يقول ابن الكلبي: "إن الرجل إذا سافر ونزل منزلا؛ أخذ أربعة أحجارٍ؛ فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا "
إن العربي هنا يجري عملية قيمية لجماليات الحجر؛ ثم ينفخُ الروحَ بالفائز منها؛ فيحوله إلى الكمال المطلق؛ ليس لجهله بكونه جمادًا، إنما استنطاقا لروح المكان؛ وكأنه المتحدث بصوت تاريخه أمام الحضارات الأخرى، وهو في الوقت نفسه يغازل طبيعة المكان التي شكّلت ذاكرته، ويشير إلى مكامن إعجابه بها.
من هنا انطلقَ الشاعرُ العربي يساجل الصحراء والرياض(جمع روضة) فيكتب بيتًا أو بيتين، وينتظر صداه من الأشجار والآبار والجبال والوديان، والمياه، في ظلام الليل؛ حتى إذا تنفس الصباحُ فإذا بالقصيدة الغزلية مكتملة في وصفِ المكانِ وغرامه.
ومن صورِ ذلك؛ ما نتخيله من انبساط الأرض، حتى ليشاهد أهلُ الحجاز أهلَ نجد والأحساء، وحتى ليحدّث أهلُ العُلا، ساكني نجرانَ وجبال صنعاء. فقد تسامرَ لبيد بن ربيعة وهو بالحجاز، مع امرئ القيسِ والأعشى وهما بنجدٍ، وعبيد بن الأبرص وهو بالعُلا ، وطرفة بن العبد وهو بالأحساء، والمثقب العبدي وهو بالبحرين، والشنفرى الأزدي وهو مسافرٌ من بلاد غامدٍ وزهران إلى صنعاء...!
لهذا حكى لبيدُ صوتَ جبلي (يرمرم وتعار) وهما يُخلدان ولا يُنسفان يوم ينسفُ اللهُ الجبال نسفا :
عشتُ دهرا، ولا يدوم على / الأيام إلا يرمرم وتعار.
فإذا بامرئ القيس يسمع صوت لبيدٍ في صخور جبل (يذبل) في هضبة نجد؛ فتجسدت ذاكرة الخلود الشامخة، كلونِ الحُمرة في خدِّ فتاةٍ عاشقة، فنطق فاهُ الجبلِ؛ كأنه ظُلة على الجزيرة:
يا لبيدُ ..! إن ليلك لن ينقضي؛ فعشقُكَ لجبليْ الحجاز مشدود بــ(يذبلٍ) النجدي، وهو باقٍ بلا فناء :
فيالك من ليل كأن نجومه /بكل مغار الفتل شُدت بيذبل.
وهل للمنذر بن ماء السماء أن يُخيف ابن الأبرص، وهو يحتمي بكثيبِ رملٍ يشبهُ حبيبته، تصوّر له وهو مُشعلٌ النارَ ويغني:
صعدةٌ ما علا الحقيبة منها / وكثيبٌ ما كان تحت الحقاب
.. وتشابكت أصواتٌ وأصوات، وتعالت ذبذبات لا تُحسّ إلا بآلات إدراكٍ، ولدت مع الإنسانِ المكاني؛ لهذا روى الجاحظُ عن أبي إسحاق أنه قال: (... ويسمع الصوت الذي ليس بالرفيعِ مع انبساط الشمسِ غدوة من المكان البعيد، ويوجد لأوساط الفيافي والقفار والرمال والحرار في أنصاف النهار مثل الدوي؛ من طبع ذلك الوقتِ وذلك المكان ...)
فمن لهذا الدويّ؟ إلا من انبسط له المكان حينَ اختزن بذاكرته تاريخ الزمان وصُوِرَ الليلُ فيه شمسَ النهار .
إنه العربي الأول الذي يجمع هذا الدويّ في كأس الزمان ويشظّيهِ أشكالًا تتمثل في صورة الإنسان أو الحيوان أو جوفِ صحراء وسفوح الجبال وموارد المياه وملتف الأشجار ..
ثم يولد من رحم هذا الدويّ؛ عربيٌ آخر، لكنه لا يسمع ولا يبصر إلا من جوف العقل..
فابتدأ صراع المكان ...وهو صراع الذاكرة ، صراع معنى كينونة الإنسان
فالعربي الأول يسيْحُ في فضاء الملكوتِ، يذرعُ الصحاري، لا يحدّ نظرَه إلا آفاق التكوّر الأرضي، ولا يردع سمعَه إلا (زجل) الجانِّ في أرجاءِ الليل، و(صريف أقلام) الملائكة يوم تناوح الريح . لم يَعرف معنى (الحائط)، وكيف للمصدر أن يُحَدّ !؟ لهذا فقد احتلّ (الحس) أُفقَه، فلا يتردد أن يحلف الأيمان المغلظة بأنه جاور إبليس وأبنائه: ولهانَ و لاقيس، وحاور المردة والشياطين، ورأى العفريتَ يحمل زاده مسافرًا إلى حيث بلاد سليمان، وسمع هواتفَ الجنّان، وأنه يَسمرُ الليالي الطوال مرةً في بني (أُقيشٍ) ومرة في ( بني الشيصبان) ومرة في (بني عِسْر)، فيشمّ روائح ديارهم، ويذوق طعامًا أعدته (السِعلاة) زوجة (عَمْرَ بن يربوع)، الذي أنجب إنسانًا عبقريًا بقدمي خيلٍ :
ومن فاد من إخوانهم وبنيهمُ/ كهولٌ وشبّانٌ كجِنّة عبقر
ولا يتردد أن يشهدَ على نكاحِ (تأبط شرا) للغول...
أنا الذي نكحَ الأغوال في بلدٍ/ ما طلّ فيه سماكيّ ولا جادا
ومن احتلّ الحسُ أفقَه، وليس له (مكان) صنعه العربي الآخر، ولا يعرف (الحائط) كأهل الحاضرة من العرب الثانية.. هل له أن يتصالح مع (العقل/ الحائط) الذي قُيد بمبادئ ضرورية يفكر من خلالها؟
وهل للعربي الثاني الذي سوّر مكانه بكل طاردٍ للموحِشات، ومن كان مكانه لا يرتبطُ –فضاءً- مع فكرة الأرواح أن يُقدر حدود الحس وأن يؤسس جغرافيا لصدق الحس وكذبه ؟ ( والأرواح هنا قد تعبر عن الانطلاق؛ فالأرواح لا يحدها منطق الأجسام، وانغلاقها)
إن الآخرَ (فكّر)، وأدار خمرة (الروحِ) بين حيطان المدينة وأسوارها ...فلم تنتهِ الليلة إلا وقد (قَدّر) بطرد الأول من ملكوتِ المعرفة ..
فَقتِلَ كيف قدّر.
إن العربي هنا يجري عملية قيمية لجماليات الحجر؛ ثم ينفخُ الروحَ بالفائز منها؛ فيحوله إلى الكمال المطلق؛ ليس لجهله بكونه جمادًا، إنما استنطاقا لروح المكان؛ وكأنه المتحدث بصوت تاريخه أمام الحضارات الأخرى، وهو في الوقت نفسه يغازل طبيعة المكان التي شكّلت ذاكرته، ويشير إلى مكامن إعجابه بها.
من هنا انطلقَ الشاعرُ العربي يساجل الصحراء والرياض(جمع روضة) فيكتب بيتًا أو بيتين، وينتظر صداه من الأشجار والآبار والجبال والوديان، والمياه، في ظلام الليل؛ حتى إذا تنفس الصباحُ فإذا بالقصيدة الغزلية مكتملة في وصفِ المكانِ وغرامه.
ومن صورِ ذلك؛ ما نتخيله من انبساط الأرض، حتى ليشاهد أهلُ الحجاز أهلَ نجد والأحساء، وحتى ليحدّث أهلُ العُلا، ساكني نجرانَ وجبال صنعاء. فقد تسامرَ لبيد بن ربيعة وهو بالحجاز، مع امرئ القيسِ والأعشى وهما بنجدٍ، وعبيد بن الأبرص وهو بالعُلا ، وطرفة بن العبد وهو بالأحساء، والمثقب العبدي وهو بالبحرين، والشنفرى الأزدي وهو مسافرٌ من بلاد غامدٍ وزهران إلى صنعاء...!
لهذا حكى لبيدُ صوتَ جبلي (يرمرم وتعار) وهما يُخلدان ولا يُنسفان يوم ينسفُ اللهُ الجبال نسفا :
عشتُ دهرا، ولا يدوم على / الأيام إلا يرمرم وتعار.
فإذا بامرئ القيس يسمع صوت لبيدٍ في صخور جبل (يذبل) في هضبة نجد؛ فتجسدت ذاكرة الخلود الشامخة، كلونِ الحُمرة في خدِّ فتاةٍ عاشقة، فنطق فاهُ الجبلِ؛ كأنه ظُلة على الجزيرة:
يا لبيدُ ..! إن ليلك لن ينقضي؛ فعشقُكَ لجبليْ الحجاز مشدود بــ(يذبلٍ) النجدي، وهو باقٍ بلا فناء :
فيالك من ليل كأن نجومه /بكل مغار الفتل شُدت بيذبل.
وهل للمنذر بن ماء السماء أن يُخيف ابن الأبرص، وهو يحتمي بكثيبِ رملٍ يشبهُ حبيبته، تصوّر له وهو مُشعلٌ النارَ ويغني:
صعدةٌ ما علا الحقيبة منها / وكثيبٌ ما كان تحت الحقاب
.. وتشابكت أصواتٌ وأصوات، وتعالت ذبذبات لا تُحسّ إلا بآلات إدراكٍ، ولدت مع الإنسانِ المكاني؛ لهذا روى الجاحظُ عن أبي إسحاق أنه قال: (... ويسمع الصوت الذي ليس بالرفيعِ مع انبساط الشمسِ غدوة من المكان البعيد، ويوجد لأوساط الفيافي والقفار والرمال والحرار في أنصاف النهار مثل الدوي؛ من طبع ذلك الوقتِ وذلك المكان ...)
فمن لهذا الدويّ؟ إلا من انبسط له المكان حينَ اختزن بذاكرته تاريخ الزمان وصُوِرَ الليلُ فيه شمسَ النهار .
إنه العربي الأول الذي يجمع هذا الدويّ في كأس الزمان ويشظّيهِ أشكالًا تتمثل في صورة الإنسان أو الحيوان أو جوفِ صحراء وسفوح الجبال وموارد المياه وملتف الأشجار ..
ثم يولد من رحم هذا الدويّ؛ عربيٌ آخر، لكنه لا يسمع ولا يبصر إلا من جوف العقل..
فابتدأ صراع المكان ...وهو صراع الذاكرة ، صراع معنى كينونة الإنسان
فالعربي الأول يسيْحُ في فضاء الملكوتِ، يذرعُ الصحاري، لا يحدّ نظرَه إلا آفاق التكوّر الأرضي، ولا يردع سمعَه إلا (زجل) الجانِّ في أرجاءِ الليل، و(صريف أقلام) الملائكة يوم تناوح الريح . لم يَعرف معنى (الحائط)، وكيف للمصدر أن يُحَدّ !؟ لهذا فقد احتلّ (الحس) أُفقَه، فلا يتردد أن يحلف الأيمان المغلظة بأنه جاور إبليس وأبنائه: ولهانَ و لاقيس، وحاور المردة والشياطين، ورأى العفريتَ يحمل زاده مسافرًا إلى حيث بلاد سليمان، وسمع هواتفَ الجنّان، وأنه يَسمرُ الليالي الطوال مرةً في بني (أُقيشٍ) ومرة في ( بني الشيصبان) ومرة في (بني عِسْر)، فيشمّ روائح ديارهم، ويذوق طعامًا أعدته (السِعلاة) زوجة (عَمْرَ بن يربوع)، الذي أنجب إنسانًا عبقريًا بقدمي خيلٍ :
ومن فاد من إخوانهم وبنيهمُ/ كهولٌ وشبّانٌ كجِنّة عبقر
ولا يتردد أن يشهدَ على نكاحِ (تأبط شرا) للغول...
أنا الذي نكحَ الأغوال في بلدٍ/ ما طلّ فيه سماكيّ ولا جادا
ومن احتلّ الحسُ أفقَه، وليس له (مكان) صنعه العربي الآخر، ولا يعرف (الحائط) كأهل الحاضرة من العرب الثانية.. هل له أن يتصالح مع (العقل/ الحائط) الذي قُيد بمبادئ ضرورية يفكر من خلالها؟
وهل للعربي الثاني الذي سوّر مكانه بكل طاردٍ للموحِشات، ومن كان مكانه لا يرتبطُ –فضاءً- مع فكرة الأرواح أن يُقدر حدود الحس وأن يؤسس جغرافيا لصدق الحس وكذبه ؟ ( والأرواح هنا قد تعبر عن الانطلاق؛ فالأرواح لا يحدها منطق الأجسام، وانغلاقها)
إن الآخرَ (فكّر)، وأدار خمرة (الروحِ) بين حيطان المدينة وأسوارها ...فلم تنتهِ الليلة إلا وقد (قَدّر) بطرد الأول من ملكوتِ المعرفة ..
فَقتِلَ كيف قدّر.