لم أشأ أن أروي لكم نهاراً جديداً، أي أن أروي تفاصيل نهاري وأنا عارف مسبقاً أني أكتبها بقصد النشر. بدل ذلك، وإمعاناً في الصدق، رأيت أن أفتح دفتر يومياتي، التي أواظب على كتابتها، كيفما اتفق، وأن أسرد لكم اليوم الذي تختاره المصادفات. هكذا انفتح دفتري على يوم 27 أيار 2003، وها أنا أنقل اليكم حرفاً حرفاً وكلمة كلمة ما كتبته في ذلك النهار:
في الخارج شمس رحبة قوية، والكثير من الأزهار من كل نوع ولون. تنزّهت قرب المنزل، تفرّجت على الأطفال يلعبون على الطرق المعبّدة، رأيت حفنات الفريز ملء أيديهم. ضجيجهم مرهق، أكاد اقول إنه شيطاني، فهربت منهم سريعاً الى داخل المنزل.
أمضيت صبيحة طويلة مع "دون جوان" (الكتاب الذي كنت أعمل عليه يومذاك وصدر في أواخر 2004). كتبت ثمانين سطراً. لكني غير راض لأني اشعر أني أفلتّ لنفسي العنان كعادتي، واستغللت حرية فضاء الكتابة أكثر من اللازم: يجب ان أنتبه من خطر الوقوع في متاهات الأفكار. أعلق فيها وأصير عاجزا عن الخروج منها في ما بعد. ذلك سيىء جدا في الرواية. ينبغي لي أن أركّز. قلمي الرصاص مدمن الشرود والتيه. النزف ايضا. نزف بلا رأس ولا ذيل. لكني أعشق صوت حفيفه على الورق وأنا اكتب. أسمع هذا الصوت حتى عندما أكون مأخوذاً بما أريد قوله. صوتٌ تسكرني ذكراه طول النهار. على غرار حفيف أوراق الشجر تتلامس على حين غرة في حديقتي البرية.
عند الظهر اعددت طعام الغداء: سباغيتي، زنجبيل، زيت زيتون. ثم من جديد ثلاث ساعات من الكتابة المتواصلة. بعدذاك قمت وغسلت الأطباق، وقررت الخروج.
نزلت من المترو قرب المقبرة الواقعة جنوب المحطة على الضفة الشمالية. جلت قليلا في الأرجاء ثم ذهبت الى المونبارناس. اصطحبت ل. من محطة القطار. فرحتْ عندما رأت اني تذكرتُ أن أجلب لها كتب المانغا اليابانية. بعضها جلبته معي من زيارتي لمدينة كوماموتو. اشتريت لها أيضا باقة من الزنابق.
أمضينا معا ساعة في شارع "دو لا كروا نيير"، ثم سبقتني ل. الى المنزل. دخلت احدى المكتبات واشتريت لها مسطرة جديدة، وبركارا ومثلّثا. واشتريت لها أيضا كرة قدم عليها شعار فريق "soria" الاسباني، وهي من متطلبات موسم الفوتبول.
تنزهت في الحي وشعرت بالعطش. شربت بضع كؤوس مع س. هناك، ثم عندما نزلت العتمة ذهبت الى مقهى "جيتان" وجلست على التيراس في الهواء الطلق. لفعتني النسمات الليلية وأحسست بمقدار تعبي. إنهاك شديد اكتسحني، وايضا احساس بالجوع. لكن خيارات العشاء قليلة لأني لا أحب أن أثقل معدتي ليلاً. تناولت لحم بط محفوظا، وشربت نبيذ سان نيكولا دو بورغيّ.
خرجت من المطعم. دهمتني الحلكة. كانت لحظة نبيلة. ذهبت الى جسر ميرابو. هناك التمعت أمامي مياه السين بألوانها التي تسرق الليل من الليل. النجوم فوق. ثنائي آسيوي مر قربي، ثم مجموعة من الشباب الجزائريين. ألم. ألم أن نكون على هذه الأرض. سيارات وأرصفة وأضواء، لكنّ العتمة تزداد عتمة. شعور بالفشل أيضا. عدت بالمترو الى البيت.
الليل. عندما يلقي الشعراء السيئون قصائدهم. أتمنى لو ينهمر الثلج وينتقم من الظلمة.
الليل. ثلاث كلمات جديدة: قل (بالعربية في النص)، قفر (بالعربية في النص)، اعلموا (بالعربية في النص).
النهار انتهى. شعور بالامتنان. بامتنان اللحظة يصبح النهار نهاراً، ويكسر النهار النهار.
garatees.yoo7.com
في الخارج شمس رحبة قوية، والكثير من الأزهار من كل نوع ولون. تنزّهت قرب المنزل، تفرّجت على الأطفال يلعبون على الطرق المعبّدة، رأيت حفنات الفريز ملء أيديهم. ضجيجهم مرهق، أكاد اقول إنه شيطاني، فهربت منهم سريعاً الى داخل المنزل.
أمضيت صبيحة طويلة مع "دون جوان" (الكتاب الذي كنت أعمل عليه يومذاك وصدر في أواخر 2004). كتبت ثمانين سطراً. لكني غير راض لأني اشعر أني أفلتّ لنفسي العنان كعادتي، واستغللت حرية فضاء الكتابة أكثر من اللازم: يجب ان أنتبه من خطر الوقوع في متاهات الأفكار. أعلق فيها وأصير عاجزا عن الخروج منها في ما بعد. ذلك سيىء جدا في الرواية. ينبغي لي أن أركّز. قلمي الرصاص مدمن الشرود والتيه. النزف ايضا. نزف بلا رأس ولا ذيل. لكني أعشق صوت حفيفه على الورق وأنا اكتب. أسمع هذا الصوت حتى عندما أكون مأخوذاً بما أريد قوله. صوتٌ تسكرني ذكراه طول النهار. على غرار حفيف أوراق الشجر تتلامس على حين غرة في حديقتي البرية.
عند الظهر اعددت طعام الغداء: سباغيتي، زنجبيل، زيت زيتون. ثم من جديد ثلاث ساعات من الكتابة المتواصلة. بعدذاك قمت وغسلت الأطباق، وقررت الخروج.
نزلت من المترو قرب المقبرة الواقعة جنوب المحطة على الضفة الشمالية. جلت قليلا في الأرجاء ثم ذهبت الى المونبارناس. اصطحبت ل. من محطة القطار. فرحتْ عندما رأت اني تذكرتُ أن أجلب لها كتب المانغا اليابانية. بعضها جلبته معي من زيارتي لمدينة كوماموتو. اشتريت لها أيضا باقة من الزنابق.
أمضينا معا ساعة في شارع "دو لا كروا نيير"، ثم سبقتني ل. الى المنزل. دخلت احدى المكتبات واشتريت لها مسطرة جديدة، وبركارا ومثلّثا. واشتريت لها أيضا كرة قدم عليها شعار فريق "soria" الاسباني، وهي من متطلبات موسم الفوتبول.
تنزهت في الحي وشعرت بالعطش. شربت بضع كؤوس مع س. هناك، ثم عندما نزلت العتمة ذهبت الى مقهى "جيتان" وجلست على التيراس في الهواء الطلق. لفعتني النسمات الليلية وأحسست بمقدار تعبي. إنهاك شديد اكتسحني، وايضا احساس بالجوع. لكن خيارات العشاء قليلة لأني لا أحب أن أثقل معدتي ليلاً. تناولت لحم بط محفوظا، وشربت نبيذ سان نيكولا دو بورغيّ.
خرجت من المطعم. دهمتني الحلكة. كانت لحظة نبيلة. ذهبت الى جسر ميرابو. هناك التمعت أمامي مياه السين بألوانها التي تسرق الليل من الليل. النجوم فوق. ثنائي آسيوي مر قربي، ثم مجموعة من الشباب الجزائريين. ألم. ألم أن نكون على هذه الأرض. سيارات وأرصفة وأضواء، لكنّ العتمة تزداد عتمة. شعور بالفشل أيضا. عدت بالمترو الى البيت.
الليل. عندما يلقي الشعراء السيئون قصائدهم. أتمنى لو ينهمر الثلج وينتقم من الظلمة.
الليل. ثلاث كلمات جديدة: قل (بالعربية في النص)، قفر (بالعربية في النص)، اعلموا (بالعربية في النص).
النهار انتهى. شعور بالامتنان. بامتنان اللحظة يصبح النهار نهاراً، ويكسر النهار النهار.
يوم في حياة بيتر هاندكه
لم أشأ أن أروي لكم نهاراً جديداً، أي أن أروي تفاصيل نهاري وأنا عارف مسبقاً أني أكتبها بقصد النشر. بدل ذلك، وإمعاناً في الصدق، رأيت أن أفتح دفتر يومياتي، التي أ