عندما غنى الشيخ إمام عيسى أغنيته الشهيرة عام 1972 كلمات رفيقه الشاعر أحمد فؤاد نجم: أنا رحت القلعة وشفت ياسين.. حواليه العسكر والزنازين.. والشوم والبوم.. وكلاب الروم.. عيطى يا بهية على القوانين
انفعلت الجماهير الطلابية التي لا تستمع فحسب، ولكنها كانت تندمج وتشارك وتنفعل وتموج موجات حماسية لن ينساها مطلقا من حضرها ورأى هذه الأمواج الهائلة التي كانت جدران جامعة القاهرة نفسها تهتز لها، قبل أن ترتعد فرائص وقلوب ذئاب الأمن الضالة...
وعندما كان يصل الشيخ إمام إلى المقطع الذي يقول: «وأنا شفت شباب الجامعة الزين.. أحمد وبهاء وجميعى وزين»، ثم يعيده مرة أخرى قائلا: «وأنا شفت شباب الجامعة الزين.. أحمد وبهاء والكردى وزين.. حارمينهم حتى الشوف بالعين.. وف عز الضهر مغميين.. عيطى يا بهية على القوانين»، كان الحماس يصل بالطلاب إلى درجة نيرفانية عليا، يصعب السيطرة عليها، حيث تتجسد أمام الأعين وفى الأرواح القيادات الطلابية، وأعضاء اللجنة الوطنية العليا، وهم الزعيم الطلابي الأوسع تأثيرا أحمد عبد الله ، الذي أضيف له بعد سنوات لقب " رزة " ، ربما لأن السادات نفسه كان قد ذكره بهذا الاسم بطريقته الساخرة، وكان السادات في بعض الأحيان يقول: «الحركة الرزية» تسخيفا للحركة الطلابية، وبعد ذلك أطلق على انتفاضة 18 و19 يناير العظيمة «انتفاضة الحرامية»، وهذا كان تهكما مذهلا من حاكم إزاء شعبه عندما يتمرد ويحتج، ثم أحمد بهاء الدين شعبان، ثم جلال الجميعى ، ثم الشاعر زين العابدين فؤاد، ثم شوقى الكردى، الذي استدركته القصيدة بقصدية متعمدة أو الأغنية في المقطع التالي مباشرة.
وبالطبع لكل هذه الأسماء المذكورة جلالها ودورها المعروف في تأسيس مقاومة طلابية وطنية وشعبية عظمى، امتدت منذ مطلع السبعينيات حتى اشتداد الحركة الوطنية المصرية في العقود التالية، ولم يكن أحمد عبد الله فردا فريدا في مرحلة التأسيس فحسب، بل كان الشخص المحرك والفاعل والقادر على القيادة واكتشاف وتفعيل الطاقات الكامنة لدى كل من حوله. استطاع أحمد عبد الله أن يكتشف البطولة الجماعية، رغم كاريزميته، ولكن الذي لم يبحثه المؤرخون والمتابعون والباحثون في شؤون الحركة الوطنية المصرية أن لا قيادة فردية دون ظاهرة احتجاج وتمرد جماعية، ولكن القائد الحقيقي، وليس القائد «النجم والاستعراضي» هو الذي يستطيع أن يتحرك ويحرّك وفقا للبطولة الجماعية للجماهير، وهذا ما كان يتمتع به أحمد عبد الله منذ انخراطه الأول بعيد هزيمة 1967 الكارثية.
ففي المؤتمر الذي حضره الدكتور رفعت المحجوب (عميد الكلية) لإطفاء وهج الحركة الطلابية، والضحك على الـ "الدقون " بكلمات معسولة، لطلب تفويض للسادات لكي يحل المشكلة، وقال لطلاّب الكلية الثائرين: «نحن جيل هزيمة، ونحن أحق منكم بالعمل من أجل الانتصار»، وفوجئ الطلاب ورفعت المحجوب نفسه، الأستاذ الجامعي، والمتمرس على الخطابة، بهذا الطالب النحيف يصرخ في وجهه ببيت شعر لأحمد شوقي:
أتسأل مصر ما حمل العميد؟ وهل عند الرماة لهم جديد؟!
وكان مع المحجوب، سيد مرعى وأحمد كمال أبو المجد، وغيرهم من مبعوثي القيادة السياسية الرسمية لإفشال الاحتجاج الطلابي، فيقرر الطلاب بقيادة أحمد عبد الله التوجه إلى مؤتمر كلية الهندسة دائم الانعقاد لبحث وتصعيد شأن القضية الوطنية، ومطالبة السلطة بالحب التي طال الحلم بها من جماهير المصريين، وطال الوعد حتى وصل الأمر إلى عام الحسم الوهمي، الذي عيّنه السادات في عام 1972، ولكنه تراجع عن ذلك في خطاب أول يناير في مطلع ذلك العام، وهنا جلس أحمد بهاء وأحمد عبد الله في جامع كلية الهندسة ليصوغا هذا البيان التاريخي، بدعوة الطلاب للمشاركة في الاعتصام الذي يطالب بحرب التحرير، وكان من إبداعات أحمد عبد الله العبقرية شعاره الذي ظل طويلا يتردد في جنبات الحركة الوطنية، وهو «كل الديمقراطية للشعب.. كل التفاني للوطن".
وبقية قصة الاعتصام الذي أدى إلى اقتحام قوات الأمن لقاعة جمال عبد الناصر تكاد تكون معروفة تماما، التي انتقل إليها الطلاب لتكملة الاعتصام، وكثيرون كتبوا عن ذلك الاعتصام، وكتب أحمد عبد الله نفسه بشكل توثيقي في كتابه الذي صدر بالإنجليزية عن ذلك الاعتصام الشهير، ونقلته إلى العربية الدكتورة إكرام يوسف، ولم يكن هذا الكتاب هو الثمرة الفكرية الوحيدة لعبد الله، ولكنه أنجز عددا من الكتب والأبحاث، أبرزها على الإطلاق كتابه «الوطنية المصرية»، وقد صدر عام 2000 عن دار ميريت، والذي أرى حاجتنا الشديدة إلى إعادة نشره الآن لتعميم أفكاره المهمة والحاسمة في ما يدور حول الهوية وتبعاتها العديدة.
وقد انتهى الاعتصام إلى القبض الجماعي والعلني على غالبية من شاركوا فيه، بعد أن استدرج الأمن الطلاب لإخراجهم من الجامعة في طابور طويل إلى عربات الأمن التي نقلت الطلاب إلى السجون والمعتقلات، وكان المشهد خرافيا، فالطلاب الذين كانوا يسيرون وهم تحت حراسة قوات الأمن كانوا ممنوعين من الهتافات ولكنهم كانوا يطلقون صفافيرهم التي تؤدى نشيد «بلادي.. بلادي.. لك حبي وفؤادي»، وكان أحمد عبد الله ماثلا بعوده النحيل، ووطنيته الصارمة، في كيان هذه البطولات الجماعية المذهلة.
كتب عن أحمد عبد الله بعد رحيله تلاميذه ورفاقه وأساتذته ومجايلوه بشكل عام ، منهم عماد أبو غازى وعمرو خفاجى وعمر مرسى وأحمد الجمال وحسام عيسى وعمار على حسن وشيرين أبو النجا وهشام السلامونى وأحمد بهاء الدين شعبان وأحمد طه النقر ومحمد السيد سعيد وهاني عنان وكمال مغيث ولويس جريس ومنير مجاهد.. مئات المقالات التي صاغت لوحة وطنية عظمى، ولا أقول مرثية، ولذلك كانت كلمات محمود الوردانى جامعة شاملة وواصفة لهذا الطود الوطني العظيم في 24 يونيو 2006 بمجلة «الأهرام العربي»، التي قال فيها: «لم يكن أحمد عبد الله مجرد زعيم طلابى بارز أو كاتب وأستاذ في العلوم السياسية فحسب، بل قدر له على أن يقود بجسارة وحسم مرحلة فاصلة من مراحل حركة الطلاب عام 72و73، وهى الحركة التي أثرّت بقوة على الحاضر والمستقبل في عالمنا العربي، وأرست تقاليد نضالية استمرت حتى الآن" ....!!
انتهي المقال
ملاحظة : د. أحمد عبد الله رزة حاصل على بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة القاهرة عام 1973.وعلى دكتوراه العلوم السياسية من جامعة كمبردج (إنجلترا) عام 1984. هو خريج " برنامج الخريجين " بالأمم المتحدة عام 1983 ، معروف كخبير في مجال العلوم السياسية على المستوى الدولي ، زار معظم أجزاء العالم ويتحدث عددا من اللغات ، توفى سنة 2006 بعد إصابته بأزمة قلبية ..
https://www.facebook.com/180942185388601/posts/493130080836475
انفعلت الجماهير الطلابية التي لا تستمع فحسب، ولكنها كانت تندمج وتشارك وتنفعل وتموج موجات حماسية لن ينساها مطلقا من حضرها ورأى هذه الأمواج الهائلة التي كانت جدران جامعة القاهرة نفسها تهتز لها، قبل أن ترتعد فرائص وقلوب ذئاب الأمن الضالة...
وعندما كان يصل الشيخ إمام إلى المقطع الذي يقول: «وأنا شفت شباب الجامعة الزين.. أحمد وبهاء وجميعى وزين»، ثم يعيده مرة أخرى قائلا: «وأنا شفت شباب الجامعة الزين.. أحمد وبهاء والكردى وزين.. حارمينهم حتى الشوف بالعين.. وف عز الضهر مغميين.. عيطى يا بهية على القوانين»، كان الحماس يصل بالطلاب إلى درجة نيرفانية عليا، يصعب السيطرة عليها، حيث تتجسد أمام الأعين وفى الأرواح القيادات الطلابية، وأعضاء اللجنة الوطنية العليا، وهم الزعيم الطلابي الأوسع تأثيرا أحمد عبد الله ، الذي أضيف له بعد سنوات لقب " رزة " ، ربما لأن السادات نفسه كان قد ذكره بهذا الاسم بطريقته الساخرة، وكان السادات في بعض الأحيان يقول: «الحركة الرزية» تسخيفا للحركة الطلابية، وبعد ذلك أطلق على انتفاضة 18 و19 يناير العظيمة «انتفاضة الحرامية»، وهذا كان تهكما مذهلا من حاكم إزاء شعبه عندما يتمرد ويحتج، ثم أحمد بهاء الدين شعبان، ثم جلال الجميعى ، ثم الشاعر زين العابدين فؤاد، ثم شوقى الكردى، الذي استدركته القصيدة بقصدية متعمدة أو الأغنية في المقطع التالي مباشرة.
وبالطبع لكل هذه الأسماء المذكورة جلالها ودورها المعروف في تأسيس مقاومة طلابية وطنية وشعبية عظمى، امتدت منذ مطلع السبعينيات حتى اشتداد الحركة الوطنية المصرية في العقود التالية، ولم يكن أحمد عبد الله فردا فريدا في مرحلة التأسيس فحسب، بل كان الشخص المحرك والفاعل والقادر على القيادة واكتشاف وتفعيل الطاقات الكامنة لدى كل من حوله. استطاع أحمد عبد الله أن يكتشف البطولة الجماعية، رغم كاريزميته، ولكن الذي لم يبحثه المؤرخون والمتابعون والباحثون في شؤون الحركة الوطنية المصرية أن لا قيادة فردية دون ظاهرة احتجاج وتمرد جماعية، ولكن القائد الحقيقي، وليس القائد «النجم والاستعراضي» هو الذي يستطيع أن يتحرك ويحرّك وفقا للبطولة الجماعية للجماهير، وهذا ما كان يتمتع به أحمد عبد الله منذ انخراطه الأول بعيد هزيمة 1967 الكارثية.
ففي المؤتمر الذي حضره الدكتور رفعت المحجوب (عميد الكلية) لإطفاء وهج الحركة الطلابية، والضحك على الـ "الدقون " بكلمات معسولة، لطلب تفويض للسادات لكي يحل المشكلة، وقال لطلاّب الكلية الثائرين: «نحن جيل هزيمة، ونحن أحق منكم بالعمل من أجل الانتصار»، وفوجئ الطلاب ورفعت المحجوب نفسه، الأستاذ الجامعي، والمتمرس على الخطابة، بهذا الطالب النحيف يصرخ في وجهه ببيت شعر لأحمد شوقي:
أتسأل مصر ما حمل العميد؟ وهل عند الرماة لهم جديد؟!
وكان مع المحجوب، سيد مرعى وأحمد كمال أبو المجد، وغيرهم من مبعوثي القيادة السياسية الرسمية لإفشال الاحتجاج الطلابي، فيقرر الطلاب بقيادة أحمد عبد الله التوجه إلى مؤتمر كلية الهندسة دائم الانعقاد لبحث وتصعيد شأن القضية الوطنية، ومطالبة السلطة بالحب التي طال الحلم بها من جماهير المصريين، وطال الوعد حتى وصل الأمر إلى عام الحسم الوهمي، الذي عيّنه السادات في عام 1972، ولكنه تراجع عن ذلك في خطاب أول يناير في مطلع ذلك العام، وهنا جلس أحمد بهاء وأحمد عبد الله في جامع كلية الهندسة ليصوغا هذا البيان التاريخي، بدعوة الطلاب للمشاركة في الاعتصام الذي يطالب بحرب التحرير، وكان من إبداعات أحمد عبد الله العبقرية شعاره الذي ظل طويلا يتردد في جنبات الحركة الوطنية، وهو «كل الديمقراطية للشعب.. كل التفاني للوطن".
وبقية قصة الاعتصام الذي أدى إلى اقتحام قوات الأمن لقاعة جمال عبد الناصر تكاد تكون معروفة تماما، التي انتقل إليها الطلاب لتكملة الاعتصام، وكثيرون كتبوا عن ذلك الاعتصام، وكتب أحمد عبد الله نفسه بشكل توثيقي في كتابه الذي صدر بالإنجليزية عن ذلك الاعتصام الشهير، ونقلته إلى العربية الدكتورة إكرام يوسف، ولم يكن هذا الكتاب هو الثمرة الفكرية الوحيدة لعبد الله، ولكنه أنجز عددا من الكتب والأبحاث، أبرزها على الإطلاق كتابه «الوطنية المصرية»، وقد صدر عام 2000 عن دار ميريت، والذي أرى حاجتنا الشديدة إلى إعادة نشره الآن لتعميم أفكاره المهمة والحاسمة في ما يدور حول الهوية وتبعاتها العديدة.
وقد انتهى الاعتصام إلى القبض الجماعي والعلني على غالبية من شاركوا فيه، بعد أن استدرج الأمن الطلاب لإخراجهم من الجامعة في طابور طويل إلى عربات الأمن التي نقلت الطلاب إلى السجون والمعتقلات، وكان المشهد خرافيا، فالطلاب الذين كانوا يسيرون وهم تحت حراسة قوات الأمن كانوا ممنوعين من الهتافات ولكنهم كانوا يطلقون صفافيرهم التي تؤدى نشيد «بلادي.. بلادي.. لك حبي وفؤادي»، وكان أحمد عبد الله ماثلا بعوده النحيل، ووطنيته الصارمة، في كيان هذه البطولات الجماعية المذهلة.
كتب عن أحمد عبد الله بعد رحيله تلاميذه ورفاقه وأساتذته ومجايلوه بشكل عام ، منهم عماد أبو غازى وعمرو خفاجى وعمر مرسى وأحمد الجمال وحسام عيسى وعمار على حسن وشيرين أبو النجا وهشام السلامونى وأحمد بهاء الدين شعبان وأحمد طه النقر ومحمد السيد سعيد وهاني عنان وكمال مغيث ولويس جريس ومنير مجاهد.. مئات المقالات التي صاغت لوحة وطنية عظمى، ولا أقول مرثية، ولذلك كانت كلمات محمود الوردانى جامعة شاملة وواصفة لهذا الطود الوطني العظيم في 24 يونيو 2006 بمجلة «الأهرام العربي»، التي قال فيها: «لم يكن أحمد عبد الله مجرد زعيم طلابى بارز أو كاتب وأستاذ في العلوم السياسية فحسب، بل قدر له على أن يقود بجسارة وحسم مرحلة فاصلة من مراحل حركة الطلاب عام 72و73، وهى الحركة التي أثرّت بقوة على الحاضر والمستقبل في عالمنا العربي، وأرست تقاليد نضالية استمرت حتى الآن" ....!!
انتهي المقال
ملاحظة : د. أحمد عبد الله رزة حاصل على بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة القاهرة عام 1973.وعلى دكتوراه العلوم السياسية من جامعة كمبردج (إنجلترا) عام 1984. هو خريج " برنامج الخريجين " بالأمم المتحدة عام 1983 ، معروف كخبير في مجال العلوم السياسية على المستوى الدولي ، زار معظم أجزاء العالم ويتحدث عددا من اللغات ، توفى سنة 2006 بعد إصابته بأزمة قلبية ..
https://www.facebook.com/180942185388601/posts/493130080836475