رغم أهمّية الوزن والقافية في التفريق بين الشعر والنثر في المنظومة النقدية القديمة، فإنّ كثيرا من النقاد ومنذ القرن الثالث للهجرة وعوا بأن الشعر ليس الوزن والقافية فحسب، بل اشترطوا وجوب توفّرالشعر على مقومّ أساسيّ هو الصّورة الشعرية، التي يبدومن خلال ملاحظات الكثيرمنهم أنها مركز العملية الشعرية، والتي يتمّ عبرها الإيهام والتخييل وبعض ما من شأنه أن يشعر المتلقّي بخطاب مختلف يحدث في نفسه لذاذة أو طربا أوهزّة ،لذلك عرّف الجاحظ الشعر تعريف طريفا منذ القرن الثالث و قبل الحديث عن تشكل رؤية نقدية متكاملة عند العرب، فقال"الشعرضرب من النسج وجنس من التصوير " وهو من التعريفات الأولى التي وعت خصيصة الشعرالمركزية وهي كيف للشاعر أن يعيد تصوير العالم بما هو أو أنت أو الآخر بشكل ليس هو، مع الإيهام بأنه هو .ومامن شكّ في أنّ هذه الصّورة التي هي قوام الشعر لا بدّ لها أن تستدعي معها جملة من العناصر الفنّية والدلاليّة و التي، بتظافرها وانسجامها وتناسقها يتشكّل جسد القصيدة ويتحقّق التخييل على حدّ تعبير أرسطو،وينجز الشعر مهمّته التي تتجاوز الصّدق والكذب، والتي بموجبها يتمّ التفريق بين معنى نحويّ يتوقّع له أن يكون متطابقا مع الحقيقة ومن ثمّة يقبل التصديق والتكذيب، ومعنى شعريّ يتعدّى مسألة التطابق مع الواقع إلى التخييل وهو إحداث تأثير جماليّ، ويكون الشعر بمقتضى ذلك وجودا مستقلاّ بذاته عن الوجود الفعلي ،وإن ظلت بين الوجودين وشائج وروابط ونوافذ مشرعة.
.من هذا المنطلق دافع شعراء القصيدة الحديثة والحداثية عنها بشراسة واعترضوا على الذائقة التقليدية التي بمقتضاها قرئت نصوصهم وباتوا يتحدثون عن مفاهيم جديدة يتمّ وفقها تلقي قصائدهم. من قبيل الإيقاع الشعري الذي لا ينجزه لا العروض ولا حتى الإيقاعات الدّاخلية بمفهومها الصّوتي والصّرفي والتركيبي ، وإنما هو إيقاع أعمق من ذلك بكثير لعله الرؤيا التي تحتكم اليها القصيدة والتي هي كلّ الشاعر الذي لا يتجزأ، أعني بذلك عالمه النفسي وثقافته وفلسفته الجماليّة ورسالته الوجودية. ولقد بات مألوفا الحديث عن مفاهيم نقدية جديدة من قبيل الوحدة العضوية، أو الكون الشعري أو الرؤيا الشعرية إلى غير ذلك من المصطلحات التي تكشف عن رغبة في جعل الشعر خطابا متعاليا عن مجرد النظم أو الوزن بما هو حلية خارجية غير قادرة بمفردها على ترجمة تصوّر وجودي فنّي يسعى الشاعرإلى ترجمته. وهو لا يقلّ شأنا ونجاعة عن الخطاب الفلسفي أو العلمي أو الديني ،وهو ما يجعل الشعر يتنزّل في صلب اهتمامات الإنسان وحاجياته ، بل وفي أصل بنيته الذهنية ، إذ اتضح من خلال الدراسات الفلسفية الحديثة أن الاستعارة مثلا لم تعد ترفا ولا هي حلية تضاف إضافة إلى المعنى قصد تزويقه وتنميقه ، إنما هي حاجة إنسانية فكرية ليس له أن يفكّر بمعزل عنها.
في هذا الإطار وفي إطار الاهتمام بالقصيدة الحديثة التي غزت الورق والانترنت وشغلت المبدعين والنقاد شرقا وغربا وأثارت من الجدل الكثير بين منتصر لها وحامل عليها للأسباب التي بينا آنفا ، ارتأينا الوقوف عند نصّ شعري للشاعرة الإماراتية أسماء صقر القاسمي التي باتت تنحت لها مكانا مميّزا في المشهد الشعر العربي في الخليج وفي الوطن العربي عامة ، ولعلّ الفضل كلّ الفضل هنا يعود إلى الشبكة العنكبوتية ،التي قرّبت المسافات وأزاحت ذاك الحاجز الشائك الذي يقوم بين المبدعين العرب وبالتالي أمكن التواصل والإحاطة بما يجري هنا وهناك في الشأن الثقافي عامة والإبداعيّ على وجه الخصوص.
أسماء صقر القاسمي شاعرة صاحبة شبكة "صدانا الثقافية" بكل فروعها وأقسامها التي قدّمت الكثير للثقافة والمثقفين العرب ، وتتوفّر الشاعرة على عدة دواوين ترجم بعضها إلى اللغة الإسبانية والفرنسية والانجليزية ، يمكن أن نذكر منها
تكتب أسماء صقر القاسمي قصيدة النثر بامتياز وتبني كونها الشعر بكامل الوعي وتنحت رؤيتها الخاصة للشعر.هي تعي جيدا أنها لا تنخرط في منظومة التفعيلة ولا ترومها ولا تعتبرها مطلبا أو عائقا دون إنشاء خطابها الشعري الذي استطاعت أن تبصمه بمؤشرات تدلّ عليها سواء في المعجم أو الصّورة الشعرية أو الكون الشعري بصفة أشمل.
ولا يجد المقبل على كتابات الشاعرة أسماء عنتا في التفطّن إلى المكوّنات الرئيسية التي تسهم في نحت خطابها وتعميقه وتزويده بالصّور التي هي قوام العملية الشعرية ، وهذه المكونات هي الدين وتحديدا التصوّف، الفلسفة، الأسطورة والطبيعة وهي المكوّنات التي تنصهر في مكوّن آخر هو ذات الشاعرة أو عالمها الشخصي بكلّ تفاصيله ودقائقه الثقافية والتاريخية والاجتماعية لتتشكّل بعد ذلك في منجزاتها الفنية نعني بذلك قصائدها ، التي تنبجس مضمّخة بنسيل ذاتها ، والشعر لا يكون شعرا إلا إذ تربّى في كنف الوجدان ثمّ خرج إلى العالم بعد ذلك مزخرفا .
ومهما يكن من أمر قصيدة النثر ومن تباين آراء المتلقّين بشأنها ، فلا أحد منا يستطيع أن ينكر أنها باتت مكوّنا هامّا من مكونات المشهد الشعري في أواخر القرن العشرين هذا إذا أحجمنا عن اعتبارها الأهم انطلاقا من غزوها مختلف المواقع واستقطابها لعدد كبير من الشعراء والنقّاد مشرقا وغربا.
دياهج الليل
أسماء صقر القاسمي
أرق
أرق
أرق
المساء
يغرق في لجة الظلام
شيئا
فشيئا
تتقاذفه
الأحلام/الأحزان/الأوهام
القمر ناسك يتعبد في جوف الليل
غيمة
تنبئ
بالمطر
السماء تكتحل بالصمت
تمسح أجفان النجوم بضوء
الشهب
قبس قدسي من جذوة
مباركة
يبعثر دياهج الظلمات في كفّ الليل
يزرع الزنابق في حقول الفجر
القريب
رائحة الصباح تمتشق قوارير
النور
وتنصهر الروح في بوتقة التوحيد
قداسة تتوهج من النشأة الأولى
في صفحات التكوين صوتا هاتفا
قف لامفر
اخلع نعليك
واصغ إذا الليل جنّ
أشعل سراج روحك
في حضرة فيوضات التجلي
من الأزل
إلى الأبد
كف التيه
قنديل أعمى
أرهق تشطر الرؤى
كاهله وارتعشت فرائصه
في سرادق الرياح
يهرول نحو مرج نار/جليد
الخطوات متعرجة
والدرب عاثر
يهز جذع السدرة المباركة
تتساقط ثمار اليقين
وينسكب الرحيق السماوي
من الدنان الغارقة في
قطرة من ندى كوثرالفجر
سكرى بنشوة صدى التسبيح
في فلك الروح
ما من شكّ أن القصيدة تفرض عليك لأول وهلة وأنت مازلت لم تدخل بعد رحابها ، أن تتأمل طريقة عرضها أو تشكلّها البصري على الورق، ذلك أن الكيفية التي يختارها الشاعر في رسم قصيدته أو عرضها على الورق لا تتّم بمعزل عن رؤيته الشعرية والشحنة الفكرية والجمالية التي يروم أن يوقع فيها المتلقي يستحثه من خلالها على الدخول في ضروب من التأويل ، لعلّ أولها بالنسبة إليّ ، هذا التشظي في الأسطر الذي تعاطت معه الشاعرة وانقادت إليه ؟
مالذي جعلها تركن إلى عدم التجانس في الأسطر وتنحو مرة أخرى نحو الاختزال بحيث تكتفي بالمفردة السطر
أرق
أرق
وأخرى تسترسل مع اللغة لتؤثث سطرا بكلمات عديدة وهو ما يحدث في بصر المتلقي تشويشا أو عدم انسجام لعله بعض ما تريد الشاعرة إيصاله من ذات تعيش فصلا ووصلا أو استرسالا مع الوجود مرة وأخرى ضربا من التقوقع أو الاعتكاف.
فالقصيدة كما هو واضح منتثرة أو متشظية خاصة في الجزء الأول منها نلمسه في البداية
أرق
أرق
أرق
شيئا
فشيئا
تتقاذفه
الأحلام\ الأحزان\ الأوهام\
غيمة
تنبئ
بالمطر
ثم تبدأ بعد ذلك في الالتئام والاتساق لتصبح الأسطر أكثر انسيابا واسترسالا كأنما هي مطر بدأت متفرّقة ثم انهمرت بعد ذلك مسترسلة ، لكنّ هذا الاسترسال لا يعدم تقطّعا هنا او هناك لتنكسر الجمل الطويلة عن جمل أقصر هو مدّ الإبداع وجزره كما يتأتى للنفس كرّا وفرّا .
إن هذا المعمار الخارجي لقصيدة النثر أو القصيدة الحداثية عموما هو ما يجعلنا نردّد مع من قارئها إبداعا وتنظيرا أنّها تفسح للشّاعر إمكانات جمّة لاتتأتى للشاعر القديم الذي كان قسرا موثوقا إلى ثنائية الصدر والعجز الخاضعين حتما إلى تفعيلات بعينها لا مجال لخرقها الا عبر زحافات وعلل خاضعة هي الأخرى لإلزامات وقواعد.
هكذا إذن تعلن القصيدة منذ بدايتها عن ضرب من التمرّد تأبى معه أن تسلك معه السبل المسطورة ، وإنما نختار مسلكها المخصوص الذي يستجيب لنوازع نفسية في ذات الشاعرة.
هذا في مستوى الانطباع الأول الذي حصل في المكاشفة البصرية القصيدة .أما اذا دخلنا رحابها وسعينا الى اكتناه مستوى الدلالة فيها ألفيناها محكومة بلحظتين، اللحظة الأولى وهي قصيرة نسبيا ويمكن أن نحصرها من السطر الأول ....
أرق
ألى السطر التاسع المتكون من ثلاث كلمات متتابعة
الأحلام ـ الأحزان ـ الأوهام
أما اللحظة الثانية وهي التي تستغرق باقي القصيدة والتي ستنحو فيه القصيدة منحى مختلفا عن المنحى البداية وتتحرك متنامية نحو الانفتاح والتوهج في حين بدأت ثقيلة منغلقة تنوء تحت وزر الشكوى
أرق
أرق
أرق
اللحظة الثانية إذن هي التي ستحدد ملامح القصيدة ومعمارها الآتي ومنسوب الأمل في دلالاتها ، وما اللحظة الأولى إلا من قبيل التيه الذي يسبق وجود الواحة والمخاض العسير الذي يسبق الولادة.
تتأسس اللحظة الثانية في القصيدة على معجمين متداخلين أحدهما يفضي إلى الآخر، المعجم الأول موصول بالنور والبلج والضياء والآخر ينهل من أدبيات المتصوفة فيضا وكشفا وتجليات وسدرة منتهى، لنتأكّد من ثابتة في شعر أسماء القاسمي وهي استلهامها من الذاكرة الصوفية ومن معجمها الثرّ الذي يضعها بين تعبيرات متوهّجة هي خليط من المعرفيّ والشعريّ، ولعلّ الشاعرة وهي تدثّر قصيدتها ببردة التصوّف بل وتنسج رداءها من لحمته وسداه إنّما تروم أن تؤصّل نصّها وتهبه عتاقة وعراقة في نفس الوقت الذي تريد له أن يشرئب بحروفه ليلامس تخوم الحداثة لا باعتبارها موضة ركبها الشعراء من كلّ حدب وصوب بل لأنّ الأصل في الأدب التحرّر والانعتاق نحو جديد التخوم .
والمتأمل لمتن النص ،سوف لن يقف به التأمّل عند حدود استنباط هذين المعجمين بل سيجد معاجم أخرى متواشجة معهما منسوجة عبرهما لتزداد القصيدة ذهابا في العمق والاتساع ولعلّمن أهمّهذه المعاجم معجم الخصوبة أو الرواء ولاعجب فالنور هنا هو نقيض الظلمة لذلك يستدعي حتما معجم الماء والخصوبة الذي يرفده ليكون هناك إعلان عن ميلاد وبعث في القصيدة ينفيان الموت والعدم.
فمع القمر والنجوم والشهب والقبس والجذوة والفجر والنور والتوهج وهي مفردات من متن النص ،نجد الغيمة التي تنبئ بالمطر والزنابق المزروعة في حقول الفجر وسدرة المنتهى التي تتساقط منها ثمار اليقين .هكذا تتشكل قصيدة الشاعرة أسماء صقر القاسمي تشكلا في خلدها ووجدانها لتنزرع بعد ذلك على الورق امتدادا لغويا مكتنزا ، مثقلا بما أودعته فيها من رؤى معرفية وتشكيلات فنية هي صنيعة ذات شعرية ألفت الانصات إلى كبير النصوص من قبيل النفري وابن عربي وعمر الخيام وجلال الدين الرومي والشاعر الهندي طاغور.
على أنّ الغاية من استدراج المعجم الصوفي إلى القصيدة لا يراد بها الإعلان عن تجربة ذاتية في التصوف عاشتها الشاعرة على طريقتها الخاصة ورامت نقلها لنا بقدر ما يراد بها الكشف عن تجربة شعرية هي من العمق والتوهج والتجلي ما جعل الشاعرة تنتخب من كلّ الخطابات لها الخطاب الصوفي الذي رأته قادرا على أن ينقل لحظة الكشف هذه أو التجلّي ، ولعلّها تشترك مع غيرها في هذا الجانب ممن يعتبر المكاشفة الشعرية ضربا من التجلي أو البارقة التي تلتمع في الخيال فيستوعبها الوجدان وتتمظهر عبر اللغة حزمة مغزولة من وهج الحروف ونورها ولعل المتنبي كان أبدع قائل عندما اعتبر أن الكلمات إذ يكتبها بالحبر سرعان ما تستحيل أحرفا من نور متوهج:
وماقلت من شعرتكاد بيوته إذا كتبت يبيضّ من نورهاالحبر
تتأكد الولادة، ولادة القصيدة وتقارع الشاعرة العدم بما يعتمل في وجدانها من نور الحرف وجمال حقيقته وتسافر صورة النخلة التي حدبت على مريم العذراء وهي تتهيّأ للمعجزة الالهية ، لتحلّ في متن نصّ الشاعرة وتتولد الصّورة من الصّورة ويتخلق الوجود من العدم واليقين من الشك والهدى من التيه ، فبعد التيه الأعمى والظلمة المطبقة والأرق القاتل تحبو القصيدة نحو التشكل المضيء والتجلي الذي معه تبلغ الروح سدرة المنتهى لتتساقط ثمار اليقين. إن النصّ الشعري هنا يتخلق من رحم النص الصوفي الذي تسافر مفرداته وصوره من مجال التهجد والعبادة إلى مجال الخلق والابداع وليس الأمر هنا من قبيل التعارض أو التناقض بل على العكس من ذلك فنحن أمام ضرب من التماهي والانسجام بين التجلّي شعورا يعتري الروح والتجلّي الابداعي الذي يسهم في اتضاح الروئية بالنسبة الى الشاعر ، الذي يبدو في اللحظة الأولى مأزوما حيران قلقا غير قادر على لم شتاته في حين يبدأ هذا التشظي في الالتئام عند اللحظة الثانية ويربو معجم النور معلنا عن ولادة تأكدت في هز جذع الشجرة ،السدرة بكل المعاني الحاقة التي تحيلنا رأسا على الولادة من ناحية ، ولادة القصيدة ،والنبوءة من ناحية ثانية ، نبوءة الشاعر.
هكذا يصنع الشعر طريقه بتفرّد وتصنع الشاعرة أسماء القاسمي إضافتها المميزة عندما تحسن نسج ضفيرتها اللغوية الخاصة بها والتي هي عصارة من نصوص لعلّ أبرزها هنا النص الصوفي الذي لم تكن عالة عليه وإنما استطاعت بحسها الخاص أن تسافر به من مدار الفيض بما هو تجربة خاصة في التهجد إلى مدار الإبداع الذي تتجلّى فيه القصيدة معلنة عن نبوءة الإنسان.
فوزية العلوي
تونس
https://www.facebook.com/anabellos/posts/2841920579176062
.من هذا المنطلق دافع شعراء القصيدة الحديثة والحداثية عنها بشراسة واعترضوا على الذائقة التقليدية التي بمقتضاها قرئت نصوصهم وباتوا يتحدثون عن مفاهيم جديدة يتمّ وفقها تلقي قصائدهم. من قبيل الإيقاع الشعري الذي لا ينجزه لا العروض ولا حتى الإيقاعات الدّاخلية بمفهومها الصّوتي والصّرفي والتركيبي ، وإنما هو إيقاع أعمق من ذلك بكثير لعله الرؤيا التي تحتكم اليها القصيدة والتي هي كلّ الشاعر الذي لا يتجزأ، أعني بذلك عالمه النفسي وثقافته وفلسفته الجماليّة ورسالته الوجودية. ولقد بات مألوفا الحديث عن مفاهيم نقدية جديدة من قبيل الوحدة العضوية، أو الكون الشعري أو الرؤيا الشعرية إلى غير ذلك من المصطلحات التي تكشف عن رغبة في جعل الشعر خطابا متعاليا عن مجرد النظم أو الوزن بما هو حلية خارجية غير قادرة بمفردها على ترجمة تصوّر وجودي فنّي يسعى الشاعرإلى ترجمته. وهو لا يقلّ شأنا ونجاعة عن الخطاب الفلسفي أو العلمي أو الديني ،وهو ما يجعل الشعر يتنزّل في صلب اهتمامات الإنسان وحاجياته ، بل وفي أصل بنيته الذهنية ، إذ اتضح من خلال الدراسات الفلسفية الحديثة أن الاستعارة مثلا لم تعد ترفا ولا هي حلية تضاف إضافة إلى المعنى قصد تزويقه وتنميقه ، إنما هي حاجة إنسانية فكرية ليس له أن يفكّر بمعزل عنها.
في هذا الإطار وفي إطار الاهتمام بالقصيدة الحديثة التي غزت الورق والانترنت وشغلت المبدعين والنقاد شرقا وغربا وأثارت من الجدل الكثير بين منتصر لها وحامل عليها للأسباب التي بينا آنفا ، ارتأينا الوقوف عند نصّ شعري للشاعرة الإماراتية أسماء صقر القاسمي التي باتت تنحت لها مكانا مميّزا في المشهد الشعر العربي في الخليج وفي الوطن العربي عامة ، ولعلّ الفضل كلّ الفضل هنا يعود إلى الشبكة العنكبوتية ،التي قرّبت المسافات وأزاحت ذاك الحاجز الشائك الذي يقوم بين المبدعين العرب وبالتالي أمكن التواصل والإحاطة بما يجري هنا وهناك في الشأن الثقافي عامة والإبداعيّ على وجه الخصوص.
أسماء صقر القاسمي شاعرة صاحبة شبكة "صدانا الثقافية" بكل فروعها وأقسامها التي قدّمت الكثير للثقافة والمثقفين العرب ، وتتوفّر الشاعرة على عدة دواوين ترجم بعضها إلى اللغة الإسبانية والفرنسية والانجليزية ، يمكن أن نذكر منها
تكتب أسماء صقر القاسمي قصيدة النثر بامتياز وتبني كونها الشعر بكامل الوعي وتنحت رؤيتها الخاصة للشعر.هي تعي جيدا أنها لا تنخرط في منظومة التفعيلة ولا ترومها ولا تعتبرها مطلبا أو عائقا دون إنشاء خطابها الشعري الذي استطاعت أن تبصمه بمؤشرات تدلّ عليها سواء في المعجم أو الصّورة الشعرية أو الكون الشعري بصفة أشمل.
ولا يجد المقبل على كتابات الشاعرة أسماء عنتا في التفطّن إلى المكوّنات الرئيسية التي تسهم في نحت خطابها وتعميقه وتزويده بالصّور التي هي قوام العملية الشعرية ، وهذه المكونات هي الدين وتحديدا التصوّف، الفلسفة، الأسطورة والطبيعة وهي المكوّنات التي تنصهر في مكوّن آخر هو ذات الشاعرة أو عالمها الشخصي بكلّ تفاصيله ودقائقه الثقافية والتاريخية والاجتماعية لتتشكّل بعد ذلك في منجزاتها الفنية نعني بذلك قصائدها ، التي تنبجس مضمّخة بنسيل ذاتها ، والشعر لا يكون شعرا إلا إذ تربّى في كنف الوجدان ثمّ خرج إلى العالم بعد ذلك مزخرفا .
ومهما يكن من أمر قصيدة النثر ومن تباين آراء المتلقّين بشأنها ، فلا أحد منا يستطيع أن ينكر أنها باتت مكوّنا هامّا من مكونات المشهد الشعري في أواخر القرن العشرين هذا إذا أحجمنا عن اعتبارها الأهم انطلاقا من غزوها مختلف المواقع واستقطابها لعدد كبير من الشعراء والنقّاد مشرقا وغربا.
دياهج الليل
أسماء صقر القاسمي
أرق
أرق
أرق
المساء
يغرق في لجة الظلام
شيئا
فشيئا
تتقاذفه
الأحلام/الأحزان/الأوهام
القمر ناسك يتعبد في جوف الليل
غيمة
تنبئ
بالمطر
السماء تكتحل بالصمت
تمسح أجفان النجوم بضوء
الشهب
قبس قدسي من جذوة
مباركة
يبعثر دياهج الظلمات في كفّ الليل
يزرع الزنابق في حقول الفجر
القريب
رائحة الصباح تمتشق قوارير
النور
وتنصهر الروح في بوتقة التوحيد
قداسة تتوهج من النشأة الأولى
في صفحات التكوين صوتا هاتفا
قف لامفر
اخلع نعليك
واصغ إذا الليل جنّ
أشعل سراج روحك
في حضرة فيوضات التجلي
من الأزل
إلى الأبد
كف التيه
قنديل أعمى
أرهق تشطر الرؤى
كاهله وارتعشت فرائصه
في سرادق الرياح
يهرول نحو مرج نار/جليد
الخطوات متعرجة
والدرب عاثر
يهز جذع السدرة المباركة
تتساقط ثمار اليقين
وينسكب الرحيق السماوي
من الدنان الغارقة في
قطرة من ندى كوثرالفجر
سكرى بنشوة صدى التسبيح
في فلك الروح
ما من شكّ أن القصيدة تفرض عليك لأول وهلة وأنت مازلت لم تدخل بعد رحابها ، أن تتأمل طريقة عرضها أو تشكلّها البصري على الورق، ذلك أن الكيفية التي يختارها الشاعر في رسم قصيدته أو عرضها على الورق لا تتّم بمعزل عن رؤيته الشعرية والشحنة الفكرية والجمالية التي يروم أن يوقع فيها المتلقي يستحثه من خلالها على الدخول في ضروب من التأويل ، لعلّ أولها بالنسبة إليّ ، هذا التشظي في الأسطر الذي تعاطت معه الشاعرة وانقادت إليه ؟
مالذي جعلها تركن إلى عدم التجانس في الأسطر وتنحو مرة أخرى نحو الاختزال بحيث تكتفي بالمفردة السطر
أرق
أرق
وأخرى تسترسل مع اللغة لتؤثث سطرا بكلمات عديدة وهو ما يحدث في بصر المتلقي تشويشا أو عدم انسجام لعله بعض ما تريد الشاعرة إيصاله من ذات تعيش فصلا ووصلا أو استرسالا مع الوجود مرة وأخرى ضربا من التقوقع أو الاعتكاف.
فالقصيدة كما هو واضح منتثرة أو متشظية خاصة في الجزء الأول منها نلمسه في البداية
أرق
أرق
أرق
شيئا
فشيئا
تتقاذفه
الأحلام\ الأحزان\ الأوهام\
غيمة
تنبئ
بالمطر
ثم تبدأ بعد ذلك في الالتئام والاتساق لتصبح الأسطر أكثر انسيابا واسترسالا كأنما هي مطر بدأت متفرّقة ثم انهمرت بعد ذلك مسترسلة ، لكنّ هذا الاسترسال لا يعدم تقطّعا هنا او هناك لتنكسر الجمل الطويلة عن جمل أقصر هو مدّ الإبداع وجزره كما يتأتى للنفس كرّا وفرّا .
إن هذا المعمار الخارجي لقصيدة النثر أو القصيدة الحداثية عموما هو ما يجعلنا نردّد مع من قارئها إبداعا وتنظيرا أنّها تفسح للشّاعر إمكانات جمّة لاتتأتى للشاعر القديم الذي كان قسرا موثوقا إلى ثنائية الصدر والعجز الخاضعين حتما إلى تفعيلات بعينها لا مجال لخرقها الا عبر زحافات وعلل خاضعة هي الأخرى لإلزامات وقواعد.
هكذا إذن تعلن القصيدة منذ بدايتها عن ضرب من التمرّد تأبى معه أن تسلك معه السبل المسطورة ، وإنما نختار مسلكها المخصوص الذي يستجيب لنوازع نفسية في ذات الشاعرة.
هذا في مستوى الانطباع الأول الذي حصل في المكاشفة البصرية القصيدة .أما اذا دخلنا رحابها وسعينا الى اكتناه مستوى الدلالة فيها ألفيناها محكومة بلحظتين، اللحظة الأولى وهي قصيرة نسبيا ويمكن أن نحصرها من السطر الأول ....
أرق
ألى السطر التاسع المتكون من ثلاث كلمات متتابعة
الأحلام ـ الأحزان ـ الأوهام
أما اللحظة الثانية وهي التي تستغرق باقي القصيدة والتي ستنحو فيه القصيدة منحى مختلفا عن المنحى البداية وتتحرك متنامية نحو الانفتاح والتوهج في حين بدأت ثقيلة منغلقة تنوء تحت وزر الشكوى
أرق
أرق
أرق
اللحظة الثانية إذن هي التي ستحدد ملامح القصيدة ومعمارها الآتي ومنسوب الأمل في دلالاتها ، وما اللحظة الأولى إلا من قبيل التيه الذي يسبق وجود الواحة والمخاض العسير الذي يسبق الولادة.
تتأسس اللحظة الثانية في القصيدة على معجمين متداخلين أحدهما يفضي إلى الآخر، المعجم الأول موصول بالنور والبلج والضياء والآخر ينهل من أدبيات المتصوفة فيضا وكشفا وتجليات وسدرة منتهى، لنتأكّد من ثابتة في شعر أسماء القاسمي وهي استلهامها من الذاكرة الصوفية ومن معجمها الثرّ الذي يضعها بين تعبيرات متوهّجة هي خليط من المعرفيّ والشعريّ، ولعلّ الشاعرة وهي تدثّر قصيدتها ببردة التصوّف بل وتنسج رداءها من لحمته وسداه إنّما تروم أن تؤصّل نصّها وتهبه عتاقة وعراقة في نفس الوقت الذي تريد له أن يشرئب بحروفه ليلامس تخوم الحداثة لا باعتبارها موضة ركبها الشعراء من كلّ حدب وصوب بل لأنّ الأصل في الأدب التحرّر والانعتاق نحو جديد التخوم .
والمتأمل لمتن النص ،سوف لن يقف به التأمّل عند حدود استنباط هذين المعجمين بل سيجد معاجم أخرى متواشجة معهما منسوجة عبرهما لتزداد القصيدة ذهابا في العمق والاتساع ولعلّمن أهمّهذه المعاجم معجم الخصوبة أو الرواء ولاعجب فالنور هنا هو نقيض الظلمة لذلك يستدعي حتما معجم الماء والخصوبة الذي يرفده ليكون هناك إعلان عن ميلاد وبعث في القصيدة ينفيان الموت والعدم.
فمع القمر والنجوم والشهب والقبس والجذوة والفجر والنور والتوهج وهي مفردات من متن النص ،نجد الغيمة التي تنبئ بالمطر والزنابق المزروعة في حقول الفجر وسدرة المنتهى التي تتساقط منها ثمار اليقين .هكذا تتشكل قصيدة الشاعرة أسماء صقر القاسمي تشكلا في خلدها ووجدانها لتنزرع بعد ذلك على الورق امتدادا لغويا مكتنزا ، مثقلا بما أودعته فيها من رؤى معرفية وتشكيلات فنية هي صنيعة ذات شعرية ألفت الانصات إلى كبير النصوص من قبيل النفري وابن عربي وعمر الخيام وجلال الدين الرومي والشاعر الهندي طاغور.
على أنّ الغاية من استدراج المعجم الصوفي إلى القصيدة لا يراد بها الإعلان عن تجربة ذاتية في التصوف عاشتها الشاعرة على طريقتها الخاصة ورامت نقلها لنا بقدر ما يراد بها الكشف عن تجربة شعرية هي من العمق والتوهج والتجلي ما جعل الشاعرة تنتخب من كلّ الخطابات لها الخطاب الصوفي الذي رأته قادرا على أن ينقل لحظة الكشف هذه أو التجلّي ، ولعلّها تشترك مع غيرها في هذا الجانب ممن يعتبر المكاشفة الشعرية ضربا من التجلي أو البارقة التي تلتمع في الخيال فيستوعبها الوجدان وتتمظهر عبر اللغة حزمة مغزولة من وهج الحروف ونورها ولعل المتنبي كان أبدع قائل عندما اعتبر أن الكلمات إذ يكتبها بالحبر سرعان ما تستحيل أحرفا من نور متوهج:
وماقلت من شعرتكاد بيوته إذا كتبت يبيضّ من نورهاالحبر
تتأكد الولادة، ولادة القصيدة وتقارع الشاعرة العدم بما يعتمل في وجدانها من نور الحرف وجمال حقيقته وتسافر صورة النخلة التي حدبت على مريم العذراء وهي تتهيّأ للمعجزة الالهية ، لتحلّ في متن نصّ الشاعرة وتتولد الصّورة من الصّورة ويتخلق الوجود من العدم واليقين من الشك والهدى من التيه ، فبعد التيه الأعمى والظلمة المطبقة والأرق القاتل تحبو القصيدة نحو التشكل المضيء والتجلي الذي معه تبلغ الروح سدرة المنتهى لتتساقط ثمار اليقين. إن النصّ الشعري هنا يتخلق من رحم النص الصوفي الذي تسافر مفرداته وصوره من مجال التهجد والعبادة إلى مجال الخلق والابداع وليس الأمر هنا من قبيل التعارض أو التناقض بل على العكس من ذلك فنحن أمام ضرب من التماهي والانسجام بين التجلّي شعورا يعتري الروح والتجلّي الابداعي الذي يسهم في اتضاح الروئية بالنسبة الى الشاعر ، الذي يبدو في اللحظة الأولى مأزوما حيران قلقا غير قادر على لم شتاته في حين يبدأ هذا التشظي في الالتئام عند اللحظة الثانية ويربو معجم النور معلنا عن ولادة تأكدت في هز جذع الشجرة ،السدرة بكل المعاني الحاقة التي تحيلنا رأسا على الولادة من ناحية ، ولادة القصيدة ،والنبوءة من ناحية ثانية ، نبوءة الشاعر.
هكذا يصنع الشعر طريقه بتفرّد وتصنع الشاعرة أسماء القاسمي إضافتها المميزة عندما تحسن نسج ضفيرتها اللغوية الخاصة بها والتي هي عصارة من نصوص لعلّ أبرزها هنا النص الصوفي الذي لم تكن عالة عليه وإنما استطاعت بحسها الخاص أن تسافر به من مدار الفيض بما هو تجربة خاصة في التهجد إلى مدار الإبداع الذي تتجلّى فيه القصيدة معلنة عن نبوءة الإنسان.
فوزية العلوي
تونس
https://www.facebook.com/anabellos/posts/2841920579176062