس الادعاء قد تم النص عليه فى كتابة مثل هذا النقش على الحجر لهذه المقدمة التى تسعى الى الاعتماد على فكرة العنوان والاسم الذى لا يتأثر بتغير الزمن من خلال المساهمة فى مجرى التاريخ .
الشاشات الأربع التى تشكل هذا القسم الثالث والأخير لادخال التسلسل التاريخى الذى يوثقه الفيلم والاحداث ، من خلال تسلسل تاريخى يبدأ من 5 سبتمبر فى عام 1934 ، اليوم الاول لمؤتمر الحزب . وقد استوعب هايدجر مفهوم الجشطالت فى التقليد الميتاقيزيقى الذى يفسر الوجود قبل كل شىء فى صيغة المفرد الغائب الدال على الحاضر ، مختزلا مصادره الى الوجود الذاتى المجرد ل " يكون is " . تاريخ ريفنستال يؤكد الاختزال من خلال موضعة اللحظة التى بدا فيها مؤتمر الحزب ، وفيما يتعلق بالسوابق التاريخية .
اول هذه التواريخ هى اللحظة الراهنة كما جاءت بعد 20 عاما على اندلاع الحرب العالمية الاولى ، والتاريخ الثانى يحدده الاجتماع بعد 16 عاما من معاناة ألمانيا ( اى بعد معاهدة فرساى ) . واخيرا كما لو انه يشير الى تسارع الزمن التاريخى ، وتغير السنوات الى أشهر – 19 شهرا بعد الولادة الجديدة لالمانيا ( تميزت بالتحول الى المرافقة الموسيقية لضجة آلات النفخ النحاسية الفاجنرية ) – اى 19 شهرا بعد تسمية "هتلر " مستشارا فى 30 يناير 1933 ، ووصول هتلر على متن طائرة فى " نورمبرج " .
قبل أن نشرع فى هذا التسلسل ، تجدر الاشارة - مع ذلك – الى أن التقسيم الثلاثى للعملية التاريخية التى سبقت مؤتمر الحزب 1934 يمكن مقارنتها بشكل مفيد برواية الخلاص المسيحى ( سرد الخلاص Heilsgeschichte ) . اذا كان هذا الاخير يتكون من خلق الاول ، ومن ثم الاخفاق ، واخيرا الفداء ، فالتاريخ الألمانى فى القرن العشرين كما اعلن فى هذا الفيلم يتبع نمطا مماثلا ، مع التغيرات العديدة : التى تلقى الضوء على بدلا من خلق العالم هناك توجد الحرب العالمبة الاولى وبدلا من الاخفاق او السقوط ، توجد الهزيمة ( والمعاناة ) ، واخيرا فى مكان القيامة من خلال تضحية المسيح ، توجد ولادة جديدة من خلال وصول الفوهرر وحزبه للسلطة .
ما تقاسمه الفيلم مع سرد الخلاص المسيحى هو فكرة السقوط المؤدية للخلاص والبعث ،وكذلك التركيز على الشخصية المسيحية الفردية كعامل أساسى بعملية الخلاص . ويتم اخذ مكان التأكيد المسيحى على الأعمال الخيرية – ومع ذلك – من خلال التزام صريح وتمجيد الصراع والسلطة . ومن هنا تأتى اهمية العسكرة . للانتصار ، لم يتطلب النازى شيئا اكثر ولا أقل من عسكرة الجماهير ، وكما سنرى ، تتضمن صياغتهم فى كتلة واحدة وبزى موحد لتصبح تشكيلة ضخمة .
هذا كان متضمنا بالفعل فى اسلوب النقش ( الكتابة ) الذى نوقش سابقا : وهذا يتشكل – بالمعنى الحرفى فى الكلمة الألمانية " Blockschrift " ، كتابة مكونة من كتل حجرية . " كتابة على الحجر " التعبير الالمانى الذى يحدد شيئا وجد ليكون ثابتا . وهذا ما يعد على المحك هنا بالضبط . ويصبح الخلاص المسيحى ثباتا سياسيا ووطنيا . وهذا لايستبعد التغيير – للتأكيد – بل يستوعبه ويستعمله كوسيلة .
مع ذلك ، هناك نقطة ثانية اقترح فيها السرد التاريخى فى البداية مما يختلف عن أصول المسيحية . سوف لا يحدث الخلاص أساسا فى السماء ، بل بالأحرى سيتم هنا على الأرض .
وسوف يحدث هنا والآن ، فى يوم محدد، والذى يصادف التاريخ الرابع والاخير فى التسلسل وايضا الانتقال من التمهيد الى الفيلم الخاص : الخامس من سبتمبر 1934 ، وهو اليوم الذى يبدأ فيه الفيلم ، واليوم نقرأ – فى الماضى مثل هذا النقش – الذى فيه طار اودلف هتلر مرة أخرى الى نورمبرج لحشد المؤمنين لاجراء عرض عسكرى لأتباعه - مع الفكرة السياسية " حشد Heerschau " مرة اخرى – " حرفيا مراجعة وتفقد القوات " .
رحلة هتلر الى نورمبرج – بالنسبة للجميع يعد وجودها بالغ الأهمية – وهى مصممة فى النقش السابق باعتبارها العودة ،وهذه العودة هى المرة الثانية لهتلر ، وقد ذهبت "ريفنستال " الى مؤتمر الحزب فى نورمبرج . وقبل عام كانت " لينى ريفنستال " تصور فعلا مؤتمر الحزب عام 1933 هناك ، والذى انطلق تحت شعار " انتصار الايمان Triumph des Glaubens " . لذا فانه فى المرة التالية – مع ذلك – قد وضعت كلمة الارادة مكان كلمة الايمان ، وذلك بمعنى خاص للغاية .
من مدة شهرين فقط قبل ذلك ، بقطع رءوس الجزء الأكبر والاكثر اخلاصا والاقدم فى الحزب النازى الذى خدم باعتباره الجناح العسكرى طوال صراعه من أجل السلطة ، و (SA )"2" والذى يعرف باسم " ليلة السكاكين الطويلة " . ولكن ما ان اشار النازيون أنفسهم الى ما يعرف ب " تطهير روم " . "ارنست روم "رئيس ال (SA ) ممثل الجناح الراديكالى الاشتراكى للحزب الاشتراكى الوطنى ، كان الاستيلاء على السلطة بالنسبة له يعنى الاستيلاء على مؤسسة واسعة النطاق مناهضة للرأسمالية من خلال الاصلاحات الاشتراكية .
باختصار ، كانت الثورة الاشتراكية الوطنية – بالنسبة لروم – قد بدات فقط ، فى حين أنه بالنسبة لهتلر كان من المحتم تطبيع واستقرارالحزب لكى يستطيع تعزيز سلطته بمساعدة "رايسوهر Reichswehr " وبارونات الصناعة والمالية الالمان فى عام 1934 ، وبالتالى كان انتصار الارادة يعنى أيضا انتصار ( SS )"3" على (SA ) او انتصار " هيملر " على " روم " ونظرا للدور التاريخى الذى لعبته (SA ) روم فى صعود الحزب النازى للسلطة ، ومسالة ان من كانوا مخاصين حقا – هم " الأنصار Getreuen " وقد كان من وضع ذلك فى اعتبار الجميع .
عودة الفوهرر الى نورمبرج حينئذ كانت اللحظة التى قال فيها انه سوف ( يحشد قواته ) ليظهر بأن الحشد يؤكد انه لايزال يسيطر على ولاء أربعة ملايين – الأعضاء فى (SA ) - التى كان قد قضى على قائدها قبل شهرين بالكاد . وكانت لحظة الميلاد الجديد يمكن أن تفهم أيضا على أنها الاحتفال بالقضاء على الجناح الثورى الاشتراكى البروليتارى للحزب النازى ، الذى يواجه الآن مهمة تعزيز سلطته بمساعدة من الصناعة الألمانية ومؤسسات ألمانيا العسكرية .
لا شك ان مشاهدة الفيلم اليوم لا تظهر شيئا من هذه الخلفية المرئية على الفور من الصور والاصوات التى قدمتها " ريفنستال " فى فيلمها على الرغم من انه تمت عدة تلميحات لهذه الأحداث فى خطب هتلر وموظفى الحزب . لكن الظلال والغيوم التى يطير خلالها هتلر فى رحلته الى نورمبرج تشير الى مخاطر تم السعى مؤخرا للتغلب عليها أيضا . لا شىء من هذا يبدو واضحا ، ولكن فى السياق الأصلى الذى تم فيه الفيلم تتوافر خلفية تجاه الصور التى تمت رؤيتها وسمعت الاصوات المصاحبة لها .
وهذا هو السبب أيضا فى أن الغيوم التى أحاطت بداية الطائرة فى طيرانها والى هذا ينحدر البصر من السماء الى الأرض فى الاسفل ، وفى النهاية عبرت وسمحت لاسطح المنازل فى المدينة أن تكون فى مجال الرؤية . الطائرة هى نتاج التكنولوجيا واداة السلطة معا ، وربما كان هذا السبب فى أن ريفنستال قد ضمنت الطائرة فى الصور والأصوات .
يقدم الفيلم والرؤية الممكن سياسيا بالاضافة الى ما يعد تكنولوجيا ، من خلال سلطة وسائل النقل الجديدة نسبيا ، والتى تمثل جزءا من نفس التطور التكنولوجى كما هو الحال فى كاميرا الفيلم نفسها . يمكن رؤية التسجيلات التكنولوجية وآلات النقل باعتبارها التعالى وقد انزل الى الأرض . وهذا هو السبب فى أن ريفنستال تدعى باعتزاز انها أدخلت لقطة الرحلة فى فيلم وثائقى . فلا تكفى لحركة الفيلم أو التصويرالصور المتحركة ؛ بل يجب على الكاميرا نفسها ان تتحرك (على الرغم من أنها تتحرك بطريقة مختلفة جدا عن الرجل مع كاميرا السينما ) .
بعد المضى عبر الغيوم ، الطائرة والكاميرا تنزلان ببطء ، ولفترة وجيزة يفقد النظر السماء قبل أن تظهر فجأة أسطح نورمبرج فى الاسفل . وقد وفرت الغيوم الاطمئنان والغطاء الواقى للنزول من السماء الى الارض . تظهر ابراج الكاتدرائية ومن ثم القلعة وشعارات الكنيسة والدولة الحديثة والمتناقضة مع الظلام ، والأشكال غير المكتملة من جسم الطائرة وقد أمعنا النظر فيها .
باعتبار الطائرة تهبط الى أسفل وتفاصيل اسطح المنازل تظهر بوضوح أكثر ، والموسيقى المصاحبة الهادئة التى تهيمن عليها الالآلات الوترية ، تحل محلها فجاة آلات النفخ النحاسية عازفة لموسيقى ( أغنية هورست فيسيل )"4" ونشيد الجزب النازى . وقد سميت الاغنية بعد أن ألفها عضو فى ( SA ) والذى قتل فى معارك الشوارع مع الجبهة الحمرا الشيوعية . بينما يسمع صوت هذه الأغنية ، ينتقل المشهد من المنازل الى كتل من الناس يسيرون فى الشوارع ، وهى صورة اصداء الأسطر الأولى من الأغنية . " مع اعلام مرفوعة ومرتبة فى تشكيل ضيق ، و (SA ) فى زحف مع خطوات باسلة " .
تشكيل هذا الترتيب مغلق باحكام ، وعلى حد ماتقوله العبارة الألمانية حرفيا ( صفوف اغلقت بحزم die Reihen fest geschlossen ) وهى تلخص جانبا واحدا من الصورة المرئية فىهذا الفيلم والتى تذكر باعتبارها السمة المميزة لتصوير الفاشية . ما أود أن أشير اليه – مع ذلك – فى سياق مؤتمرنا ، هو وجود علاقة بين التركيز الفاشى والنازى على الوحدة والاتساق والتجانس ، وما عرفه " كانط " على أنه "العنصر الشكلى " فى الحكم الجمالى ، حيث أشار الى انه يتكون فى " توحيد المتشعب ( او المتعدد ) " . وحشد كتل المتظاهرين سواء كانوا مدنيين او من الجيش ، يخلق الوحدة الموجودة فغلا ، وأنا أود أن اجادل فى ما تنطوى عليه المفاهيم الجمالية التقليدية للشكل والمظهر (الجشطالت ) .
الجشطالت بمعناها الحرفى ما "يوضع فى المكان set-in-place is " . لوضع شىء فى مكان م يتطلب بداية ( حركة الاعداد ) ومكانا مستقرا لكى يستقر فيه الاعداد . الى المدى الذى يتم فيه الوضع فى المكان يعتبر قد شكل بشكل مستقل عن عملية الاعداد بصفة عامة ، ويمكن أن يصبح نموذجا أو مثالا لمفهوم الهوية الذاتية التى يمكن تطبيقها على الذوات بالاضافة الى الموضوعات ، وعلى الجماعات بالاضافة الى الأفراد .
فى هذه الحالة فان عملية الجشطالت هى المعادل الألمانى " للابداع " الفنى ، وهى فى الواقع الوريث للدلالات اللاهوتية للكلمة الانجليزية " خلق / ابداع creation " . الفنان ، ومن باب أولى فنه أو فنها يعتبر على حد سواء ما هو عليه وما يتجاوز مظاهره المكانية الزمانية ، والتذى هو بدوره وظيفة الجوهر الكائن بالفنان . ينسى المرء أو يتناسى العملية الديناميكية للوضع فى المكان ، أو الى اى مدى يتم تثبيت التعدد فى وحدة متسقة ويأخذ على الظهور المكتفى بذاته .
من هذا التواطؤ والترويج من خلال الجماليات التقليدية ، وما كان يضع " والتر بنيامين " فى اعتباره عندما ربط فى نهاية مقاله عن " العمل الفنى فى عصر الاستنساخ التكنولوجى " بين اضفاء السمة الجمالية على السياسة " الفاشية . ومع ذلك فالمقصود بهذه العبارة الى يستشهد بها كثيرا ، يظهر بوضوح اكثر عندما تتصل بفقرة أخرى ، والتى تدخل فى القسم الأخير من هذه المقالة ، وان كانت لم تلق الاهتمام الذى تستحقه . يمكن القول بأن عبارة " بنيامين " بأنها كانت بمثابة " ذاكرة الشاشة " لحجب السياق الذى تستمد منه الأهمية . وهذه هى الفقرة التى أشرت اليها :
" تزايد التحول الى البروليتاريا من الناس اليوم والتشكيل المتزايد من الجماهير وجهان لنفس الحدث . تسعى الفاشية الى تنظيم الجماهير البروليتارية المطورة حديثا دون المساس بعلاقات الملكية التى تسعى للتخلص منها .وهى ترى خلاصها ( خلاص الفاشية ) فى السماح للجماهير للتعبير عن أنفسهم ، ولكن دون الحصول على ما يمثل حقا لهم .
للجماهير الحق فى تغيير علاقات الملكية ، والفاشية تسعى لمنحهم التعبير عن الذات من خلال الحفاظ على تلك العلاقات . وتعا لذلك تقود الفاشية الى اضفاء السمة الجمالية على الحياةالسياسية . ... كل الجهود المبذولة لتجميل السياسة بلغت ذروتها فى نقطة واحدة هى : الحزب " .
على الرغم من ، بنيامين لم يذكر فى أى مكان من هذا المقال فيلم " لينى ريفنستال " ، فانه أشار بدلا من ذلك الى ( فيلم اخبارى او النشرة الاخبارية ) - الفيلم الاخبارى الاسبوعى – وكثيرا ما وصفه طوال نصه وبصفة خاصة هنا ، والتى تجسدت بصورة أوضح فى انتصار الارادة .
وبنيامين ، مؤلف النص البارز المعنون ب " الرأسماية كالدين " ربط هنا الفاشية مع الوعد الدينى بالخلاص . فقد وجدت الفاشية الخلاص فى منح الجماهير التعبير عن الذات ولكن فقط بقدر ارتباطه بالحفاظ على علاقات الملكية القائمة . وهذا بدوره يستلزم ما يمكن أن يسميه بنيامين " أقنوم هيكل الهوية" : ما يكون الناس عليه عند الولادة وبحكم طبيعتهم واعراقهم ، ويجب السماح لهم بالتعبير عن أنفسهم ، ولكن دون أن يغيروا أنفسهم .
فى حاشية هذه الفقرة يستشهد بالتأثير الهائل للأخبار المصورة الاسبوعية فى تقديم مثل هذا التعبير عن الذات ، وقبل كل شىء من خلال صور الجماهير فى الأحداث السياسية والرياضية والمسيرات الضخمة وما الى ذلك . هذا أقنوم الهوية الذاتية القائمة – وهو يعنى الوعى الذاتى لمثل هذه الهوية – المرتبط بشكل وثيق بعملية العزلة كما وصفها " فرويد " ، والوسط المتميز هو " ذكريات الشاشة " ولكنه ما يمكن أن اسميه ايضا التشكيل الجمالى – بقدر ما مثل هذه الاشكال والمظاهر يتم عرضها باعتبارها متطابقة ذاتيا وواضحة بشكل مباشر : بالمعنى الحرفى . ان تنظر اليها يعنى ان تفهم ماتعنيه هنا وليست هنالك حاجة للنظر فى مكان آخر ، وللتفكير فى علاقاتها التى لا تظهر يشكل مباشر .
أحد الاشكال الخاصة الهامة لهذا الجشطالت ينطوى على تعبير الجماهير عن الذات ، وبالتحديد كتل المتظاهرين كما ترى من اعلى ، من ما أسماه بنيامين فى نفس الملاحظة ( نظرة طائر أو نظرة شاملة ) . الذاتية النقية والهوية الذاتية لهذه الجماهير – مما يجعلها التشكيل المثالى لهذا النوع من الهوية المطلوبة من قبل البورجوازية وعلاقات الملكية الراسماية فى ظل الفاشية ، وهى قبل كل شىء هوية متجانسة ( اى انها ليست مدينة بشىء لأجنبى أو غريب فى تاريخها القريب ) – ( هذا ) وقد برزت من خلال وفى ارتباط وثيق بتشكيلات مندمجة مجهولة وكثيرة الحركة .
تتحرك الجماهير باتجاه هدف ( والذى هو أيضا السبب فى حاجتها واعتمادها على الزعيم ) . ويشير تراصها الى أنها ستكون فى مأمن من أ تاثير خارجى . فى هذا المعنى فان التعبير الذى ربطه بنيامين بكل من الفاشية والرأسمالية يفترض مسبقا نوعا مماثلا من الهوية المتأصلة التى لا تزال قائمة ومتصلة مع العالم الخارجى ، وبالتالى يمكنها التعبير حرفيا ، ولكن لا يمكن تشكيلها من خلال علاقتها بالآخرين .
فى حاشية هذه الفقرة التى سبق ذكرها اشارة الى ما يتعلق بجانب آخر للتعبيرية التى ينسبها الى الفاشية وعلى وجه الخصوص استخدامها للصور والافلام فى الاستعراضات الكبيرة والاجتماعات الضخمة ، وفى الاحداث الجماهيرية فى الرياضة وفى الحرب ؛ والتى يتم تنفيذها اليوم مسجلة بواسطة الكاميرا ، والجماهير نفسها فى الواجهة .
بالنظر الى بقية هذا المشهد حيث بنزل هتلر من الطائرة الى المتفرجين المتجمعين ، ويمكن ان توصف مسالة المواجهة باعتبارها تعبيرا عن الذات بدقة أكبر . لأن هناك نوعين من المواجهة : مواجهة المبتهجين والمنتشين ولكن لا تزال مواجهات متعددة لهؤلاء المتجمعين للترحيب بهتلر ، بالتحية الفاشية ،ومواجهة الفوهرر، بهدوء وخجل تقريبا ؛ وبينما كان ينزل من الطائرة اربك بالترحيب الذى قوبل به . وفى المسيرة التى تاخذه من المطار الى المدينة ، تتكرر لقطات الكاميرا للجزء الخلفى لهتلر ، حيث لا يرى المرء وجهه بل الجزء الخلفى من رأسه مع يده المرتفعة مرة أخرى فى تحية مميزة .
لقد تفرقت الغيوم منذ فترة طويلة لافساح الطريق لهذا الموكب - ولكن يبدو من المهم هنا الصلة بفكرة بنيامين عن التعبير ، وهى تفاعل الجماهير مع زعيمهم ، الذى يلخص وجهه وشخصيته نوعا من التعبير الذى منحته له الجماهير من استمرار علاقات الملكية القائمة . هذه العلاقات تتطلب فكرة الذات باعتبارها قادرة على الامتلاك ، وهو ما يعنى أنها بشكل نهائى قادرة على البقاء بنفسها مع مرور الوقت ، فى سيطرة المرء على نفسه ، وبالتالى قادرة على الوجود على أنها مالك متميز لما هو مناسب .
بالمعنى المزدوج للكلمة ، تنطوى على حيازة مشروعة للاشياء والموضوعات فضلا عن امتلاك المرء للقدرات والأفعال . تستطيع الصفوف المترابطة باحكام من المشاهدين ، وهذا الشخص المنتصب كقائد وحيد وأوحد حل مسالة التعدد والوحدة والزوال والبقاء . كما وضعها " رودلف هيس " فى احدى خطبه خلال المؤتمر : " أدولف هتلر هو ألمانيا والمانيا هى هتلر " .
لكن بعد ذلك ، لماذا كانت الحرب بداية ونهاية اضفاء السمة الجمالية الفاشية على السياسة والعنف ؟ . يقدم لنا الجزء السابع من فيلم ريفنستال ما لا يقل عن اجابة جزئية :
مقطع ( كليب ) يتذكر بداية الفيلم ؛ اولا ، شاشة سوداء وسرعان مايتبعها النسر الجاثم على الصليب المعقوف الذى يتلاشى فى الاستطالة ، والممر المركزى من خلال الارتفاع لمسافة كبيرة وثلاث صور لهتلر و هيملر (SS ) و " فيكتور لوتز " (SA ) الذين اعطوا ظهورهم للكاميرا وقد أحيطوا من الجانبين بصفوف وصفوف من (SA ) وقوات ( (SS) ، 120000 ككل ، يتقدمون نحو هدف مؤكد ، وفى اللفطة التالية حيث يتم الكشف عن شعلة اللهب تكريما للجنود الألمان الذين قتلوا فى الحرب العالمية الأولى .
مثل هذه المواجهة مع الموت لمسيرة سياسية ، كانت هى أكثر اللحظات المهيبة لأربعة أيام ، وصولا الى الخطب من قبل هتلر ولوتز التى سوف تكون تبريرا للقضاء على روم و (SA ) باعتبارها منظمة مبرأة من ذنب روم .
ما يتم التعبير عنه فى هذه المناسبة ليس شيئا أقل من ارادة الانتصار ليس على العدو فحسب – فى هذه الحالة هو " روم " قائد (SA ) – بل وعلى الموت نفسه . عن طريق قتل روم ورفاقه ، ولادة المانيا الجديدة صارت مؤكدة .القتل والجيش ( فى شكل قوات الأمن الخاصة SS و" رايسوهر " ) سيكونا الطريق الى الحياة الأبدية الى الف عام رايخ .
يمضى الاحتفال بذكرى الرفاق الذين سقطوا بجانب الاحتفال بالموت الذى كان نتيجة للقتل ، وصار عملا قصديا – والمرء يمكن ان يلحق به ( أى بالموت ) بشكل عمدى وضمنى ، وأن يقهره بشكل متعمد ( اذا لم يكن قد تجنبه ) . الحرب باعتبارها قتلا جماعيا وقصديا ، تجعل الموت فيها مثل ما جاء منذ سفر التكوين ، بل وأيضا منذ موت المسيح : اعنى نتيجة لعمل الانسان سواء باعتباره عقابا على ذنب أو خيانة .
من خلال العمل بالطريقة التى تجعل الموت نتاجا لعمل الانسان والسياسة بشكل عام ، وبصراحة تسعى السياسة الفاشية الى جعل الخير فى وعد " بولين Pauline " المقتبس من " هوبز " فى كتابه "التنين " فبما أن الموت جاء من قبل الانسان ، فمن ثم كانت قيامة الاموات من الانسان ايضا .
من المؤكد بالنسبة ل " بول Paul " أن القيامة بداية كانت عمل انسان محدد للغاية ، وهو ايضا ابن الله ، وهو الفرق الذى يفصل بين المسيحية والفاشية . بالنسبة للأخيرة – الفاشية – شبيه الاله هو " الفوهرر" أو" الدوتشى " الذى يجب أن يؤكد على قهر الموت ، من خلال معادلة اشكالية ولكنها ضرورية للناس مع القائد المسيحى اليهودى messianic .
القائد – الفوهرر أو الدوتشى – هو الفرد الذى تضعه فردانيته بعيدا – ومنعزلا – وفى نفس الوقت تجعله تعبيرا عن الجماعية التى يتم تفسيرها باعتبارها " فردا " متجانسا ، وأعضاءا فى نفس العرق ، ونفس الثقافة ونفس الامة . هذه الجماعية تم قولبتها فى الفرد بالمعنى الحرفى فى وجود التفكير فيها باعتبارها متجانسة وغير قابلة للتجزئة .
بالتالى يمكن للفرد أن يأمل فى العيش فى الجماعة ، وفى حالة النازية يفهم نفسه على نحو جسدى ، كاستمرار جسدى لأعضائها الأفراد ، من خلال استمرارية الدم . ولكن هذا بدوره يتطلب الجماعية – العرق ، والناس والأمة – لتوحيد صفوفها بطريقة ( مكثفة ومغلقة ) – على حد تعبير أغنية " هورست فيسل " – من أجل استبعاد كل تلوث وتدنيس من مصادر اجنبية وغريبة .
هذه هى النسخة البيوسياسية للأمة مقولبة أو مصممة على غرارالفرد الذى لايتزعزع ، الفرد المعرض للخطر . يتجلى هذا الفرد كموضوع للايمان والاعتقاد فى شخصية الفوهرر ، فى الفوهرر باعتباره جشطالت والجشطالت باعتباره فوهرر .
المثل الأعلى للجماعية التى لاتتجزأ والمحصنة ضد الخطر والخالدة بشكل نهائى – رمز اليها بالنسر الحجرى ، وبشكل عام ايضا من خلال " فاشيز fasces " "5" او الصليب المعقوف ( تعديل الصليب فى الالمانية " الصليب المعقوف Hackenkreuz " ) – يمكن أن يمارس جاذبية سياسية الى الحد الذى يمكنه الزعم بالسيطرة على القلق وتحديد الاتجاه . يوظف المظهر فى هذا الفيلم غالبا باعتباره علامة فارقة ، علامة الحجر توجه الأنظار وتسمح لها فى النهاية ان تضع نفسها فى مكان للراحة . للتركيز . العائق الأساسى أمام مثل هذا التركيز هو بطبيعة الحال ، الموت .
الشعلة مؤطرة ومسيطرعليها بالحجر والقوات الصخرية ، وهى طريقة واحدة للتركيز على الموت الذى يصبح حينئذ انتقالا للحياة الأبدية . هذا الاستيعاب للموت فى الحياة ، كلحظة انتقالية ، استمرارا للحافز كما فى الثقافة الغربية القدية وكما فى الكتاب المقدس ، وأهمية خاصة فى السرد الخلاصى المسيحى . ولكن ينطوى استيعاب الموت فى الحياة على تجاوز المحدودية ،والتى يمكن أن تتلاقى فى سياقات سياسية وتاريخية معينة مع رفض عدم التجانس .
انها هكذا فقط عندما يكون الأصل نقيا وعمل على التطابق الذاتى وان النهاية التى تنتظر جميع الكائنات الحية والتى لاغنى عنها للكائنات الفريدة يمكن أن تكون ممثلة ليس باعتبارها حدوث النقطاع بل باعتبارها انجازا . عندئذ فحسب يفقد الموت لدغته او المه .
انا أرى أن عنصرا اساسيا يكمن فى هذا المشروع وهو تمثيل الموت على أنه نتيجة لفعل بشرى ، نتيجة القصد . وهذا ما يجعل الحرب وسيلة متميزة للسياسة من خلالها تجد الجماعية السياسية التعبير عن الذات . الحرب تضفى الشرعية على القتل وبذلك تجعل الموت فى لحظة التضحية ( الفداء ) انبعاثا . ولكنها – قبل كل شىء هنا – هى موت الآخرين المقصود .
نظرية " كارل شميث " عن تجميع العدو – الصديق باعتبارها أصل التوضيح السياسى للاصول المسيحية . باستثناء أن ليست الانسانية ككل التى تم انقاذها ، بل ما تم انقاذه هو شعب خاص ، وأمة أو عرق – خلافا لغيرها من الانفس – وهذا يعنى على العكس من الشعوب الأخرى والأمم الاخرى والأفراد الآخرين .
ولكن هؤلاء الاخرين فى أى مكان يرى فيه هذا الفيلم ، يبدو أنهم قد حجبوا بعيدا ، للبدء من خلال الغيوم والتى تهبط خلالها الطائرة فى طريقها الى مكان الوصول . مثل الغيوم فى المشهد الافتتاحى المؤطرة لنافذة الطائرة . الغيوم نفسها التى تختفى فيها الطائرة ، الا اذا كان للخروج على الجانب الآخر ، والتمثيل الرمزى للتحولات من لقطة الى أخرى تالية ، عن طريق التلاشى والتداخل . هذا التلاشى التدريجى والتلاشى الاضافى يؤسس التسلسل السينمائى مع الاستمرارية الكامنة وراء الحركة . هذا لا يستعيد القطع والتلاشى الأسود ، الذى يؤكد على النقيض من الانقطاع ، ولكنه بدوره يسلط الضوء على استمرارية التقدم بشكل عام .
هذه هى الاستمرارية التى تتضمن وتستوعب الانتهاكات المتطرفة التى تميز " النهضة الألمانية " ، وربط جمالية فيلم " ريفنستال " بعنف السياسة النازية . وهو العنف الذى قام به القادة النازيون وتفاخروا به ، بل كانوا من أجل تاكيد الطابع الدائم للنظام الجديد فى نهج مهيب .
الايقاع المتموج للقطات الرحلة فى فيلم ريفنستال يشكل الترابط السينمائى للخلود المتضمن فى فكرة " رايخ ألف عام " . وهدف الاحتلال العسكرى للاستيلاء على المجال الحيوى بالقوة العسكرية هو الشرط المكانى لتمديد الوعد بالحياة . الغيوم التى تهبط الطائرة من خلالها الى الأرض هى الجشطالت المنقولة التى تميز مسار هذا الوعد . الوعد اللاهوتى الآتى الى الأرض .
( 3 )
اسمحوا لى فى النهاية أن اعود ، بطرية متناقضة تاريخيا الى الصور التى ذكرتها فى البداية ،والتى تنطوى على مجموعة مختلفة جدا من الغيوم . بسبب التغطية الاعلامية الكبيرة التى أحيت ذكرى 11 سبتمبر 2001 – فى كثير من الأحيان على حساب التحليل الجاد . يمكننى افتراض أن الصورة العامة لهذه الغيوم موجودة بما فيه الكفاية للجميع وانه ليس من الضرورى عرضها مرة اخرى هنا . بدلا من ذلك أود ان تظهر هذه الغيوم من دخان يتصاعد من البرجين المحترقين من وجهة نظر غير مألوفة .
لقد تم التقاط الصور من قبل " توماس هوبكر " وهو شخصية بارزة فى جمعية المصورين الكبرى . اختار " هوبكر " عدم النشر فى عام 2001 ، وكذلك استبعد من " كتاب الصور الكبرى " التى اتخذت فى ذلك اليوم .اذا رأيتها ذات مرة فانك سوف تفهم على الفور ما السبب :
كان من الواضح انه فى ذلك الوقت ، دون تفسير او مناقشة ، أن طريقة هذه الصور أكثر غرابة من تلك الصور التى كانت عن التدمير نفسه ولها آثارا فيما بعد . دون الدخول فى ذلك النقاش الذى تم توثيقه جيدا على شبكة الانترنت ، تفسير الصورة أو الحكم عليها يخبرنا بشىء عن علاقة الجمالية بالارهاب والعمليات الارهابية التى ما تزال حتى اليوم ذات صلة وثيقة .
تعتبر الصورة بصفة عامة – كما أكدت على الاقل – جمالية بالمعنى التقليدى لهذا المصطلح ، بقدر ما يكون تشكيلها مكتفيا بذاته وذا مغزى . هذا بدوره يعنى أنها يمكن وربما يجب أن ينظر اليها من مسافة معينة ، وهو المطلوب اذا كان الادراك يتم ككل موحد . موقف المدرك ، والمشاهد أو المتفرج ، يعرف على أنه موقف محمى أومصون : انه مستقر ومتكيف ذاتيا .
هذا هو السبب فى أن معظم أشرطة الفيديو وصور الكوارث تبث ليلا ونهارا فى التليفزيون والصحف ويمكن تناولها لرأى المستهلك ، مع وجبة الافطار الصباحية أو بعد وجبة العشاء فى المساء ، طالما أنها كدمار تشويه لجسم الانسان او الحيوان لاتظهر بتفصيل كبير جدا .
يجب أن تبقى السحب تتصاعد فوق المبانى المحترقة وأن يبقى الناس على مسافة منها ، واذا أمكن اعطاء شكل واضح على انها تشكيل . وعليه يمكن اتخذها فى الادراك ، كاجزاء كل يفترض بأنه كان واضحا ومفهوما بشفافية – بمعنى أنه لايشكل اسئلة أخرى ، ولا يتطلب اى استفسار خارج اطار ما هو مبين .
تكامل ومغزى الكل مضمون من قبل المراسل ، او التعليق على صور الصحيفة . فيما يقولان للقراء والمشاهدين عما يفكرون فيما يشاهدون ، وفى نفس الوقت للنظر فيما يعتقدون انه الصفة المميزة المباشرة والحصرية للصورة . تدمير الأشياء والأشخاص جعل للاستهلاك ، لأن معنى الموت والدمار يؤثر فى الآخرين من المعزولين والمحميين بأمان .
من الممكن ابتعاد المرء عن الصورة الجمالية المعزولة والوقوف بمناى عنها : هذه هى الصفة التقليدية وهذا ما يجعل من كليهما ما يعد مناسبا تماما ليكون بمثابة ذاكرة الشاشة وان تكون منسية وتحل محلها صورة معزولة قادمة أو مجموعة من الصور .
كتب كاتب العمود فى نيويورك تايمز " فرانك ريتس " عن الناس فى مقدمة الصورة : ان الشباب فى صورة المستر " هوبكر " ليسوا بالضرورة قساة القلب . انهم مجرد امريكيين . وسواء كان هذا التصريح يصف الشعب فى الصورة بدقة أم لا ، فانه بلا شك دقيق بشأن الانطباع بأن الصورة تنقل ذلك .
هذا احد الملاحظين المعزولين والخالى من الهم أو المبتهج حقا ، يسترخى فى الشمس على مسافة من السحب السوداء للدخان المتصاعد فى السماء . الصورة مثل كل الصور ، هى ما يسمى بالألمانية ( لقطة Momentaufnahme ) او بالفرنسية ( لقطة “instantané ) ، لحظة او لحظة معزولة عن كل شىء حدث من قبل ،ويحدث فيما بعد وخارج اطارها .
قدم " فرانك ريتس " خطآ فى الاشارة الى الشباب فى الصورة ، لان هذا يمكن ان يؤخذ للتطبيق على الشباب أنفسهم بسهولة ، بدلا من اشخاص الصورة . ويفهم على انه تصريح عن الصورة ، ولكن بدلا من الأشخاص الموجودين بشكل مستقل عنها ، صدمات التصريح على وجه التحديد جعلت هجمات 11سبتمبر صادمة بالنسبة للناس فى الولايات المتحدة الامريكية .
لأن هذا كان المرة الاولى على الأقل منذ الحرب الأهلية ، التى يتم فيها مثل هذا الهجوم واسع النطاق على الاراضى الامريكية ، وأول مرة حتى منذ فترة أطول ينشأ فيها الهجوم من خارج الولايات المتحدة . فقد كان وما زال بمعنى ما ، ان الامريكى يعتقد بشكل مميز فى السلامة لأن المسافة يمكن أن تؤدى الى الاعتقاد بالتفوق الاخلاقى للامة وانها محمية . كان – وبمعنى ما مازال – الا عتقاد فى فاعلية العزلة .
ردا على هذه الهجمات كانت الحرب ضد العراق وأفغانستان وعلى الارهاب . كانت بالطبع أى شىء الا الانعزالية . ولكن كان تبرير الرد ، لا يزال يستند على الاعتقاد بأن العدو الحقيقى يمكن ان يعزل ، يسمى ويصور ويحدد ويدمر ، ويتم ذلك بالوسائل العسكرية بشكل اساسى .
كان الاكتشاف المرعب من قبل الامريكيين بانهم ليسوا أو لم يعودوا فى أمان فى وطنهم ، الموضوع الملموس ، الجشطالت ، و11/ 9 كما اطلق عليه لاحقا اصبح علامة متوافقة مع " الجشطالت " : كلاهما نداء للمساعدة واسم للفعل فى حد ذاته .
ما يجعل الصورة قوية جدا – وصادقة جدا – فيما اعتقد ، هو اللامبالاة والموقف الخالى من الهم أو المبتهج والاسترخاء على مايبدو فى وصف التصوير فى نفس اللحظة عندما كان الأساس الذى تم دعمه سابقا لهذا الموقف تم استهلاكه فى الخلفية .
مع ذلك لم تعد الخلفية معزولة عن الصدارة ، وهذا هو المرعب بشكل نهائى ، وكانت الحرب ضد الارهاب تسعى الى التوجه للخارج ، وتوجيهها كان ضد الأجانب ، ومنهم من كان يمكن بالتالى أن يأمل فى ابعاد نفسه ، ومن خلال العزلة حدد ودمر بشكل نهائى .
ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ - مع ذلك – ان كلمة " الارهاب " فى اللغة الانجليزية لا تزال تصف أولا وقبل كل شىء ردود فعل انفعالية على خطر لا يمكن السيطرة عليه ، وهى حالة متطرفة من القلق . الاعلان عن الحرب ضد الارهاب يحاول تحويل الانظار والنأى عن هذا الشعور من خلال تحديده بأن الارهابيين والعمليات الارهابية تفهم باعتبارها شخصيات وحركات خارجية يمكن القضاء عليها نهائيا .
لكن الغيوم المنبعثة من الركام الصادر عن انهيار برجى مركز التجارة العالمى تروى قصة أخرى . هنا من ثم الصورة الأخيرة ، المأخوذة من شريط فيديو – أنا متأكد من انكم شاهدتموه عدة مرات . هذه الغيوم التى تشبه بشكل غريب الغيوم التى كانت تحلق الطائرة من خلالها فى فيلم " انتصار الارادة " ، لكن لم يعد المرور الى التشكيل " الجشطالت " المحتشد الذى ميز مسيرة النازى والسياسة ؛ انه علامة على ماجاء بعد عقد من الزمن لالمانيا النازية ، وسحق التشكيل ومع الحضارة القائمة على حمايته من خلال الارهاب .
كان من الممكن فهم الغيوم الصادرة عن الركام الذى اندفع نحو المشاهدين والكاميرات ويحيق بهم اخيرا كعلامة لاعادة النظر فى السياسات والاستراتيجيات لتحديد الهوية من العزلة التى انتجت تلك الغيوم فى المقام الاول . بدلا من ذلك ، كما أبأن الطلب على المواساة والسلامة يبقى فى الصدارة ، التى أتيحت لنا الفرصة لنرى فى احياء الذكرى لهذا الحدث فى الأسبوع الماضى ، ومنع اى استجواب نقدى جدى للعلاقات التى تواصل سياسة العزل وكشف الهوية للاستبعاد المنهجى . بما فى ذلك – على سبيل المثال – الانعكاس على العلاقة المحتملة ل 11/ 9 ب 11 سبتمبر أخرى – وهذه المرة فى – عام 1973 عندما أطيح بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا فى " تشيلى " من خلال تحريض امريكى على الانقلاب : او الانعكاس للعلاقة المحتملة للهجمات ضد مركز التجارة العالمى والبنتاجون ، رمزا للمالية والعسكرية فى الولايات المتحدة الامريكية كقوة عالمية ، الى الموقف الذى اتخذته الحكومات الامريكية المتعاقبة من الصراع الفلسطينى الاسرائيلى . او غيرها من الاحداث الأخرى التى لا تعد ولا تحصى .
عندما تجرأ الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد والمساهم فى " نيويورك تايمز " ، " بول كروجمان " على نشر مدونة عنوانها " سنوات العار " والتى قال فيها بان ذكرى 11سبتمبر 2001 ، " قد سممت بغير رجعة " لتقدم تبريرا للحربين على العراق وأفغانستان ، قد أثار ردود فعل ضخمة .
احدى الردود الأكثر تمدنا وتهذيبا كانت من قبل " مايكل ميتز " : " أنا لا أشعر بالعار من ذكرياتى واحياء ذكرى 11/ 9 .. وانا لازلت أشعر بالامتنان لكلمات العزاء الت قدمها الرئيس الامريكى جورج و. بوش ورئيس البلدة " رودلف جوليان " للأمة فى أعقاب الحدث .
فى الارتباك التام الذى أعقب الغيوم التى ابتلعت كل الشخصيات والأشكال وغطتها بغطاء أبيض من الغبار لأنها تراجعت ببطء ، تعد الحاجة الى كلمات التعزية مما يمكن فهمه . الا أن هذه الحاجة استمرت وتميل الى استبعاد كل نقد للرد العسكرى الذى أعقب ذلك باعتباره خائنا لذكرى الجنود الامريكيين وحلفائهم الذين قتلوا وشوهوا جسديا ونفسيا – وبالتالى – باعتبارها خيانة أساسية : هذه الصدمات تبدو لى باعتبارها لا تختلف كثيرا عن المرور من خلال الغيوم اعلى " نورمبرج " فى عام 1934 ، والكشف عن التشكيلات المندمجة للجماهير التى تمت عسكرتها فى المسيرة .
حركة التعبئة قد تعزى وتواسى ، الا انها تتطلب تعبئة مصاحبة للارهاب فى الأمر السكرى ، فى العبارة التى تلخص روح العصر من أجل مواصلة " المضى قدما "
ولكن هذا السير الى الأمام لم يتبع تماما عن طريق الغيوم التى تسعى بنجاح محدود للتعبئة . وتم التجاوز من خلالها . وعندما تأتى تلك الغيوم فى النهاية الى الأرض ، أى حرب يمكن الهرب منها .
****************************************
الهوامش
1- هيلين بيرثا أمالي "ليني" ريفنستال Helene Bertha Amalie "Leni" Riefenstah – ( 1902 – 2003 ) - كانت المخرجة الألماية للفيلم والمنتجة وكاتبة السيناريو، محرةر، ومصورة، ممثلة، راقصة، وتعمل فىالدعاية للنازيين .
2- كتيبة العاصفة( The Sturmabteilung (SA - عملت بوصفها الجناح العسكري الأصلي للحزب النازي . و لعبت دورا كبيرا في وصول هتلر للسلطة . أغراضها الأساسية وتوفير الحماية للمسيرات النازية والتجمعات، وتعطيل اجتماعات الأطراف المتنازعة، والقتال ضد الوحدات شبه العسكرية من الأطراف المتنازعة، خصوصا مقاتلي الجبهة الحمراء للحزب الشيوعي في الألماني ، وتخويف السلافية والنقابيين واليهود - على سبيل المثال، أثناء المقاطعة النازية من الشركات اليهودية.
3-فرقة أو سرب الحماية (The Schutzstaffel (SS - ه منظمة شبه عسكرية كبرى تحت امرة أدولف هتلر وحزب االعمال الاشتراكي ا الألماني الوطني ( الحزب النازي). بدأت مع وحدة الحرس الصغيرة المعروفة باسم سز (Saal-Schutz ) تتكون من متطوعين حزب النازي لتوفير الأمن لاجتماعات الحزب النازي في ميونيخ. في إطار توجيه هيملر في (1929-1945)، فقد ارتفع من تشكيل شبه عسكري صغير إلى واحدة من أقوى المنظمات في الرايخ الثالث. في الفترة من 1929 حتى انهيار ألمانيا النازية في عام 1945، كانت SS تقوم من المراقبة والإرهاب داخل ألمانيا وأوروبا المحتلة من قبل ألمانيا.
4-أغنية هوريست فيسيل The Horst Wessel Song - )، كانت نشيد الحزب النازى من 1930 إلى 1945. من 1933 إلى 1945 جعلها النازون النشيد المشارك الوطني من ألمانيا، جنبا إلى جنب مع مقطع الأول من أغنية الألمان Deutschlandlied . كتبت الكلمات من قبل هورست فيسيل قائد فرقة العاصفة الذى قتل فى المعارك مع الشيوعيين فى عام 1929 .
5- فاشيز Fasces – مجموعة من القضبان فى روما القديمة بشفرة الفاس يحملها الصليب كرمز للقوة من قبل قاض او حاكم . وقد استخدمت كشعار للسلطة الفاشية فى ايطاليا .
يبدو واضحا أن موضوع مؤتمرنا على الرغم من ان اطاره الواسع للغاية فى اعلان الدعوة للمشاركة المبلغة لنا ، والمسكونة بالاشباخ من خلال سلسلة من الصور التى تبدأ بظل طائرة فى مقابل سماء زرقاء تختفى فى أحد أبراج مركز التجارة العالمى ، حيث تنتهى – حسنا هل أنا لست متأكدا تماما اين تنتهى – أو حتى لو كانت انتهت فعلا ؟ . ربما كانت نهايتها بداية فعلية . على أى حال ،يصل التسلسل الى ذروة معينة مع انهيار البرجين فى سحب من الغبار والركام .
من يستطيع - خصوصا اليوم - تجنب تلك الصور التى تبث باستمرار على شاشة التليفزيون ، فيما يبدو لاحياء الذكرى السنوية العاشرة للحادى عشر من سبتمبر 2001 ؟ ماذا يمكن أن يكون أكثر وضوحا من هذه الصور المدهشة للموت والدمار؟ . ولكن ماذا يمكن أن يكون اكثر غموضا ؟ .
فيما يلى أنا ماض الى تقديم بعض الأفكار المتعلقة بتلك الصور ، واتمنى أن يتم تقديمها بأسلوب أكثر اتساقا ، وأن تكون مرتبة بكثافة أكبر وأكثر شمولا وان تكون أكثر تماسكا فى طابعها وتقدم حجة مقنعة ومتماسكة باحكام . الا أنى أخشى عدم قدرتى على انجاز هذا وارجو المعذرة فى البداية لطبيعتها غير المكتملة ، والمجزأة والاستكشافية . ربما يتم التعويض عن ذلك فى المناقشة التالية .
عندما نتحدث عن الصور – نحن هنا أكاديميين وغير أكاديميين – نتوقع بشكل عام شفافية معينة . فمن المتوقع أن تظهر الصور اشياءا ، ملهمة ،تكون نوافذ للعالم بصورة ما أو بأخرى . وهذه الصور تعمل بكل تأكيد على ذلك ، ولكن شفافيتها يمكن أن تعمل على الاخفاء بقدر ما تعمل على الكشف . وهذا هو الحال بشكل خاص عندما تكون لدينا علاقة بصور الذكرى : وفى الواقع أليست كل الصور صور ذكرى ؟ .
اذا كان الأمر كذلك ، فان الفكرة التى وضحها " فرويد " يمكن أن تضعنا على مسار من التعقيدات المترتبة على هذه الصور. انا افكر فى الذكريات التى أسماها " ذكريات الشاشة " . وقد كان المصطلح بالالمانية يختلف قليلا (Deckerinnerungen ذكريات الشاشة ) وحرفيا الذكريات التى "تخفى أو تستر ". ولا يلزم لهذه الذكريات استنادها الى التصورات ؛ ولا يلزم أن تكون الصور دقيقة بالنسبة للحواس ، ولكنها غالبا ماتكون هكذا .
وقد طور " فرويد " هذه الفكرة على أساس تكرار بعض صور الذاكرة الواضحة جدا فى سياق التحليل . مع ذلك ، فان الصور التى تعمل على الاخفاء – والتستر - أكثر من التى تعمل على الكشف والاظهار . فهى تخفى - فى الوقت نفسه -الثغرات التى من شأنها أن تجعل هذا القمع ظاهرا . والترجمة الانجليزية ل (Deckerinnerung ) باعتبارها " ذاكرة الشاشة " تعد موفقة ، بقدر ماتشير الى وظيفة مزدوجة للصورة على أنها " شاشة " . اولا لتوفير الدعم للتمثيلات والتأكيدات ، وثانيا ؛ لغربلة الصور والعناصر الأخرى ، والتى يمكن أن تؤثر سلبيا على وحدة الوعى وبالتالى الوقوع فريسة للقمع .
اود ان اشير الى أن مسائل الارهاب ترتبط بسلسلة من الصور محفورة فى ذاكرتنا للطائرتين اللتين ضربتا مركز التجارة العالمى ، وجعلته يحترق وفى النهاية كانت سحابة من الغبار . وأود أن أقول ايضا بأن فى هذه العملية سلسلة من الصور التى وظفت باعتبارها جماعية – جماعية على مستوى العالم – ذاكرة الشاشة ، وكانت وظيفتها الأساسية تعمل باستمرار لتركيز انتباهنا على الأعمال الفردية والاطراف الفاعلة فى حين تستبعد الاعتبارات الأخرى ، وليس الصور الاخرى بالضبط ؛ بل وتستبعد الأفكار الأخرى التى قد يكون لها – بل ينبغى أن يكون لها – ايقاظا واستكشافا لما يتعلق بهذا الحدث .
وقد كان هذا النوع من الفرز ( الغربلة ) فى الولايات المتحدة بشكل خاص ، حيث تتمتع بالدعم الكامل والتعاون من وسائل الاعلام السائدة ، وبشكل خاص التليفزيونية ووسائل الاعلام الأخرى . فعلى سبيل المثال فى أوروبا وآسيا كان الانتقاد على أشده وذلك بوضع صور 11/ 9 فى سياق فى سياق أوسع .
بل وصل الى حد استغلال صور 11/9 لتبرير رد عسكرى – الى حد كبير – " الحرب ضد الارهاب " وكان الجانب الأكثر بروزا لهذا الرد – مما يمكن ان أسميه اضفاء السمة الجمالية على الصورة عبر وسائل الاعلام ( والتكيف مع فكرة ل " بنيامين " سوف أعود اليها فيما بعد ) التى تستمر لتكون عاملا حاسما .
عندما أتحدث عن اضفاء السمة الجمالية على الصورة فى وسائل الاعلام فاننى احتاج الى اضافة تحذيرهام . كلمة " علم الجمال " مثل أغلب كل الكلمات الاخرى ، وخصوصا المصطلحات ذات التاريخ الطويل الملحوظ ، تعد مفرطة فى التحديد والغموض . وقد تدل احيانا على عكس ما أراه تماما ، وأنا اتخذ اشارتى من " بنيامين " ( بل من " بول دى مان Paul de Man ايضا ، ومن " هايدجر" ) وسوف أنتقد المعنى – المعنى المرتبط بافكار " الشكل" و" العمل " .
انا أشعر بالتبرير – مع ذلك – لاستخدامها بهذه الطريقة بسبب التقاليد القوية التى جمعت عن هذا الاستخدام والتى لها تشعبات عديدة فى مناطق بعيدة منعزلة عن التطبيق المباشر ، اى للفن والجمال ،من خلال هذا المصطلح ( علم الجمال ) أو أن أشير الى تفاليد معينة قوية لعلم الجمال سهلت وحتى روجت الاستفادة من الصور باعتبارها ذكريات شاشة بالمعنى الفرويدى .
هذا التفليد يميل الى حجب وظيفة الشاشة وتثمين الصورة باعتبارها اكثر أو اقل طبيعية ، ونافذة اكثر أو اقل صدقا فى العالم . كان هذا التقليد الجمالى الخاص هو ما وضعه " والتر بنيامين " فى الاعتبار عندما كتب مقاله عن " العمل الفنى فى عصر الاستنساخ التكنولوجى " ، فقد سعى الى تطوير بديل "لاضفاء السمة الجمالية على السياسة " التى نسبها الى الفاشية . ولسوف أعود الى ذلك فيما بعد .
ولكن بداية ، لكى نفهم كيف يمكن أن تسهم تقاليد معينة لعلم الجمال فى ما يسمى " ثقافة الخوف " التى تسير جنبا الى جنب مع السياسة التى تحدد " الارهاب " و " مذهب الارهاب " ( عقيدة الارهاب ) ليكونا العدوين الأساسين ، وسوف يكون من المفيد ادخال مفهوم " فرويد " الثانى المتعلق بالاول ، حتى لو كان فرويد – على حد علمى – لم يربط بينهما أبدا او لم يناقش العلاقة بينهما.
لقد تم التغاضى عن هذا المفهوم – الى حد كبير – فى المناقشات النظرية ، وربما لأنه على العكس " ذاكرة الشاشة " ، فانه يجعل منه كلمة عادية تماما وغير تكنيكية ولا يتم تحليلها سيكولوجيا على وجه التحديد بخصوص ذلك ، وربما كان بسبب ذلك أنه من المألوف للغاية تقييد خيال أى شخص . وعلى النقيض من ذاكرة الشاشة – المفهوم الذى اكتشفه وناقشه فرويد فى وقت مبكر من حياته العملية ، بدئا بمقال كتبه عام 1899، والمفهوم الثانى الذى جاء فى وقت متأخر من حياته ، فقد ناقشه فى كتابه عام 1925 ، " الكبت " ، والاعراض والقلق .
وانا أشير الى مفهوم العزلة الذى أدخله فرويد فى هذا الكتاب فى سياق مناقشته ل " آليات الدفاع " التى وضعتها الأنا ، لا سيما ، فى العصاب الوسواسى obsessional neurosis ( الاضطراب العصبى الوسواسى ) . على النقيض من القمع أو الكبت الذى يستثنى تمثيلات الوعى من خلال الاستعاضة عنها بتمثيلات أخرى ( او اعراض أخرى ) ، ولا تستبعد العزلة تمثيل نفسها من الوعى – وبالتالى من الذاكرة . بل بالأحرى تلغى كافة الاتصالات التى يمكن أن تسمح لها بممارسة سلطتها التخريبية . هذه هى الطريقة التى يصف بها فرويد العملية :
" عندما يحدث أى شىء غير سار للذات ، أو عندما يفعل الشخص نفسه شيئا ذا مغزى لاضطراباته العصبية ، فانه يقحم فاصلا ، خلاله يجب ألا يحدث أى شىء - وخلاله – اى خلال الفاصل – يجب ألا يدرك شيئا ( ... ) لايتم نسيان الخبرة ، ولكن بدلا من ذلك ، يجرد من تأثيرها ، واتصالاته الترابطية ( الجمعية ) يتم قمعها أو توقف بحيث يظل كما لو كان معزولا " .
ما يستحق التركيز هنا نقطتان بشكل خاص . أولا ؛ مالذى يتم الحرمان منه عن طريق العزلة – اتصالاته الترابطية ( الجمعية ) – وقد بطها فرويد " بالتاثير " - " الايتم نسيان الخبرة ولكن بالأحرى يحرم من تأثيرها " – " العزلة المتعلقة بالخبرات " ، قبل كل شىء هى ما لا يستطيع القيام به وفقا لفرويد ؛ انها تزيح الآثار ( يمكنك تذكر أن فرويد مصر على حقيقة أن الكبت يتعلق فحسب بالتمثيلات ، لا بالآثار ، حيث يقول بأنه لا يمكن أن يكون من ذوى الخبرة دون وعى وبالتالى لا يمكن أن يكون مكبوتا ) .
لكن اذا كان فرويد يستخدم كلمة ( خبرات ) هنا للدلالة على موضوع ( العزلة ) ، فذلك لانه هنا مرة أخرى يرغب فى تمييزها عن الكبت ، الذى يتعلق باتمثيلات فحسب والعزلة – كما راينا – تتعلق بالآثار أيضا ولكن نتيجة لذلك تنطوى على الجسم . وكما وضعها فرويد فان "حدوثها يكون فى مجال الحركة " .
بعبارة أخرى ، فان اقحام الفاصل الذى لا يحدث خلاله أى شىء وبالتالى يشكل العزلة ، يجب أن يكون مفهوما ليس باعتباره حدثا عقليا ، بل بوصفه حدثا حركيا . وتأثير العزلة هو نفسه تأثير الكبت مع فقدان الذاكرة ( النسيان ) ، هذا ما لاحظه فرويد ولكن مع ملحق :
" انها تقدم فى الوقت نفسه تعزيزا للحركية من أجل أغراض سحرية . والعناصر التى جاءت بعيدا عن هذا السبيل هى على وجه التحديد تلك التى تنتمى معا بترابط . والمقصود بعزلة الحركة أن تضمن انقطاع الاتصال فى الفكر " .
ما وصفه فرويد يقع عند نقطة الالتقاء بين الذهنى والجسدى ، أو بالاحرى يحطم التمييز الواضح بينهما . ويتجلى هذا بوضوح فى الفعل وهو يستخدم لوصف العملية الفعلية للعزلة : الأشياء التى تنتمى معا بترابط ، هى ، التى تبقى بعيدا بطريقة سحرية ؛ من خلال اقتحام العزلة .
لماذا " السحر " ؟ . من اجل تعيين العملية –على وجه التحديد – التى وصفت ، وان لم يكن بوعى أو بارادة متعمدة ،ومع ذلك تنطوى على فعل عمدى او متعمد ، وهذا يتم باحساس مزدوج . أولا من اجل شىء ما يمكن أن ينقطع كما هو الحال مع العزلة . ويجب ان تكون حركته موجهة وعلى المستوى المعترف به على هذا النحو . والعزلة تعمل بقصدية ،وان لم تكن النفس واعية – بمقاطعة ليست أقل تعمدا ، موجهة الهدف والحركة الهادفة للذهن والجسم .
هى تفعل ذلك عن طريق ادخال المصطلح الالمانى الفرويدى Einschub : حرفيا " اندفع فى " شىء فى مسار الحركة للمحرك . ومع ذلك ، بما ان وظيفتها الأولية هى الوقف او الفطع والتعليق و" الادخال " ، فيمكن ان تكون فارغة من المحتوى . على سبيل المثال يمكن ان تكون فى مساحة خالية . ويجب كبح الدفع الأساسى للديناميكية ، لا شىء أكثر بل ولا شىء أقل .
مع ذلك ، لكى يكون تدخل العزلة فعالا ، يجب أن يكون لمدة معينة . ويجب أن يكون الانقطاع يتكون فى اجراء الفعل . يحدد فرويد هذا بصفة خاصة على أنه استثنائى لابقاء الأمور بعيدة بعضها عن بعض ، مع ذلك ، يجب على المرء بداية اتخاذ التحكم فى التردد . – أى القيام بنوع من الاتصال الاولى . ولكن هذا يخلق مشكلة جديدة . للموافقة على رأى فرويد ، بان العزلة مدفوعة بواحد من أقدم واكثر الأمور جوهرية العصاب الوسواسى ،والتابوهات المؤثرة على المشاعر . ويمضى فرويد فى تفسير سبب قوة هذه التابوهات :
" اذا كان لنا ان نسأل انفسنا لمذا تجنب اللمس ، ويجب ان يلعب الاتصال أو العدوى مثل هذا الدور الكبير فى العصاب ويجب أن يصبح مسألة موضوع أنظمة معقدة ، والجواب هو أن اللمس والاتصال الجسدى هما الهدف المباشر للعدوانى بالاضافة الى تركيز الطاقة النفسية لموضوع الحب . وتتصل الرغبات الايروسية لأنها تسعى الى جعل الأنا وموضوع الحب شيئا واحدا . ولكن التدمير ، ايضا ، والذى ( كان قبل اختراع الاسلحة بعيدة المدى ) لا يمكن أن يؤثر فحسب فى أماكن قريبة ، ويجب ان نفترض ان الاتصالالجسدى يأتى للسيطرة ، ولكن العزلة هى ازالة لامكانية الاتصال . وهى وسيلة لسحب الشىء من كونه ملموسا باى شكل من الأشكال " .
لا يقول فرويد صراحة لماذا أو كيف الخليط المتصارع من الرغبة الجنسية والعدوانية المتضمن فى اللمس سوف يؤدى الى العزلة ، ولكن اشارته الى الأنا توحى بوجود استجابة . فالمهمة الرئيسية للانا هى تنظيم وامكانية التنسيق بين الميول المتناقضة للنفس ،والتى وفقا لما يسميها فرويد " البنية النفسية الثانية " ، وتقع فى (”Id”) والأنا الأعلى والأنا .
ولتسقط الأنا مهمة ادخال مساع متباينة الى حد كبير لها وللانا الاعلى الى نوع من البنية الموحدة واضحة المعالم ومستقرة . " اللمس " – مع ذلك – يجسد استحالة هذه المهمة . وذلك يرمز الى ما يسميه فرويد فى مكان آخر ازدواجية أو تناقض وجود دوافع متعارضة ومتصارعة مع بعضها البعض فى نفس الوقت : المحرك الجنسى للتوحد مع الموضوع او غيره ومحرك العدوانية لذلك . وللانا طريقة واحدة للتعامل مع هذه الصراعات وتكون على وجه التحديد من خلال عزل المحركات العدوانية . فاذا امكن ان تكون هذه المحركات معزولة ومنفصلة ، فانها بذلك لاتتصارع مع بعضها البعض ولا تزعج الوظيفة التكاملية للأنا .
بمعنى ما – سوف يكون مهما لنا فيما بعد - فى عزلة الموضوع ، يقول عن الصورة أو مجموعة الصورأنها مرغوبة للأنا لأنها تعزز وحدة واستقرار الانا التى لاغنى عنها للفرد – حرفيا لاغنى عن وجود ما لا يقبل التجزئة فى جوهره .
حينما يحدث اللمس ، على النقيض من ذلك ، فان حدود هذه التجزئة يتم تسوينها بالاتصال ، ان لم يكن من خلال الصراع . وبالتالى تحاول العزلة اقامة وادامة الوضع الى فيه اللمس – اى الاتصال والصراع – يصبح مستحيلا .
لكن اذا كان السبيل الوحيد لامكانية انجاز الأنا لهذه المهمة عن طريق اجراء على حدة ، وما خلاف ذلك تكون له مشكلة خطيرة . للاجراء – ومن باب أولى –( الاجراء على حدة ) لا يزال ينطوى على الاتصال ، واللمس ، أى الالتقاء معا . ففقط بالالتقاء معا يمكن للمرء الاجراء على حدة . لكن الاجراء على حدة ليس مجرد لمس : انه لمس من أجل ارساء الاجراء والسيطرة والاصلاح فى المكان .
لكن المشكلة التى واجهتها الأنا هنا أكثر تعقيدا . اذا كان يجب أن تلمس الدوافع والرغبات والخبرات والتمثيل من أجل الاجراء بينها كل على حدة ، فلابد أن يكون ذلك لدرجة معينة يمكن لمسه من قبلها . ليس اللمس ببساطة نشاطا وتعديا ، انه سلبى بشكل حتمى فى نفس الوقت أيضا . فى لمس الآخر يكون التأثير من قبل الآخر . اللمس ( كما اشار ديدار ونانسى وغيرهما ) يعد متناقضا بالضرورة فيما بتعلق بالمعارضة والاستقطاب الناشئين عن الذات والموضوع ، والذات والآخر ، والايجابى والسلبى .
كيف أن تعامل الأنا مع هذه الازدواجيات يصبح أكثر وضوحا عندما يربطها فرويد بالفعل الذى يشكل جزءا من مرض " العصاب الوسواسى " ، ولكنه فى الواقع هو العامل الرئيسى فى المزاج المسمى بالعادى أو بالطبيعى والتفكير والسلوك العقلانى .
توفر الظاهرة العادية للتركيز ذريعة لهذا النوع من الاجراء العصابى : وما يبدو هاما لنا فى طريقة انطباعنا أو نموذجا للعمل يجب ألا يتم التدخل به خلال المطالبات المتزامنة مع أى عمليات أو انشطة عقلية أخرى . ولكن الشخص العادى بستخدم التركيز لاستبعاد ليس فقط غير ذى الصلة أو غير المهم ، بل – قبل كل شىء – ما يعد غير مناسب لأنه متناقض .
انه منزعج من تللك العناصر التى كانت تنتمى معا ولكن تم تمزيقها فى سياق عملية التطور – كما على سبيل المثال – فى ازدواجية عقدة الأب فى علاقته بالله .. وهكذا . فى السياق العادى للأشياء يكون للأنا قدرا كبيرا من العمل المنعزل للقيام بوظيفتها لتوجيه مسار ( تيار ) الفكر .
بقدر ماتتمثل الوظيفة المهمة فى توجيه تيار الفكر ، فانه يجب أولا تحديد الهدف فى موضع مستقر ومغلق ذاتيا تجاه أى" تيار " ، ومن ثم يمكن توجيهه . عملية تحديد هذا الهدف – " التركيز " يستلزم بالنسبة لفرويد ليس نشاطا ايجابيا فحسب لتحديد المكان أو الموضوع بل – فى نفس الوقت – يستلزم استقرار المكان . وبالتالى يؤثر التركيز فى موضوعه ، ولكن بما ان هذا الموضوع يقع منذ البداية فى مجال القوى المتصارعة للرغبات والدوافع ، فانه يستطيع فحسب البقاء فى المكان والاحتفاظ ببقائه اكثر من ذلك عن طريق فصله عن التداعيات غير المتجانسة التى تشكلها وتحددها بشكل جزئى .
بالتالى يكون تركيز المؤثرات على نحو متضاعف ، يتطلب عاملين – كما كانا – واذا كان الاجراء الذى يعنى أيضا " عزل " ما ينتميان أصلا معا وما يفترض تركه للالياتهاالخاصة الباقية معا ، وان كانت فى صراع مع بعضها البعض .
لكن التركيز يكون غالبا على النشاط المعرفى . فيركز المرء على شىء ما من أجل ملاحظته بشكل أفضل والتعرف عليه بشكل نهائى . بقدر ما تكون عملية التركيز مفهومة كعملية معرفية ، فانها تختبر باعتبارها عملية " عقلية " بدلا من اعتبارها عملية مادية متضمنة للجسد . اذا لمس التركيز موضوعه ، فان هذا يفهم بشكل عام بانه مجرد وسيلة مجازية لوصف علاقته بالموضوع التى تتجاوز القيود الجسدية للتحديد الزمانى المكانى . وبالنسبة للتركيز فانه يسعى الى أن يكون مركزا على الموضوع فى حد ذاته ، بصرف النظر عن تباينات الزمان والمكان .
كما سمعت او قرأت تماما ، يستعمل غالبا فى اللغة الانجليزية – بل وأيضا فى لغات أخرى -مرادف كلمة " تركيز concentration " وهو كلمة " تركيز focusing " . للتركيز على موضوع يميل الى تفسير هذا الجانب من التركيز بالاشارة الى التصور البصرى . الا أن هذه الاشارة معقولة فحسب بقدر ما تخبر به من خلال الخبرة البصرية التى تتشكل ثقافيا وتاريخيا وبالتالى فهى نسبية وليست عامة ( شاملة ) .
تميل هذه الخبرة – مع ذلك – الى اعتبار نفسها بالضبط على أنها عامة وموضوعية ، وذلك لأسباب داخلية فى جزء منها . لذلك يتشكل فى المساواة مزاج واحد محدد للرؤية مع الخبرة البصرية نفسها . ويتشكل هذا الوضع المحدد فى تفسير الادراك باعتباره فى الأساس صيغة الاعتراف بالموضوعات المفسرة باعتبارها مكتفية بذاتها وذات مغزى .
هذا التصور الموجه لموضوع الادراك البصرى يقسم مجال الرؤية الى شكل وسبب ، ودون تشكيك كيف يكون هذا المجال فقط هو المحدد فى المقام الأول . بعبارة أخرى يؤخذ تأطير مجال الرؤية كأمر مسلم به ، بالنسبة لما هو مقدم ، حتى يتسنى للرؤية فى حد ذاتها امكانية التفسير بالمصطلحات للتفرقة بين " الشكل والسبب" .
يعرف هذا التعرض فى الفرنسية باعتباره تعارضا بين الشكل والجوهر أو صلب الموضوع . انا أذكر هذا من أجل ادخال كلمتين ومفهومين واكبتا موضوعنا فى هذا المؤتمر ، وهما " الشكل والمظهر" ، هذان المفهومان قد لا يغطيان المجال الكامل لعلم الجمال . ولكنهما بالتأكيد يقدمان التفسير وثيق الصلة بالفن واجمال فى التقليد الغربى .
الشكل ، كما كتب "كانط " فى كتابه - نقد ملكة الحكم – حيث يلعب المفهوم دورا حاسما على الرغم من عدم بلورته حقا –والشكل يتشكل عبر التوليف الموحد للمتشعب ( للمتعدد ) فى تفرده ، اى ،دون اللجوء الى المفهوم العام الذى لاغنى عنه بشكل عام ،وسيكون خارجا عن التجربة الجمالية بقدر ما وبالنسبة لكانط على الأقل هذا لا يمكن فصله عن المواجهة الفريدة والتمثيل .
على الرغم من اصراره على تفردها ( أى المواجهة ) ، فان تفسير كانط يتميز عن سابقيه المرموقيين مثل " بومجارتن " وفنكلمان Winckelmann " ، فقد احتفظ بفكرة الشكل وحاول التفيق بين ذلك والطابع الفريد للحكم الجمالى .
احدى النقاط المحددة التى تفصل بين " كانط " واسلافه لها علاقة بمغزى الجسم البشرى باعتباره موضعا للمثل الأعلى للجمال . وفى حين يصر " فينكلمان " على الصفات الجمالية للجسم البشرى باعتبارها موضوع تمثيل ، وخاصة فى النحت اليونانى ، رفض كانط هذه الميزة الجمالية للجسد الانسانى – على وجه التحديد – لأن من شأنه فرض المثل الاعلى للجمال الموضوعى على ما يجب أن يظل خبرة فريدة وذاتية .
هذا هو السبب فى اخضاع كانط العمل الفنى – أى الجمال الفنى – للجمال الطبيعى أيضا : ليس بسبب تفضيله المناظر الطبيعية للناس ، بل لانه اراد الحفاظ على حماية تفرد المواجهة الجمالية من التلوث باى نوع من التعميم المفاهيمى . وهذا من شأنه أن تكون الحالة بالضرورة فى المواجهة مع الجمال الفنى ، حيث أن الأخير يجب أن يكون مفهوما دائما باعتباره تحقيقا لقصد مسبق والذى فى حد ذاته سيكون ذا طابع عام أو قابلا لتعميم .
دون أن نتمكن من مناقشة هذه المسألة بمزيد من التفصيل هنا ، يكفى ان نقول بأنه عند كانط تميل فكرة " الشكل او النموذج " الى الانهيار فى مواجهة اصراره على تفرد المواجهة الجمالية – وانه لهذا السبب كان كانط يستطيع أن يراها على أنها تدشين تقليد حديث متميز لعلم الجمال ، وفى حين كان يسعى الى استمرار مزاعمها الكلاسيكية للتوحيد والهارمونية ، فتح باب علم الجمال للصراع والنزاع .
لم يكن " بنيامين " و هايدجر " و " دريدا " سوى بعض المفكرين الذين قرأوا " كانط " ضد طابع قصده الخاص ، ربما باعتباره مفكرا ذا مشكلات وصراعات لم تحل بدلا من كونه مفكرا ذا أسس راسخة .
عرفت ما قبل وما بعد الكانطية الجسم البشرى باعتباره مثالا للموضوع الجمالى ، والاجساد بوصفها ذات تاريخ طويل وان كان لا يمكن كشفه هنا باى تفصيل . ويجب أن يتم ذكرها مع ذلك ، لأنها لا تزال – وانا اود ا أقول – الشرط الضمنى لكثير مما يسمى " بالارهاب " اليوم . ويكفى ان اقول بأن الكثير من قوتها الانفعالية يرتكز على تقليد عام يسترشد باللاهوت المسيحى ، الذى بالنسبة له يعد النوع البشرى موضعا للمعاناة الأكثر تطرفا وعنفا ، وحتى الآن بسبب هذا ، امكانية القيام أو البعث . والمستمدة من تقرير الكتاب المقدس بأن البشر خلقوا على صورة خالقهم ، ومن اقرار المسيحى بالصلب وقيامة ابن الله ، وقد ظهر فى شكل جسم انسان كموضع للمعاناة والخلاص ، وغالبا يكون التصالح عبر فكرة الاستشهاد .
ما أود الاشارة اليه هو أنه على الرغم من ان هذه الامكانية الخلاصية مرتبطة بشكل خاص بجسم الانسان وهذا يوفر وفقا لذلك الأساس الذى يستند عليه تفسير جميع الأجسام والمجموعات الأخرى . بعبارة اخرى يميز النموذج الجمالى الذى يخدم بدوره كمعيار لكيفية فهم الواقع او كيف ينبغى فهمه . ببساطة ، وبالتأكيد ببساطة للغاية ، اذا نظرنا الى الكون باعتباره خلقا للاله مطابق لذاته بشكل حصرى ، حينئذ تكون كل جوانب هذا الكون ذات معنى وقيمة بقدر ما تعكس عملية منشئها او اصلها .
وبالتالى تفهم الموضوعات الجمالية باعتبارها منتجات للابداع ( للخلق ) ، وهى كلمة تستخدم غالبا فى سياق علمانى ، ولكن مع احتفاظها بالبنية اللاهوتية التى تم اشتقاقها منها . تستمد المخلوقات حياتها من خالقها . وتستمد الموضوعات الفنية قيمتها من مبدعها الفنى – الفنان . ووفقا لهذا النموذج تستمد المخلوقات وجودها بقدر ما هذا الوجود يعد انتاجا للقصد الأصلى .
هذا الموقف الذى يظهر وجهات النظر المسيحية الاصولية للكون باعتباره نتاج " التصميم الذكى" ، بدلا من كونها عملية متوقفة على مصادفة التطور . حقيقة ان العلم المعاصر يؤكد على نحو متزايد على المصادفة ، ليس فى النظرية التطورية فحسب ، بل وفى ميكانيكا الكوانتم ايضا – فعلى سبيل المثال – وبعيدا عن التخلص من المفاهيم اللاهوتية والغائية للواقع ، يمكن – كما نرى – فى الواقع – اثارتها وترويجها باعتبارها رد فعل على وجهة نظر عالمية تقدم القليل من العزاء والسلوى من المخاوف والمعاناة فى الحياة اليومية .
ترتيط المفاهيم الجمالية العلمانية ظاهربا من حيث الشكل والمظهر تقليديا مع هذه النظرة الغائية للعالم ، حتى عندما تسعى – كما هو الحال – لدى كانط لاتخاذ مسافات من ذلك . فصيغة كانط الشهيرة " باعتباره غائية بلا غاية " يعكس هذا الرابط حتى عندما يجعله ذاتيا .
لكن لماذا يساعد مفهوما " التصميم الذكى " – و"الاعتقاد فى نوع من القصد المتعالى السائد فى العالم بشكل عام " – على تهدئة هذه المخاوف والقلق ، وبالتالى الاستمرار فى فرض نفسيهما – على الأقل فى الولايات المتحدة – فى مواجهة المعارضة شبه العالمية للمؤسسة الفكرية والعلمية ؟ . ربما لان المفهومين ذاتهما " قصد " و " تصميم " يعنيان التغلب على الشكوك وان التجربة الزمانية – المكانية وما يترتب عليها بالنسبة للكائنات الحية حتما ، والعلم المعاصر ، وعلى نحو متزايد للغالبية منهم ( مثل الظروف الاجتماعية والاقتصادية للحياة للحياة اصبحت غير مؤكدة على نحو متزايد ، وخاصة ما يسمى بالدول المتقدمة ) .
يمكن تحقيق خطة أو مشروع ضمنا بمفهومى التصميم والقصد كما يجسدان القدرة على التغلب على هذه المخاوف والقلق ، وخاصة حينما كانت الوسائط التقليدية للبقاء على قيد الحياة من العمل تبدو غير مؤكدة الى حد كبير . التوتر فى الثقافات التى أبلغت ( استنارت ) من خلال " الحق فى الحياة ، والحرية والسعى لتحقيق السعادة " من جهة ، وحقيقة كل الظروف المحفوفة بالمخاطر اكثر من أى وقت مضى وبموجبها يجب أن تعاش الحياة ، وتنتج زيادة الرغبة فى أنظمة الاعتقاد التى يبدو انها تكفل مالم يعد المجتمع يقوم به .
جماليات الشكل والمظهر ؛ وجماليات التمثيل – تبدأ هنا العلاقة بموضوعنا الخاص الذى نامل فى ظهرره – تستطيع الاستجابة لهذه الرغبة ، وخصوصا عندما تعمل تلك الجماليات باعتبارها نموذجا يتم وفقا له تفسير الواقع وتصوره . وهو ما أسماه " كارل شميث " – فى عشرينيات القرن العشرين – ( فى كتابه المختصر الكاثوليكية الرومانية والشكل السياسى ) – " مبدأ التمثيل " والذى حدد فيه المغزى السياسى المميز وسلطة الكنيسة الكاثوليكية ، والهيمنة على وسائل الاعلام اليوم ، وفى الولاياتا المتحدة ، بل وفى أجزاء اخرى من العالم .
لقد رأى " شميث " مبدأ التمثيل متجسدا فى الصلب ، والذى وعد فيه الجسد البشرى ببشرى القيامة عبر المعاناة ، ويقدم رؤية لعالم يمكن أن يظهر الرعب والارهاب فيه باعتبارهما مسارين لازمين للخلاص . هذا لا يعنى القول بأن هذا التاثير هو الوحيد الذى يعد تمثيلا قربانيا يمكن تقديمه ، ولكن فقط هذا التقليد العريق يسعى الى البرهان على العلاقة بين الموت عقابا والخلاص عبر التضحية .
من خلال شكل معين من " التمثيل " باعتباره تشكيلا للنموذج وفى نفس الوقت باعتباه تجاوزا له . يمكن لهذه العملية الخلاصية ان تتجسد – كما كانت – فى العالم الذى تعتبر المحدودية فيه عقوبة على الخطيئة . وبالتالى يعيد التمثيل عرض ما لا يمكن الوصول اليه مباشرة ؛ فهو يجعل اللامرئى مرئيا ، وما لا يمكن تصوره حيا . وأود ان اضيف انه بالنسبة لشميث ليس مبدا التمثيل بهذا المعنى جماليا فى المقام الاول . بل يعد مبدآ قانونيا . ليس صيغة جمالية ، بل هو الشكلية القانوتية التى تتوقع المرور أو بالأحرى القفز من المتناهى الى اللامتناهى ، ومن البشرى الى الخالد .
لكن يمكن تطبيق هذه الحجة ايضا باستخدام أشكال ومظاهر جمالية ، خاصة عندما لا يكون المقصود تصوير الجمال على هذا النحو ، بل تصوير الواقع . اذا تتبع المرء الحجة السابقة القائلة بان جسم الانسان الفرد يعد مقدسا ويبلغ تصور الواقع على هذا النحو ، ومن ثم فان استخدام الصور لا يمكن ا ن يكون اقل فاعلية من الشكلية القانونية فى توفير نظام للاعتقاد يزعم بربط المتناهى مع اللامتناهى .
تركيز " شميث " على الشكلية القانونية على الجانب الآخر من الصيغة الجمالية فى رسم الخطوط العريضة لمبدأ التمثيل يعمل بالتأكيد على التجريد الوحانى لمثل هذه الصيغة ، وعلى النقيض من ذلك مع الطبيعة المادية للجمالى . ولكن بسبب علاقتها الحميمية – على وجه التحديد – بالفرد الجسدى ، يمكن للصور تصوير وابراز الوعد المطمئن بالخلاص الذاتى للأ ضحية .
من المؤكد أن مثل هذا التشكيل يحتفظ بعنصر الغموض وعدم اليقين دائما وبالنظر الى زعمه بالتجاوز فانه يرتبط بالضرورة بتمثيل الجوهر . وهنا ربما تدخل وظيفة الغيمة - او بالأحرى الغيوم فى الصورة لأنه تكاد توجد هناك أكثر من غيمة واحدة . أو بالاحرى وحدة الغيمة ليست مستقرة أو مضمونة . هى جزء مما يسمح له بالظهور لسد فجوة بين عالم الفضاء والزمن المحدودين – عالم المظهر وما وراءه .
هذا هو السبب فى أن الغيوم أحيانا تبدو لاخفاء شىء من قبيل السر ، وحتى العنف المحدد الذى يمكن ان يكون مرعبا ومواسيا فى نفس الوقت . وفى الوقت المتبقى اود أن القى نظرة على اثنتين مختلفتين ، وحتى الآن لا علاقة لهما بالغيوم وفيهما جمالية محددة تتطابق مع الارهاب والعقيدة الارهابية ، وان كان ذلك بطرق متباينة جدا وفى لحظات تاريخية مختلفة للغاية .
( 2 )
المثال الأول موجود فى فيلم يرجع تاريخه الى عام 1934 . اننى اتحدث عن المشهد الافتتاحى لفيلم ل" لينى ريفنستال Leni Riefenstah " "1" ( انتصار الارادة Triumph of the Will ) الذى وثق التجمع الحاشد للحزب النازى فى ذلك العام والمنعقد فى " نورمبرج " . ومن ثم هنا بدون مزيد من الضجة ، يعد المشهد الافتتاحى لهذا الفيلم :
فيلم " ريفنستال Riefenstahl " الى جانب فيلم " أولمبياد Olympiade " الذى انتج بعد عامين فى دورة الالعاب الاوليمبية فى برلين فى عام 1934 ، والمتميزان عالميا والمصنفان على أنهما من أفلام الدعاية . وقد رفضت رينفستال نفسها هذا التصنيف ، مشيرة الى ان ليس فى أفلامها ( منعا للتعبير ) والقول للمشاهدين ما ينبغى عليهم ان يفكروا فيه او كيفية الاستجابة . كانت هناك مجرد صور وأصوات لما يجرى تصويره مصحوبا بالتأليف الموسيقى . والآن كان صحيحا ان الموسيقى المصاحبة تسهم بقوة فى انتاج الأجواء ، وتؤثر بصورة عميقة – فى الواقع غالبا - ماتملى الطرية التى تفهم بها الصورة من قبل المشاهد .
تأثير مثل هذه الموسيقى المصاحبة يصبح اكثر فعالية لمرورها تحت مراقبة رادارية لدينا ؛ ونحن نكون بصفة عامة أقل وعيا بكثير فى الموسيقى مما نكونه فى حالة الخطب الملقاة . كل هذا كان فى عمل ربفنسفال للفيلم ، وخاصة فى تتابع الافتتاحية . ومع ذلك يبقى أن الاصوات التى سمعت فى الفيلم هى آراء المشاركين : خطب هتلر ، و " هيس " والمسئولين النازيين الآخرين ، فقد أخرج الفيلم بعناية . وهذا يعنى ان ، العنصر الدعائى فى الفيلم يتكون من الصور والأصوات ، عوضا عن الصوت غير المنظور والمتعالى الذى يخبر المشاهدين بما تعنيه الصور والاصوات حقا .
بيد أن هنا استثناءا جزئيا لهذه القاعدة ويتعلق الأمر بالبداية ، فى ( مقدمة الفيلم ) فقد كانت باعتبارها مقدمة وتأطيرا للفيلم . هذا المصلح الانجليزى (credits ) لا يكاد يعادل المصطلح الألمانى (Vorspann ) وما يعرف بالفرنسية ب (générique ) وهذا الأخير هو الأفضل لانه على الرغم من وظيفته النفعية – الا أنه من كلام الشعب - الناس gens – الذين يشاركون فى الفيلم ، وتشير الكلمة ايضا الى ما يأتى قبل الفيلم ، بمعنى معين يولد الفيلم من خلال تأطير السياق الذى يكون فيه القصد من المشاهدة .
على الرغم من أن ( المقدمة التى تحتوى على اسماء الممثلين ) لا تنطوى على الصوت ، فمازال استخدام الكتابة والنقوش – فى الواقع من الطباعة – من أجل اعداد المشهد . يبدأ الفيلم بشكل ملحوظ ، ليس مع الصورة ، بل مع نفى الصورة والرؤية ، مع شاشة سوداء ، والتى يمكن تفسيرها باعتبارها تمثيلا لليل او الظلام .
وطوال الفيلم تستمر لعبة الضوء والظلمة ، وظهور احدهما من الآخر ومروره فى الآخر ، وسوف تتحول هذه اللعبة الى أن تكون احدى السمات المميزة والملحوظة . لكن الظلام والشاشة السوداء لا يستمران طويلا . انهما توظفان باعتبارهام التباين والانتقال الى ما هو آت .
بعد ثانية أو بعد ثانيتين ينقشع الظلام ببطء ويسمح للصورة بالظهور تدريجيا : يظهر نسر منحوت من الحجر جاثم على شىء فى البداية ، والتى يصعب التعرف عليه فى البدء ، ولكن فى الثوانى التالية تظلل الخلفية مكونة سحبا مضيئة تتحرك فى السماء . وبالتالى فان هذه الغيوم لا تجعل البصر مشوشا بل توفر خلفية مشرقة تنطلق منها الأشكال الضخمة لنسر جاثم على اكليل من الزهور ، التى تحيط الرمز النازى بامتياز : الصليب المعقوف .
يواجه المشاهد فى هذه الثوانى الأولى بالفعل مجموعة من التناقضات التى سوف تسود الفيلم ككل : بين الظلام والضوء والتوقف والحركة والمرئى واللامرثى ، من هذه التناقضات ، التناقض بين التوقف والحركة التى ربما تكون أكثر اهمية ، لانه مفترض مسبقا ( اى التناقض ) من قبل الآخرين . الاجتماع الذى صورته ريفنستال كفبلم ليس لمجرد حزب سياسى ، بل لما تشير الى نفسها باعتباره " حركة Bewegung " .
ريفنستال الى أكدت على انها عرضت لقطة السفر لفيلم وثائقى ، وكانت - على اى حال - تدرك أهمية الحركة تماما ، وحقيقة أن مثل هذه الحركة – بالنسبة لها – تشمل الكاميرا والمشاهد . وقد صممت أفلامها على " تحريك " مشاهديها ، ولقيامها بذلك فانها تصور أنواعا معينة من الحركة من منظور كثير التنقل .
هذه العلاقة بين الحركة والتوقف ، وبين التغير والبقاء ، ويتخلل الفيلم ايضا ما يظهر ذلك فى الطريقة التى تتحرك بها الكاميرا نفسها ، وفى خطب المشاركين . ولكن كل هذه الحركة مؤطرة من البداية بالطريقة التى تتطور بها المقدمة .
يتكون هذا التأطير التمهيدى من ثلاثة اقسام ، استمرت لنحو ثلاث ثوان لكل منها ويفصل بينها تلاشى العموميات . اول ما وصفناه للتو : هو ما ينطلق من الشاشة السوداء والتى تضىء تدريجيا ، ويظهر النسر على الاكليل مؤطرا بالصليب المعقوف ، ثم ننزل تدريجيا الى العنوان : " انتصار الارادة " .
تبدو النقوش كلها منحوتة من الحجر فى زخرفة على الجدار ، مكونة مجموعات مربعة كبيرة . والنقوش فى حروف شبه قوطية ، وقد شدد على الأهمية النسبية لها من خلال الظلال الملقاة على الجدار الذى حمل النقوش . مفهوم " رايخ ألف عام " بالرغم من أن لا مكان لذكره صراحة ، قد أوحى به من خلال حروف الحجر الضخمة .
فى الواقع هناك نوعان من التلاشى فى القسم الأول ، تلاشى صورة فى صورة أخرى ، والقيام بالتحول المستمر . والتلاشى فى الشاشة السوداء الذى يفصل الأقسام عن بعضها البعض . هذا التلاشى الى الأسود يمكن أن يفسر على أنه اقحم للفاصل الزمنى المطلوب لفصل العناصر الفردية عن بعضها البعض . ترتبط الصور – بطبيعة الحال – وبالتالى لا تنعزل ، ولكن التلاشى يعطى كل جزء منها الاستقلال النسبى . كل صورة منقوشة بحروف على الحجر تهدف الى الصمود امام اختبار الزمن وقد صممت هذه الصور منذ البدء لكى تدوم .
هذا البعد الزمنى لم يظهر بوضوح فى القسمين الثانى والثالث من هذا التتابع التمهيدى ، وكل منهما يكشف تاريخا معينا . اولا ان الفيلم نفسه كان يطلق عليه انه " وثيقة " عندما ظهر الى حيز الوجود بناءا على طلب من " الفوهرر " وهو ما يعطى الوثيقة شرفا خاصا وتقريبا فيما يتعلق بما يتم تصويره .
لكن الصورة التالية تعلن أن الفيلم نفسه تم تشكيله من " لينى ريفنستال " . يستخدم العنوان الفرعى الانجليزى كلمة مألوفة للغاية " ابدع / خلق “created " ، لكن العنوان الألمانى اكثر دقة وتحديدا : " صممته ريفنستال Gestaltet von Leni Riefenstahl " . وكلمة Gestalt مهمة لانه تنطوى على الخلق من العدم ، بدلا من التشكيل الذى يعطى الشكل والمظهر للمادة الموجودة فعلا .
لقد كتب الكثير عن مفهوم الجشطالت وخاصة فى أعقاب " هايدجر " الذى راى فى المصطلح العنصر الجمالى الأساسى المساهم فى التغاضى الميتافيزيقى عن الفرق الانطولوجى بين الوجود والكينونة .فبالنسبة ل " هايدجر " تشير الكلمة الى شىء يتكون بشكل مستقل عن الزمن والتاريخ ، وما يمكن ان يحدد مسارهما على حد سواء . مثل نفس الادعاء قد تم النص عليه فى كتابة مثل هذا النقش على الحجر لهذه المقدمة التى تسعى الى الاعتماد على فكرة العنوان والاسم الذى لا يتأثر بتغير الزمن من خلال المساهمة فى مجرى التاريخ .
الشاشات الأربع التى تشكل هذا القسم الثالث والأخير لادخال التسلسل التاريخى الذى يوثقه الفيلم والاحداث ، من خلال تسلسل تاريخى يبدأ من 5 سبتمبر فى عام 1934 ، اليوم الاول لمؤتمر الحزب . وقد استوعب هايدجر مفهوم الجشطالت فى التقليد الميتاقيزيقى الذى يفسر الوجود قبل كل شىء فى صيغة المفرد الغائب الدال على الحاضر ، مختزلا مصادره الى الوجود الذاتى المجرد ل " يكون is " . تاريخ ريفنستال يؤكد الاختزال من خلال موضعة اللحظة التى بدا فيها مؤتمر الحزب ، وفيما يتعلق بالسوابق التاريخية .
اول هذه التواريخ هى اللحظة الراهنة كما جاءت بعد 20 عاما على اندلاع الحرب العالمية الاولى ، والتاريخ الثانى يحدده الاجتماع بعد 16 عاما من معاناة ألمانيا ( اى بعد معاهدة فرساى ) . واخيرا كما لو انه يشير الى تسارع الزمن التاريخى ، وتغير السنوات الى أشهر – 19 شهرا بعد الولادة الجديدة لالمانيا ( تميزت بالتحول الى المرافقة الموسيقية لضجة آلات النفخ النحاسية الفاجنرية ) – اى 19 شهرا بعد تسمية "هتلر " مستشارا فى 30 يناير 1933 ، ووصول هتلر على متن طائرة فى " نورمبرج " .
قبل أن نشرع فى هذا التسلسل ، تجدر الاشارة - مع ذلك – الى أن التقسيم الثلاثى للعملية التاريخية التى سبقت مؤتمر الحزب 1934 يمكن مقارنتها بشكل مفيد برواية الخلاص المسيحى ( سرد الخلاص Heilsgeschichte ) . اذا كان هذا الاخير يتكون من خلق الاول ، ومن ثم الاخفاق ، واخيرا الفداء ، فالتاريخ الألمانى فى القرن العشرين كما اعلن فى هذا الفيلم يتبع نمطا مماثلا ، مع التغيرات العديدة : التى تلقى الضوء على بدلا من خلق العالم هناك توجد الحرب العالمبة الاولى وبدلا من الاخفاق او السقوط ، توجد الهزيمة ( والمعاناة ) ، واخيرا فى مكان القيامة من خلال تضحية المسيح ، توجد ولادة جديدة من خلال وصول الفوهرر وحزبه للسلطة .
ما تقاسمه الفيلم مع سرد الخلاص المسيحى هو فكرة السقوط المؤدية للخلاص والبعث ،وكذلك التركيز على الشخصية المسيحية الفردية كعامل أساسى بعملية الخلاص . ويتم اخذ مكان التأكيد المسيحى على الأعمال الخيرية – ومع ذلك – من خلال التزام صريح وتمجيد الصراع والسلطة . ومن هنا تأتى اهمية العسكرة . للانتصار ، لم يتطلب النازى شيئا اكثر ولا أقل من عسكرة الجماهير ، وكما سنرى ، تتضمن صياغتهم فى كتلة واحدة وبزى موحد لتصبح تشكيلة ضخمة .
هذا كان متضمنا بالفعل فى اسلوب النقش ( الكتابة ) الذى نوقش سابقا : وهذا يتشكل – بالمعنى الحرفى فى الكلمة الألمانية " Blockschrift " ، كتابة مكونة من كتل حجرية . " كتابة على الحجر " التعبير الالمانى الذى يحدد شيئا وجد ليكون ثابتا . وهذا ما يعد على المحك هنا بالضبط . ويصبح الخلاص المسيحى ثباتا سياسيا ووطنيا . وهذا لايستبعد التغيير – للتأكيد – بل يستوعبه ويستعمله كوسيلة .
مع ذلك ، هناك نقطة ثانية اقترح فيها السرد التاريخى فى البداية مما يختلف عن أصول المسيحية . سوف لا يحدث الخلاص أساسا فى السماء ، بل بالأحرى سيتم هنا على الأرض .
وسوف يحدث هنا والآن ، فى يوم محدد، والذى يصادف التاريخ الرابع والاخير فى التسلسل وايضا الانتقال من التمهيد الى الفيلم الخاص : الخامس من سبتمبر 1934 ، وهو اليوم الذى يبدأ فيه الفيلم ، واليوم نقرأ – فى الماضى مثل هذا النقش – الذى فيه طار اودلف هتلر مرة أخرى الى نورمبرج لحشد المؤمنين لاجراء عرض عسكرى لأتباعه - مع الفكرة السياسية " حشد Heerschau " مرة اخرى – " حرفيا مراجعة وتفقد القوات " .
رحلة هتلر الى نورمبرج – بالنسبة للجميع يعد وجودها بالغ الأهمية – وهى مصممة فى النقش السابق باعتبارها العودة ،وهذه العودة هى المرة الثانية لهتلر ، وقد ذهبت "ريفنستال " الى مؤتمر الحزب فى نورمبرج . وقبل عام كانت " لينى ريفنستال " تصور فعلا مؤتمر الحزب عام 1933 هناك ، والذى انطلق تحت شعار " انتصار الايمان Triumph des Glaubens " . لذا فانه فى المرة التالية – مع ذلك – قد وضعت كلمة الارادة مكان كلمة الايمان ، وذلك بمعنى خاص للغاية .
من مدة شهرين فقط قبل ذلك ، بقطع رءوس الجزء الأكبر والاكثر اخلاصا والاقدم فى الحزب النازى الذى خدم باعتباره الجناح العسكرى طوال صراعه من أجل السلطة ، و (SA )"2" والذى يعرف باسم " ليلة السكاكين الطويلة " . ولكن ما ان اشار النازيون أنفسهم الى ما يعرف ب " تطهير روم " . "ارنست روم "رئيس ال (SA ) ممثل الجناح الراديكالى الاشتراكى للحزب الاشتراكى الوطنى ، كان الاستيلاء على السلطة بالنسبة له يعنى الاستيلاء على مؤسسة واسعة النطاق مناهضة للرأسمالية من خلال الاصلاحات الاشتراكية .
باختصار ، كانت الثورة الاشتراكية الوطنية – بالنسبة لروم – قد بدات فقط ، فى حين أنه بالنسبة لهتلر كان من المحتم تطبيع واستقرارالحزب لكى يستطيع تعزيز سلطته بمساعدة "رايسوهر Reichswehr " وبارونات الصناعة والمالية الالمان فى عام 1934 ، وبالتالى كان انتصار الارادة يعنى أيضا انتصار ( SS )"3" على (SA ) او انتصار " هيملر " على " روم " ونظرا للدور التاريخى الذى لعبته (SA ) روم فى صعود الحزب النازى للسلطة ، ومسالة ان من كانوا مخاصين حقا – هم " الأنصار Getreuen " وقد كان من وضع ذلك فى اعتبار الجميع .
عودة الفوهرر الى نورمبرج حينئذ كانت اللحظة التى قال فيها انه سوف ( يحشد قواته ) ليظهر بأن الحشد يؤكد انه لايزال يسيطر على ولاء أربعة ملايين – الأعضاء فى (SA ) - التى كان قد قضى على قائدها قبل شهرين بالكاد . وكانت لحظة الميلاد الجديد يمكن أن تفهم أيضا على أنها الاحتفال بالقضاء على الجناح الثورى الاشتراكى البروليتارى للحزب النازى ، الذى يواجه الآن مهمة تعزيز سلطته بمساعدة من الصناعة الألمانية ومؤسسات ألمانيا العسكرية .
لا شك ان مشاهدة الفيلم اليوم لا تظهر شيئا من هذه الخلفية المرئية على الفور من الصور والاصوات التى قدمتها " ريفنستال " فى فيلمها على الرغم من انه تمت عدة تلميحات لهذه الأحداث فى خطب هتلر وموظفى الحزب . لكن الظلال والغيوم التى يطير خلالها هتلر فى رحلته الى نورمبرج تشير الى مخاطر تم السعى مؤخرا للتغلب عليها أيضا . لا شىء من هذا يبدو واضحا ، ولكن فى السياق الأصلى الذى تم فيه الفيلم تتوافر خلفية تجاه الصور التى تمت رؤيتها وسمعت الاصوات المصاحبة لها .
وهذا هو السبب أيضا فى أن الغيوم التى أحاطت بداية الطائرة فى طيرانها والى هذا ينحدر البصر من السماء الى الأرض فى الاسفل ، وفى النهاية عبرت وسمحت لاسطح المنازل فى المدينة أن تكون فى مجال الرؤية . الطائرة هى نتاج التكنولوجيا واداة السلطة معا ، وربما كان هذا السبب فى أن ريفنستال قد ضمنت الطائرة فى الصور والأصوات .
يقدم الفيلم والرؤية الممكن سياسيا بالاضافة الى ما يعد تكنولوجيا ، من خلال سلطة وسائل النقل الجديدة نسبيا ، والتى تمثل جزءا من نفس التطور التكنولوجى كما هو الحال فى كاميرا الفيلم نفسها . يمكن رؤية التسجيلات التكنولوجية وآلات النقل باعتبارها التعالى وقد انزل الى الأرض . وهذا هو السبب فى أن ريفنستال تدعى باعتزاز انها أدخلت لقطة الرحلة فى فيلم وثائقى . فلا تكفى لحركة الفيلم أو التصويرالصور المتحركة ؛ بل يجب على الكاميرا نفسها ان تتحرك (على الرغم من أنها تتحرك بطريقة مختلفة جدا عن الرجل مع كاميرا السينما ) .
بعد المضى عبر الغيوم ، الطائرة والكاميرا تنزلان ببطء ، ولفترة وجيزة يفقد النظر السماء قبل أن تظهر فجأة أسطح نورمبرج فى الاسفل . وقد وفرت الغيوم الاطمئنان والغطاء الواقى للنزول من السماء الى الارض . تظهر ابراج الكاتدرائية ومن ثم القلعة وشعارات الكنيسة والدولة الحديثة والمتناقضة مع الظلام ، والأشكال غير المكتملة من جسم الطائرة وقد أمعنا النظر فيها .
باعتبار الطائرة تهبط الى أسفل وتفاصيل اسطح المنازل تظهر بوضوح أكثر ، والموسيقى المصاحبة الهادئة التى تهيمن عليها الالآلات الوترية ، تحل محلها فجاة آلات النفخ النحاسية عازفة لموسيقى ( أغنية هورست فيسيل )"4" ونشيد الجزب النازى . وقد سميت الاغنية بعد أن ألفها عضو فى ( SA ) والذى قتل فى معارك الشوارع مع الجبهة الحمرا الشيوعية . بينما يسمع صوت هذه الأغنية ، ينتقل المشهد من المنازل الى كتل من الناس يسيرون فى الشوارع ، وهى صورة اصداء الأسطر الأولى من الأغنية . " مع اعلام مرفوعة ومرتبة فى تشكيل ضيق ، و (SA ) فى زحف مع خطوات باسلة " .
تشكيل هذا الترتيب مغلق باحكام ، وعلى حد ماتقوله العبارة الألمانية حرفيا ( صفوف اغلقت بحزم die Reihen fest geschlossen ) وهى تلخص جانبا واحدا من الصورة المرئية فىهذا الفيلم والتى تذكر باعتبارها السمة المميزة لتصوير الفاشية . ما أود أن أشير اليه – مع ذلك – فى سياق مؤتمرنا ، هو وجود علاقة بين التركيز الفاشى والنازى على الوحدة والاتساق والتجانس ، وما عرفه " كانط " على أنه "العنصر الشكلى " فى الحكم الجمالى ، حيث أشار الى انه يتكون فى " توحيد المتشعب ( او المتعدد ) " . وحشد كتل المتظاهرين سواء كانوا مدنيين او من الجيش ، يخلق الوحدة الموجودة فغلا ، وأنا أود أن اجادل فى ما تنطوى عليه المفاهيم الجمالية التقليدية للشكل والمظهر (الجشطالت ) .
الجشطالت بمعناها الحرفى ما "يوضع فى المكان set-in-place is " . لوضع شىء فى مكان م يتطلب بداية ( حركة الاعداد ) ومكانا مستقرا لكى يستقر فيه الاعداد . الى المدى الذى يتم فيه الوضع فى المكان يعتبر قد شكل بشكل مستقل عن عملية الاعداد بصفة عامة ، ويمكن أن يصبح نموذجا أو مثالا لمفهوم الهوية الذاتية التى يمكن تطبيقها على الذوات بالاضافة الى الموضوعات ، وعلى الجماعات بالاضافة الى الأفراد .
فى هذه الحالة فان عملية الجشطالت هى المعادل الألمانى " للابداع " الفنى ، وهى فى الواقع الوريث للدلالات اللاهوتية للكلمة الانجليزية " خلق / ابداع creation " . الفنان ، ومن باب أولى فنه أو فنها يعتبر على حد سواء ما هو عليه وما يتجاوز مظاهره المكانية الزمانية ، والتذى هو بدوره وظيفة الجوهر الكائن بالفنان . ينسى المرء أو يتناسى العملية الديناميكية للوضع فى المكان ، أو الى اى مدى يتم تثبيت التعدد فى وحدة متسقة ويأخذ على الظهور المكتفى بذاته .
من هذا التواطؤ والترويج من خلال الجماليات التقليدية ، وما كان يضع " والتر بنيامين " فى اعتباره عندما ربط فى نهاية مقاله عن " العمل الفنى فى عصر الاستنساخ التكنولوجى " بين اضفاء السمة الجمالية على السياسة " الفاشية . ومع ذلك فالمقصود بهذه العبارة الى يستشهد بها كثيرا ، يظهر بوضوح اكثر عندما تتصل بفقرة أخرى ، والتى تدخل فى القسم الأخير من هذه المقالة ، وان كانت لم تلق الاهتمام الذى تستحقه . يمكن القول بأن عبارة " بنيامين " بأنها كانت بمثابة " ذاكرة الشاشة " لحجب السياق الذى تستمد منه الأهمية . وهذه هى الفقرة التى أشرت اليها :
" تزايد التحول الى البروليتاريا من الناس اليوم والتشكيل المتزايد من الجماهير وجهان لنفس الحدث . تسعى الفاشية الى تنظيم الجماهير البروليتارية المطورة حديثا دون المساس بعلاقات الملكية التى تسعى للتخلص منها .وهى ترى خلاصها ( خلاص الفاشية ) فى السماح للجماهير للتعبير عن أنفسهم ، ولكن دون الحصول على ما يمثل حقا لهم .
للجماهير الحق فى تغيير علاقات الملكية ، والفاشية تسعى لمنحهم التعبير عن الذات من خلال الحفاظ على تلك العلاقات . وتعا لذلك تقود الفاشية الى اضفاء السمة الجمالية على الحياةالسياسية . ... كل الجهود المبذولة لتجميل السياسة بلغت ذروتها فى نقطة واحدة هى : الحزب " .
على الرغم من ، بنيامين لم يذكر فى أى مكان من هذا المقال فيلم " لينى ريفنستال " ، فانه أشار بدلا من ذلك الى ( فيلم اخبارى او النشرة الاخبارية ) - الفيلم الاخبارى الاسبوعى – وكثيرا ما وصفه طوال نصه وبصفة خاصة هنا ، والتى تجسدت بصورة أوضح فى انتصار الارادة .
وبنيامين ، مؤلف النص البارز المعنون ب " الرأسماية كالدين " ربط هنا الفاشية مع الوعد الدينى بالخلاص . فقد وجدت الفاشية الخلاص فى منح الجماهير التعبير عن الذات ولكن فقط بقدر ارتباطه بالحفاظ على علاقات الملكية القائمة . وهذا بدوره يستلزم ما يمكن أن يسميه بنيامين " أقنوم هيكل الهوية" : ما يكون الناس عليه عند الولادة وبحكم طبيعتهم واعراقهم ، ويجب السماح لهم بالتعبير عن أنفسهم ، ولكن دون أن يغيروا أنفسهم .
فى حاشية هذه الفقرة يستشهد بالتأثير الهائل للأخبار المصورة الاسبوعية فى تقديم مثل هذا التعبير عن الذات ، وقبل كل شىء من خلال صور الجماهير فى الأحداث السياسية والرياضية والمسيرات الضخمة وما الى ذلك . هذا أقنوم الهوية الذاتية القائمة – وهو يعنى الوعى الذاتى لمثل هذه الهوية – المرتبط بشكل وثيق بعملية العزلة كما وصفها " فرويد " ، والوسط المتميز هو " ذكريات الشاشة " ولكنه ما يمكن أن اسميه ايضا التشكيل الجمالى – بقدر ما مثل هذه الاشكال والمظاهر يتم عرضها باعتبارها متطابقة ذاتيا وواضحة بشكل مباشر : بالمعنى الحرفى . ان تنظر اليها يعنى ان تفهم ماتعنيه هنا وليست هنالك حاجة للنظر فى مكان آخر ، وللتفكير فى علاقاتها التى لا تظهر يشكل مباشر .
أحد الاشكال الخاصة الهامة لهذا الجشطالت ينطوى على تعبير الجماهير عن الذات ، وبالتحديد كتل المتظاهرين كما ترى من اعلى ، من ما أسماه بنيامين فى نفس الملاحظة ( نظرة طائر أو نظرة شاملة ) . الذاتية النقية والهوية الذاتية لهذه الجماهير – مما يجعلها التشكيل المثالى لهذا النوع من الهوية المطلوبة من قبل البورجوازية وعلاقات الملكية الراسماية فى ظل الفاشية ، وهى قبل كل شىء هوية متجانسة ( اى انها ليست مدينة بشىء لأجنبى أو غريب فى تاريخها القريب ) – ( هذا ) وقد برزت من خلال وفى ارتباط وثيق بتشكيلات مندمجة مجهولة وكثيرة الحركة .
تتحرك الجماهير باتجاه هدف ( والذى هو أيضا السبب فى حاجتها واعتمادها على الزعيم ) . ويشير تراصها الى أنها ستكون فى مأمن من أ تاثير خارجى . فى هذا المعنى فان التعبير الذى ربطه بنيامين بكل من الفاشية والرأسمالية يفترض مسبقا نوعا مماثلا من الهوية المتأصلة التى لا تزال قائمة ومتصلة مع العالم الخارجى ، وبالتالى يمكنها التعبير حرفيا ، ولكن لا يمكن تشكيلها من خلال علاقتها بالآخرين .
فى حاشية هذه الفقرة التى سبق ذكرها اشارة الى ما يتعلق بجانب آخر للتعبيرية التى ينسبها الى الفاشية وعلى وجه الخصوص استخدامها للصور والافلام فى الاستعراضات الكبيرة والاجتماعات الضخمة ، وفى الاحداث الجماهيرية فى الرياضة وفى الحرب ؛ والتى يتم تنفيذها اليوم مسجلة بواسطة الكاميرا ، والجماهير نفسها فى الواجهة .
بالنظر الى بقية هذا المشهد حيث بنزل هتلر من الطائرة الى المتفرجين المتجمعين ، ويمكن ان توصف مسالة المواجهة باعتبارها تعبيرا عن الذات بدقة أكبر . لأن هناك نوعين من المواجهة : مواجهة المبتهجين والمنتشين ولكن لا تزال مواجهات متعددة لهؤلاء المتجمعين للترحيب بهتلر ، بالتحية الفاشية ،ومواجهة الفوهرر، بهدوء وخجل تقريبا ؛ وبينما كان ينزل من الطائرة اربك بالترحيب الذى قوبل به . وفى المسيرة التى تاخذه من المطار الى المدينة ، تتكرر لقطات الكاميرا للجزء الخلفى لهتلر ، حيث لا يرى المرء وجهه بل الجزء الخلفى من رأسه مع يده المرتفعة مرة أخرى فى تحية مميزة .
لقد تفرقت الغيوم منذ فترة طويلة لافساح الطريق لهذا الموكب - ولكن يبدو من المهم هنا الصلة بفكرة بنيامين عن التعبير ، وهى تفاعل الجماهير مع زعيمهم ، الذى يلخص وجهه وشخصيته نوعا من التعبير الذى منحته له الجماهير من استمرار علاقات الملكية القائمة . هذه العلاقات تتطلب فكرة الذات باعتبارها قادرة على الامتلاك ، وهو ما يعنى أنها بشكل نهائى قادرة على البقاء بنفسها مع مرور الوقت ، فى سيطرة المرء على نفسه ، وبالتالى قادرة على الوجود على أنها مالك متميز لما هو مناسب .
بالمعنى المزدوج للكلمة ، تنطوى على حيازة مشروعة للاشياء والموضوعات فضلا عن امتلاك المرء للقدرات والأفعال . تستطيع الصفوف المترابطة باحكام من المشاهدين ، وهذا الشخص المنتصب كقائد وحيد وأوحد حل مسالة التعدد والوحدة والزوال والبقاء . كما وضعها " رودلف هيس " فى احدى خطبه خلال المؤتمر : " أدولف هتلر هو ألمانيا والمانيا هى هتلر " .
لكن بعد ذلك ، لماذا كانت الحرب بداية ونهاية اضفاء السمة الجمالية الفاشية على السياسة والعنف ؟ . يقدم لنا الجزء السابع من فيلم ريفنستال ما لا يقل عن اجابة جزئية :
مقطع ( كليب ) يتذكر بداية الفيلم ؛ اولا ، شاشة سوداء وسرعان مايتبعها النسر الجاثم على الصليب المعقوف الذى يتلاشى فى الاستطالة ، والممر المركزى من خلال الارتفاع لمسافة كبيرة وثلاث صور لهتلر و هيملر (SS ) و " فيكتور لوتز " (SA ) الذين اعطوا ظهورهم للكاميرا وقد أحيطوا من الجانبين بصفوف وصفوف من (SA ) وقوات ( (SS) ، 120000 ككل ، يتقدمون نحو هدف مؤكد ، وفى اللفطة التالية حيث يتم الكشف عن شعلة اللهب تكريما للجنود الألمان الذين قتلوا فى الحرب العالمية الأولى .
مثل هذه المواجهة مع الموت لمسيرة سياسية ، كانت هى أكثر اللحظات المهيبة لأربعة أيام ، وصولا الى الخطب من قبل هتلر ولوتز التى سوف تكون تبريرا للقضاء على روم و (SA ) باعتبارها منظمة مبرأة من ذنب روم .
ما يتم التعبير عنه فى هذه المناسبة ليس شيئا أقل من ارادة الانتصار ليس على العدو فحسب – فى هذه الحالة هو " روم " قائد (SA ) – بل وعلى الموت نفسه . عن طريق قتل روم ورفاقه ، ولادة المانيا الجديدة صارت مؤكدة .القتل والجيش ( فى شكل قوات الأمن الخاصة SS و" رايسوهر " ) سيكونا الطريق الى الحياة الأبدية الى الف عام رايخ .
يمضى الاحتفال بذكرى الرفاق الذين سقطوا بجانب الاحتفال بالموت الذى كان نتيجة للقتل ، وصار عملا قصديا – والمرء يمكن ان يلحق به ( أى بالموت ) بشكل عمدى وضمنى ، وأن يقهره بشكل متعمد ( اذا لم يكن قد تجنبه ) . الحرب باعتبارها قتلا جماعيا وقصديا ، تجعل الموت فيها مثل ما جاء منذ سفر التكوين ، بل وأيضا منذ موت المسيح : اعنى نتيجة لعمل الانسان سواء باعتباره عقابا على ذنب أو خيانة .
من خلال العمل بالطريقة التى تجعل الموت نتاجا لعمل الانسان والسياسة بشكل عام ، وبصراحة تسعى السياسة الفاشية الى جعل الخير فى وعد " بولين Pauline " المقتبس من " هوبز " فى كتابه "التنين " فبما أن الموت جاء من قبل الانسان ، فمن ثم كانت قيامة الاموات من الانسان ايضا .
من المؤكد بالنسبة ل " بول Paul " أن القيامة بداية كانت عمل انسان محدد للغاية ، وهو ايضا ابن الله ، وهو الفرق الذى يفصل بين المسيحية والفاشية . بالنسبة للأخيرة – الفاشية – شبيه الاله هو " الفوهرر" أو" الدوتشى " الذى يجب أن يؤكد على قهر الموت ، من خلال معادلة اشكالية ولكنها ضرورية للناس مع القائد المسيحى اليهودى messianic .
القائد – الفوهرر أو الدوتشى – هو الفرد الذى تضعه فردانيته بعيدا – ومنعزلا – وفى نفس الوقت تجعله تعبيرا عن الجماعية التى يتم تفسيرها باعتبارها " فردا " متجانسا ، وأعضاءا فى نفس العرق ، ونفس الثقافة ونفس الامة . هذه الجماعية تم قولبتها فى الفرد بالمعنى الحرفى فى وجود التفكير فيها باعتبارها متجانسة وغير قابلة للتجزئة .
بالتالى يمكن للفرد أن يأمل فى العيش فى الجماعة ، وفى حالة النازية يفهم نفسه على نحو جسدى ، كاستمرار جسدى لأعضائها الأفراد ، من خلال استمرارية الدم . ولكن هذا بدوره يتطلب الجماعية – العرق ، والناس والأمة – لتوحيد صفوفها بطريقة ( مكثفة ومغلقة ) – على حد تعبير أغنية " هورست فيسل " – من أجل استبعاد كل تلوث وتدنيس من مصادر اجنبية وغريبة .
هذه هى النسخة البيوسياسية للأمة مقولبة أو مصممة على غرارالفرد الذى لايتزعزع ، الفرد المعرض للخطر . يتجلى هذا الفرد كموضوع للايمان والاعتقاد فى شخصية الفوهرر ، فى الفوهرر باعتباره جشطالت والجشطالت باعتباره فوهرر .
المثل الأعلى للجماعية التى لاتتجزأ والمحصنة ضد الخطر والخالدة بشكل نهائى – رمز اليها بالنسر الحجرى ، وبشكل عام ايضا من خلال " فاشيز fasces " "5" او الصليب المعقوف ( تعديل الصليب فى الالمانية " الصليب المعقوف Hackenkreuz " ) – يمكن أن يمارس جاذبية سياسية الى الحد الذى يمكنه الزعم بالسيطرة على القلق وتحديد الاتجاه . يوظف المظهر فى هذا الفيلم غالبا باعتباره علامة فارقة ، علامة الحجر توجه الأنظار وتسمح لها فى النهاية ان تضع نفسها فى مكان للراحة . للتركيز . العائق الأساسى أمام مثل هذا التركيز هو بطبيعة الحال ، الموت .
الشعلة مؤطرة ومسيطرعليها بالحجر والقوات الصخرية ، وهى طريقة واحدة للتركيز على الموت الذى يصبح حينئذ انتقالا للحياة الأبدية . هذا الاستيعاب للموت فى الحياة ، كلحظة انتقالية ، استمرارا للحافز كما فى الثقافة الغربية القدية وكما فى الكتاب المقدس ، وأهمية خاصة فى السرد الخلاصى المسيحى . ولكن ينطوى استيعاب الموت فى الحياة على تجاوز المحدودية ،والتى يمكن أن تتلاقى فى سياقات سياسية وتاريخية معينة مع رفض عدم التجانس .
انها هكذا فقط عندما يكون الأصل نقيا وعمل على التطابق الذاتى وان النهاية التى تنتظر جميع الكائنات الحية والتى لاغنى عنها للكائنات الفريدة يمكن أن تكون ممثلة ليس باعتبارها حدوث النقطاع بل باعتبارها انجازا . عندئذ فحسب يفقد الموت لدغته او المه .
انا أرى أن عنصرا اساسيا يكمن فى هذا المشروع وهو تمثيل الموت على أنه نتيجة لفعل بشرى ، نتيجة القصد . وهذا ما يجعل الحرب وسيلة متميزة للسياسة من خلالها تجد الجماعية السياسية التعبير عن الذات . الحرب تضفى الشرعية على القتل وبذلك تجعل الموت فى لحظة التضحية ( الفداء ) انبعاثا . ولكنها – قبل كل شىء هنا – هى موت الآخرين المقصود .
نظرية " كارل شميث " عن تجميع العدو – الصديق باعتبارها أصل التوضيح السياسى للاصول المسيحية . باستثناء أن ليست الانسانية ككل التى تم انقاذها ، بل ما تم انقاذه هو شعب خاص ، وأمة أو عرق – خلافا لغيرها من الانفس – وهذا يعنى على العكس من الشعوب الأخرى والأمم الاخرى والأفراد الآخرين .
ولكن هؤلاء الاخرين فى أى مكان يرى فيه هذا الفيلم ، يبدو أنهم قد حجبوا بعيدا ، للبدء من خلال الغيوم والتى تهبط خلالها الطائرة فى طريقها الى مكان الوصول . مثل الغيوم فى المشهد الافتتاحى المؤطرة لنافذة الطائرة . الغيوم نفسها التى تختفى فيها الطائرة ، الا اذا كان للخروج على الجانب الآخر ، والتمثيل الرمزى للتحولات من لقطة الى أخرى تالية ، عن طريق التلاشى والتداخل . هذا التلاشى التدريجى والتلاشى الاضافى يؤسس التسلسل السينمائى مع الاستمرارية الكامنة وراء الحركة . هذا لا يستعيد القطع والتلاشى الأسود ، الذى يؤكد على النقيض من الانقطاع ، ولكنه بدوره يسلط الضوء على استمرارية التقدم بشكل عام .
هذه هى الاستمرارية التى تتضمن وتستوعب الانتهاكات المتطرفة التى تميز " النهضة الألمانية " ، وربط جمالية فيلم " ريفنستال " بعنف السياسة النازية . وهو العنف الذى قام به القادة النازيون وتفاخروا به ، بل كانوا من أجل تاكيد الطابع الدائم للنظام الجديد فى نهج مهيب .
الايقاع المتموج للقطات الرحلة فى فيلم ريفنستال يشكل الترابط السينمائى للخلود المتضمن فى فكرة " رايخ ألف عام " . وهدف الاحتلال العسكرى للاستيلاء على المجال الحيوى بالقوة العسكرية هو الشرط المكانى لتمديد الوعد بالحياة . الغيوم التى تهبط الطائرة من خلالها الى الأرض هى الجشطالت المنقولة التى تميز مسار هذا الوعد . الوعد اللاهوتى الآتى الى الأرض .
( 3 )
اسمحوا لى فى النهاية أن اعود ، بطرية متناقضة تاريخيا الى الصور التى ذكرتها فى البداية ،والتى تنطوى على مجموعة مختلفة جدا من الغيوم . بسبب التغطية الاعلامية الكبيرة التى أحيت ذكرى 11 سبتمبر 2001 – فى كثير من الأحيان على حساب التحليل الجاد . يمكننى افتراض أن الصورة العامة لهذه الغيوم موجودة بما فيه الكفاية للجميع وانه ليس من الضرورى عرضها مرة اخرى هنا . بدلا من ذلك أود ان تظهر هذه الغيوم من دخان يتصاعد من البرجين المحترقين من وجهة نظر غير مألوفة .
لقد تم التقاط الصور من قبل " توماس هوبكر " وهو شخصية بارزة فى جمعية المصورين الكبرى . اختار " هوبكر " عدم النشر فى عام 2001 ، وكذلك استبعد من " كتاب الصور الكبرى " التى اتخذت فى ذلك اليوم .اذا رأيتها ذات مرة فانك سوف تفهم على الفور ما السبب :
كان من الواضح انه فى ذلك الوقت ، دون تفسير او مناقشة ، أن طريقة هذه الصور أكثر غرابة من تلك الصور التى كانت عن التدمير نفسه ولها آثارا فيما بعد . دون الدخول فى ذلك النقاش الذى تم توثيقه جيدا على شبكة الانترنت ، تفسير الصورة أو الحكم عليها يخبرنا بشىء عن علاقة الجمالية بالارهاب والعمليات الارهابية التى ما تزال حتى اليوم ذات صلة وثيقة .
تعتبر الصورة بصفة عامة – كما أكدت على الاقل – جمالية بالمعنى التقليدى لهذا المصطلح ، بقدر ما يكون تشكيلها مكتفيا بذاته وذا مغزى . هذا بدوره يعنى أنها يمكن وربما يجب أن ينظر اليها من مسافة معينة ، وهو المطلوب اذا كان الادراك يتم ككل موحد . موقف المدرك ، والمشاهد أو المتفرج ، يعرف على أنه موقف محمى أومصون : انه مستقر ومتكيف ذاتيا .
هذا هو السبب فى أن معظم أشرطة الفيديو وصور الكوارث تبث ليلا ونهارا فى التليفزيون والصحف ويمكن تناولها لرأى المستهلك ، مع وجبة الافطار الصباحية أو بعد وجبة العشاء فى المساء ، طالما أنها كدمار تشويه لجسم الانسان او الحيوان لاتظهر بتفصيل كبير جدا .
يجب أن تبقى السحب تتصاعد فوق المبانى المحترقة وأن يبقى الناس على مسافة منها ، واذا أمكن اعطاء شكل واضح على انها تشكيل . وعليه يمكن اتخذها فى الادراك ، كاجزاء كل يفترض بأنه كان واضحا ومفهوما بشفافية – بمعنى أنه لايشكل اسئلة أخرى ، ولا يتطلب اى استفسار خارج اطار ما هو مبين .
تكامل ومغزى الكل مضمون من قبل المراسل ، او التعليق على صور الصحيفة . فيما يقولان للقراء والمشاهدين عما يفكرون فيما يشاهدون ، وفى نفس الوقت للنظر فيما يعتقدون انه الصفة المميزة المباشرة والحصرية للصورة . تدمير الأشياء والأشخاص جعل للاستهلاك ، لأن معنى الموت والدمار يؤثر فى الآخرين من المعزولين والمحميين بأمان .
من الممكن ابتعاد المرء عن الصورة الجمالية المعزولة والوقوف بمناى عنها : هذه هى الصفة التقليدية وهذا ما يجعل من كليهما ما يعد مناسبا تماما ليكون بمثابة ذاكرة الشاشة وان تكون منسية وتحل محلها صورة معزولة قادمة أو مجموعة من الصور .
كتب كاتب العمود فى نيويورك تايمز " فرانك ريتس " عن الناس فى مقدمة الصورة : ان الشباب فى صورة المستر " هوبكر " ليسوا بالضرورة قساة القلب . انهم مجرد امريكيين . وسواء كان هذا التصريح يصف الشعب فى الصورة بدقة أم لا ، فانه بلا شك دقيق بشأن الانطباع بأن الصورة تنقل ذلك .
هذا احد الملاحظين المعزولين والخالى من الهم أو المبتهج حقا ، يسترخى فى الشمس على مسافة من السحب السوداء للدخان المتصاعد فى السماء . الصورة مثل كل الصور ، هى ما يسمى بالألمانية ( لقطة Momentaufnahme ) او بالفرنسية ( لقطة “instantané ) ، لحظة او لحظة معزولة عن كل شىء حدث من قبل ،ويحدث فيما بعد وخارج اطارها .
قدم " فرانك ريتس " خطآ فى الاشارة الى الشباب فى الصورة ، لان هذا يمكن ان يؤخذ للتطبيق على الشباب أنفسهم بسهولة ، بدلا من اشخاص الصورة . ويفهم على انه تصريح عن الصورة ، ولكن بدلا من الأشخاص الموجودين بشكل مستقل عنها ، صدمات التصريح على وجه التحديد جعلت هجمات 11سبتمبر صادمة بالنسبة للناس فى الولايات المتحدة الامريكية .
لأن هذا كان المرة الاولى على الأقل منذ الحرب الأهلية ، التى يتم فيها مثل هذا الهجوم واسع النطاق على الاراضى الامريكية ، وأول مرة حتى منذ فترة أطول ينشأ فيها الهجوم من خارج الولايات المتحدة . فقد كان وما زال بمعنى ما ، ان الامريكى يعتقد بشكل مميز فى السلامة لأن المسافة يمكن أن تؤدى الى الاعتقاد بالتفوق الاخلاقى للامة وانها محمية . كان – وبمعنى ما مازال – الا عتقاد فى فاعلية العزلة .
ردا على هذه الهجمات كانت الحرب ضد العراق وأفغانستان وعلى الارهاب . كانت بالطبع أى شىء الا الانعزالية . ولكن كان تبرير الرد ، لا يزال يستند على الاعتقاد بأن العدو الحقيقى يمكن ان يعزل ، يسمى ويصور ويحدد ويدمر ، ويتم ذلك بالوسائل العسكرية بشكل اساسى .
كان الاكتشاف المرعب من قبل الامريكيين بانهم ليسوا أو لم يعودوا فى أمان فى وطنهم ، الموضوع الملموس ، الجشطالت ، و11/ 9 كما اطلق عليه لاحقا اصبح علامة متوافقة مع " الجشطالت " : كلاهما نداء للمساعدة واسم للفعل فى حد ذاته .
ما يجعل الصورة قوية جدا – وصادقة جدا – فيما اعتقد ، هو اللامبالاة والموقف الخالى من الهم أو المبتهج والاسترخاء على مايبدو فى وصف التصوير فى نفس اللحظة عندما كان الأساس الذى تم دعمه سابقا لهذا الموقف تم استهلاكه فى الخلفية .
مع ذلك لم تعد الخلفية معزولة عن الصدارة ، وهذا هو المرعب بشكل نهائى ، وكانت الحرب ضد الارهاب تسعى الى التوجه للخارج ، وتوجيهها كان ضد الأجانب ، ومنهم من كان يمكن بالتالى أن يأمل فى ابعاد نفسه ، ومن خلال العزلة حدد ودمر بشكل نهائى .
ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ - مع ذلك – ان كلمة " الارهاب " فى اللغة الانجليزية لا تزال تصف أولا وقبل كل شىء ردود فعل انفعالية على خطر لا يمكن السيطرة عليه ، وهى حالة متطرفة من القلق . الاعلان عن الحرب ضد الارهاب يحاول تحويل الانظار والنأى عن هذا الشعور من خلال تحديده بأن الارهابيين والعمليات الارهابية تفهم باعتبارها شخصيات وحركات خارجية يمكن القضاء عليها نهائيا .
لكن الغيوم المنبعثة من الركام الصادر عن انهيار برجى مركز التجارة العالمى تروى قصة أخرى . هنا من ثم الصورة الأخيرة ، المأخوذة من شريط فيديو – أنا متأكد من انكم شاهدتموه عدة مرات . هذه الغيوم التى تشبه بشكل غريب الغيوم التى كانت تحلق الطائرة من خلالها فى فيلم " انتصار الارادة " ، لكن لم يعد المرور الى التشكيل " الجشطالت " المحتشد الذى ميز مسيرة النازى والسياسة ؛ انه علامة على ماجاء بعد عقد من الزمن لالمانيا النازية ، وسحق التشكيل ومع الحضارة القائمة على حمايته من خلال الارهاب .
كان من الممكن فهم الغيوم الصادرة عن الركام الذى اندفع نحو المشاهدين والكاميرات ويحيق بهم اخيرا كعلامة لاعادة النظر فى السياسات والاستراتيجيات لتحديد الهوية من العزلة التى انتجت تلك الغيوم فى المقام الاول . بدلا من ذلك ، كما أبأن الطلب على المواساة والسلامة يبقى فى الصدارة ، التى أتيحت لنا الفرصة لنرى فى احياء الذكرى لهذا الحدث فى الأسبوع الماضى ، ومنع اى استجواب نقدى جدى للعلاقات التى تواصل سياسة العزل وكشف الهوية للاستبعاد المنهجى . بما فى ذلك – على سبيل المثال – الانعكاس على العلاقة المحتملة ل 11/ 9 ب 11 سبتمبر أخرى – وهذه المرة فى – عام 1973 عندما أطيح بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا فى " تشيلى " من خلال تحريض امريكى على الانقلاب : او الانعكاس للعلاقة المحتملة للهجمات ضد مركز التجارة العالمى والبنتاجون ، رمزا للمالية والعسكرية فى الولايات المتحدة الامريكية كقوة عالمية ، الى الموقف الذى اتخذته الحكومات الامريكية المتعاقبة من الصراع الفلسطينى الاسرائيلى . او غيرها من الاحداث الأخرى التى لا تعد ولا تحصى .
عندما تجرأ الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد والمساهم فى " نيويورك تايمز " ، " بول كروجمان " على نشر مدونة عنوانها " سنوات العار " والتى قال فيها بان ذكرى 11سبتمبر 2001 ، " قد سممت بغير رجعة " لتقدم تبريرا للحربين على العراق وأفغانستان ، قد أثار ردود فعل ضخمة .
احدى الردود الأكثر تمدنا وتهذيبا كانت من قبل " مايكل ميتز " : " أنا لا أشعر بالعار من ذكرياتى واحياء ذكرى 11/ 9 .. وانا لازلت أشعر بالامتنان لكلمات العزاء الت قدمها الرئيس الامريكى جورج و. بوش ورئيس البلدة " رودلف جوليان " للأمة فى أعقاب الحدث .
فى الارتباك التام الذى أعقب الغيوم التى ابتلعت كل الشخصيات والأشكال وغطتها بغطاء أبيض من الغبار لأنها تراجعت ببطء ، تعد الحاجة الى كلمات التعزية مما يمكن فهمه . الا أن هذه الحاجة استمرت وتميل الى استبعاد كل نقد للرد العسكرى الذى أعقب ذلك باعتباره خائنا لذكرى الجنود الامريكيين وحلفائهم الذين قتلوا وشوهوا جسديا ونفسيا – وبالتالى – باعتبارها خيانة أساسية : هذه الصدمات تبدو لى باعتبارها لا تختلف كثيرا عن المرور من خلال الغيوم اعلى " نورمبرج " فى عام 1934 ، والكشف عن التشكيلات المندمجة للجماهير التى تمت عسكرتها فى المسيرة .
حركة التعبئة قد تعزى وتواسى ، الا انها تتطلب تعبئة مصاحبة للارهاب فى الأمر السكرى ، فى العبارة التى تلخص روح العصر من أجل مواصلة " المضى قدما "
ولكن هذا السير الى الأمام لم يتبع تماما عن طريق الغيوم التى تسعى بنجاح محدود للتعبئة . وتم التجاوز من خلالها . وعندما تأتى تلك الغيوم فى النهاية الى الأرض ، أى حرب يمكن الهرب منها .
****************************************
الهوامش
1- هيلين بيرثا أمالي "ليني" ريفنستال Helene Bertha Amalie "Leni" Riefenstah – ( 1902 – 2003 ) - كانت المخرجة الألماية للفيلم والمنتجة وكاتبة السيناريو، محرةر، ومصورة، ممثلة، راقصة، وتعمل فىالدعاية للنازيين .
2- كتيبة العاصفة( The Sturmabteilung (SA - عملت بوصفها الجناح العسكري الأصلي للحزب النازي . و لعبت دورا كبيرا في وصول هتلر للسلطة . أغراضها الأساسية وتوفير الحماية للمسيرات النازية والتجمعات، وتعطيل اجتماعات الأطراف المتنازعة، والقتال ضد الوحدات شبه العسكرية من الأطراف المتنازعة، خصوصا مقاتلي الجبهة الحمراء للحزب الشيوعي في الألماني ، وتخويف السلافية والنقابيين واليهود - على سبيل المثال، أثناء المقاطعة النازية من الشركات اليهودية.
3-فرقة أو سرب الحماية (The Schutzstaffel (SS - ه منظمة شبه عسكرية كبرى تحت امرة أدولف هتلر وحزب االعمال الاشتراكي ا الألماني الوطني ( الحزب النازي). بدأت مع وحدة الحرس الصغيرة المعروفة باسم سز (Saal-Schutz ) تتكون من متطوعين حزب النازي لتوفير الأمن لاجتماعات الحزب النازي في ميونيخ. في إطار توجيه هيملر في (1929-1945)، فقد ارتفع من تشكيل شبه عسكري صغير إلى واحدة من أقوى المنظمات في الرايخ الثالث. في الفترة من 1929 حتى انهيار ألمانيا النازية في عام 1945، كانت SS تقوم من المراقبة والإرهاب داخل ألمانيا وأوروبا المحتلة من قبل ألمانيا.
4-أغنية هوريست فيسيل The Horst Wessel Song - )، كانت نشيد الحزب النازى من 1930 إلى 1945. من 1933 إلى 1945 جعلها النازون النشيد المشارك الوطني من ألمانيا، جنبا إلى جنب مع مقطع الأول من أغنية الألمان Deutschlandlied . كتبت الكلمات من قبل هورست فيسيل قائد فرقة العاصفة الذى قتل فى المعارك مع الشيوعيين فى عام 1929 .
5- فاشيز Fasces – مجموعة من القضبان فى روما القديمة بشفرة الفاس يحملها الصليب كرمز للقوة من قبل قاض او حاكم . وقد استخدمت كشعار للسلطة الفاشية فى ايطاليا .
رمضان الصباغ - غيوم على العلاقة المحتملة بين الرعب والارهاب وبين الجماليات صمويل بيتر
رمضان الصباغ - غيوم على العلاقة المحتملة بين الرعب والارهاب وبين الجماليات صمويل بيتر
www.ahewar.org