أمين الزاوي - عارنا في نسيان سارتر..

بين الفينة والأخرى، أعودُ إلى قراءة تاريخ الثورة الجزائريَّة (1954 - 1962)، وتأثيرها في مسار الكتّاب والفلاسفة العالميين الكبار، وهو دون شك حضورٌ متميزٌ على المستوى السياسي والفكري والأدبي والإعلامي لكثيرٍ من الأسماء الوازنة عالمياً.

وهنا سأحاول أن أحلل ظاهرة غياب بعضهم وتهميش البعض الآخر، وحضور طرف ثالث، وأقول إن التاريخ، بوصفه صناعةً بشريَّةً، ليس عادلاً أبداً. وبالأساس أسائل التاريخ الجزائري المعاصر عن تهميشه "جان بول سارتر"، وهو أحد أهم هذه الأسماء التي تحضر بشكل عضوي في تاريخ الثورة الجزائريَّة.

تحتفي النخبةُ الجزائريَّة بالروائي ألبير كامو (1913 - 1960) بشكلٍ مستمرٍ، على الرغم من موقفه الإشكالي الغامض تجاه الثورة الجزائريَّة وتجاه استقلال الجزائر، ومع ذلك نجد حضوره كبيراً في النقاش الأدبي وفي القراءة الأدبيَّة جيلاً بعد جيل، وفي كل مرة يعود إلى الجزائر في شكل نقاش أدبي من خلال فيلم أو عمل روائي جديد كما حدث مع روايَّة "ميرسو تحقيق مضاد" للروائي كمال داوود (تُرجمت بالعربيَّة تحت عنوان "معارضة الغريب") التي حصلت على جائزة غونكور للروايَّة الأولى، وجائزة فرنسوا مورياك وجائزة القارات الخمس وجائزة الفرنكوفونيَّة وجوائز أخرى، وتُرجمت إلى لغات كثيرة، وهي الرواية التي يستعيد فيها كمال داوود عوالم رواية الغريب لألبير كامو (صدرت العام 1942) من خلال معارضته بإعادة الشخصيَّة المركزيَّة في الرواية، وهو ميرسو الذي يقتل "العربي" ببرودة دم، يعود هذا العربي الذي يرحل حتى دون اسم من خلال شخصيَّة يبدعها كمال داوود، وهي أخ للضحيَّة، وقد أعادت الرواية مرة أخرى ألبير كامو إلى الساحة السياسيَّة والأدبيَّة في الجزائر وفي العالم من خلال الترجمات العديدة، كما يعود الكاتب سعد خياري هو الآخر في روايته "الشمس لم تكن مجبرة" 2017 إلى عوالم روايَّة الغريب لألبير كامو أيضاً، فيطوّر أحداثها على طريقته، وذلك بأن يعيد شخصيَّة خطيبة وعشيقة ميرسو المدعوة ماري كردونا إلى الجزائر المعاصرة في رحلة إلى الجزائر بعد أن يوافق الروائي كمال داوود (الذي يصبح شخصيَّة روائيَّة في هذه الرواية) على استقبالها والالتقاء بها، والبحث معها عن مصير ميرسو.

كما أن الروائي ووزير الاتصال الأسبق حميد قرين هو الآخر نشر روايَّة عن ألبير كامو بعنوان "كامو في النارجيلة"، إذ تظهر مرة أخرى شخصيَّة ألبير كامو وعلاقته بمدينتي الجزائر وتيبازة، ناهيك بأعمال روائيَّة وقصصيَّة تعرَّضت بشكل عابر إلى ألبير كامو، وبحوث تناولت حياة وأعمال كامو سواء على المستوى الأكاديمي الجامعي أو على مستوى الكتابة الثقافيَّة العامة.

إن النخب الجزائريَّة بشكل عام ومنذ الاستقلال لم تتوقف عن استذكار ألبير كامو على الرغم من مواقفه السياسيَّة من استقلال الجزائر، وفي كل مرة تعود عبارته الشهيرة التي قالها على هامش تسلّمه جائزة نوبل للآداب 1957 في عز سنوات الثورة الجزائريَّة، "لو خيّرت بين فرنسا والعدالة لاخترت أمي"، وهو ما جرّ عليه استنكاراً من قِبل اليسار الفرنسي المساند الثورة الجزائريَّة، وهجوماً من قِبل المثقفين الوطنيين الجزائريين من أصدقائه الأدباء والكتّاب والإعلاميين.

وفي المشهد السياسي والثقافي والإعلامي الجزائري يحضر وبشكل بارز أيضاً الإعلامي والكاتب المناضل جان دانييل مؤسس مجلة "نوفيل أبسرافتور" الفرنسيَّة الشهيرة، الذي كانت له مواقف إيجابيَّة ومشرفة من الثورة الجزائريَّة، وجان دانييل واسمه الحقيقي جان دانييل بنسعيد، هو ابن مدينة البليدة، ومنحته جامعة الجزائر دكتوراه فخريَّة، واُستقبل في الجزائر مرات عديدة استقبالاً احتفائياً كبيراً من قِبل أعلى هرم في السلطة.

إلا أن الغريب والمثير للجدل في علاقة الجزائر ما بعد الاستقلال بالمثقفين العالميين الذين ساندوا الثورة الجزائريَّة هو المحو الذي يتعرّض له اسم جان بول سارتر (1905 - 1980)، وهو الذي كانت له مواقف شجاعة ومشرفة وميدانيَّة في مساندة الثورة الجزائريَّة.

لقد كان سارتر من الأسماء الأولى والأساسيَّة التي نددت وبكل وضوح بالحرب الفرنسيَّة ضد الاستقلاليين الجزائريين، وقد دان همجيَّة الحرب الشرسة اللا عادلة التي كانت تشنّها القوات الفرنسيَّة الاستعماريَّة ضد جبهة التحرير الوطني، وكذا التعذيب الهمجي الذي كان يتعرض له مناضلو جبهة التحرير الوطني سواء في الجزائر أو فرنسا، واتضح ذلك من خلال الكتابات التي كانت تنشرها مجلة "الأزمنة المعاصرة" التي أنشأها سارتر نفسه، وكان سارتر على رأس قائمة موقعي (بيان 121)، الذي دعا العسكريين الفرنسيين إلى العصيان وعدم الذهاب إلى الحرب في الجزائر.

وفي أكتوبر (تشرين الأول) 1964 تقرر أكاديميَّة جائزة نوبل بستوكهولم منح سارتر جائزة نوبل للآداب، لكنه يرفضها ويبعث برسالة يوضّح فيها أسباب الرفض، ومما جاء فيها والمرتبط مباشرة بالثورة الجزائريَّة، "لو أنّ الجائزة مُنِحت لي أثناء الحرب الجزائريَّة، في الوقت الذي وقّعنا فيه (بيان 121)، لكنت قبلتها وباعتراف، لأن هذا التكريم كان سيكون تكريماً ليس لي وحدي إنما للحريَّة التي نناضل من أجلها، لكن هذا لم يحدث، وأن التكريم لم يجئ إلا بعد أن وضعت المعارك أوزارها"، وينشر سارتر كتاباً بعنوان "عارنا في الجزائر" يحلل فيه ظاهرة الاستعمار وأشكال العبوديَّة والتعذيب.

وعلى الرغم من كل هذه المواقف النادرة والشجاعة في حق الثورة الجزائريَّة، التي مارسها سارتر في الواقع اليومي الثوري من خلال مواقفه، وعبّر عنها في كتاباته الصحافيَّة والأدبيَّة والفلسفيَّة، فإنه اليوم، وفي الجزائر المستقلة، نعبر البلاد طولاً وعرضاً جنوباً وشمالاً، فلا نجد شارعاً واحداً أو ساحةً واحدةً أو مؤسسةً تربويَّة أو ثقافيَّة أو جامعيَّة واحدة تحمل اسم جان بول سارتر، يوجد صمتٌ ومحوٌ خطيرٌ يُمارس ضد شخصيَّة سارتر منذ الاستقلال، سُميت ساحات وشوارع وأزقة بأسماء شخصيات سياسيَّة وأدبيَّة وفكريَّة كثيرة كان ارتباطها بالثورة الجزائريَّة رمزياً أو سطحياً، وهذا شيء إيجابيٌّ، من كنيدي إلى لومومبا إلى هوشي مينه إلى بالزاك وفيكتور هيجو وغيرهم، لكن لا أثر لسارتر على الرغم من الدَّين الذي له على تاريخ هذا البلد.

في ظل هذا الإلغاء الممنهج وهذا المحو المبرمج نتساءل: كيف يمكن لجزائر اليوم أن تبني جيلاً صحياً وعلى علاقة مع العالم الآخر، جيلاً جديداً قادراً على قراءة الرأسمال من الأصدقاء من الفرنسيين ومن غير الفرنسيين، من المسلمين والمسيحيين واليهود؟

وإذا كان السياسيون لهم لُعبتهم الموسميَّة في تهميش اسم سارتر، فكيف للمثقفين والجامعيين والفلاسفة التورّط في مثل هذا المحو، لا يمكن قراءة تاريخ الجزائر بمعزل عن تاريخ المثقفين الديموقراطيين التنويريين في فرنسا، لأنهم كانوا ومثّلوا السند الحقيقي لجبهة التحرير الوطني، فهم من ناصروا أيضاً الكتّاب الوطنيين الجزائريين، وقدّموهم إلى دور نشر فرنسيَّة كانت تقف إلى جانب الثورة الجزائريَّة، وإلى جاب حق الجزائر في الاستقلال مثل دار نشر مينوي ولوسوي وجوليا غاليمار وأزمنة معاصرة وغيرها، فأسماء من أمثال كاتب ياسين ومحمد ديب ومولود فرعون ومولود معمري وآسيا جبار ونبيل فارس وجون عمروش وغيرهم استطاعت أن توصّل صوت الحركة الوطنيَّة، ثم صوت الثورة التحريريَّة ومعاناة الجزائريين كل ذلك بفضل دور النشر وبعض الصحف الفرنسيَّة التي كانت تقف إلى جانب القضيَّة الجزائريَّة آنذاك.

فمتى يا ترى يعود سارتر إلى الجزائر؟ ومتى تحتفل الجزائر بسارتر فيلسوفاً ومثقفاً ثورياً رفع ثورتها عالياً في المحافل الدوليَّة حين كانت كلمته أكبر من الدبابات والطائرات العسكريَّة الفرنسيَّة؟

إذا كان سارتر كتب كتابه "عارُنا في الجزائر" استنكاراً وتنديداً بما قامت به فرنسا، بلده، ضد الجزائر شعباً وأرضاً وتاريخاً، فإننا نقول اليوم "عارُنا في سارتر"، لأننا نسيناه ومحونا تاريخه الناصع إلى جانب الثورة الجزائريَّة. فسامحنا يا سارتر!



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...