اللواء طيار محمد عكاشه - الوجه الاخر.. قصة قصيرة

كانت الشلة مجتمعة في نادي الجزيرة منذ الصباح، وسامح لا يغادر حمام السباحة، هاربا من حر يوليو اللافح، وهربا من بعض أفراد الشلة الذين أصبحوا علي النقيض معه في أمور كثيرة.
- عارف بقي لنا قد إيه في الميه ؟.. أكتر من ساعتين.
- يا ستي هو إحنا ورانا حاجة.. إحنا جايين علشان نتفسح .. والميه من ألذ ما يمكن.
- لأ… يا للا نطلع بقي أحسن زهقت.
لم تنتظر هناء موافقة زوجها، وإنما خرجت مباشرة إلي غرفة تغيير الملابس، ولم يجد بدا من الخروج فتبعها راضخا.. وبعد دقائق كانا منضمين للشلة في الكافتيريا
- تيجوا نطلع المقطم ، فيه فرقة هايلة.. إيه رأيك يا سامح ..؟
- لأ يا جماعة .. أعفوني أنا من السهر الليلة دى علشان مسافر بكرة في الفجر.
كان هذا الرد كفيلا بأن تنقلب ملامحها وتظهر عليها علامات الضيق والتبرم. انفرط عقد الشلة علي وعد باللقاء مساء في الأوبرج، وما أن وصلا إلي عربتهما حتى عاجلته بكلماتها المنفعلة باندفاع كطلقات المدفع
- إيه بقي مش عايز تسهر الليلة دى ليه ؟؟ يعني مش كفاية قاعدة لوحدى طول الشهر.. يبقي حتى الليلتين اللي بتيجي فيهم مش عايز نتفسح ؟.
- يا حبيبتي سهرنا إمبارح مع إني كنت لسه جاى من السفر، والنهارده في النادي، ومع الشلة برضه.. فيها إيه لو قعدنا النهارده في البيت.. عربية الشغل حا تعدى علي الساعة خمسة الصبح.
- يا سيدي إسهر الليلة دى ولما ترجع الشغل إبقي نام زى ما أنت عاوز.
ونظر إليها في سخرية، وغمغم بصوت غير مسموع لها
- هو أنا باروح الكتيبة علشان أنام .. طيب.
ضغط علي نفسه حتى لا يزيد حدة الخلاف، خاصة وهو يشتهي جسدها.. فهو لم يشبع ليلة أمس أو هذا الصباح. وكيف يشبع وهو بعيد عنها شهر كامل.
- خلاص يا ستي حا نسهر الليلة دى، ولا تزعلي نفسك.
اجتمعت الشلة وقضوا جميعا وقتا صاخبا حتى الثالثة صباحا.. وفي طريق العودة اقترح سامح عليها أن يتمشيا علي النيل، محاولا أن يشرح لها ظروف عمله.
- أنت اللي لازم تقدر .. واحد بييجي لمراته يوم واللا أتنين بالكثير كل شهر، عايز تقعدهم في البيت كمان..؟ وبعدين أنا مش عارفة الظروف دى حا تخلص إمتي ؟.
- لما الحرب تخلص ، ونطلع اليهود من سيناء.
اندفعت بحدتها المعهودة
- وأنا مالي ومال الحرب ؟؟.. أنت عارف إحنا قعدنا مع بعض قد إيه ؟؟.. يادوب شهرين وطلعت لنا 67 .. ومن يومها مش عارفة.. أنا متجوزة وآلا مش متجوزة ؟.
كان هذا هو محور الحديث المكرر الذي يدور بينهما في كل إجازة يأتي فيها إلى القاهرة.. وشعر بمدي انفعالها واندفاعها، حاول إسكاتها برقة فوضع ذراعه حول كتفها ومال برأسه عليها هامسا بأن هذا حال كل الضباط زملاءه.
- أنا يوم ما اتجوزتك كنت في مصر وقلت أنك مهندس وشغلك هنا علي طول…..
وقاطعها حتى لا تسترسل في إفساد اللحظة الشاعرية التي يحاول الإمساك بها.
- من فضلك، ضابط مهندس.. وبعدين إحنا كنا عارفين إن حا يحصل 67، وإن الدنيا كلها حا تتشقلب.
وبقدر اشتياقه إلى زوجته وجسدها الشهي طوال الشهر الذي يقضيه في الجبهة، بقدر ما كان يعود من أجازته والخلاف بينهما علي أشده.
- ما تقول لأنكل حسين وهو ينقلك مصر في دقيقة، هو مش لواء ونائب الوزير علي طول.
- الموضوع ده أتكلمنا فيه قبل كده، وقلت لأ يعني لأ وأنا مقتنع بأني مش عايز أجي مصر، أنا حاسس أن هناك في القناة با أعمل حاجة.
- أنت اللي مش عايز تقعد معايا، ما تعمل وأنت في مصر، هو اللي في مصر ما بيعملش حاجة ؟.
- يا ستي اللي في مصر بيعملوا، بس لما كلنا نيجي مصر مين حايقعد في الجبهة؟.
- يعني أنتم قاعدين في الجبهة علشان تحاربوا صحيح، أهو كلام جرايد.. طول النهار يقولوا استنزاف وغارات وادي إحنا زي ما إحنا بقي لنا سنتين وزيادة.
وهنا انفجر سامح ثائرا وكأنه ينفث غضبا مكتوما من سنين.
- يا هانم ده مش كلام جرايد.. دي حرب شغالة ليل ونهار، فيها ناس بتموت وناس بتتعور.. لكن للآسف اللي زيك ما يعرفش إحنا بنعمل إيه هناك.
- وإيه الفائده من اللي بتعملوه ده.
وشعر بان كلماتها الثلجية تنقلب في داخله الي جمرات من النار.
- الفائدة يا هانم إن الناس اللي في مصر دي كلها بتنام وهي مش خايفه علي نفسها، الفائدة إن المدارس شغاله عادي، إن المصانع لسه بتنتج والفلاحين بتزرع.. إن حضرتك وشلتك بتقدروا تروحوا النادي وتسهروا في الأوبرج، عرفتي إيه الفائدة من اللي بنعمله.
وشعر بأنه افرغ بعضا من غضبه، وإن كان مازال في داخله الكثير.. لكن شد ما أدهشه بعد الشجار، أنها لم تصبح شهية في عينيه كما كان يراها من قبل. عاد إلي الكتيبة التي هو قائدها محمل بالهموم بسبب كلمات زوجته التي لا تشعر بشيء حولها سوى أنها تريده بجانبها. ومرت الأيام خاطفة سريعة، مشحونة بالعمل الشاق من تدريب إلى تجهيز وتفتيش علي معدات وأفراد الكتيبة، وفي المساء يعود إلي الخندق المدفون تحت الأرض وسقفه قضبان حديدية مقوسة علي شكل نصف دائرة مغطاة بشكائر الرمل، حتى أصبح الاسم الدارج للخندق” قفص القرد” .. ولأنه قائد الكتيبة الهندسية فقد كان خندقه يتميز بكنبة وفوتيه خشب بجوار السرير بالإضافة إلى ترابيزة عليها التليفون.. وفي اليوم السادس اشتاق إلى أن يكلم هناء بعد أن ذبل غضبه منها..
- الو… واحشاني يا روحي.
- حاتنزل أمتي ؟ ..وفكرت في موضوع أنكل حسين يا تري؟.
- قلنا بلاش كلام في الموضوع ده.. أنت أخبارك إيه؟.
- باقولك إيه. عيد ميلادي بعد 8 أيام وعزمت العيله والأصحاب، طبعا حا تكون موجود.
- لسه بدري يا ستي ويحلها الحلال ، إن شاء الله يومها اخذ إذن، وكل سنة وأنت طيبه.
- يعني لو نزلت قبلها بيوم حا تنهد الدنيا.
وانتهت المحادثة علي غير ما كان يبغي، بل انها نكأت جراح الإجازات، وأيقظت في نفسه الهموم السابقة التي كان يتجرعها في كل شهر. فاستلقي علي السرير بالأفرول مغمض العينين، واخذ يستعرض شريط حياته مع هناء منذ ثلاث سنوات هي عمر زواجهما، إلى أن غلبه النعاس.
هب من نومه مذعورا، لكنه تمالك نفسه في ثوان معدودة، فقد أيقظته صفارة الإنذار معلنة عن غارة إسرائيلية، وكان الجميع قد تعود علي تلك الغارات فأصبحت لا تهز فيهم شيئا. ودس قدميه في الحذاء واندفع إلى سطح الأرض، واخذ يتأكد بنفسه أن كافة معدات وأفراد الكتيبة في الخنادق. وفي دقائق كان يلقي بنفسه مرة أخرى تحت الأرض في الخندق المجهز كمركز للقيادة.
- صباح الخير يا فندم، الكتيبة عندي تمام.
- أهلا يا سامح ، اقعد أما نشوف حايخلصوا أمتي أولاد الكلب دول.
جاءت كلمات قائد الفرقة باردة متثاقلة من طول ما تعودوا علي تلك الغارات، خاصة وان كل دورهم هو تجنب قنابل الطائرات المهاجمة باللجوء إلى الخندق تحت الأرض.
- الضرب تقيل قوي النهاردة يا فندم..
- دي قنبلة ألف رطل، أنا ودني ما تخيبش أبدا.
- قيادة الجيش بتبلغ الصواريخ دمرت طائرة إسرائيلية
انتهت الغارة الإسرائيلية وخرجوا جميعا من مركز القيادة، وشمس النهار الساطعة تبهر عيونهم. كانوا مثل سجناء خرجوا من جب عميق. وعاد سامح إلى كتيبته يملؤه حماس غريب، وأقبل علي عمله بكل حواسه ومشاعره. وفي السادسة وقف مستندا علي غطاء محرك العربة يتناول السندوتشات، مستمعا إلى راديو صغير كان يحمله في جيبه.. واندهش لقدوم أحد الضباط ملهوفا.
- طالبين سيادتك عند قائد الجيش حالا يا فندم.
وفي دقائق كان يطرق باب مكتب قائد الجيش الثاني، الذي كان في انتظاره ومعه مساعد الوزير.. فشعر أن في الأمر شيء علي درجة كبيرة من الأهمية، وأدي التحية العسكرية وقلبه يتوجس من سبب هذا الاستدعاء، لكن قائد الجيش قدمه لمساعد الوزير بطريقة خففت من توتره كثيرا.
- الرائد سامح قائد الكتيبة ومن أحسن المهندسين اللي في الجيش.
جلس وقد زالت رهبته وشحذ حواسه لكل ما سيقال.
- شوف يا سامح ، فيه مهمة خاصة علي درجة كبيرة من الأهمية والسرية، واخترناك أنت لها، علشان متأكدين إن أنت حا تنفذها علي أكمل وجه.
التقط النوتة الخاصة به ليدون كل التعليمات..
- الغارة اللي حصلت النهاردة الصبح المخابرات والاستطلاع اكتشفوا إن كان مقصودا بها مخازن وقود الصواريخ اللي في التل الكبير. وطبعا لو كانوا ضربوها كانت بقت كإرثه، لأن ده المخزن الرئيسي اللي بيموّن صواريخ الدفاع الجوي كلها في الجبهة. فإحنا قررنا ننقل الوقود لمكان ثاني، والنقل يبدأ الليلة، المكان الجديد عند الدشم الخرسانة اللي بعد بنها بحوالي عشرين كيلو متر.
وتدخل قائد الجيش في شرح المهمة وسامح يكتب معظم ما يقال.
- دلوقت أنت تحت قيادتك 28 جرار ومعهم 30 سواق، والخزانات بتتجهز دلوقت، أوامر التحرك جاهزة، ومعاك 4 ضباط مساعدين لك، والعساكر علشان التفريغ في بنها جاهزين.. التحرك من التل الكبير لغاية الزقازيق لازم يكون بالليل، والمدة المحددة للنقل 10أيام من دلوقت.
تدخل مساعد الوزير مقاطعا أوامر قائد الجيش.
- بس أنا متأكد أن سامح حايقدر يخلص المهمة في اقل من 10 أيام.
- ربنا يسهل يا فندم.
- عموما كل يوم قبل العشرة تأخذه أجازه.
ونهض سامح مسرعا بعد أن استفسر عن بعض واتجه إلى مستودع الوقود.. وفي التفاصيل، وعلي الفور اصطحب الضباط المساعدين طريقه إلى التل الكبير استرجع كل تفاصيل المهمة المكلف بها كانت تؤرقه وطريقة التنفيذ، وتوجس في نفسه من أن يفشل في التنفيذ، خاصة وان المدة المحددة كانت حرجة للغاية والسرّية المطلوبة. لكن شعر في داخله بزهو أنه اختير لهذه المهمة. وفي التل الكبير اجتمع بكل المشاركين في تنفيذ المهمة، وشرح لهم ما هو مطلوب منهم، ودرجة أهمية العمل المكلفين بتنفيذه.
سعد بحماس السائقين والجنود الذي طلبوا أن يكون العمل مستمرا وبأقل راحة، مما جعله يتقابل معهم في تلك النقطة قائلا:
- أنا عارف أنكم قد المسئولية ورجاله، وإن شاء الله حا نخلص قبل العشر أيام.
انقلب المستودع إلى خلية نحل، الكل يتسابق في العمل، يؤدي واجبه ويساعد في أداء واجب الآخرين دون أن يطلب منه، لكي يتم التحرك قبل أن يبلج ضوء الصباح، ونجحوا في هذا. وعلي الطريق وفي الظلام الدامس والصمت المطبق إلا من أصوات نقيق الضفادع، انطلق بخياله إلى القاهرة حيث زوجته.. لابد أنها تغط في نومها الآن، وتقول أننا في الجبهة بلا فائدة. أين كانت هذا المساء والكل هنا يلهث كي نتحرك في الظلام؟.. لابد في السينما أو في النادي مع الشلة. ناس تشقي وتعمل وناس تحتار في كيفية قضاء الوقت!!.
توقفت العربات في الزقازيق لصلاة الفجر. انطلقت العربات بعد الصلاة، وضوء الفجر يكتسح ظلام الليل أمامه، ومع إشراقة الشمس كان الفلاحون منطلقين إلى حقولهم في همه ونشاط، والقرى علي الطريق نفضت عن نفسها الكسل ودبت فيها الحياة.
- حا نقف في منيا القمح نص ساعة، الناس تأكل لقمه وتشرب شاي.
في النهاية وصلت العربات إلى الموقع الجديد للتخزين، وتكرر ما حدث في التل الكبير من همة ونشاط في سرعة تنفيذ عملية التفريغ، كي يسرع بالعودة لعمل النقلة التالية، ورغم الشمس الحارقة التي أصبحت في وسط السماء تقريبا إلا أن العمل انتهي بأسرع مما توقع سامح، فشعر بان البداية تبشر بالخير وانه سينجح. لكن بتكرار العمل ليلا ونهارا بدأت المشاكل في الظهور، فقد تعطلت بعض العربات، وانحرفت إحداها عن الطريق كما حل التعب والإرهاق بالسائقين.. وأصبح للثانية والدقيقة حساب، خاصة وأن الغارات الإسرائيلية علي المنطقة اشتدت عنفا وضراوة.
- أنا صاحي والله ، العربية انحرفت مني علشان الشبورة تقيله والجاموسة شفتها في أخر لحظة.
- كمّل أنت يا شاويش علي علشان نلحق وقتنا وأنا حا ستني لغاية ما نطلع العربية بتاعة صبحي.
اندفع الفلاحون من الحقول بمجرد أن طلب سامح منهم المساعدة، وفي دقائق كان حوله مائة فلاح من مختلف الأعمار.. ولم يندهش إلا من شيوخ فوق الستين جاءوا يعرضون المساعدة أيضا.. وفي دقائق كانت العربة مكبلة بالحبال التي أحضرها هؤلاء الفلاحون، وبناء علي تعليماته بدءوا يسحبون بكل ما آتاهم الله من قوة، حتى تصبب منهم العرق رغم رطوبة الصباح، ونفرت العروق من الرقاب والسواعد حتى أخرجوا العربة أخيرا وأعادوها إلى الطريق، وتنفس سامح الصعداء بعد هذه الساعة العصيبة.. لكن عاجلته دراما الحياة بلفته عقدت لسانه، حين وجد بعد كل هذا امرأة في الأربعين قادمة إليه وهي تحمل صينية عليها بعض من الخبز والجبن بكميات كبيرة وتتبعها صبية في عمر الزهور تحمل صينية أصغر عليها أكواب وبراد الشاي..
- أتفضل يا سي الأستاذ أنت وزملاءك كلوا لقمه تصلب طولكم.
انتفض قلبه من الانفعال والعاطفة التي انتابته، فقد شعر في كلمات المرأة البسيطة بحلاوة التعاطف الإنساني والمودة. كادت دمعة تطفر من عينيه تأثرا من موقف الفلاحين الذين أخرجوا له العربة، ثم زاد عليه موقف تلك المرأة. ملأه الإحساس بأن هؤلاء هم أهله وعزوته الذين يحارب من أجلهم هو وباقي زملائه في الجبهة. وفوجئ في اليوم الخامس من المأمورية بقائد الجيش يزوره في التل الكبير ليطمئن علي سير المهمة بنفسه ويذلل له أية عقبات.
- لو سيادتك شفت الناس بتشتغل إزاى مش حا تصدق. في موقع التفريغ الفلاحين بيقعدوا منتظرين بالساعات لغاية ما نوصل، وكل واحد يقدر يعمل حاجة بيعملها من غير ما نطلب منه. مجرد أنهم عرفوا إن إحنا الجيش، والله يا فندم الستات يقولوا لي عايزين نعمل أي حاجة.. ده غير الأهالي في الطريق. كل يوم الفجر نلاقي الأكل والشاي نازل من بيوت الناس واحنا واقفين ومن غير ما يسألوا إحنا مين ولا بنعمل إيه، اتطوعوا يفطرونا كل يوم. العساكر دي يا فندم ما شفتش طعم النوم أكثر من ساعتين في اليوم، لدرجة إني مش مصدق، فيه بني آدم يقدر يستحمل ده كله؟.
اطمأن قائد الجيش وأعطى تعليماته بضرورة راحة السائقين بعض الوقت لتجنب الحوادث ثم انصرف. انطلق هو إلى مساعديه من الضباط والسائقين حتى يتجهزوا للتحرك في الموعد المحدد.
- إذا كان فيه حد تعبان يا رجاله يقول ، إحنا عايزين المهمة تتم من غير حوادث.
- إحنا كويسين يافندم ومفيش أي حاجة وسيادتك ما تخفش كله حايتم مضبوط إن شاء الله .
وتوالت الرحلات بحماس وتفان ومعدلات إنجاز أكبر مما كان موضوع في الخطة التي كان يسير عليها. وانتعشت نفسه وأحس بنشاط دافق يتملكه فقد تأكد أن هذا المعدل من الأداء سيوفر يومين وسينجز المهمة في ثمانية أيام فقط. وفي اليوم السابع تعطلت إحدى العربات ، ولكي يتأكد من عدم ضياع آية دقيقة ذهب بنفسه إلي مدينة بنها ليحضر قطعة غيار مطلوب تصنيعها في أحد ورش الخراطة.
- نص ساعة يا كابتن وتكون جاهزة .. أتفضل استريح.
جلس أمام الورشة يحتسي كوبا من الشاي، لمح على بعد خطوات السنترال فخطر له أن يتصل بهناء.
- أسبوع ما تفكرش تتكلم وإلا تنزل مصر .. كل مرة أخرج مع الشلة ابقي لوحدي.
- عندي شغل مهم ومش فاضي.
- ويا تري حا تفضي بكره علشان عيد ميلادي وإلا برضه الشغل ؟.
- لا ربنا يسهل وأقدر أنزل إن شاء الله.
- نفسي أعرف بتشتغلوا إيه إذا كان اليهود كل يوم غارات على الجبهة وانتم ولا بتردوا ولا حاجة. يبقي شغل إيه اللي مخليك قاعد عندك؟
وشعر سامح أن صوتها في التليفون كريه ولزج ويجعله يشعر بالغثيان.
- طيب .. طيب .. كل سنة وأنت طيبة.
عاد إلي ورشة الخراطة مكتئبا صامتا، وقد حاول الأسطي صاحب الورشة أن يتجاذب معه أطراف الحديث فكان يجيبه وهو يفكر في أشياء أخري.
- كام يا عم الأسطي؟
- ولا مليم يا كابتن .. هو أحنا عملنا حاجة.
طال الحوار بينهما وكل منهما يصر على موقفه إلي أن استسلم سامح في النهاية.
- لا شكر على واجب يا كابتن .. ده تبرع للمجهود الحربي .. أصل أنا ولا مؤاخذه راجل كبير وما انفعش أروح الجيش، لكن أخويا في الصاعقة عسكري قد الدنيا. ربنا إن شاء الله حا ينصرنا على أيد الكباتن اللي زي حضرتك.
ودّعه صاحب الورشة في شبة مظاهرة . وما أن وصل إلي موقع التفريغ، وفي دقائق تم إصلاح العطل حتى تتحرك القافلة في أسرع وقت ممكن. كان باقي الموقع يعمل بلا هوادة والتفريغ على قدم وساق بواسطة الجنود والفنيين يساعدهم عشرات الفلاحين المتطوعين. أقبل على سامح شيخ معمم يبدو من هيئته أنه من أعيان الفلاحين، وخلفه يسير اثنان من الخفراء. وتبادل مع سامح التحية وكأنه يعرفه من فترة طويلة..
- أهلا ياباشمهندس .. أنا عمك شلتوت عمدة كفر شلتوت.
- أهلا وسهلا يا عمدة.
- لا أنا زعلان خالص .. بقي تبقوا هنا جنب بلدنا بقالكم أسبوع واحنا ما نعرفش نقوم بالواجب معاكم .. هو أحنا بخلا ياباشمهندس .. ده أنتم ولادنا برضه.. واحنا ناس فلاحين نعرف الأصول برضه .. أنا عرفت أن أنت الرئيس بتاع الناس دي كلها .. ما يلزمكش أيها مساعدة أو أي حاجة يعني؟.
- كتر خيرك ياعمدة .. الناس هنا مش متأخرين عنا في أي حاجة.
- على العموم انا وزعت على العساكر الأكل بتاعهم وأنت بقي نصيبك أهه.
وعلى الفور قام أحد الخفراء بتقديم لفة ضخمة واضح من حجمها أنها مليئة بخيرات الريف.
- كتر خيرك يا عمدة ، بس أنا أكلت والحمد لله.
- ثلاثة بالله العظيم لازم تاخذه، يعني لازم تاخذه.
ولم يجد بدا من قبول الهدّية ووضعها في العربة .. ثم فوجئ سامح بالعمدة ينتحي به جانبا بعيدا عن الخفراء والجنود، ويدس في يده مبلغا من المال.
- أنا زي والدك يا أبني ، والفلوس دي خليها معاك يمكن تحتاجها في الطريق.
عقدت الدهشة لسانه وارتبك ، ثم في لحظات استوعب مشاعر ذلك العمدة الطيب، فقد كان يعرف من أقاربه الفلاحين أن إعطاء النقود للشخص الغريب هو قمة الكرم والتعبير عن المحبة. لكن في النهاية استطاع رد النقود للعمدة بعد عناء طويل.
تمت عمليات النقل في اليوم الثامن وانتهي تفريغ القافلة في العاشرة صباحا.. فاصدر سامح أوامره بأن يستريح الجميع حتى الثانية ظهرا ثم يبدأ التحرك الأخير للعودة . وكان الجميع في أشد الحاجة إلي تلك الراحة بعد أن قضوا ثمانية أيام كاملة شبه مستيقظين. وتبدأ رحلة العودة الأخيرة، والفرح يعم الجميع بعد أن تم تنفيذ المهمة بنجاح تام وفي زمن قياسي . وكان وداع الفلاحين لهم بعد أن عرفوا أنهم لن يعودوا مرة أخري مثيرا للتأمل. فقد كان الجميع يصافحهم ويقبلهم وكأن بينهم وبين فلاحي المنطقة مودة قديمة، بل إن النساء كن يطلقن زغاريدهن فرحة بهؤلاء الرجال .
- ربنا ينصركم على أعاديكم.
تحركت القافلة مشيعة بالدعوات والهتافات. رغم أن الجميع لم يكن يعرف ماذا كانت تفعل تلك القافلة أو ماذا كانت تنقل. انتابه شعور طاغ بالوجد ، فقد تركت تلك المهمة في نفسه أشياء كثيرة .. وترك سامح من روحه ومن نفسه قطعة في كل شبر على هذا الطريق. انغرس في كيانه شريط حافل لن تمحوه السنين من منازل منيا القمح والفلاحين العمدة الذي أصر أن يعطيه النقود .. وتذكر في هذه اللحظة لفافة العمدة وشعر وكأنه جوعان منذ عام .. وكانت سعادته غامرة حين وجد في اللفافة حماما محشيا، وقام باقتسامه مع السائق وأكل كما لم يأكل في حياته من قبل. وقبل هبوط الظلام كان قد اغتسل وحلق ذقنه وتوجه إلي قائد الجيش لبيلغه بتمام تنفيذ المهمة شخصيا.
- برافو . الحقيقة مجهود عظيم أتعمل منك أنت والناس اللي كانوا معاك .. الكل مبسوط قوي من اللي أتعمل .. وأنا بصفة شخصية باشكرك ومقدر مجهودك وإخلاصك .. وأنت أثبت أن رأيي فيك كان في محله .. أرجو انك تستمر كده يا سامح.
- العفو يافندم .. أنا ما عملتش غير الواجب.
- أظن دلوقت يا بطل نفسك تنام عشرين ساعة .. بلغ المجموعة كلها أجازه ثلاثة أيام مكافأة لهم، وأنت تاخد عربتك وتنزل إجازتك علي طول .. وعايز أشوفك لما ترجع بعد الإجازة. طبعا الكل حا يحسدك على الإجازة، لكن تستاهلها.
انصرف من عند قائد الجيش وهو سعيد بهذا التقدير الذي ناله .. اتجه إلي مقر الكتيبة ودخل إلى ” قفص القرد” الخاص به واستلقي على السرير ثم نظر في ساعته فوجد أنها السابعة. واكتشف انه يمكن أن يحضر عيد ميلاد زوجته، لكن قفزت إلى ذهنه كلماتها عن الحرب خاصة المكالمة التليفونية الأخيرة. مما جعل رغبته في النزول إلى القاهرة تفتر. استمر مترددا بين أن ينزل إلى القاهرة أو يبقي إلى أن استسلم لرغبته في النوم. استيقظ في الخامسة صباحا. وفي السابعة كان يدخل شقته في القاهرة. كما توقع كانت آثار الحفل في أماكنها. بقايا الطعام مازالت علـي البوفيه، الأثاث غير مرتب، الزينات تهدلت مـن السقف. استيقظت هناء ومكياج الأمس مازالت بقاياه علي وجهها.
- صباح الخير.. وكل سنة وأنت طيبة.
- وأنت طيب .. ما كنتش قادر تاخد إجازة وتيجي امبارح.. كان وراك ايه يعني؟ طيب ده كل أصحابنا كانوا موجودين، وكانت بارتي تجنن وقعدنا سهرانين لغاية الفجر.. ما أخدتش إجازة ليه بقي؟.
ونظر إليها نظرة باردة، وخلع ملابسه ودلف إلى السرير لينام.
-
-
أبدا كان ورايا شوية شغل



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- المجموعه القصصيه قصر في الجنه


group73historians.com

قصه الوجه الاخر - المجموعه القصصيه قصر في الجنه
قصه الوجه الاخر - المجموعه القصصيه قصر في الجنه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...