قد يكون النمر في تلك الصفحات الشهيرة التي كتبها بليك برق لهيب، ونموذجاً أولياً أبدياً للشرّ، لكنني أفضل كلمة "تشيسترتن" التي تصف هذا الحيوان كرمز للرشاقة المفزعة.. وفي الأخير ليست هناك مثل هذه الكلمات التي قد تقدر على أن تكون علامة للنمر، الهيئة التي تحيا منذ قرون في مخيلة الإنسان .. النمور كانت تجذبني دائماً .. وأتذكر أنني كنت أقف في طفولتي، أمام قفصها فقط في حديقة الحيوان، فالبقية لم تكن موجودة عندي .. كنت أقدّر الموسوعات والكتب التي تتعامل مع التاريخ الطبيعي، على أساس صور النمور .. وعندما ظهرت لي في (كتاب الأدغال) أسفت على أن "شيري خان" ذلك النمر هو العدو الرئيسي للبطل .. وهذا الحب الغريب لم أتركه مع مرور السنين وصمد أمام المراحل العادية لمصيري البشري ورغبتي التي لا تخلو من المفارقة في أن أكون صيّاداً .. وإلى غاية وقت غير بعيد ـ وهذا الوقت يبدولي بعيدا، ولكن الحال في الواقع ليست هكذا ـ تعايش هذا الحب مع عملي الجامعي اليومي في لاهور .. كأستاذ للمنطقين الغربي والشرقي، وأكرس أيام الآحاد للسيمنار الخاص بأعمال سبينوزا .. وعليّ أن أضيف هنا بأنني أنحدر من إسكتلنده .. ولربما قادني حب النمور، من آبيردين إلى البنجاب
كانت حياتي عادية .. ولكن في الحلم كانت تظهر لي النمور دائماً (تملأ أحلامي الآن هيئات أخرى) ولكم من مرة تكلمت عن هذه القضايا حتى أنها تبدو لي اليوم بعيدة وغريبة .. وأنا اكتب عنها بدافع واحد لا غير وهو الإعتراف الذي أريد أن أقوم به .. في نهاية عام 1904م، قرأت أنه في وادي نهر الغانغيس إكتشف نوع من النمور أزرق اللون .. وهذا الخبر أكدت عليه البرقيات التي جاءت فيما بعد وكانت كالعادة في مثل هذه الحالات، مليئة بالتناقضات والإختلافات .. وإنبعث حبي القديم، لكن كانت لدي ريبة بأنه حصل خطأ عند الأخذ بنظر الإعتبار إنعدام الدقة في تحديد الألوان .. تذكرت بأنني قرأت مرة أن اسم أثيوبيا باللغة الإيسلاندية هو "بليلاند" أي الأرض الزرقاء او أرض السواد .. والنمر الأزرق قد يكون، ببساطة فهداً أسوداً .. لم أعثر على أي إشارة الى الخطوط النمرية، وصورة النمر الأزرق بخطوطه الفضية والتي أشاعتها الصحافة اللندنية كانت تزويراً سافراً .. وكانت زرقة ذلك التصوير قد بدت لي إشاراتية بالأحرى وليست فعلية .. في الحلم رأيت نموراً ذات لون أزرق لم أر مثله لغايتها، ولذلك لا أعثر لهذا اللون على الكلمة المناسبة .. أنا أعرف أن ذلك اللون كان قد سقط في السواد تقريباً، لكن هذه الصفة لا تكفي لتخيّل ذلك الطيف اللوني .. بعدها بشهور كثيرة قال لي أحد الزملاء إنه في إحدى القرى البعيدة جداً عن الغانغيس، سمع الناس يتحدثون عن النمور الزرق .. هذه الواقعة فاجأتني، فقدرعلمي تندر النمور في تلك المنطقة .. ومرة أخرى حلمت بنمر أزرق ألقى ظلاً طويلاً على الأرض الرملية عندما مشى .. إستفدت من إجازتي وقررت السفر الى تلك القرية . لا أريد أن أتذكر إسم القرية لأسباب سأوضحها فيما بعد.
وصلت إلى هناك بعد إنتهاء موسم الأمطار .. كانت أدغال سود تحاصر من كل الجهات القرية الجائمة عند أ قدام هضبة بدت شاسعة بالاحرى وليست مرتفعة .. وفي إحدى صفحات من كتب كيبلنغ لابد أن تكون موجودة هذه القرية القصية التي عرفتها مغامرتي، ففي كتبه توجد الهند كلها وبمعنى ما - العالم كله .. وأكتفي هنا بذكر أن القناة التي تقطعها جسور من القصب مهتزة، تحمي بالكاد الوصول الى القرية .. وصوب الجنوب غطت الأرض الوحول وحقول الرز ووادي نهر غريني لم أعرف إسمه أبداً، ووراءه كانت الأدغال أيضاً .. كان الهندوس يسكنون القرية .. صدمتني هذه الحقيقة بصورة غير لطيفة رغم أنني كنت أتوقع هذا الشيء بالضبط .. كنت أجد على الدوام لغة مشتركة مع المسلمين .. لدينا إنطباع بأن الإنسان قد تكاثر في الهند .. وعندما كنت في القرية بدا لي بأن من تكاثر ليس الإنسان بل الأدغال التي إقتحمت هنا داخل الأكواخ تقريباً .. كانت النهارات قائظة وخانقة، والليالي لم تأت بالبرودة .. خرج شيوخ القرية لإستقبالي، وإمتلأ حديثنا الأول بالمجاملات الفارغة .. وكنت قد كتبت عن بؤس هذا المكان إلا أنني أعرف بأن كل إنسان يحكم بأن أرض وطنه هي إستثنائية بصورة ما .. إذن إمتدحت الحجرات المشبوهة، وليس بدرجة أقل كان مديحي للأطعمة المشبوهة، كما قلت إن شهرة هذه المنطقة وصلت الى لاهور.
وجوه الرجال توترت، ولاحظت على الفور بأنني قد إرتكبت هفوة لسان وأدركت بأنه عليّ أن أكفر عن ذلك .. رأيت أن لديهم سرّاً ما وشعرت بأنهم لا يبوحون به للغريب .. ربما هم يقدّسون النمر الأزرق ويعبدونه، وكلماتي الحمقاء تنتهك حرمة معبودهم .. كنت أنتظر حتى الصباح .. أكلت الأرز، وشربت الشاي وبعدها أثرت الموضوع القريب إلى نفسي .. رغم تجارب اليوم السابق لم أفهم - أو لم أقدر على الفهم - ما الذي حدث .. نظروا إليّ وكلهم دهشة، بل كلهم رعب على وجه التقريب، ولكن عندما أعلنت بأنني عازم على مسك هذا الحيوان الكاسر ذي الفرو الغريب، نظروا إليّ بإرتياح .. وأحدهم قال بأنه رأى، عن بعد، النمر عند حافة الأدغال .. وفي منتصف الليل أيقظوني .. أحد الفتيان قال بأن عنزة هربت من الحظيرة وعندما ذهب للبحث عنها رأى، عن بعد، نمراً أزرق عند الضفة الأخرى من النهر .. فكرت بأن ضوء القمر، وكان في طور المحاق، لا يسمح بتحديد الألوان، إلا أن الجميع أكدوا على ما قاله الفتى، وأحدهم وكان يقف صامتاً، أعلن بأنه رآه ايضاً .. ذهبنا مسلحين بالمسدسات ورأيت أو حكمت بأنني أرى ظل قط يختفي في ظلمات الأدغال .. لم يعثروا على العنزة لكن هذا لا يعني بأن الحيوان الكاسر الذي إختطفها كان نمري الأزرق .. والآثار التي أروني إياها بحماس بالغ لم تدل بالطبع على أي شيء .. ومع مرور الليالي فطنت الى أن تلك الإنذارات الزائفة قد أصبحت روتيناً يومياً .. ومثل دانييل ديفو، لم يفتقد السكان المحليون روح الإبتكار في إختلاق شتى المصادفات.
رُؤِيَ النَّمِرُ في مختلف الأوقات، في حقول الأرز في الجنوب أو في أدغال الشمال، ولكنني أدركت بسرعة بأن المراقبين يتبدلون بإنتظام يثير الشكوك .. وعندما أصل إلى المكان يكون النمر قد هرب .. كانوا يقودوني دائماً كي أرى أثراً ما أو ضرراً، ولكن قبضة الإنسان قد تزيّف آثار النمر .. مرة أو مرتين رأيت كلباً ميتاً .. وفي إحدى الليالي القمرية أبقينا عنزة كطعم وإنتظرنا، لكن بدون ثمرة، لغاية الفجر .. في البداية فكرت بأن هذه الأكاذيب المتكررة كل يوم يكون الغرض منها إطالة أمد بقائي المفيد لسكان القرية، فأنا أشتري منهم الطعام وأدفع ثمن كل الخدمات البيتية .. أردت التأكد من صحة شكوكي أعلنت بأنني عازم على البحث عن النمور في منطقة أخرى تقع عند أسفل النهر .. كانت مفاجأة لي أن الجميع إمتدحوا قراري .. وبقيت أشعر بأنهم يملكون سرّاً ما ولا يثقون بأي أحد .. سبق أن كتبت بأن الهضبة المشجّرة التي إنحشرت القرية عند أقدامها لم تكن مرتفعة .. وقمتها المسطحة قد شكلت منصة ليست بالكبيرة .. وفي الجهة الأخرى صوب الغرب والشمال إمتدت الأدغال .. وبدا السفح سهل الدخول، وفي إحدى الأمسيات إقترحت الصعود الى القمة .. وقد أربكتهم كلماتي .. صرخ أحدهم بأن السفوح وعرة للغاية .. إلا أن شيخ القرية أوضح ببالغ الجد بأن عزمي يصعب تحقيقه .. فالقمة هي مكان مقدس وتحرسه قوى سحرية .. وكل من يضع قدمه الفانية هناك قد يرى الرب، وحينها يهدده العمى أو الجنون .. لم ألحف بطلبي ولكن في تلك الليلة حين نام الجميع تسللت من الكوخ وبدأت الصعود عبر السفح السهل .. لم تكن هناك دروب، والشجيرات الكثيفة أخرّت سيري .. كان القمر معلقا فوق الأفق .. أجلت النظر حولي بأقصى الإنتباه كما لو أنني قد شعرت بأن ذلك اليوم سيكون مهماً ولربما الأهم من بين أيامي .. أتذكر دائما تلك الأطياف المعتمة، والسوداء أحياناً، لأوراق الشجر .. وإنبلج الصباح ولكن في الأدغال التي لا تُحدّ لم يغرد أي طير .. بعد عشرين وربما ثلاثين دقيقة من التسلق وضعت قدمي على القمة .. شعرت بهبّة هواء منعش يختلف كثيراً عن الجو الخانق في القرية المستلقية في أسفل السفح .. تبين أن القمة تشكل شرفة ليست بالشاسعة كثيراً .. كذلك إنتبهت الى أن الأدغال تتسلق لغاية جنب المرتفع .. شعرت بأنني حر والمكوث في القرية خيل لي بأنه كان سجناً.
وفجأة كفت عن أن تكون ذات أهمية مسألة أن السكان أرادوا أن يخدعونني أم لا .. شعرت بأنهم أطفال بشكل ما .. وفيما يتعلق بالنمر، الكثير من الخيبة أخمد فيّ الفضول والإيمان، ولكنني أخذت أبحث بصورة آلية عن الآثار .. كانت الأرض متشققة ورملية .. وفي أحد الشقوق التي لم تكن عميقة جداً لكنها متصلة فيما بينها بشبكة من التفرعات، إنتبهت الى اللون المعروف لدي .. إنه أمر لا يصدق ولكنني رأيت زرقة النمر من حلمي .. وتمنيت أن لا أراه أبداً .. نظرت بإنتباه .. الشق ملأته أحجار صغيرة، متشابهة ومدوّرة لا يتجاوز قطرها بضعة سنتمترات، وكانت ملساء بصورة غير إعتيادية .. وأشكالها المنتظمة أعطتها تصّنع قطع الألعاب .. إنحنيت وأدخلت يدي في الشق وأخذت بضعة أحجار منها .. شعرت بإرتعاشة خفيفة في يدي .. دسست الأحجار في جيبي الايمن حيث كان يرقد مقص وشيئان جمعتهما المصادفة ولهما مكانهما في روايتي .. وعندما وجدت نفسي في الكوخ نزعت معطفي .. تمددت في الفراش وحلمت مرة أخرى بالنمر .. في الحلم شاهدت فرو الحيوان، كان لون النمر شبيها باللون من الأحلام السابقة، لون الأحجار من الهضبة .. أيقظتني الشمس التي كانت عالية وسقطت أشعتها على وجههي .. نهضت المقص والرسالة ضايقاني عندما أخرجت من الجيب الأقراص المسطحة .. أخذت ملء قبضتي من الأحجار وشعرت بأنه بقي هناك حجران أو ثلاثة .. شيء شبيه بالدغدغة، إرتعاشة ما خفيفة جدا أعطت يدي الدفء .. فتحت يدي ورأيت هناك ثلاثين وربما أربعين منها .. أنا أقسم بأنني لم أكن أملك قبلها أكثر من عشرة .. وضعتها على الطاولة وبحثت عن البقية .. لم أكن مضطراً الى العد لكي أقول بأنها قد تضاعفت .. وضعتها كلها في كومة واحدة وأخذت بالعدّ، واحدا بعد آخر.
تبين أن مثل هذا العمل البسيط هو غير ممكن .. إخترت بنظرتي أول حجر وأخذت أتفحصه بإنتباه، إلتقطته بإصبعين .. عندما نظرت الى واحد رأيت أحجاراً كثيرة .. تأكدت من أنني لست محموماً وكررت التجربة عدة مرات .. المعجزة غير المحتشمة تكررت، وشعرت ببرودة في ساقيّ وأسفل البطن، وركبتاي إرتجفتا .. لا أعرف كم من الوقت كنت في تلك الحال .. صرفت النظر عن الأقراص .. جمعتها في كومة ورميتها من النافذة .. وبإرتياح غريب إنتبهت الى أن عددها قد نقص .. صفقت الباب ورميت نفسي في الفراش .. إستلقيت بنفس الوضع السابق بالضبط وأخذت أقنع نفسي بأن كل شيء كان حلماً .. ولكي لا أفكر بالاحجار واملأ الوقت بطريقة ما، كررت بصوتٍ عالٍ لكن ببطء وبنطق واضح ثمانية تعاريف وسبع بديهيات لعلم الأخلاق .. لا أعرف إن كان هذا الشيء قد ساعدني .. وفي أثناء هذه التعزيمات فاجأني طرق على الباب .. خفت بصورة آلية من أنهم قد سمعوا ما قلته لنفسي .. فتحت الباب .. عند العتبة وقف بهاغوان داس (شيخ القرية) .. خلال لحظة من وجوده بدا أنه قد أعادني الى اليومي .. ذهبنا كنت آمل بأن الأحجار قد اختفت، لكن للأسف كانت ملقاة على الأرض .. لا أعرف كم صار عددها .. نظر العجوز الى الأحجار ثم اليّ: هذه الأحجار ليست من هنا، إنها من الجبل .. قلت: نعم هي كذلك .. وأضفت بلهجة تحد، بأنني عثرت عليها في قمة الهضبة، وشعرت فجأة بالخجل من أنني أبرّر أمامه المسألة .. بهاغان داس لم يعرني إهتماما، وقف ونظر كالمأخوذ في تلك الأقراص .. أمرته بجمعها .. لم يتحرك البتة، وأعترف بكل أسف بأنني سحبت المسدس وكررت بصوت عال الأمر .. تأوه بهاغوان داس وقال: طلقة في الصدر أحسن من حجر أزرق في اليد .. قلت له: أنت جبان .. لم أكن أنا نفسي، كما أعتقد، أقل فزعاً منه، ولكنني أغلقت عيني وبيدي اليسرى أخذت قبضة من الاحجار .. أخفيت المسدس وتركت الأحجار تتساقط في راحة يدي الثانية .. وكانت هي أكثر بكثير .. وبدون وعي أخذت أعتاد على هذه التصورات .. كانت تثير عجبي أقل من صرخات بهاغوان داس .. صرخ: هذه أنواع من الاحجار، هي الآن كثيرة، ولكنني قادر على تغييرها .. إن أشكالها هي شكل القمر المكتمل، وزرقتها مسموح برؤيتها في الحلم فقط، وآباء آبائي لم يكذبوا حين قالوا عن قدرتها، القرية كلها أجتمعت حولنا .. شعرت بأني مالك سحري لهذه المعجزات .. وإزاء عجب الحشد كله جمعت الاحجار، رفعتها وأسقطتها من يدي وقذفتها هنا وهناك ورأيت كيف تتضاعف وكيف يزداد عددها مرة وأخرى يتضاءل العدد بطريقة عجيبة.
تدافع الناس وكلهم عجب و فزع .. الرجال أرغموا زوجاتهم كي ينظرن إلى هذه الاعجوبة .. غطت إحداهن وجهها بساعدها، وأخرى ضغطت على أجفانها .. لم يجرؤ أحد على لمس الأحجار عدا طفل مسرور كان يلهو سعيداً بها .. في لحظة معينة شعرت بأن كل هذا الإضطراب هو تدنيس للمعجزة .. جمعت ما استطعت جمعه من الاحجار وعدت الى الكوخ .. وهو أمر ممكن أنني حاولت نسيان بقية ما حدث في ذلك اليوم، وكان الأول في سلسة منكودة لم تكن قد انتهت بعد .. أنا أعرف فقط بأنني لا أتذكر أي شيء .. كان الغروب على وشك الحلول حين فكرت، وكلي شوق، بيوم أمس الذي لم يكن سعيداً لدرجة كبيرة، فقد ملأه مثل جميع أيامي منذها، هاجس النمر .. رغبت في اللجوء الى صورته التي كانت قبلها ضخمة وصارت الآن عادية مبتذلة .. بدا لي النمر الأزرق غير مؤذ مثل البجعة السوداء للشاعر الروماني والتي إكتشفت فيما بعد في أستراليا .. تصفحت ملاحظاتي الذي دوّنتها لغاية ذلك الحين .. أجد أنني قد إرتكبت خطأ جوهرياً .. فأنا الذي قادته الى الخراب عادات الأدب الجيد أو الرديء والمسمى بصورة غير صحيحة بالبسيكولوجي، أردت ولا أعرف السبب، أن أعيد خلق مجرى الأحداث التي رافقت إكتشافي في حين أنه كان من اللازم التركيز على الخصائص المفزعة للأحجار .. ولو قيل لي إن حيوانات وحيد القرن تعيش على القمر لكنت قد صدقت أو لما صدّقت أو لتجنبت الحكم على مثل هذا القول إلا أنني قد أتمكن من تخيّل ذلك .. ولكن لو قيل لي إنه يعيش ستة أو سبعة من هذه الحيوانات وبإمكانها أن تصبح ثلاثة لحكمت مسبقاً بأنه أمر غير ممكن .. وإذا فهم أحدهم مرة أ ن ثلاثة زائد واحد هي أربعة فهو لن يجر تجارباً على قطع النقود أو كعوب النرد أو أحجار الشطرنج أو الأقلام .. إنه يفهم وكفى، ولا يمكن الأخذ بحل آخر .. وهناك علماء رياضيات يرون أن ثلاثة زائد واحد هي تكرار لأربعة، وطريقة أخرى للتعبير عنها، وبالنسبة لي - أنا ألكسندر كريج - ومن بين جميع الناس العائشين على الأرض إخترت للإسهام في إكتشاف أشياء تنفي ذلك القانون الأساسي للعقل البشري.
في البد ء خشيت من أن أصاب بالجنون .. والآن بعد سنوات يبدو لي أنه قد أفضل أن يكون الامر كما كان إذ أن جنوني الشخصي سيملك وزناً أقل من الدليل القاطع بأنه في الكون ثمة مكان للفوضى .. فإذا كانت ثلاثة زائد أربعة تساوي اثنين أو أربعة عشر يصبح العقل حينها عتهاً .. في ذلك الحين غالباً ما حلمت بالاحجار .. ولأن الحلم لم يعد كل ليلة فقد فتح ذلك أمامي طريق الأمل الذي سرعان ما تحوّل إلى فزع .. كان حلمي نفسه دائماً، وبداية الحلم كانت تنبيء بنهاية تحسستها بخوف .. أعمدة الدرابزين والسلالم الحديدية كانت تهبط بشكل حلزوني الى قبو أو نظام أقبية متحوّل الى سلالم أخرى - مفصولة فجأة - الى حدادة، الى ورشة صنع مفاتيح، الى سجون تحت الأرض .. في القعر في الشرخ المتوقع منذ زمن بعيد كانت الأحجار ملقاة وكانت بيهاموتا أو حوت لوياثان .. إستيقظت والرعشات تخضني، والى جنبي في الصندوق رأيت الأقراص الحجرية متهيئة الى تحولات جديدة .. لقد تغيّر موقف الناس مني .. وشيء من قدسية الاحجار التي كانوا يسمّونها بالنمور الزرق، هبط عليّ .. إلا أنهم إتهموني في الوقت نفسه بتدنيس الهضبة .. في كل لحظة من الليل، في كل لحظة من النهار كان يهددني الإنتقام .. لم يجرؤ أحد على الإعتداء المكشوف عليّ، لم يجرؤ أحد على إدانة فعلتي، لكنني لاحظت أن الجميع قد أصبحوا خدومين بصورة خطرة .. لم أر بعدها أبدا الصبي الذي كان يلهو بالاحجار .. خفت من السمّ أو طعنة خنجر في الظهر .. وقبل أن ينبلج الفجر في صباح ما تركت القرية سرّاً .. شعرت بأن السكان كلهم يتجسسون عليّ، وأن خبر هروبي تقبلوه بإرتياح .. ومنذها لم يكن هناك أي أحد كان يريد أن يرى أحجاري .. عدت إلى لاهور وفي جيبي كانت قبضة من الأقراص .. وفي محيطي الخاص، محيط كتبي لم، ألق الراحة المتوقعة .. أحسست أنه في مكان ما على الأرض توجد تلك القرية المقيتة والأدغال والسفوح الشوكية بقمتها المسطحة وفيها الشروخ غير العميقة، وفي الشروخ الاحجار .. وأحلامي ضاعفت وعقدّت في داخلي كل شيء .. القرية كانت أحجاراً، والدغال مستنقعاً، والمستنقع أدغالاً.
تجنبت الاصدقاء .. خشيت من أنني قد أنقاد الى الإغراء وأريهم المعجزة الفظيعة التي دمرت المعرفة البشرية .. قمت بشتى التجارب .. على أحد الاقراص حفرت شكل صليب . وخلطته مع البقية .. وقد غاب عن نظري بعد تحوّل واحد أو إثنين رغم أن عدد الأقراص قد إزداد .. قمت بتجربة مشابهة على قرص صنعته على شكل قوس دائري .. إختفى هذا أيضاً .. ثقبت حجراً آخر و كررت التجربة .. وفقدته الى الأبد .. وفي اليوم التالي عاد من إقامته في العدم القرص المعلم بالصليب .. أيّ فضاء غامض إبتلع الأحجار وأعادها مع مرور الوقت واحداً أو الثاني؟ .. أي فضاء خاضع لقوانين غير مفهومة أو لأحكام غير بشرية؟ .. والرغبة نفسها في النظام والتي أعطت البداية للرياضيات كانت قد دفعتني الى البحث عن النظام في ذلك الإنحراف عن الرياضيات، في تلك الاحجار المولودة وغير المعقولة .. أردت أن أعثر على قانون ما في تحولاتها غير المتوقعة .. قضيت الأيام والليالي كي أحدد إحصاء التغيرات .. ومن تلك الفترة أحتفظ بعدة دفاتر مملوءة بالأرقام لكن غير المثمرة .. وكانت طريقتي هذه عددت بالنظر الأقراص وسجلت النتيجة .. ثم وزعتها الى كومتين على الطاولة .. قدّرت الأرقام وسجلتها وكررت العملية بكاملها .. كنت أبحث عبثاً عن نظام، عن مخطط مجهول لتعاقبها .. وأكبر عدد حصلت عليه بلغ أربعمائة وتسعة عشر، وأصغرها ثلاثة .. كانت هناك لحظة إمتلكت فيها الأمل، ولربما الخشية، بأن كل شيء سيختفي .. بعد بضع محاولات وجدت أن قرصاً واحداً مفصولاً عن البقية لا يمكنه أن يستنسخ نفسه ولا أن يختفي .. بالطبع كانت العمليات الأربع - الجمع والطرح والضرب والقسمة - غير ممكنة .. لم تخضع الأحجار لعلم الحساب ولا لتقدير الإحتمالات .. أربعون منها إستطاعت عند القسمة ان تعطي تسعة، وتسعة مقسّمة مرة أخرى إستطاعت أن تعطي تسعمائة .. لا أعرف كم كانت تزن .. لم أتأكد من ذلك ولكني واثق بأنها لاتزن كثيراً .. كان وزنها ثابتاً واللون الأزرق لايتغير .. إن كل هذه الأعمال وقتني من الجنون .. عندما كنت أتصرف بهذه الصورة مع الأحجار المدمّرة لكامل المعرفة الرياضية فكرت وليس لمرة واحدة بتلك الاحجار التي كانت في يد اليوناني المشهور وأصبحت الأرقام وقدّمت لكثير من اللغات في الوصية كلمة (حساب) قلت لنفسي إن الرياضيات أخذت بدايتها من الأحجار والآن تجد نهايتها في الاحجار .. لو كان فيثاغورس قد إستخدم هذه لكان .. لا أعرف ماذا كان سيفعل.
بعد مرور شهر أدركت أن الفوضى لا يمكن فك سرها .. أمامي كانت ملقاة تلك الاحجار التى لا تقهر، وفيّ كانت تمور رغبة دائمة في أن ألمسها وأشعر ثانية بتلك الدغدغة الدافئة، وأن أقذفها وأركز الذهن على أعدادها الزوجية وغير الزوجية، أن أنظر كيف تتضاعف وكيف تختفي .. وصل الحال الى أنني أخذت أخشى من أن تعطي الاحجار خصائصها للأشياء الأخرى وخاصة الأصابع التي كانت تعصف بها الرغبة في الإنقياد الى أغراء لمس الاحجار .. خلال عدة أيام فرضت على نفسي واجباً داخلياً لكي أفكر بدون توقف بالاحجار إذ عرفت بأن النسيان لا يمكن أن يستمر طويلاً وإن أكتشفت مجدداً عذابي سيكون شيئاً لا يطاق .. في ليلة العاشر من فبراير لم أنم .. بعد تمش استمر حتى الفجر إجتزت بوابة جامع وزير خان .. كان الوقت مبكرا والضوء لم يكشف بعد عن الالوان .. في الباحة لم يكن أيّ إنسان .. لم أعرف لماذا غمست يدي في ماء الصهريج .. وبدأت أتوسل لربي بصوت عال كي يزيح عني هذا الحمل الذي لا يطاق .. وقفت بدون حراك منتظراً الجواب .. لم أسمع صوت خطوات لكن صوتاً قريباً مني قال لي: لقد قدمت .. شحاذ وقف الى جانبي .. رأيت في شبه الظلمة عمامة وعينين مطفأتين وجلداً بلون الزيتون ولحية رمادية .. لم يكن طويل القامة .. مدّ يده وتكلم مرة أخرى بصوته الخافت: اعطني أيها المنعم على الفقراء .. بحثت في جيوبي وأجبته: لا أملك حتى قطعة نقود واحدة .. قال: تملك الكثير منها .. في الجيب الأيمن رقدت الأحجار .. أخرجت واحداً ووضعته ببطء في راحة اليد الممدودة .. لم ينبعث أي صوت .. قال: عليك أن تعطيني إياها كلها، ومن لا يعطي كل شيء لا يعطي أي شيء .. فهمت وقلت له: أريدك أن تعرف بأن صدقتي قد تكون مفزعة .. أجابني: ربما مسموح لي بأن أقبل مثل هذه فقط، فأنا قد إرتكبت ذنباً .. رميت الاحجار ببطء في راحة يده المكوّرة .. سقطت كما لو أنها قد سقطت في قعر البحر، بدون أقل ضجة .. قال لي بعدها: لا أعرف بعد، ما هي صدقتك، لكن صدّقني بإنها مفزعة .. ستحتفظ لنفسك بالأيام والليالي والعقل والعادات، وبالعالم .. لم أسمع خطوات الشحاذ الأعمى ولم أر كيف إختفى في وضح الفجر.
تمت،،،
كانت حياتي عادية .. ولكن في الحلم كانت تظهر لي النمور دائماً (تملأ أحلامي الآن هيئات أخرى) ولكم من مرة تكلمت عن هذه القضايا حتى أنها تبدو لي اليوم بعيدة وغريبة .. وأنا اكتب عنها بدافع واحد لا غير وهو الإعتراف الذي أريد أن أقوم به .. في نهاية عام 1904م، قرأت أنه في وادي نهر الغانغيس إكتشف نوع من النمور أزرق اللون .. وهذا الخبر أكدت عليه البرقيات التي جاءت فيما بعد وكانت كالعادة في مثل هذه الحالات، مليئة بالتناقضات والإختلافات .. وإنبعث حبي القديم، لكن كانت لدي ريبة بأنه حصل خطأ عند الأخذ بنظر الإعتبار إنعدام الدقة في تحديد الألوان .. تذكرت بأنني قرأت مرة أن اسم أثيوبيا باللغة الإيسلاندية هو "بليلاند" أي الأرض الزرقاء او أرض السواد .. والنمر الأزرق قد يكون، ببساطة فهداً أسوداً .. لم أعثر على أي إشارة الى الخطوط النمرية، وصورة النمر الأزرق بخطوطه الفضية والتي أشاعتها الصحافة اللندنية كانت تزويراً سافراً .. وكانت زرقة ذلك التصوير قد بدت لي إشاراتية بالأحرى وليست فعلية .. في الحلم رأيت نموراً ذات لون أزرق لم أر مثله لغايتها، ولذلك لا أعثر لهذا اللون على الكلمة المناسبة .. أنا أعرف أن ذلك اللون كان قد سقط في السواد تقريباً، لكن هذه الصفة لا تكفي لتخيّل ذلك الطيف اللوني .. بعدها بشهور كثيرة قال لي أحد الزملاء إنه في إحدى القرى البعيدة جداً عن الغانغيس، سمع الناس يتحدثون عن النمور الزرق .. هذه الواقعة فاجأتني، فقدرعلمي تندر النمور في تلك المنطقة .. ومرة أخرى حلمت بنمر أزرق ألقى ظلاً طويلاً على الأرض الرملية عندما مشى .. إستفدت من إجازتي وقررت السفر الى تلك القرية . لا أريد أن أتذكر إسم القرية لأسباب سأوضحها فيما بعد.
وصلت إلى هناك بعد إنتهاء موسم الأمطار .. كانت أدغال سود تحاصر من كل الجهات القرية الجائمة عند أ قدام هضبة بدت شاسعة بالاحرى وليست مرتفعة .. وفي إحدى صفحات من كتب كيبلنغ لابد أن تكون موجودة هذه القرية القصية التي عرفتها مغامرتي، ففي كتبه توجد الهند كلها وبمعنى ما - العالم كله .. وأكتفي هنا بذكر أن القناة التي تقطعها جسور من القصب مهتزة، تحمي بالكاد الوصول الى القرية .. وصوب الجنوب غطت الأرض الوحول وحقول الرز ووادي نهر غريني لم أعرف إسمه أبداً، ووراءه كانت الأدغال أيضاً .. كان الهندوس يسكنون القرية .. صدمتني هذه الحقيقة بصورة غير لطيفة رغم أنني كنت أتوقع هذا الشيء بالضبط .. كنت أجد على الدوام لغة مشتركة مع المسلمين .. لدينا إنطباع بأن الإنسان قد تكاثر في الهند .. وعندما كنت في القرية بدا لي بأن من تكاثر ليس الإنسان بل الأدغال التي إقتحمت هنا داخل الأكواخ تقريباً .. كانت النهارات قائظة وخانقة، والليالي لم تأت بالبرودة .. خرج شيوخ القرية لإستقبالي، وإمتلأ حديثنا الأول بالمجاملات الفارغة .. وكنت قد كتبت عن بؤس هذا المكان إلا أنني أعرف بأن كل إنسان يحكم بأن أرض وطنه هي إستثنائية بصورة ما .. إذن إمتدحت الحجرات المشبوهة، وليس بدرجة أقل كان مديحي للأطعمة المشبوهة، كما قلت إن شهرة هذه المنطقة وصلت الى لاهور.
وجوه الرجال توترت، ولاحظت على الفور بأنني قد إرتكبت هفوة لسان وأدركت بأنه عليّ أن أكفر عن ذلك .. رأيت أن لديهم سرّاً ما وشعرت بأنهم لا يبوحون به للغريب .. ربما هم يقدّسون النمر الأزرق ويعبدونه، وكلماتي الحمقاء تنتهك حرمة معبودهم .. كنت أنتظر حتى الصباح .. أكلت الأرز، وشربت الشاي وبعدها أثرت الموضوع القريب إلى نفسي .. رغم تجارب اليوم السابق لم أفهم - أو لم أقدر على الفهم - ما الذي حدث .. نظروا إليّ وكلهم دهشة، بل كلهم رعب على وجه التقريب، ولكن عندما أعلنت بأنني عازم على مسك هذا الحيوان الكاسر ذي الفرو الغريب، نظروا إليّ بإرتياح .. وأحدهم قال بأنه رأى، عن بعد، النمر عند حافة الأدغال .. وفي منتصف الليل أيقظوني .. أحد الفتيان قال بأن عنزة هربت من الحظيرة وعندما ذهب للبحث عنها رأى، عن بعد، نمراً أزرق عند الضفة الأخرى من النهر .. فكرت بأن ضوء القمر، وكان في طور المحاق، لا يسمح بتحديد الألوان، إلا أن الجميع أكدوا على ما قاله الفتى، وأحدهم وكان يقف صامتاً، أعلن بأنه رآه ايضاً .. ذهبنا مسلحين بالمسدسات ورأيت أو حكمت بأنني أرى ظل قط يختفي في ظلمات الأدغال .. لم يعثروا على العنزة لكن هذا لا يعني بأن الحيوان الكاسر الذي إختطفها كان نمري الأزرق .. والآثار التي أروني إياها بحماس بالغ لم تدل بالطبع على أي شيء .. ومع مرور الليالي فطنت الى أن تلك الإنذارات الزائفة قد أصبحت روتيناً يومياً .. ومثل دانييل ديفو، لم يفتقد السكان المحليون روح الإبتكار في إختلاق شتى المصادفات.
رُؤِيَ النَّمِرُ في مختلف الأوقات، في حقول الأرز في الجنوب أو في أدغال الشمال، ولكنني أدركت بسرعة بأن المراقبين يتبدلون بإنتظام يثير الشكوك .. وعندما أصل إلى المكان يكون النمر قد هرب .. كانوا يقودوني دائماً كي أرى أثراً ما أو ضرراً، ولكن قبضة الإنسان قد تزيّف آثار النمر .. مرة أو مرتين رأيت كلباً ميتاً .. وفي إحدى الليالي القمرية أبقينا عنزة كطعم وإنتظرنا، لكن بدون ثمرة، لغاية الفجر .. في البداية فكرت بأن هذه الأكاذيب المتكررة كل يوم يكون الغرض منها إطالة أمد بقائي المفيد لسكان القرية، فأنا أشتري منهم الطعام وأدفع ثمن كل الخدمات البيتية .. أردت التأكد من صحة شكوكي أعلنت بأنني عازم على البحث عن النمور في منطقة أخرى تقع عند أسفل النهر .. كانت مفاجأة لي أن الجميع إمتدحوا قراري .. وبقيت أشعر بأنهم يملكون سرّاً ما ولا يثقون بأي أحد .. سبق أن كتبت بأن الهضبة المشجّرة التي إنحشرت القرية عند أقدامها لم تكن مرتفعة .. وقمتها المسطحة قد شكلت منصة ليست بالكبيرة .. وفي الجهة الأخرى صوب الغرب والشمال إمتدت الأدغال .. وبدا السفح سهل الدخول، وفي إحدى الأمسيات إقترحت الصعود الى القمة .. وقد أربكتهم كلماتي .. صرخ أحدهم بأن السفوح وعرة للغاية .. إلا أن شيخ القرية أوضح ببالغ الجد بأن عزمي يصعب تحقيقه .. فالقمة هي مكان مقدس وتحرسه قوى سحرية .. وكل من يضع قدمه الفانية هناك قد يرى الرب، وحينها يهدده العمى أو الجنون .. لم ألحف بطلبي ولكن في تلك الليلة حين نام الجميع تسللت من الكوخ وبدأت الصعود عبر السفح السهل .. لم تكن هناك دروب، والشجيرات الكثيفة أخرّت سيري .. كان القمر معلقا فوق الأفق .. أجلت النظر حولي بأقصى الإنتباه كما لو أنني قد شعرت بأن ذلك اليوم سيكون مهماً ولربما الأهم من بين أيامي .. أتذكر دائما تلك الأطياف المعتمة، والسوداء أحياناً، لأوراق الشجر .. وإنبلج الصباح ولكن في الأدغال التي لا تُحدّ لم يغرد أي طير .. بعد عشرين وربما ثلاثين دقيقة من التسلق وضعت قدمي على القمة .. شعرت بهبّة هواء منعش يختلف كثيراً عن الجو الخانق في القرية المستلقية في أسفل السفح .. تبين أن القمة تشكل شرفة ليست بالشاسعة كثيراً .. كذلك إنتبهت الى أن الأدغال تتسلق لغاية جنب المرتفع .. شعرت بأنني حر والمكوث في القرية خيل لي بأنه كان سجناً.
وفجأة كفت عن أن تكون ذات أهمية مسألة أن السكان أرادوا أن يخدعونني أم لا .. شعرت بأنهم أطفال بشكل ما .. وفيما يتعلق بالنمر، الكثير من الخيبة أخمد فيّ الفضول والإيمان، ولكنني أخذت أبحث بصورة آلية عن الآثار .. كانت الأرض متشققة ورملية .. وفي أحد الشقوق التي لم تكن عميقة جداً لكنها متصلة فيما بينها بشبكة من التفرعات، إنتبهت الى اللون المعروف لدي .. إنه أمر لا يصدق ولكنني رأيت زرقة النمر من حلمي .. وتمنيت أن لا أراه أبداً .. نظرت بإنتباه .. الشق ملأته أحجار صغيرة، متشابهة ومدوّرة لا يتجاوز قطرها بضعة سنتمترات، وكانت ملساء بصورة غير إعتيادية .. وأشكالها المنتظمة أعطتها تصّنع قطع الألعاب .. إنحنيت وأدخلت يدي في الشق وأخذت بضعة أحجار منها .. شعرت بإرتعاشة خفيفة في يدي .. دسست الأحجار في جيبي الايمن حيث كان يرقد مقص وشيئان جمعتهما المصادفة ولهما مكانهما في روايتي .. وعندما وجدت نفسي في الكوخ نزعت معطفي .. تمددت في الفراش وحلمت مرة أخرى بالنمر .. في الحلم شاهدت فرو الحيوان، كان لون النمر شبيها باللون من الأحلام السابقة، لون الأحجار من الهضبة .. أيقظتني الشمس التي كانت عالية وسقطت أشعتها على وجههي .. نهضت المقص والرسالة ضايقاني عندما أخرجت من الجيب الأقراص المسطحة .. أخذت ملء قبضتي من الأحجار وشعرت بأنه بقي هناك حجران أو ثلاثة .. شيء شبيه بالدغدغة، إرتعاشة ما خفيفة جدا أعطت يدي الدفء .. فتحت يدي ورأيت هناك ثلاثين وربما أربعين منها .. أنا أقسم بأنني لم أكن أملك قبلها أكثر من عشرة .. وضعتها على الطاولة وبحثت عن البقية .. لم أكن مضطراً الى العد لكي أقول بأنها قد تضاعفت .. وضعتها كلها في كومة واحدة وأخذت بالعدّ، واحدا بعد آخر.
تبين أن مثل هذا العمل البسيط هو غير ممكن .. إخترت بنظرتي أول حجر وأخذت أتفحصه بإنتباه، إلتقطته بإصبعين .. عندما نظرت الى واحد رأيت أحجاراً كثيرة .. تأكدت من أنني لست محموماً وكررت التجربة عدة مرات .. المعجزة غير المحتشمة تكررت، وشعرت ببرودة في ساقيّ وأسفل البطن، وركبتاي إرتجفتا .. لا أعرف كم من الوقت كنت في تلك الحال .. صرفت النظر عن الأقراص .. جمعتها في كومة ورميتها من النافذة .. وبإرتياح غريب إنتبهت الى أن عددها قد نقص .. صفقت الباب ورميت نفسي في الفراش .. إستلقيت بنفس الوضع السابق بالضبط وأخذت أقنع نفسي بأن كل شيء كان حلماً .. ولكي لا أفكر بالاحجار واملأ الوقت بطريقة ما، كررت بصوتٍ عالٍ لكن ببطء وبنطق واضح ثمانية تعاريف وسبع بديهيات لعلم الأخلاق .. لا أعرف إن كان هذا الشيء قد ساعدني .. وفي أثناء هذه التعزيمات فاجأني طرق على الباب .. خفت بصورة آلية من أنهم قد سمعوا ما قلته لنفسي .. فتحت الباب .. عند العتبة وقف بهاغوان داس (شيخ القرية) .. خلال لحظة من وجوده بدا أنه قد أعادني الى اليومي .. ذهبنا كنت آمل بأن الأحجار قد اختفت، لكن للأسف كانت ملقاة على الأرض .. لا أعرف كم صار عددها .. نظر العجوز الى الأحجار ثم اليّ: هذه الأحجار ليست من هنا، إنها من الجبل .. قلت: نعم هي كذلك .. وأضفت بلهجة تحد، بأنني عثرت عليها في قمة الهضبة، وشعرت فجأة بالخجل من أنني أبرّر أمامه المسألة .. بهاغان داس لم يعرني إهتماما، وقف ونظر كالمأخوذ في تلك الأقراص .. أمرته بجمعها .. لم يتحرك البتة، وأعترف بكل أسف بأنني سحبت المسدس وكررت بصوت عال الأمر .. تأوه بهاغوان داس وقال: طلقة في الصدر أحسن من حجر أزرق في اليد .. قلت له: أنت جبان .. لم أكن أنا نفسي، كما أعتقد، أقل فزعاً منه، ولكنني أغلقت عيني وبيدي اليسرى أخذت قبضة من الاحجار .. أخفيت المسدس وتركت الأحجار تتساقط في راحة يدي الثانية .. وكانت هي أكثر بكثير .. وبدون وعي أخذت أعتاد على هذه التصورات .. كانت تثير عجبي أقل من صرخات بهاغوان داس .. صرخ: هذه أنواع من الاحجار، هي الآن كثيرة، ولكنني قادر على تغييرها .. إن أشكالها هي شكل القمر المكتمل، وزرقتها مسموح برؤيتها في الحلم فقط، وآباء آبائي لم يكذبوا حين قالوا عن قدرتها، القرية كلها أجتمعت حولنا .. شعرت بأني مالك سحري لهذه المعجزات .. وإزاء عجب الحشد كله جمعت الاحجار، رفعتها وأسقطتها من يدي وقذفتها هنا وهناك ورأيت كيف تتضاعف وكيف يزداد عددها مرة وأخرى يتضاءل العدد بطريقة عجيبة.
تدافع الناس وكلهم عجب و فزع .. الرجال أرغموا زوجاتهم كي ينظرن إلى هذه الاعجوبة .. غطت إحداهن وجهها بساعدها، وأخرى ضغطت على أجفانها .. لم يجرؤ أحد على لمس الأحجار عدا طفل مسرور كان يلهو سعيداً بها .. في لحظة معينة شعرت بأن كل هذا الإضطراب هو تدنيس للمعجزة .. جمعت ما استطعت جمعه من الاحجار وعدت الى الكوخ .. وهو أمر ممكن أنني حاولت نسيان بقية ما حدث في ذلك اليوم، وكان الأول في سلسة منكودة لم تكن قد انتهت بعد .. أنا أعرف فقط بأنني لا أتذكر أي شيء .. كان الغروب على وشك الحلول حين فكرت، وكلي شوق، بيوم أمس الذي لم يكن سعيداً لدرجة كبيرة، فقد ملأه مثل جميع أيامي منذها، هاجس النمر .. رغبت في اللجوء الى صورته التي كانت قبلها ضخمة وصارت الآن عادية مبتذلة .. بدا لي النمر الأزرق غير مؤذ مثل البجعة السوداء للشاعر الروماني والتي إكتشفت فيما بعد في أستراليا .. تصفحت ملاحظاتي الذي دوّنتها لغاية ذلك الحين .. أجد أنني قد إرتكبت خطأ جوهرياً .. فأنا الذي قادته الى الخراب عادات الأدب الجيد أو الرديء والمسمى بصورة غير صحيحة بالبسيكولوجي، أردت ولا أعرف السبب، أن أعيد خلق مجرى الأحداث التي رافقت إكتشافي في حين أنه كان من اللازم التركيز على الخصائص المفزعة للأحجار .. ولو قيل لي إن حيوانات وحيد القرن تعيش على القمر لكنت قد صدقت أو لما صدّقت أو لتجنبت الحكم على مثل هذا القول إلا أنني قد أتمكن من تخيّل ذلك .. ولكن لو قيل لي إنه يعيش ستة أو سبعة من هذه الحيوانات وبإمكانها أن تصبح ثلاثة لحكمت مسبقاً بأنه أمر غير ممكن .. وإذا فهم أحدهم مرة أ ن ثلاثة زائد واحد هي أربعة فهو لن يجر تجارباً على قطع النقود أو كعوب النرد أو أحجار الشطرنج أو الأقلام .. إنه يفهم وكفى، ولا يمكن الأخذ بحل آخر .. وهناك علماء رياضيات يرون أن ثلاثة زائد واحد هي تكرار لأربعة، وطريقة أخرى للتعبير عنها، وبالنسبة لي - أنا ألكسندر كريج - ومن بين جميع الناس العائشين على الأرض إخترت للإسهام في إكتشاف أشياء تنفي ذلك القانون الأساسي للعقل البشري.
في البد ء خشيت من أن أصاب بالجنون .. والآن بعد سنوات يبدو لي أنه قد أفضل أن يكون الامر كما كان إذ أن جنوني الشخصي سيملك وزناً أقل من الدليل القاطع بأنه في الكون ثمة مكان للفوضى .. فإذا كانت ثلاثة زائد أربعة تساوي اثنين أو أربعة عشر يصبح العقل حينها عتهاً .. في ذلك الحين غالباً ما حلمت بالاحجار .. ولأن الحلم لم يعد كل ليلة فقد فتح ذلك أمامي طريق الأمل الذي سرعان ما تحوّل إلى فزع .. كان حلمي نفسه دائماً، وبداية الحلم كانت تنبيء بنهاية تحسستها بخوف .. أعمدة الدرابزين والسلالم الحديدية كانت تهبط بشكل حلزوني الى قبو أو نظام أقبية متحوّل الى سلالم أخرى - مفصولة فجأة - الى حدادة، الى ورشة صنع مفاتيح، الى سجون تحت الأرض .. في القعر في الشرخ المتوقع منذ زمن بعيد كانت الأحجار ملقاة وكانت بيهاموتا أو حوت لوياثان .. إستيقظت والرعشات تخضني، والى جنبي في الصندوق رأيت الأقراص الحجرية متهيئة الى تحولات جديدة .. لقد تغيّر موقف الناس مني .. وشيء من قدسية الاحجار التي كانوا يسمّونها بالنمور الزرق، هبط عليّ .. إلا أنهم إتهموني في الوقت نفسه بتدنيس الهضبة .. في كل لحظة من الليل، في كل لحظة من النهار كان يهددني الإنتقام .. لم يجرؤ أحد على الإعتداء المكشوف عليّ، لم يجرؤ أحد على إدانة فعلتي، لكنني لاحظت أن الجميع قد أصبحوا خدومين بصورة خطرة .. لم أر بعدها أبدا الصبي الذي كان يلهو بالاحجار .. خفت من السمّ أو طعنة خنجر في الظهر .. وقبل أن ينبلج الفجر في صباح ما تركت القرية سرّاً .. شعرت بأن السكان كلهم يتجسسون عليّ، وأن خبر هروبي تقبلوه بإرتياح .. ومنذها لم يكن هناك أي أحد كان يريد أن يرى أحجاري .. عدت إلى لاهور وفي جيبي كانت قبضة من الأقراص .. وفي محيطي الخاص، محيط كتبي لم، ألق الراحة المتوقعة .. أحسست أنه في مكان ما على الأرض توجد تلك القرية المقيتة والأدغال والسفوح الشوكية بقمتها المسطحة وفيها الشروخ غير العميقة، وفي الشروخ الاحجار .. وأحلامي ضاعفت وعقدّت في داخلي كل شيء .. القرية كانت أحجاراً، والدغال مستنقعاً، والمستنقع أدغالاً.
تجنبت الاصدقاء .. خشيت من أنني قد أنقاد الى الإغراء وأريهم المعجزة الفظيعة التي دمرت المعرفة البشرية .. قمت بشتى التجارب .. على أحد الاقراص حفرت شكل صليب . وخلطته مع البقية .. وقد غاب عن نظري بعد تحوّل واحد أو إثنين رغم أن عدد الأقراص قد إزداد .. قمت بتجربة مشابهة على قرص صنعته على شكل قوس دائري .. إختفى هذا أيضاً .. ثقبت حجراً آخر و كررت التجربة .. وفقدته الى الأبد .. وفي اليوم التالي عاد من إقامته في العدم القرص المعلم بالصليب .. أيّ فضاء غامض إبتلع الأحجار وأعادها مع مرور الوقت واحداً أو الثاني؟ .. أي فضاء خاضع لقوانين غير مفهومة أو لأحكام غير بشرية؟ .. والرغبة نفسها في النظام والتي أعطت البداية للرياضيات كانت قد دفعتني الى البحث عن النظام في ذلك الإنحراف عن الرياضيات، في تلك الاحجار المولودة وغير المعقولة .. أردت أن أعثر على قانون ما في تحولاتها غير المتوقعة .. قضيت الأيام والليالي كي أحدد إحصاء التغيرات .. ومن تلك الفترة أحتفظ بعدة دفاتر مملوءة بالأرقام لكن غير المثمرة .. وكانت طريقتي هذه عددت بالنظر الأقراص وسجلت النتيجة .. ثم وزعتها الى كومتين على الطاولة .. قدّرت الأرقام وسجلتها وكررت العملية بكاملها .. كنت أبحث عبثاً عن نظام، عن مخطط مجهول لتعاقبها .. وأكبر عدد حصلت عليه بلغ أربعمائة وتسعة عشر، وأصغرها ثلاثة .. كانت هناك لحظة إمتلكت فيها الأمل، ولربما الخشية، بأن كل شيء سيختفي .. بعد بضع محاولات وجدت أن قرصاً واحداً مفصولاً عن البقية لا يمكنه أن يستنسخ نفسه ولا أن يختفي .. بالطبع كانت العمليات الأربع - الجمع والطرح والضرب والقسمة - غير ممكنة .. لم تخضع الأحجار لعلم الحساب ولا لتقدير الإحتمالات .. أربعون منها إستطاعت عند القسمة ان تعطي تسعة، وتسعة مقسّمة مرة أخرى إستطاعت أن تعطي تسعمائة .. لا أعرف كم كانت تزن .. لم أتأكد من ذلك ولكني واثق بأنها لاتزن كثيراً .. كان وزنها ثابتاً واللون الأزرق لايتغير .. إن كل هذه الأعمال وقتني من الجنون .. عندما كنت أتصرف بهذه الصورة مع الأحجار المدمّرة لكامل المعرفة الرياضية فكرت وليس لمرة واحدة بتلك الاحجار التي كانت في يد اليوناني المشهور وأصبحت الأرقام وقدّمت لكثير من اللغات في الوصية كلمة (حساب) قلت لنفسي إن الرياضيات أخذت بدايتها من الأحجار والآن تجد نهايتها في الاحجار .. لو كان فيثاغورس قد إستخدم هذه لكان .. لا أعرف ماذا كان سيفعل.
بعد مرور شهر أدركت أن الفوضى لا يمكن فك سرها .. أمامي كانت ملقاة تلك الاحجار التى لا تقهر، وفيّ كانت تمور رغبة دائمة في أن ألمسها وأشعر ثانية بتلك الدغدغة الدافئة، وأن أقذفها وأركز الذهن على أعدادها الزوجية وغير الزوجية، أن أنظر كيف تتضاعف وكيف تختفي .. وصل الحال الى أنني أخذت أخشى من أن تعطي الاحجار خصائصها للأشياء الأخرى وخاصة الأصابع التي كانت تعصف بها الرغبة في الإنقياد الى أغراء لمس الاحجار .. خلال عدة أيام فرضت على نفسي واجباً داخلياً لكي أفكر بدون توقف بالاحجار إذ عرفت بأن النسيان لا يمكن أن يستمر طويلاً وإن أكتشفت مجدداً عذابي سيكون شيئاً لا يطاق .. في ليلة العاشر من فبراير لم أنم .. بعد تمش استمر حتى الفجر إجتزت بوابة جامع وزير خان .. كان الوقت مبكرا والضوء لم يكشف بعد عن الالوان .. في الباحة لم يكن أيّ إنسان .. لم أعرف لماذا غمست يدي في ماء الصهريج .. وبدأت أتوسل لربي بصوت عال كي يزيح عني هذا الحمل الذي لا يطاق .. وقفت بدون حراك منتظراً الجواب .. لم أسمع صوت خطوات لكن صوتاً قريباً مني قال لي: لقد قدمت .. شحاذ وقف الى جانبي .. رأيت في شبه الظلمة عمامة وعينين مطفأتين وجلداً بلون الزيتون ولحية رمادية .. لم يكن طويل القامة .. مدّ يده وتكلم مرة أخرى بصوته الخافت: اعطني أيها المنعم على الفقراء .. بحثت في جيوبي وأجبته: لا أملك حتى قطعة نقود واحدة .. قال: تملك الكثير منها .. في الجيب الأيمن رقدت الأحجار .. أخرجت واحداً ووضعته ببطء في راحة اليد الممدودة .. لم ينبعث أي صوت .. قال: عليك أن تعطيني إياها كلها، ومن لا يعطي كل شيء لا يعطي أي شيء .. فهمت وقلت له: أريدك أن تعرف بأن صدقتي قد تكون مفزعة .. أجابني: ربما مسموح لي بأن أقبل مثل هذه فقط، فأنا قد إرتكبت ذنباً .. رميت الاحجار ببطء في راحة يده المكوّرة .. سقطت كما لو أنها قد سقطت في قعر البحر، بدون أقل ضجة .. قال لي بعدها: لا أعرف بعد، ما هي صدقتك، لكن صدّقني بإنها مفزعة .. ستحتفظ لنفسك بالأيام والليالي والعقل والعادات، وبالعالم .. لم أسمع خطوات الشحاذ الأعمى ولم أر كيف إختفى في وضح الفجر.
تمت،،،