لقد كان صديقي الذي خرج تواً من المستشفى الحكومي هو الذي سمح لي باستعارة كتاب جيم كارول "يوميات لاعب كرة سلة". كنت في السادسة عشر وقد هجرت لتوي المدرسة الثانوية. قرأته في بانيو الحمّام، دخنت سجائري الواحدة تلو الأخرى، ولم أتوقف عن القراءة إلى أن أصبح جلدي مجعداً وجافاً كقشرة البرقوق ولطعتُ الصفحة الأخيرة، الكلمة الأخيرة وانصرفت، "اللعنة، لم أكن أعرف أن بالإمكان قول أشياء كهذه في الكتب"!
في اليوم التالي جعلتُ والدتي تأخذني للحصول على بطاقة مكتبة.
قرأت حزماً من الكلاسيكيات التي كتبها فولكنر ودستوفيسكي وكامو وهمنغواي، ثم انتقلت إلى كارفر، ليش، همبل، حنّا، بالي، فصاعداً ولم ألتفت للوراء مطلقاً.
كل الكتب التي قرأتها على مر السنين، الجيد منها على كل حال، بدت مقترنة دائماً بحدث ما في حياتي. سواء كان ذلك رحيل شخص ما، أو تبديل وظيفة، أو استراحة غداء محددة. أستطيع أن أتذكر أين كنت وماذا كنت أفعل وكيف شعرت أثناء قراءة كتب معينة.
الجريمة والعقاب قرأتها في جنوب ويتشيا. قرأتها في سريري خلال ثلاثة أو أربعة أيام، نهضت فقط للتدخين أو التهام ساندويتش.
"قصائد الغداء"، التي كتبها فرانك أوهارا، قُرئت خلال استراحة الغداء حينما كنت أعمل في أحد مقاهي ستاربكس في غرب ويتشيا، تماماً بعد أن اكتشفت أن زوج زميلتي في العمل كان مستبدّاً.
قرأت رواية "الغداء العاري" حينما سمعت عن سمكة سَلَّور عملاقة سُحبت من بركة صغيرة خلف بناية شقتنا، كبيرة لحد أنه كان يتوجب عليهم حملها بعيداً في عربة يد.
قرأت "الغريب" في حوض الاستحمام بعد العادة السرية.
كنت في محاولتي الثالثة لإنهاء رواية "قوس قزح الجاذبية" عندما اكتشفت أن عمي قد توفي.
لا أعرف لماذا أخبرك هذه الأشياء، لكنني أشعر فقط أنها تبدو مهمة.
هذان السطران من رواية باري هانا "راي" يتبادران إلى ذهني عند محاولة ربط ما تعنيه القراءة بالنسبة لي. "أنا أعيش في قرون عديدة، الجميع فيها ما زالوا أحياء".
مكتبة وسط المدينة في ويتشيا كانت مكاناً مليئاً بالناس المتشردين خلال الأيام الباردة من فصل الشتاء. إنهم يتمددون على الكراسي أو يقفون خارج الواجهة لتدخين أعقاب السجائر. أقرأ ظهور الكتب وأتخيلهم شخصيات في تلك الروايات. لم أكن أعرف مطلقاً، إلى حين قراءتها، إن كانت جيدة أم سيئة. وفي كلتا الحالتين، ففي نسختي، لديهم في الأقل فرصة للهروب من حياتهم لوهلة قصيرة.
جيم كارول كان مثل تلك النسخة من أخي الذي في الواقع حصلت على فرصة للتعرف عليه. كان أخي مدمناً في حياته المبكرة، وكنت كذلك أعرف أمراً أو أمرين، لكن في جيم كارول عثرت على أحد استطاع مساعدتي على فهم شيء عن الأخوّة، وهو أن: مجرد أن يكون الناس في بعض الأحيان مخطئين أو محطمين لا يعني أنهم قد نسوا كيف يحبون.
من ناحية أخرى، قبل قراءة "الغريب" و"الجريمة والعقاب" لم أكن أدرك أن ظلام القلب يمكن أن يكون بئراً بهذا العمق المريع والبائس، حتى بعد أن كشف لنا ميرسولت وراسكولنيكوف أن قلوبنا غالباً ما تبدو أكثر شبهاً بالدماغ من أي جزء أحمر ينبض في صدورنا.
يا لها من فكرة مرعبة!
لكن كان هنالك هذا أيضاً؛ القراءة حولتني إلى لص. تماماً مثل أخي حينما أدمن على المخدرات، سرقتُ أشياء لإشباع حاجاتي. بدأتْ بعد كارثة بعض الرسوم المتأخرة إلى المكتبة. وبغتة بين عشية وضحاها لم يكن لدي أي شيء لأقرأه. لذا جعلت والدتي تنزلني عند الحدود في الجانب الغربي من البلدة مرة كل أسبوع حينما تقوم بالتسوق. كنت أتصفح الكتبَ لساعة تقريباً، نطاقَ الكاميرات، أحمّل ما أريده، أنظر بريبة كاللعنة، أحشر الكتاب في حزامي وأتجه إلى الباب. سرقت تقريباً من 20 إلى 30 كتاباً بهذه الطريقة. في بعض الأحيان أضع كتاباً في الأمام، كتاباً في الخلف وواحداً على الجانب.
كل شيء بدأ مع كتاب "الأولاد الشرسون" لوليم بوروز. ثم "يوميات قلب المدينة" لجيم كارول، إلخ. كنت ألتهم وأسرق، ألتهم وأسرق، أسرق وألتهم، ولم أشعر بنفسي مذنباً مرة واحدة بسبب ذلك على الإطلاق. كنت أخطط له كشيء يتوجب أن أفعله. جعلني أشعر بأني أعيش، ليس سرقة الكتب، بل قراءتها. جعلتني أشعر كشخص أقل وحدة في هذا العالم.
بعد ذلك اكتشفت "مكتبة واترمارك"، مكتبة مستقلة مدهشة تقع في الجانب الشرقي من البلدة. هناك اكتشفت مات بيل، جاك جيمك، بيتر ماركوس، وبليك بتلر، حيث أخذتني إلى جمال الاستقلال ومطبوعات دور النشر الصغيرة. أيام سرقتي للكتب قد انتهت.
قرأت خلال استراحات الغداء، في سيارتي، ماشياً إلى بيتي، في السرير، في المرحاض، في حوض الاستحمام، تماماً في أي مكان أتيح لي ذلك.
بالنسبة لي، القراءة هي عملية اتصال مع تجربة، داخل وخارج الصفحات، والتجربة هي أثمن ما في الحياة، فالحياة تصبح خيالاً والخيال يصبح ذاكرة، الخطوط تطمس، وفجأة ذات يوم لن نستطيع أن نتذكر إن كان صديق في حياتنا الحقيقة قد قال ذلك الشيء البليغ أو آخر غيره أم شخص يشبهه في كتاب والعكس بالعكس.
هذه هي الحياة، بأسلوب بسيط إلى حد ما.
نشأت في بلدة ويتشيا، جنوب كنساس، ولم أحب ذلك كثيراً على الإطلاق، لكنني لم أكرهه كذلك أبداً. لقد كانت حقيقية جداً، محددة، كما كانت مجرد ذكرى تلوح مثل يَراعةٍ في خيالي. كانت المكان الذي ولدت فيه، المكان الذي نشأت فيه، المكان الذي قرأت فيه كتابي الأول، المكان الذي بدأت فيه كتابة كتابي الأول، والمكان الذي ربما سأموت فيه.
حياتي لا تختلف عن حياتكم. الاختلافات الوحيدة التي يمكن أن تكون تكمن في الأيدي التي لمستنا، وتفسيراتنا لتلك الأيدي.
وبالحديث عن الحياة، فالقراءة بطريقة ما أنقذت حياتي، ليس على غرار كليشة "هذا الكتاب أنقذ حياتي"، لكن لأن تلك القراءة فتحت بصيرتي على ما يبدو نحو تيار لا نهائي من الاحتمالات. علمتني كل أنواع الأمور، هذا أكيد، لكن أكثرها أهمية هو أنها جعلتني على بيّنة، مع مرور الزمن، من أن جميع البشر ينزفون على حد سواء. نحن جميعاً نتألم ونضحك ونحب ونكره ونبتسم. لا نفعل كل هذه الأشياء بنفس الطريقة أو بذات الأسلوب، لكننا نعرف أهمية معانيها. والآن، الآن أدرك وأنا في الثلاثين، حيث أنقر هذه الكلمات، أن القراءة بالنسبة لي هي سعي حثيث من ماضيَّ ومعانقة له. وما من هناك كلمة أخرى لذلك غير الأمل. الكتب جعلتني أشعر أنها يمكن أن تعيش خلالنا جميعاً
https://www.facebook.com/jamal.vilnius/posts/626187801121404
في اليوم التالي جعلتُ والدتي تأخذني للحصول على بطاقة مكتبة.
قرأت حزماً من الكلاسيكيات التي كتبها فولكنر ودستوفيسكي وكامو وهمنغواي، ثم انتقلت إلى كارفر، ليش، همبل، حنّا، بالي، فصاعداً ولم ألتفت للوراء مطلقاً.
كل الكتب التي قرأتها على مر السنين، الجيد منها على كل حال، بدت مقترنة دائماً بحدث ما في حياتي. سواء كان ذلك رحيل شخص ما، أو تبديل وظيفة، أو استراحة غداء محددة. أستطيع أن أتذكر أين كنت وماذا كنت أفعل وكيف شعرت أثناء قراءة كتب معينة.
الجريمة والعقاب قرأتها في جنوب ويتشيا. قرأتها في سريري خلال ثلاثة أو أربعة أيام، نهضت فقط للتدخين أو التهام ساندويتش.
"قصائد الغداء"، التي كتبها فرانك أوهارا، قُرئت خلال استراحة الغداء حينما كنت أعمل في أحد مقاهي ستاربكس في غرب ويتشيا، تماماً بعد أن اكتشفت أن زوج زميلتي في العمل كان مستبدّاً.
قرأت رواية "الغداء العاري" حينما سمعت عن سمكة سَلَّور عملاقة سُحبت من بركة صغيرة خلف بناية شقتنا، كبيرة لحد أنه كان يتوجب عليهم حملها بعيداً في عربة يد.
قرأت "الغريب" في حوض الاستحمام بعد العادة السرية.
كنت في محاولتي الثالثة لإنهاء رواية "قوس قزح الجاذبية" عندما اكتشفت أن عمي قد توفي.
لا أعرف لماذا أخبرك هذه الأشياء، لكنني أشعر فقط أنها تبدو مهمة.
هذان السطران من رواية باري هانا "راي" يتبادران إلى ذهني عند محاولة ربط ما تعنيه القراءة بالنسبة لي. "أنا أعيش في قرون عديدة، الجميع فيها ما زالوا أحياء".
مكتبة وسط المدينة في ويتشيا كانت مكاناً مليئاً بالناس المتشردين خلال الأيام الباردة من فصل الشتاء. إنهم يتمددون على الكراسي أو يقفون خارج الواجهة لتدخين أعقاب السجائر. أقرأ ظهور الكتب وأتخيلهم شخصيات في تلك الروايات. لم أكن أعرف مطلقاً، إلى حين قراءتها، إن كانت جيدة أم سيئة. وفي كلتا الحالتين، ففي نسختي، لديهم في الأقل فرصة للهروب من حياتهم لوهلة قصيرة.
جيم كارول كان مثل تلك النسخة من أخي الذي في الواقع حصلت على فرصة للتعرف عليه. كان أخي مدمناً في حياته المبكرة، وكنت كذلك أعرف أمراً أو أمرين، لكن في جيم كارول عثرت على أحد استطاع مساعدتي على فهم شيء عن الأخوّة، وهو أن: مجرد أن يكون الناس في بعض الأحيان مخطئين أو محطمين لا يعني أنهم قد نسوا كيف يحبون.
من ناحية أخرى، قبل قراءة "الغريب" و"الجريمة والعقاب" لم أكن أدرك أن ظلام القلب يمكن أن يكون بئراً بهذا العمق المريع والبائس، حتى بعد أن كشف لنا ميرسولت وراسكولنيكوف أن قلوبنا غالباً ما تبدو أكثر شبهاً بالدماغ من أي جزء أحمر ينبض في صدورنا.
يا لها من فكرة مرعبة!
لكن كان هنالك هذا أيضاً؛ القراءة حولتني إلى لص. تماماً مثل أخي حينما أدمن على المخدرات، سرقتُ أشياء لإشباع حاجاتي. بدأتْ بعد كارثة بعض الرسوم المتأخرة إلى المكتبة. وبغتة بين عشية وضحاها لم يكن لدي أي شيء لأقرأه. لذا جعلت والدتي تنزلني عند الحدود في الجانب الغربي من البلدة مرة كل أسبوع حينما تقوم بالتسوق. كنت أتصفح الكتبَ لساعة تقريباً، نطاقَ الكاميرات، أحمّل ما أريده، أنظر بريبة كاللعنة، أحشر الكتاب في حزامي وأتجه إلى الباب. سرقت تقريباً من 20 إلى 30 كتاباً بهذه الطريقة. في بعض الأحيان أضع كتاباً في الأمام، كتاباً في الخلف وواحداً على الجانب.
كل شيء بدأ مع كتاب "الأولاد الشرسون" لوليم بوروز. ثم "يوميات قلب المدينة" لجيم كارول، إلخ. كنت ألتهم وأسرق، ألتهم وأسرق، أسرق وألتهم، ولم أشعر بنفسي مذنباً مرة واحدة بسبب ذلك على الإطلاق. كنت أخطط له كشيء يتوجب أن أفعله. جعلني أشعر بأني أعيش، ليس سرقة الكتب، بل قراءتها. جعلتني أشعر كشخص أقل وحدة في هذا العالم.
بعد ذلك اكتشفت "مكتبة واترمارك"، مكتبة مستقلة مدهشة تقع في الجانب الشرقي من البلدة. هناك اكتشفت مات بيل، جاك جيمك، بيتر ماركوس، وبليك بتلر، حيث أخذتني إلى جمال الاستقلال ومطبوعات دور النشر الصغيرة. أيام سرقتي للكتب قد انتهت.
قرأت خلال استراحات الغداء، في سيارتي، ماشياً إلى بيتي، في السرير، في المرحاض، في حوض الاستحمام، تماماً في أي مكان أتيح لي ذلك.
بالنسبة لي، القراءة هي عملية اتصال مع تجربة، داخل وخارج الصفحات، والتجربة هي أثمن ما في الحياة، فالحياة تصبح خيالاً والخيال يصبح ذاكرة، الخطوط تطمس، وفجأة ذات يوم لن نستطيع أن نتذكر إن كان صديق في حياتنا الحقيقة قد قال ذلك الشيء البليغ أو آخر غيره أم شخص يشبهه في كتاب والعكس بالعكس.
هذه هي الحياة، بأسلوب بسيط إلى حد ما.
نشأت في بلدة ويتشيا، جنوب كنساس، ولم أحب ذلك كثيراً على الإطلاق، لكنني لم أكرهه كذلك أبداً. لقد كانت حقيقية جداً، محددة، كما كانت مجرد ذكرى تلوح مثل يَراعةٍ في خيالي. كانت المكان الذي ولدت فيه، المكان الذي نشأت فيه، المكان الذي قرأت فيه كتابي الأول، المكان الذي بدأت فيه كتابة كتابي الأول، والمكان الذي ربما سأموت فيه.
حياتي لا تختلف عن حياتكم. الاختلافات الوحيدة التي يمكن أن تكون تكمن في الأيدي التي لمستنا، وتفسيراتنا لتلك الأيدي.
وبالحديث عن الحياة، فالقراءة بطريقة ما أنقذت حياتي، ليس على غرار كليشة "هذا الكتاب أنقذ حياتي"، لكن لأن تلك القراءة فتحت بصيرتي على ما يبدو نحو تيار لا نهائي من الاحتمالات. علمتني كل أنواع الأمور، هذا أكيد، لكن أكثرها أهمية هو أنها جعلتني على بيّنة، مع مرور الزمن، من أن جميع البشر ينزفون على حد سواء. نحن جميعاً نتألم ونضحك ونحب ونكره ونبتسم. لا نفعل كل هذه الأشياء بنفس الطريقة أو بذات الأسلوب، لكننا نعرف أهمية معانيها. والآن، الآن أدرك وأنا في الثلاثين، حيث أنقر هذه الكلمات، أن القراءة بالنسبة لي هي سعي حثيث من ماضيَّ ومعانقة له. وما من هناك كلمة أخرى لذلك غير الأمل. الكتب جعلتني أشعر أنها يمكن أن تعيش خلالنا جميعاً
https://www.facebook.com/jamal.vilnius/posts/626187801121404