أحمد رجب شلتوت - مقالات نقدية لرضوى عاشور في الرواية وأدب السجون

“ابتسامتها رأي، وموضع خطوتها رأي، وعناد قلبها رأي، وعزلتها عن ثقافة السوق رأي”، هكذا قال الشاعر مريد البرغوثي عن زوجته الكاتبة الراحلة رضوى عاشور، في مقدمة الكتاب الصادر بعد خمس سنوات من رحيلها بعنوان “لكل المقهورين أجنحة.. الأستاذة تتكلم”، ويضم مقالات للراحلة لم يسبق نشرها وتتوزع على ستة أبواب، فيها، بحسب المقدمة “استكمال لدرجات الضوء القادم من شخصية رضوى عاشور، إنه الضوء المطل من اشتباكها مع النظريات النقدية ومع النقد التطبيقي، والضوء القادم من مسائلتها لتجربتها الروائية وإعادة تعريفها لا لفن الرواية بل للتاريخ أيضا”.
تقدم مقالات الكتاب، الصادر مؤخرا عن دار الشروق، نوعية فريدة من الكتابة الأدبية في تنوعها وتكاملها، فتجمع بين الذاتي والموضوعي، الشخصي والعام، النظري والتطبيقي، وتنطلق كلها من رؤية تبلورها أسطورة أفريقية يستحضرها عنوان الكتاب “لكل المقهورين أجنحة”، وفي استهلاله تلخيص لما تحكيه الأسطورة عن عبيد أفارقة يعملون تحت ضربات السياط في مزرعة ما، بينهم امرأة ولدت حديثا تتعرض للضرب لأنها جلست لترضع طفلها، فيقول لها عجوز من العبيد بلغة لا يفهمها السادة إن الوقت قد حان، فإذا بالمرأة تطير بصغيرها وقد نبتت لها أجنحة، ولما يتكرر المشهد ينتبه سادة المزرعة إلى أن الرجل المُعَمر هو مصدر الكلمات التي تجعل العبيد يطيرون، يهجمون عليه لقتله، لكنه يضحك موجها كلامه لكل العبيد، وفي لحظة يحلقون كسرب من الطيور، ولم يكونوا خائفين.
وترى رضوى عاشور أنها ليست مجرد حكاية أنتجتها المخيلة الجماعية للعبيد الأفارقة، ولكنها أيضا حكاية نموذجية تلتقط قانونا من قوانين النضال الشعبي من أجل التحرر حيث الذاكرة شرط من شروط هذا الفعل التحرري.
ومن نفس زاوية الرؤية تتعامل مع الرواية العربية نظريا وتطبيقيا، فتؤكد صعوبة دراسة نشأتها بمعزل عن سياق الواقع الاستعماري، وعيا بحضوره ورغبة في التخلص منه، وفي هذا السياق تفهم سبب لجوء محمد المويلحي وحافظ إبراهيم إلى المقامة واللغة القديمة، وهما يكتبان واقع زمانهما ويتخذان منه مواقف نقدية متقدمة.

رضوى مقالاتها لا تزال حية في قلوب عشاقها

كذلك رأت رضوى أن الرواية هي النوع الأدبي الأكثر اشتباكا بالواقع التاريخي، لها ما لباقي الفنون من قدرة على ربط الخاص بالعام، والتسجيلي بالمتخيل في إطار بنية متكاملة تحيل إلى معنى كلي، لكن الرواية تتميز بعلاقتها الخاصة بالواقع الاجتماعي في امتداده وصيرورته، فهي تخبر عن بشر في سياق مستمد من خارج النص، فخارج النص لا يدخل الرواية، كما في غيرها من الأنواع الأدبية، على استحياء، بل له في الرواية حضور طاغ، متغلغل في المبنى والمعنى والتفاصيل، فلا رواية إذن خارج التاريخ.
كذلك تتوقف مليا عند أدب السجون في العالم العربي، فتقرر أن لدينا مادة هائلة من كتابات السجن يتوزع منتجوها على كافة ألوان الطيف السياسي، وتشمل كل أنواع الكتابة.
وتدرس عاشور روايتي صنع الله إبراهيم “تلك الرائحة”، والتي وصفها يوسف إدريس بأنها “ليست قصة، قل إنها صفعة أو صرخة أو آهة منبهة وقوية تكاد تثير الهلع”. ويعتبرها البعض رواية الحداثة الأولى في مصر، حيث لا توجد حبكة ولا تسلسل زمني، ولا شيء يحدث باستثناء الزيارة اليومية لرجل الأمن كي يتأكد من تواجد الشخص بمنزله ليلا، وعدد من مشاهد الفلاش باك.
وبعد استعراضها لنماذج أخرى تنتمي إلى أكثر من قطر عربي تخلص رضوى إلى أن تلك الكتابات تكشف عن واقع عربي محاصر بين الغزاة والطغاة، وتؤرخ للعلاقة بين السلطة ومعارضيها، فتضبط الذاكرة الجماعية بما تتيحه من معلومات وتجارب مباشرة. وتلك الكتابات على تنوع أساليبها واختلاف قيمتها البلاغية والتوثيقية أقرب لنسجية فذة وراء كل تفصيلة منها عرق ودم وحكايات يقشعر لها البدن.

سهامات رضوى عاشور مهمة في المجال النقدي

وتحضر فلسطين في الباب الأول ضمن شهادة الكاتبة عن روايتها “الطنطورية” وفي دراستها عن “سرايا بنت الغول” لإميل حبيبي، ويخصص لها الكتاب كل مقالات ثاني أبوابه، وتتناول فيه أعمال غسان كنفاني، متسائلة عن سبب كونها نصوصا قصيرة تنتمي إلى “النوفيلا”، وهي تعتقد أن كنفاني لم يجد حلا لمعضلة كتابة واقع ملحمي معقد وشديد الكثافة إلا باختصاره عبر مجاز تتفرع منه الدلالات، وتستند إليه كل رواياته، كالموت خنقا داخل خزان في سيارة يقودها معوق، في رجال في الشمس، وخيمة عن خيمة تفرق في تجربة أم الفدائي في رواية أم سعد.
وتعمم عاشور نفس التفسير لتحديد الشكل الذي سيختاره في ما بعد إميل حبيبي في “المتشائل” و”سرايا بنت الغول”، وتراهما رضوى النصين الأبلغ والأهم في الرواية العربية التي تناولت الصراع العربي الإسرائيلي، وتشير إلى أن حبيبي عندما أراد في “المتشائل” الإحاطة بالمأساة الفلسطينية تناول التاريخ الملحمي لشعبه بتصدير شخصية سلبية هزلية أقرب إلى شخصية جحا، فقدم بطلا مناقضا للبطولة في السمت والسلوك، ودفع بالعناصر الملحمية للحكاية الفلسطينية إلى الخلفية فبدت وكأنها جدارية عظيمة يتحرك عبرها بطل الرواية.
التفاعلات: مصطفى البشير فودة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...