الشعر روح حرة لها أشكال لا تعرف شرطًا محددا لأطرها، ولا قانونًا يضبط مساراتها. ومن تجليات تلك الروح الحرة قصيدة النثر، بوصفها تركيبة شعرية تفرض وجودها في عالم الشعرية الراهنة.
هذه هي القناعة التي انطلقت منها الناقدة والأكاديمية العراقية نادية هناوي في كتابها "أميرة الرهان دراسات نقدية وجمالية في قصيدة النثر الراهنة في العراق" (دار غيداء للتوزيع والنشر- الأردن) والقصيدة التي تريدها الناقدة وتصفها بأميرة الرهان "هي التي بإمكانها أن ترفع لواء الشعرية الراهنة بلا تردد، لتكون صاحبة اليد الطولى من دون توان، والمتسيدة بلا تعال والمسيطرة بلا غطرسة. هدفها الأساس تنثير الشعر أو تشعير النثر، تخفيفا من حمى الوزنية ومراهنة على الإيقاعية الصورية لا الصوتية. وبما يؤكد لمؤيدي هذه القصيدة ومعارضيها معا، أن كتابتها ليست تمارضًا شعريًا؛ بل هو تعافٍ إبداعي.
وترى الناقدة أن قصيدة النثر هي "قصيدة المستقبل التي لن تعتريها كهولة أو شيخوخة، ولن تعرف خضوعا لمواضعات أو توجهات وهذا ما سيضمن للشعر المعاصر الديمومة"، وذلك لأنها جاءت ضد القالب أصلا فهي قصيدة اللا قالب فإذا أنجزت قالبها فذلك يعني نهاية وجودها وإعلان موتها.
النظر من ثقب الباب
إذا كانت قصيدة النثر كذلك فلماذا تواجه إلى اليوم انتقادات واتهامات تنتقص من شاعريتها يطلقها نقاد وشعراء كبار، هنا ترد هناوي الأزمة إلى النقد الذي دار حول هذه القصيدة حتى غدا وجها بلا ملامح يحاول أن يخفي هذه اللاملامح باستعارة أقنعة لم تفصل أساسا على مقاسه، بل هي تزيد من اختفائه وراءها، كذلك لا تعفي شعراء تلك القصيدة من المسئولية، فهناك من ينتج قصيدة النثر الناظرة من ثقب الباب، وهي القصيدة التي تنظر إلى الأشياء من زاوية واحدة، فلا تتضح بغيتها بسبب الإبهام الذي يكتنفها ما بين اليقظة والحلم. ولا يتضح مرادها بسبب غلالة الترميز التي تحيط بها وعادة ما يوظف فعل النظر فيها لا بقصد الإبصار؛ بل التبصر. فالأبعاد غائمة غير واضحة ملغزة أو مشفرة أو مخلوطة، وهي قصيدة تريد أن تتصالح مع العالم متوخية الاعتناء بنفسها مع عدم الاكتراث بغيرها متلفعة بالغياب ومتوارية في الغموض، صانعة لها عالما من اليوتوبيا فيها الاشياء موصوفة ومرتبة بحسب ما تريد تلك الذات في عالم خاص ليس فيه للأدلجة أي مكان.
وبسبب هذه النظرة الضيقة؛ فإن حدود هذه القصيدة قد لا تغادر حيز الغرفة بما يجعل عملية كتابتها محددة بحيز تعتاده بشكل مكرر، مسجلة يوميات الشاعر كلحظات يقظته ونومه أو طبيعة حركاته وسكناته ملتقطة صمته وسكونه. وهي لا تخلو من واقعية لكنها واقعية موهومة أو واهمة بسبب سوء الفهم الناجم عن اللااكتمال في الرؤية التي تبصر الأشياء من جانب واحد. وهي في الأغلب قصيدة نسوية، والتوصيف بالنسوية ليس رهنا بالكاتب كمذكر أو مؤنث إنما هو رهن بالقصيدة نفسها وما يحويه نصها من دلالات تتموضع في سياقات أنثوية.
وفي مقابل تلك القصيدة هناك "قصيدة النثر المكانية"، حيث تكون القصيدة بمثابة عين الكاميرا التي تلتقط بنظرة ثلاثية الأبعاد تفاصيل الشيء المشاهد في ثباته وحركته بنظرة خارجية محايدة. وتدور العين حول الشيء المعبر عنه لتراه من وجوه عدة وتعيد تشكيله زمانيا ولكون هذه القصيدة كتابة طباعية، فإن هذا ما يجعل فضاءها ملائما للنظر والتقدير البصري تماما كاللوحة التي فيها الكلمات هي الألوان والأفعال هي الحركات والأسماء هي الصفات. وربما كان لفقدان ثقة الشاعر بالزمان أثره في الرهان على المكان كنظرة ميتافيزيقية إشراقية لا زمانية.
ولأن قصيدة النثر قصيدة دلالية تراهن على المعنى لا الصوت، وعلى المحتوى لا القالب، لذلك تنتاب شاعرها نزعة سردية فبالسرد يجوب الشاعر آفاق التخييل برحابة مانحا الأحلام مديات تصويرية بعيدة وهذا ما لا تتيحه إلزامية الوزن والقافية في القصيدتين العمودية والتفعيلية، فضلا عما يحققه السرد من إمكانيات في التعبير تتعدى المباشرة والسطحية وتجعل الشاعر واعيا لموقعه فلا يتردد من الإشارة إلى نفسه بالاسم أو بالصفات .
توجهات جمالية
جاء الفصل الأول بمثابة مهاد نظري، تلاه فصلان حاولت فيهما الكتابة رصد التوجهات الجمالية لقصيدة النثر العراقية وأولها اتخاذ تلك القصيدة من أنا الشاعر موضوعا شعريا، وقد جاءت هذه الأنا منشطرة ومتعددة، بين ذات هي أنا الشاعر نفسه وصورته وضميره وصوته المتكلم، وبين أنا هي الآخر وهويته التي قد تكون مرآة الذات المنعكسة أو قرينها المرافق أو ندها المضاد أو غريمها اللدود. وبالرغم من ذلك فقد تتلبس الأنا صوت الآخر مفردا أو جمعا متنكرة لذاتيتها ومتفادية البوح بصوتها الذي تمنحه للآخر لتكون مرآته ولسان حاله.
ومن التوجهات الجديدة في قصيدة النثر الراهنة تغليب اليومي على ما هو مؤسطر وغرائبي والانشغال عنه بما هو متداول ومعيش، سواء أكان هذا اليومي مؤدلجا أو مسيسا، مستورا أو معلنا، وهنا تؤدي الذاكرة دوما مهما في استعادة تفاصل اليومي المعيش وتدويم استرجاعه حيا نابضا في المخيلة باستمرار.
كذلك ترصد حضور الصمت فاعلا جماليا يستبدل الصوت ويحل محله بوصفه مهيمنا دالا وليس بوصفه طرفا في ثنائية صمت/صوت التي لها حضورها في بنية الشعر العمودي والتفعيلي، ومن ثم لا وجود لشيء اسمه سكوت وانقطاع واستكانة.
وتخلص الكاتبة من الرصد إلى البحث في مباني التشكيل في قصيدة النثر الراهنة لتقف عند سبعة أبنية تشكلت فيها قصيدة النثر.
وفي الختام ترى نادية هناوي أن كابوسية قصيدة النثر العراقية الراهنة تكمن في حلميتها، وفوضويتها في ثباتها، لا لشيء إلا لكي تؤكد وجودها وهويتها أمام كل العراقيل التي ستظل ترافقها مهما طال الأمد عليها ولعل هذا ما صيّر الأنا في قصيدة النثر كئيبة كآبة دائمة ومفردة فردانية مطبقة.
كذلك تذهب إلى أن واحدة من جماليات قصيدة النثر أنها تحتاج قارئا لا متلقيا كونها لا تكاشف صوتا ولا تفصح دلالة؛ بل تراهن على الذي يقرأ سطورها لتتحداه وتبعث فيه التحفيز، مستفزة مخزوناته ومستنفرة حواسه وموقظة ذخائر قراءاته كي يرصد المغيب والمتدارى، وهذه المراهنة على القارئ هي التي تجعلنا نسم قصيدة النثر اليوم، بأنها قصيدة جديدة ما بعد حداثية لا يتم تلقفها كتلقف قصيدة العمود أو التفعيلة وتظل قصيدة النثر حصيلة تأمل وتأنٍ وليست مجرد علائقية شعر بنثر.
Du verlässt Facebook
هذه هي القناعة التي انطلقت منها الناقدة والأكاديمية العراقية نادية هناوي في كتابها "أميرة الرهان دراسات نقدية وجمالية في قصيدة النثر الراهنة في العراق" (دار غيداء للتوزيع والنشر- الأردن) والقصيدة التي تريدها الناقدة وتصفها بأميرة الرهان "هي التي بإمكانها أن ترفع لواء الشعرية الراهنة بلا تردد، لتكون صاحبة اليد الطولى من دون توان، والمتسيدة بلا تعال والمسيطرة بلا غطرسة. هدفها الأساس تنثير الشعر أو تشعير النثر، تخفيفا من حمى الوزنية ومراهنة على الإيقاعية الصورية لا الصوتية. وبما يؤكد لمؤيدي هذه القصيدة ومعارضيها معا، أن كتابتها ليست تمارضًا شعريًا؛ بل هو تعافٍ إبداعي.
وترى الناقدة أن قصيدة النثر هي "قصيدة المستقبل التي لن تعتريها كهولة أو شيخوخة، ولن تعرف خضوعا لمواضعات أو توجهات وهذا ما سيضمن للشعر المعاصر الديمومة"، وذلك لأنها جاءت ضد القالب أصلا فهي قصيدة اللا قالب فإذا أنجزت قالبها فذلك يعني نهاية وجودها وإعلان موتها.
النظر من ثقب الباب
إذا كانت قصيدة النثر كذلك فلماذا تواجه إلى اليوم انتقادات واتهامات تنتقص من شاعريتها يطلقها نقاد وشعراء كبار، هنا ترد هناوي الأزمة إلى النقد الذي دار حول هذه القصيدة حتى غدا وجها بلا ملامح يحاول أن يخفي هذه اللاملامح باستعارة أقنعة لم تفصل أساسا على مقاسه، بل هي تزيد من اختفائه وراءها، كذلك لا تعفي شعراء تلك القصيدة من المسئولية، فهناك من ينتج قصيدة النثر الناظرة من ثقب الباب، وهي القصيدة التي تنظر إلى الأشياء من زاوية واحدة، فلا تتضح بغيتها بسبب الإبهام الذي يكتنفها ما بين اليقظة والحلم. ولا يتضح مرادها بسبب غلالة الترميز التي تحيط بها وعادة ما يوظف فعل النظر فيها لا بقصد الإبصار؛ بل التبصر. فالأبعاد غائمة غير واضحة ملغزة أو مشفرة أو مخلوطة، وهي قصيدة تريد أن تتصالح مع العالم متوخية الاعتناء بنفسها مع عدم الاكتراث بغيرها متلفعة بالغياب ومتوارية في الغموض، صانعة لها عالما من اليوتوبيا فيها الاشياء موصوفة ومرتبة بحسب ما تريد تلك الذات في عالم خاص ليس فيه للأدلجة أي مكان.
وبسبب هذه النظرة الضيقة؛ فإن حدود هذه القصيدة قد لا تغادر حيز الغرفة بما يجعل عملية كتابتها محددة بحيز تعتاده بشكل مكرر، مسجلة يوميات الشاعر كلحظات يقظته ونومه أو طبيعة حركاته وسكناته ملتقطة صمته وسكونه. وهي لا تخلو من واقعية لكنها واقعية موهومة أو واهمة بسبب سوء الفهم الناجم عن اللااكتمال في الرؤية التي تبصر الأشياء من جانب واحد. وهي في الأغلب قصيدة نسوية، والتوصيف بالنسوية ليس رهنا بالكاتب كمذكر أو مؤنث إنما هو رهن بالقصيدة نفسها وما يحويه نصها من دلالات تتموضع في سياقات أنثوية.
وفي مقابل تلك القصيدة هناك "قصيدة النثر المكانية"، حيث تكون القصيدة بمثابة عين الكاميرا التي تلتقط بنظرة ثلاثية الأبعاد تفاصيل الشيء المشاهد في ثباته وحركته بنظرة خارجية محايدة. وتدور العين حول الشيء المعبر عنه لتراه من وجوه عدة وتعيد تشكيله زمانيا ولكون هذه القصيدة كتابة طباعية، فإن هذا ما يجعل فضاءها ملائما للنظر والتقدير البصري تماما كاللوحة التي فيها الكلمات هي الألوان والأفعال هي الحركات والأسماء هي الصفات. وربما كان لفقدان ثقة الشاعر بالزمان أثره في الرهان على المكان كنظرة ميتافيزيقية إشراقية لا زمانية.
ولأن قصيدة النثر قصيدة دلالية تراهن على المعنى لا الصوت، وعلى المحتوى لا القالب، لذلك تنتاب شاعرها نزعة سردية فبالسرد يجوب الشاعر آفاق التخييل برحابة مانحا الأحلام مديات تصويرية بعيدة وهذا ما لا تتيحه إلزامية الوزن والقافية في القصيدتين العمودية والتفعيلية، فضلا عما يحققه السرد من إمكانيات في التعبير تتعدى المباشرة والسطحية وتجعل الشاعر واعيا لموقعه فلا يتردد من الإشارة إلى نفسه بالاسم أو بالصفات .
توجهات جمالية
جاء الفصل الأول بمثابة مهاد نظري، تلاه فصلان حاولت فيهما الكتابة رصد التوجهات الجمالية لقصيدة النثر العراقية وأولها اتخاذ تلك القصيدة من أنا الشاعر موضوعا شعريا، وقد جاءت هذه الأنا منشطرة ومتعددة، بين ذات هي أنا الشاعر نفسه وصورته وضميره وصوته المتكلم، وبين أنا هي الآخر وهويته التي قد تكون مرآة الذات المنعكسة أو قرينها المرافق أو ندها المضاد أو غريمها اللدود. وبالرغم من ذلك فقد تتلبس الأنا صوت الآخر مفردا أو جمعا متنكرة لذاتيتها ومتفادية البوح بصوتها الذي تمنحه للآخر لتكون مرآته ولسان حاله.
ومن التوجهات الجديدة في قصيدة النثر الراهنة تغليب اليومي على ما هو مؤسطر وغرائبي والانشغال عنه بما هو متداول ومعيش، سواء أكان هذا اليومي مؤدلجا أو مسيسا، مستورا أو معلنا، وهنا تؤدي الذاكرة دوما مهما في استعادة تفاصل اليومي المعيش وتدويم استرجاعه حيا نابضا في المخيلة باستمرار.
كذلك ترصد حضور الصمت فاعلا جماليا يستبدل الصوت ويحل محله بوصفه مهيمنا دالا وليس بوصفه طرفا في ثنائية صمت/صوت التي لها حضورها في بنية الشعر العمودي والتفعيلي، ومن ثم لا وجود لشيء اسمه سكوت وانقطاع واستكانة.
وتخلص الكاتبة من الرصد إلى البحث في مباني التشكيل في قصيدة النثر الراهنة لتقف عند سبعة أبنية تشكلت فيها قصيدة النثر.
وفي الختام ترى نادية هناوي أن كابوسية قصيدة النثر العراقية الراهنة تكمن في حلميتها، وفوضويتها في ثباتها، لا لشيء إلا لكي تؤكد وجودها وهويتها أمام كل العراقيل التي ستظل ترافقها مهما طال الأمد عليها ولعل هذا ما صيّر الأنا في قصيدة النثر كئيبة كآبة دائمة ومفردة فردانية مطبقة.
كذلك تذهب إلى أن واحدة من جماليات قصيدة النثر أنها تحتاج قارئا لا متلقيا كونها لا تكاشف صوتا ولا تفصح دلالة؛ بل تراهن على الذي يقرأ سطورها لتتحداه وتبعث فيه التحفيز، مستفزة مخزوناته ومستنفرة حواسه وموقظة ذخائر قراءاته كي يرصد المغيب والمتدارى، وهذه المراهنة على القارئ هي التي تجعلنا نسم قصيدة النثر اليوم، بأنها قصيدة جديدة ما بعد حداثية لا يتم تلقفها كتلقف قصيدة العمود أو التفعيلة وتظل قصيدة النثر حصيلة تأمل وتأنٍ وليست مجرد علائقية شعر بنثر.
Du verlässt Facebook