رمضان الصباغ - التعبير فى الفن..

لقد رأى "شبنجلر" "أن كل فن هو لغة تعبير" [1] "وأن "اختيار جنس الفن نفسه يُرى أيضا وسيلة من وسائل التعبير" [2] أما "بندتو كروتشه Bedetto Croce" فقد رأى أن "الطير يغنى للغناء ولكنه فى غنائه يعبر عن مجمل حياته Express All Its Life" [3]. أى أن الفن تعبير أو لغة تعبيرية، يقوم فيها الفنان، عبر عملية الإبداع، بتقديم شئ جديد يختلف عن الواقع المعيش، وإن كان ينبثق منه - فى معظم الأحيان.

"والحق ان الفنان إنما هو ذلك الإنسان الذى يشعر بأنه لا يمكن: أن يكون للواقع معنى، ما لم ينتظم فى نطاق عالم ما، وأن عليه هو إنما تقع مهمة اكتشاف ذلك العالم الذى لا يخرج عنه شئ، اللهم، إلا غبار الواقع الكثيف الداكن الأسود. فالفنان هو ذلك الخالق الذى ينظم العالم عن طريق مجموعة من الوسائط الاستطيقية الخاصة، وفى مقدمتها جميعا واسطة (التعبير). وليست عبقرية الفنان فى أن ينقل الواقع بأمانة، وإنما عبقريته فى أن (يعبرَّ) عن الواقع بعمق" [4].

الفن تعبير، أو لغة تعبير، والفنان هو ذلك الكائن الذى يقوم بهذه العملية، عملية التعبير، مستخدما كل ما يمكن استخدامه من الوسائط، حتى يكون تعبيره جماليا.

لقد كتب "جون ديوى" - فى كتابة "الفن خبرة" محاولا الوصول إلى أعماق التعبير Expression والأصل الذى انبثقت منه الكلمه: "ولو أننا رجعنا إلى الأصل الاشتقاقى لكلمة (تعبير) فى اللغة الإنجليزية، لوجدنا أن لفظ Expression يشير فى الأصل إلى عملية عصر أو ضغط، فالعصر إنما يستخرج Express (أو يعتصر) حينما يسحق العنب فى مضغـط (أو معصرة) النبيذ. ولو كان لنا أن نستخدم تشبيها أكثرا ابتذالاً، لقلنا إن الشحم والزيت يستخرجان حينما تعرض بعض المواد الدهنية للحرارة والضغط، ولا سبيل إلى استخراج أى شئ كائنا ما كان اللهمّ إلا من مادة خام، أو مـادة طبيعية أصلية. يبدأن من الحقّ أيضا أن مجرد خروج المادة الخام أو انطلاقها لا يمكن أن يعد عصراً Expression وإنما لابد أن يتم تفاعل (أو تداخل) بين المادة الخام من جهة، وبين شئ خارجى من جهة أخرى لمعصرة النبيذ أو قدم الشخص الذى يسحق العنب حتى يخرج العصير…. وحتى فى أكثـر وسائل العصر (التعبير) Expression آلية، لابد من وجود (تفاعل) يترتب عليه حدوث تحول فى المواد الأولية. وهى تلك العناصر التى تعدّ بمثابة المادة الخام فى العمل الفنى، فيظهر تغيرّ فى صميم تلك المواد بالقياس إلـى ما يعتصر بالفعل. وإذن فلابد من توافر بيئة وموضوعات مقاومة من جهة، ودوافع انفعال باطنى من جهة أخرى، حتى يتكون التعبير عن الانفعال" [5].

فالتعبير تغير فى المواد المعبر بها، وقد تقاوم المادة الخام - (كالحجر أو الرخـام) أو غيرها من المواد - فعل التعبير الذى يقوم به الإنسان، وتكون مهمة الفنان هى تنظيم وتطويع المادة لتكون تعبيراً عن الانفعال. وهـذه المواد لابد أن تخضع لعملية تغيير، "فالرخام لابد أن يقدّ، والألوان لا بد أن تنكسب على القماش. والألفاظ لابد من أن يؤلف بين بعضها البعض.. والدافع الذى يثور فى النفس محدثا لديها نوعا من الاضطراب الذى يتطلب التعبير أو النطق إنما هو فى حاجة أيضا إلى أن يخضع لعملية تنظيم وافٍ دقيق، حتى يلقى البيان الفصيح الذى يظهره إلى الوجود، مثله فى ذلك كمثل الرخام أو الأصباغ اللونية أو الألوان أو الأصوات. بل ربما كان الأدنى إلى الصواب أن يقال اننا هنا لسنا بإزاء عمليتين مختلفتين تجرى احداهما على المادة الخارجية، وتجرى الأخرى على المادة الداخلية أو العناصر الذهنية. ولا يكون العمل فنيا إلا بقدر ما تتحد فيه عمليتا التحول. لكى تتكون منهما عملية واحدة" [6].

من التضافر بين العمليتين عملية تطويع المواد الخام، والانفعال، يأتى التعبير الذى يوّحد العمليتين، ويربطهما برباط وثيق لا يمكن أن ينفصم، ويقدم العمل الفنى الذى هو تعبير بالدرجة الأولى، ويقوم هيكله على المواد الخام.

والتعبير عن الجمال، ينتج العمل الفنى، وإذا نظرنا فى وسائل التعبير هذه وجدنا أن التعبير يتم على أنحاء كثيرة تبعا لمادة التعبير، "فإذا كان الحجر هو الوسيلة كان التعبير بالمعمار، وإذا كانت اللغة كان التعبير بالشعر، وإذا كانت النغمة كان التعبير بالموسيقى، وإذا كان اللون أو كان التعبير عن الشكل الإنسـانى كان ذلك من فنون التجسيم" [7]. على حد تعبير "شوبنهاور" الذى رأى أن ادنى درجات التعبير تكون فى المعمار، وأسماها فى الشعر إذْ "يرتفع إلى أعلى درجة من درجات التحقق الموضوعى للإرادة، وذلك بالتعبير عن الإنسان فى نوازعه المستمرة وأفعاله المتصلة" [8].

والجدير بالذكر أن "المادة والشكل والتعبير.. يعتمد كل منهم على الآخر. فليس لواحد منهم وجود بمعزل عن الآخر. والمضمون التعبيرى لأى عمل لا يكـون على ما هو عليه إلا بسبب العناصر المادية، والتنظيم الشكلى، والموضوع، وهى العناصر التى يؤدى تجمعها إلى تكوين العمل الخاص" [9].

فجميع عناصر العمل الفنى تتضافر معا لتعبر عن مغزى أو معنى معين، فقد يشعّ الشكل هذا المعنى، كما أن اختيار الموضوع يساعد على الكشف عن هذا التعبير، ولا يمكن أن يوجد التعبير عارياً من المادة المنضوية تحت شكل.

ورغم كون لفظ "التعبير" من اكثر الألفاظ تداولاً، إلا أنه فى مجال الفـن يكتنفه الغموض. فقد "يشير إلى عملية الخلق فى العمل الفنى التى تؤدى إلى ظهور العمل. أو إلى سمة كامنة فى العمل ذاته" [10]. وإذا أمكننا التعرف على ما يكون العمل الفنى من مواد خام (الرخام - الألوان - الألفاظ - الأنغـام……الخ) أو استطعنا إدراك (موضوع) العمل أو شكله، إلا أننا لا نستطيع أن نقبض على التعبير كما نقبض على المادة الخام. فالتعبير الذى "ينطـوى عليه العمل الفنى قد يكون أعسر عناصره قابلية للتحليل، فإن ما يبوح به العمل الفنى ليس بالمعنى الفعلى الذى يمكن فهمه وتأويله، وإنما هو دلالة وجـدانية تدرك بطريقة حدسية مباشرة" [11]. ومن الصعب أن نصف بالكلمات التعبير أو نقدم له تصوّرا دقيقا، لأنه - أى التعبير - "ليس علامة أو أمارة يتركها الفنان فوق عمله الفنى، بل هو العنصر الإنسانى الحقيقى الذى يكمن فى صميم هذا العمل" [12]. وبهذا فإن "التعبير الإنسانى هو أقرب عناصر العمل الفنى إلى نفوسنا، نظرا لأنه يخاطبنا بلغة حدسية مباشرة. وتبعا لذلك فإن فهم العمل الفنى إنما يعنى قيام ضرب من الحوار بيننا وبين صاحبه. وليس التعبير سوى الدعامة التى يرتكز عليها كل (وصال) يمكن أن يتحقق بين الذوات" [13].

وقد أكد " كانط " على أن الجمال فى الفن بمثابه " (تعبير) عن الأفكار الجمالية. كما رأى أن الشعـر يعبّر عن الفكر مؤكدا على التقارب الديالكيتكى بيـن الفن والمعرفة" [14]. والفن لا يكون شيئا إن لم يكن عيانيا Concrete، وغير متجرد من التعبير عن المشاعر - على حد تعبير كروتشه [15]. الذى انتقد التفرقة بين التعبير والحدس، على أساس وضع مظاهر العواطف وصور الحيـوانات والناس والمناظر والأفعال والمغامرات فى جانب، بينما يوضع فى الجـانب الآخر الأصوات والأنغام والخطوط والألـوان وغيرها، واعتبار المجمـوعة الأولى هى باطن الفن، أما المجموعة الثانية فهى ظاهـره، والأولى هى الفـن بالذات، والثانية هى الأداة. ورأى أن هذه التفرقة لا جدوى منها. ويتساءل: هل يمكن أن نتصور حدساً بدون تعبير Intuition Withoout Expression . إن هذا لا يمكن تصوره، كما لا يمكـن تصور نفس بلا جسد - فى رأيه - وإن كانت الأديان قد تحدثت كثيرا عن هذا. فنحن لا نعرف شيئاً من ذلك عدا حدوساً معبرا عنها Expressed Intutions. فالفكرة لا تكون فكرة إلا إذا صيغت فى ألفاظ. ولا يكون اللحن الموسيقى ممكنا إلا إذا تحقق فى أنغام، والصورة التجسيمية لا تكون إلا إذا لوّنت فحسب Only When It Is Coloured. إننا لو جردنا الشاعر من أوزانه، وإيقاعاته وكلماته، فإن الفكـرة الشعرية Poetical Thought لم تعد ممكنة فقد ولد الشعر مـن هذه الأوزان، والإيقاعات والكلمات. وليس فى الإمكان الإدعاء أو الزعم بأن التعبير يمكن مقارنته بالبشرة Epidermis بالنسبة للجسم إلا إذا كنا نرى أن الجسم كله فى كل خليّة من خلاياه وفى كل عنصر من هذه الخلايا هو نفسه بشرة أيضا وربما كان هذا صحيحا فى الفسيولوجى [16].

وإذا كان "كروتشه" قد رفض التفرقة بين الحدس والتعبير، واعتبر أن هـذه التفرقة لا محل لها. فإنه يعود ويؤكد على أن الفن حدس محض أو تعبير محض، ليس حدساً عقليا كما رأى "شلنج"، أو حدساً منطقيا كما رأى "هيجـل"، ولا هو حكم كما ذهب إلى ذلك التفكير التاريخى. إنه صورة المعرفة عند بزوغها [17].

وقد رأى "كاسيرر" أيضا أن الفن هو تفسير للواقع - تفسير بالحدس لا بالأفكار، بالصور الحسّية لا بالفكر. والحدس عنده، هو كشف حقيقى أصيل، فالفنان مستكشف لصور الطبيعة مثلما أن العالم مستكشف لحقائق وقوانين الطبيعة [18].

ولكنه - أى "كاسير" رفض الرأى القائل بأن "كل مهمة الفنان هى التعبير عن عاطفته - كما قال بها كولنجوود Coolingwood، كما يأتى التسليم معـه بأن كل عبارة ينطق بها الإنسان، أو كل حركة يقوم بها إنما هى فى حـدّ ذاتها عمل فنى. وحجة "كاسيرر" فى هذا الرفض أن الإنتاج الفنى يستلزم بالضرورة عملية تركيبية، فليس فى استطاعتنا أن ندخل فى عداد الأعمال الفنية شتى الاستجابات الغريزية واللاّإرادية التى يقوم بها الإنسان، لأن مثل هذه الأرجاع لا تنطوى على أية تلقائية حقيقية [19].

وإذا كان "كاسيرر" قد عارض رأى "كولنجوود تلميذ كروتشه"، فإننا نجـد "شارل لالو" يؤكد على رأى كروتشه فى "أن العمل الفنى ينبغى أن يكون تعبيراً عن شخصية مؤلّفه، وإنه بقدر ما يكون شخصيا بقدر ما يكون جميـلا. وهذا يعنى أن غياب الشخصية أو الأمانة عن العمل الفنى علامة من العلامـات الأصيلة التى تحدد القبح. وهذا على سبيل المثال رأى كروتشة Croce كما عبـر عنه فى نظريته: الحدس التعبير - Intuition Expression التى تنادى بأن مهمة العمل الفنى أن يعبّر لا عن نوع فنى أو تكنيك، ولا حتى عن إحساس أو انفعال جزئى، بل مهمته أن يعبّر عن الحدس الذى لا يتجزأ، والذى يصدر عن شخصية بأكملها" [20]. ويرى "لالو" ان هذا الـرأى هو أصوب رأى، ودليله على ذلك أن كل عمل فنى إنما هو عمل فريد لا يماثله عمل آخر ولكن هل التعبير بمثابة طراز واحد؟.

يرى "هريرت ريد" - ارتكازا على دراسات "يونج" التى وصفت طُرزاً ثمانية متميزة بعضها عن بعض من النفس البشرية - وجوب توقع طرز تعبير موازية لها، و"النتيجة التى تترتب على ذلك أن كل طراز لابد أن يكون طرازه التعبيرى المميز واضحاً" [21]. كما أنه يفرق فى دراسته عن التعبير عند الطفل بين نوعين: الأول موجّه نحو غاية محددة، وهو يهدف إلى إشباع شهية ما كالجوع، والآخر حر، وليس له من غرض آخر غير اظهار وجدان اكثر تعميما كالسرور أو القلق أو الغضب، ومثاله الواضح هو اللعب [22].

وإذا كان "ريد" قد أقام على طرز "يونج" للشخصية، طرزا للتعبير. فإن علماء النفس لم يكفوا عن دراسة علاقة التعبير بالإبداع الفنى، فقد رأوا أن اختيار الفنان لموضوعات معينة، واتجاهه نحو طرائق محددة للتعبير، إنما يكشف عن أسرار فى شخصيته، ولعل دراسة "فرويد" لدافنشى، أو ديستوفسكى تكون مثلا على ذلك. وإذا كان "أوجين ديلا كروا" "قد ذهب إلى أن الموضوع ما هو إلا مناسبة عارضة يختارها الفنان أو ذريعة خاصة يصطنعها اصطناعاً، إلا أن الحقيقة أن تكرار موضوعات بعينها لدى فنان بعينه لابد من أن تكون لها دلالتها فى نظر الباحث السيكولوجى الذى يهتم بدراسة عوامل الإبداع الفنى. فليس من قبيل الصدفة أن يكون "رمبرانت" قد اختنـار المسيح موضوعاً للكثير من لوحاته، وليس من قبيل الصدفة أيضا أن يكون "بيكاسو" قد اختار (جرنيكا) - موضوعاً لعدد غير قليل من لوحاته" [23].

أن الفنان هنا إنما يعبر عن انفعالات خاصة، أو يدفعه الاختيار إليها وجـود روابط محددة، قد تكون ذات بعد سيكولوجى أو اجتماعى.. الخ ولكنهـا فى النهاية ذات صلة وثيقة بشخصية الفنان - وهذا يعارض رأى "كاسيرر" السالف ذكره - والذى يؤكد أيضا، أن القول بأن كبار الشعراء الغنائييـن مزودون بأعمـق العواطف، وأن الفنان الذى لم يزرق مشاعر قوية لا يستطيع أن ينتج إلا فنا ضحلا سخيفا، ولكننا لا نستطيع - على حد قول "كاسيرر" - أن نستنتج من هذه الحقيقة أن وظيفة الشعر الغنائى والفن بعامة هى قدرة الفنان على أن (ينفـث ما فى صدره من مشاعر ). كما أن القول الذى يردده (كولنجوود) بأن (ما يحاول أن يعمله الفنان هو أن يعبر عن عاطفة معطاة، ومحض التعبير عنها، والإجادة فى التعبير عنها سواء.. كل نبرة وكل إيماءة يقوم بها أحدنا عمل فنى). فى هذا القول أغفلت تماما كل العملية البنائية التى هى لازمة لإنتاج العمل الفنى وتطوّره. إن الإيماءة والصيحة ليس فيهما تلقائية حقيقية. كما يفتقران إلى اللحظة الغائية التى هى ضـرورية للعمل الفنى. فالغائية أساس التعبير والشعر لا يكتب بالأفكار وإنما يكتـب بالكلمات. والشاعر الغنائى الذى لا يملك إلا إظهار مشاعره، والمنهمك فى متعته أو فى حزنه دون تأمل الأشكالل وخلقها يصبح - على حد تعبير كاسيرر - إمرءاً خرب النفس سنتمنتاليا [24].

إن التعبير الجمالى لا يكون إلا لأولئك الذى ملكوا خبرات عميقة، وعلى دراية واسعة بالمواد التى يتعاملون معها، ولهم القدرة على تصوير الانفعالات والعواطف والتعبير عنها. وإن بدا ذلك فى الفن تلقائيا، وغير متكلـف، فذلك لأن "التلقائية ثمرة لفترات طويلة من النشاط، وإلا فإنها ستكون من الخواء بحيث لا يمكن اعتبارها فعلا من أفعال التعبير" [25].

وإذا كانت المحاكاة Imitatin قد سيطرت زمنا طويلا على الفن اعتماداً على آراء "أرسطو طاليس" التى ترى أن (المحاكاه غريزة فى الإنسان منذ طفولته، ويميزه عن الحيوانات الأخرى أنه من بينهـا أكثرها تقليدا، وأنه بهذه الغريزة يتلقى معارفه). وقد انتظم هذا المبدأ - أى المحاكاة - جميع الفنـون الممثلة، وانسحب أيضا على جميع الصور الأخرى كالموسيقى. ولكن مع العصر الحديث وُوجهت المحاكاة بوجود القوة الخالقة للفنان تعلن عن نفسها. وكان من الصعب التوفيق بين المحاكاة، وهذه القوة. فإذا كانت المحاكاة هى الغاية الحقة للفن - كما رأت العصور الكلاسيكية - فمن الواضح أن التلقائية، أى القوة المنتجة لدى الفنان عامل مزعج لا عامل بناء لأنها (تزور) أوجه الأشياء بدلا من أن تصفها فى طبيعتها الصحيحة. وقد أدى ذلك إلى ظهور نظرية التعبير التى تفسح لهذه القوة مكانا [26].

فإذا كان الفنان يبدع موضوعه، لا ينقله ولا ينسخه، كما أنه لا يتقيد بما تفـرضه نظرية المحاكاة الأرسطية عليه، أو حتى التطورات التى أضيفت عليها فيما بعد، فإنه بالضرورة يقدم معادلاً حسّيا لما يجول فى وجدانه، أى أنه (يعبّر) عن أفكار، أشياء تختلج فى نفسه، عبر رؤيته، ولا يقوم بمحاكاة "مثل أعلى" أو محاكاة للجوهر.

والجدير بالذكر أن أوجين فيرون Eugene Véron " قد ميز بدقة بين التعبير، وبين "الطريقة القديمة التى كانت ترى أن الفن كنشاط لانتاج النُّسخ أو المحـاكاه Imitation لما هو أصلى Original. ووفقا لنظرية المحاكاة فإن الفنان ينظر إلى، الإنسان أو إلى الجبل ويصّور ما يراه What He Sees. والنتيجة تكون هى المحاكاه أو النسخ أو صورة Picture لما هو أصلى. بهذه الطريقة فى التفكير، يكون عمل الفن بمثابة شئ من قبيل نسخ الرموز. وهذا يخبرك بما يجب أن تعرفه لو أنك كنت عليما بالأصل، وتستطيع أن تحدّد مدى تفوقه بمقارنـة عمله بما هو أصلى. بهذه الطريقة فى التفكير فإن كاميرا جيدة سـوف تقدم عملا فنيا أفضل مما يقدمة المصور (الرسام) Painter، وإذا قارنا الأصل بالصورة الفوتوغرافية فإننا نجدها أكثر دقة من التصوير Painting (الـذى يقوم به الفنان)، بل إننا يمكننا الحصول على صورة بالغة الدقة باستعمال مرآه فى مواجهة الأصل. وقد زعم "فيرون" بأن صورة المرآة والصورة الفوتوغرافية، والتسجيل، هذه جميعا ليست أعمالا فنية، والنشاط المنتـج لها ليس نشاطاً فنيا. فالفنان يجب أن تكون له مشاعر وانفعالات معينه Certain Feelings And Emotions. ويجب أن (يعبر) العمل الفنى عن هذه المشاعر أو الانفعالات" [27].

لقد كانت لنظرية المحاكاة من السطوة والتاثير على النقاد والفنانين ما جعل "فيرون" يشنّ عليها هذا الهجوم الشديد، والذى دفعه انفعاله فى مواجهتها ومواجهة سطوتها إلى الحديث بهذه اللغة الساخرة، ووصفها بهذه السطحية، وتجاهله لأبعادها الحقيقية، والمحاولات التى حاولت تطويرها فى القرون الأخيرة. وذلك لكى يهيئ المجال لرؤيته التى ترى أن الفن (لا يحاكى)، بل (يعبّر)، لا يقع فى أسر هذه الحيادية الباردة، بل هو فن مفعم بالمشاعر والانفعالات، ووظيفته هى التعبير الجمالى عنها.

وقد كانت مسألة المحاكاة أو إعادة إنتاج النموذج من الأمور المزعجة للفلاسفة منذ "أفلاطون" الذى رأى الفن محاكاة للمحاكاة - على حد قول سوزان لانجر [28]. فالعمل الفنى له حياته الخاصة، فهو رمز مبدع وليس محاكاة. وتذوقه يكون بالتأمل فى العمل ذاته، ووحدته وحيويته وفعاليته. وقد رأى "ساننيانا" أيضا "كلا من الشعر والدين يتضمن التخيل، والتعبيرات الرمـزية أو تفسير الوجود Both Poetry And Religion Involve Imaginative And Sgmbolic Expessiins And Interpretation Of Existence" [29].

وفى نفس الوقت أكد "جون ديوى" على أن الفن تعبير عن انفعال وليس محاكاة وأن التعبير عملية معقدة، "فلو كان التعبير مجرد عملية نقش أو نسخ، أو كان شعوذة يراد من ورائها أخراج أرنب من مخبئه، لكان التعبير الفنى أمرا بسيطا يهون أمره، ولكن ثمة فترة طويلة من الحمل تكمن بين لحظة (الحمل) ولحظة ظهور الوليد إلى عالم النوّر. وخلال هذه الفترة قد لا يقل التحوّل الذى تخضع له المادة الباطنة للانفعال والفكر بسبب تأثيرها وتأثرهـا بالمادة الموضوعية، عن ذلك التحوّل الذى تعانيه المادة الموضوعية بسبب استحالتها إلى واسطة تعبير. وهذا التحول. على وجه التحديد - إنما هو الذى يغيـر طابع الانفعال الأصلى مُدخلا على كيفيته من التعديل ما يجعله ذا طبيعة جمالية متمايزة، ولو أننا التزمنا التعريف الشكلى، لكان فى وسعنا أن نقول إن الانفعال يكون جماليا حينما يتقيد بموضوع عمل على تكوينه فعل تعبيرى" [30].

عملية التعبير إذن ليست عملية بسيطة، بل إن الفنان الذى يقع تحت تاثير الانفعال (الجمالى) لا يقوم بمجرد النقل أو النسخ للعمل، سواء كان ذلك النسـخ يتصـل بالطبيعة أو من مخزون أفكاره، بل يعيش عملية حمل معقدـة، يتم فيها الحـوار بين المواد المسخدمة، وبين الانفعال، فيحدث التعـديل - ليس فى المادة فحسب، بل وفى الانفعال أيضا، حتى يصير الانفعال جماليا، أى يرتبط بموضع عمل (مُبدع) يكون هو نتيجة هذه العملية المعقدة.

وإذا كان التعبير يمرّ بهذه العملية المعقدة - كما يرى "جون ديوى" - فإنه أيضا - بالإضافة إلى أنه يختلف جوهريا عن المحاكاة، فإنه فى نفس الوقت يتميز عن الزخرفة (التزيين) كما رأى "أوجين فيرون" إذ رأى أن "التعبيـر يعـد خاصية للفن، ولا نحكم عليه (أى على الفن) بواسطة قدرته على بث البهجة والسرور، بل بقدرته على التعبير. والقول بأن الفن رمز انفعالى Emotive Symbol يجعل فى إمكانه أن يطور التكامل الفنى الأسلوب الفنى. فالتكامل يقتضى أن يعبر إنسان ما عما لديه من انفعال، وليس ما يجب أن يشعـر بـه هذا الإنسان، أو الذى يرغب فى الحصول عليه. والأسلوب هو السبيل الذى على أساسه يحدد الإنسان الطريقة التى يقدم بها تعبيره عن الانفعال" [31].

إذا كان الفن بمثابة التعبير عن انفعال، وأن الفن رمز انفعالى - كما يرى "فيرون". وأنّ التعبير بقدر ما يختلف عن المحاكاة، فإنه أيضا يختلف عن الزخرفة أو التزيين. وذلك على اعتبار أن "الفن الحديث لا يميل فى الـوقت الحاضر إلى الاتجاه الزخرفى. فلم تعد الزخرفة مقبولة لدينا فى الفن. فهناك أشياء أخرى يجب توافرها فى الفن سوى الزخرفة. والسمة الرئيسية للفن الحديث هى القدرة على التعبير Power Of Expression عبر الصورة.. والفن كى يدرك يقتضى و جود ملكات عقلية Intellectual Faculties". [32].

والتعبير فى الفن يكون عن طريق الصورة المعبرة Expressive Form، وصـورة الانفعال هى تجميع للعاطفة. والفن لا يعبر عن الوجدان بشكل فعلى بل يعبر عن الأفكار Ideas الخاصة بالوجدان كما تعبر اللغة، لا عن الأحداث والأشياء بل عن الأفكار التى تتعلق بها، كما ترى "سوزان لانجر" [33]

والصورة عند "سوزان لانجر" [34]. معبرة، ولذلك فهى ذات معنى، وهـذا المعنى يكون من داخل الصورة ذاتها ولا يشير إلى شئ خارجها. فالصورة ليست نسخاً، وإنما تعد الصورة اسقاطاً لما يجول فى نفس المبدع من انفعالات.

ولكن "فيرون" كان يرى أن الفن الحديث "مزدوج التعبير Doubly Expressive، لأنه - فى الوقت الذى يكون الفنان فيه مهتما بالصورة Form وصوت العواطف والأفكار الخاصة بالشخصية التى يقدمهـا، فإنه أيضا يكون مهتما، بالقدرة، والسلوك اللذين يقدمان معياراً سديداً لحساسيته وخياله وتفكيره" [35].

التعبير هنا لا يقتصر على مارأته "سوزان لانجر" لاحقا بأنه تعبير عن طـريق الصورة المعبّرة، ويكمن فى باطن الصورة فحسب، بل إنه تعبير مزدوج، ينصب فيه اهتمام الفنان إلى جانب الصورة المعبرة، والشخصية التى يقدمها - أيضا - على السلوك، أى على ما هو خارج الصورة المعبّرة.

بل ويؤكد "فيرون" بأن الفن التعبيرى Expressive Art ليس طريقة لمعاداة الجمال، الأمر الذى قد يراه البعض نتيجة لأن "فيرون" فرق بين التعبيـر والزخرفة، بل إنه يستخدم (الجمال) كأحد العناصر التى تتطلبه، ولكن دون أن يقصـر التعبير على مثل هذا التصوّر. إنه - أى التعبير - ليس محايداً إزاء لذّة الرؤية أو السماع، ولكنه يرى أشياء أخرى فيما وراء ذلك. فقيمته يجب ألا تقوّم فقط بواسطة اكتمال الصورة، ولكن أيضا وبشكل رئيسى بواسطة القوة الثنائية للتعبير. بل ويجب أن يقوّم أيضا بواسطة العواطف والأفكار التى يعبّر عنها [36].

وإذا كان الفن تعبيرا عن انفعال، فإن التعبير يختلف أيضا - بالإضافة لاختـلافه عن المحاكاة، والزخرفة - عن الوصف. فالتعبير عن الانفعال شئ و (وصفـه) شئ آخر، كما يرى "كولنجوود". فقولك أنا غاضب يعنى أنك قد وصفت الانفعال، ولكنه لا يعنى تعبيرك عنه. فلا يلزم أن نتضمن الكلمات المستخدمة فى التعبير عنه أية إشـارة صريحة للغضب اطلاقاً.. وهذا يفسّر السبب الذى جعل استخدام الصفات أو النعوت فى الشعر - أو حتى النثر - حيث يكون التعبير مقصوداً خطراً. وهذا أمـر يعرفه نقاد الأدب جيداً. فإذا أردت التعبير عن الرعب الذى يحدثه أى شئ، فعليك ألا تنعته بكلمة (مرعب) لأن هذه الكلمة تصف الانفعال بدلامن أن تعبر عنه، وبذا تصبح لغتك فاترة على الفور، أى غير معبّرة. والشاعر الحق فى لحظات شاعريته الحقة، لا يحدّد أبدا الانفعالات التى يعبّر عنها، والوصف لا يفيد التعبير، بل يضره، لأن الوصف يؤدى إلى التعميم. فوصف الشئ يعنى اعتباره شيئاً من نوع معين، أو وضعه تحت تصور، وتصنيفه، أما التعبير فإنه على العكس يظهر تفرّده [37].

التعبير غير محايد، بينما يكون الوصف محايداً. لأن التعبير يفصح عن انفعالات مبدع محدد تجاه موضوعات محددة، وهذه الانفعالات تتداخل معها أمور كثيرة، لتعكس فى النهاية تصور الفنان ورؤيته لما يعبر عنه، بينما فى الوصف يكون الهدف هو التعميم، ووضعه تحت تصور وتصنيف محددّين، ويكون نقلا لما هو كائن بصرف النظر عن عواطف ومشاعر الفنان. ولذا يجئ الوصف متصفا بالعمومية، والتجريد وعدم اللبس - أو هكذا يجب أن يكون - بينما يكون التعبير منبثقا من انفعالات الفنان، ولذا فهو يأخذ سمتها ويظهرها إلى الوجود بشكل فنى، قد لا يتفق مع انفعالات فنان آخر حول نفس الموضوع، بل ويجب أن يحدث هذا الاختلاف، كأساس للتفرد.

وإذا كان التعبير ليس محاكاة، أو زخرفة، أو وصفا، فما هى طبيعته إذن؟

يقول "جون ديوى":
"لقد ظهرت نظريتان متعارضتان فى تصوّر طبيعة التعبير، وكل نظرية منهما قد جانبت الصواب كالأخرى سواء بسواء. والنظرية الأولى تقرر أن الطابع التعبيرى (الجمالى) يرجع إلى الكيفيات الحسّيّة المباشرة، وأن كل ما يتخلف عن طريق الإيحاء إنما تقتصر مهمته على جعل الموضوع أكثر تشويقاً، دون أن يصبح جزءًا لا يتجزأ من صميم وجوده الجمالى. أما النظرية الثانية فهى تتخذ موقفا معارضاً تماماً للنظرية الأولى، لأنها تنسب القوة التعبيرية برمتها إلى العناصر المرتبطة بالموضوع" [38].

ويوضح "ديوى" أنه بالنسبة للنظرية الأولى، إذا كان فى امكاننا أن ننظر إلى (الخطوط) سواء كانت دائرية أو منحنية أو متعرجة، أفقية أم رأسيـة، الخ - على أنها كيفيات جمالية مباشرة، إلا أن هذه النظرية - الأولى - تـزعم أن القوة التعبيرية الخاصة التى تتميز بها هذه الخطوط يمكن تفسيرها دون أدنى إشارة إلى أى شئ يتجاوز الحسّ المتضمن فيها مباشرة. وكون بعض الخطوط فى علاقتها بالعين - على حد زعم أصحاب هـذه النظرة - تكون سارة أو غير مسارة، فإن هذا فى رأى - "ديوى" - فى الحقيقة - لا يكاد يمس من قريب او بعيد الطابع التعبيرى أو القوة التعبيرية [39].

أما النظرية الثانية، فإنها تفصل الحس عن العلاقات، والمضمون أو الموضوع عن الصورة، والجانب الفاعل عن الجانب القابل، فتعزل مراحل

التجـربة بعضها عن بعض، وتقدم لنا تقريرا منطقيا عما يحدث عندما تتم هذه العملية الانفعالية. ولكـن "ديوى" يرى أن - النظرية الأولى تكمل الثانية، ولكن لا سبيل إلى بلوغ الحقيقة فى مضمار النظرية الجمالية عن طريق إضافة (آلية) نضم فيها إحدى النظريتين للأخرى [40].

و"ديوى" بعد نقده لهاتين النظريتين، يرى أن "القوة التعبيرية التى يمتاز بها الموضوع الفنى إنما ترجع إلى أنه ينطوى على تداخل كامل تام للمواد المتقبلة والمواد الفاعلة. وهذه الأخيرة تضمن إعادة لتنظيم المادة المحصلـة من الخبرة الماضية. والملاحظ فى عملية التداخل أن هذه العناصر ليست مضافة عن طريق الارتباط الخارجى. كما أنها ليست مجرد طبقة سطحية توضع فوق الكيفيات الحسّيّة وإنما تتمثل القوة التعبيرية للموضوع كحصيلة أو ثمرة للامتزاج التام الذى يتم بين ما نتقبله، ونعانيه من جهـة، وما يجلبه نشاط إدراكنا المنتبه إلى ما يرد إلينا عن طريق الحواس من جهة أخرى"(41).

إن التعبير فى العمل الفنى إنما ينجم عن مجمل العمل الفنى، لا عن أحد العناصر، وهو ينتج عبر علاقة جدلية عميقة بين العناصر الحسية والعنـاصر المعنوية. فالعمل الفنى حين نتلقاه، لا يكون هذا التلقى منصبًّا على عنصـر دون آخر، بل إن هذه العناصر لا يمكن أن توجد منفردة فى ما يمكـن تسميته بعمل فنى ذى قيمة. فالوحدة التى تجمع كل هذه العناصر، "هى التى تكون الجمال الفنى فى التعبير الكامل" [41] وإن أى اهتمام بعنصر دون آخر إنما يكون على حساب العمل الفنى، ويجلب له الضرر.

والجدير بالذكر أنه ينتج عن كون موضوعات العمل الفنى تعبيرية، فإنها تقـوم أيضا بمهة التوصيل، وليس معنى ذلك أن مهمة الفنان تنحصر فى هـذا فحسب، بل إننا نعنى أنه النتيجة التى تترتب على عمله. فالعمل الفنى لا يحيا إلى إذا دخل إلى صميم خبرة الآخرين [42].

وكون التعبير فى صميم العمل الفنى، فذلك لأنه هو الذى يخلع عليه وحدته وطابعـه الخاص، فالتعبير ليس "مجرد عرض خارجى قد تلبس بالعمل الفنى، وإنما هو بمثابة مركز اشعاع تنتظم فيما حوله سائر مقوّمات العمـل الفنى.. فليس التعبير ثمرة لمجموعة من التأثيرات المتلاحقة، وإنما هو (وحدة) تدرك لأول وهله وبطريقة مباشرة" [43].

ويجدر بنا أن نوضح هنا أن "التعبير" يشمل الجانبين الحسّى، والمعنوى فى العمل الفنى. ولذا فهو الأشعة التى تصدر من العمل لتعكس مجمل مكوناته. كما أنه -أى التعبير - يعنى بإظهار الانفعالات التى يريد اظهارها الفنان - فى صورة فنية - ولذلك فهو وثيق الصلة بالإنسان ونوازعه وحالاته المتباينة.

( 2 )
لقد رأى " صمويل الكسندر S. Alexander" أن "الاعتقاد الشائع عن الفن يـرى أنه يتمركز حول الانفعال Centres About Emotion. وأنه ينبثق من الانفعال. وهدفه هو "التعبير" عن هذا الانفعال. وقد اعتقد وردزورث Wordsworth أن الفن ينبثق من الانفعال الذى يتذكره الشاعر فى هدوء وسكينه" [44].

كما رأى أن الفن يرتبط بالانفعال كما يرتبط العلم بالعقل، والحق بالإرادة، وأن مزاج الفنان انفعالى بشكل خاص. ولكنه لا يرى أن جميع موضوعات الفن تمضى على نفس المنوال. فذات الفنان لا تغرق فى الحالة الانفعالية، بل إنها تعمل مستفيدة من كل خبرة. وما يفصل الفن عن العقل والسلوك أنه يقوم بعمله فى مواد طبيعية، ويملؤها بالمعنى Fill Them With The Meaning. وهذا المعنى يمكن أن يشتق من الانفعال أو من أى مصدر آخر [45].

فرغم أهمية الانفعال للفن، وللتعبير الفنى، إلا أن "صمويل الكسندر" يرى أنه ليس المصدر الوحيد للمعنى فى الفن، بل هناك مصادر أخرى لهذا المعنى. وإذا كانت "الذات تجد فى الموضوع الجمالى تعبيراً عن نوع من الشعور والانفعال Emotion والذى تشارك الذات فيه " [46]. فإن هذا ليس كل مايصدر عن الفن فى رأى "صمويل الكسندر". وكذلك اعتقد "بنوتوكروتشه" بأن الأثر الانفعالى ليس جوهريا للفن An Emotional Effect Is Unessential to Art" [47].

أما "جون هوسبرس" J. Hospers فقد قرر أن معظم تفسيرات العملية التعبيرية تؤكد على التشوش والغموض، حيث تبدأ العملية فى ذهن الفنان وتدريجيا يتم إحلالها بالوضوح كما يبدأ التأمل" [48].ويستشهد بنص لـ"كولنجوود" اذ يقول: "عندما يقال أن انسانا ما قد عبر عن الانفعال، فإن هذا القول يعنى: أولا: أنه على وعى بأن لديه انفعالا، إلا أنه غير مدرك لماهيته. وكل ما يعيه أو يدركه هو وجود قلق يشعر به وهو يتردّد بين جوانبه، لكنه يجهل حقيقتة But Of Whose Nature He Is Ignorant، وعندما يكون فى هذه الحالة، فإن كل ما بوسعه قوله: (أننى اشعـر، ولا أعرف ما أشعر به I Don’t Know What I Feel. ومن حالة العجز هذه والضيق يفرّج عن نفسه بأن يفعل شيئاً نسميه التعبير عن ذاته Expressing Himself" [49]. ويرى أن "كولنجوود" لم يوضح معنى عبارة "ماذا يكون What It Is" فى الفقرة السابقة، وإن كان قد وظفها عندما قال بأن الفنان لا يعرف ما يكون عليه انفعاله What His Emotion Is . ويرى أن ماوصفه "كولنجوود" كان واضحا بشكل عام" [50].

وقد رأى "كولنجوود" "بإن التخفف من الانفعالات - الذى يعد متّصلا من جهة بالتعبير عنها - قريب الشبه إلى حد ما بالتطهير Catharasis الذى تتوارى فيه الانفعالات بأن يتم إطلاقها فى موقف من المواقف الوهمية. إلا أن الشيئين ليسا متماثلين" [51].

وإذا كان "هوسبرس" قد رأى أن معظم تفسيرات العملية التعبيرية يكتنفهـا الغموض والتشوش - كما ذكر سابقا - فإن "صمويل الكسندر" قد قرر فيما قبل نفس المعنى تقريبا عندما قال بأن "عمل الفن لا يصدر عن خبرة خيالية مكتملة يجئ العمل الفنى فيكون بمثابة صورة مقابلة لها، وإنما يصدر عـن استثارة انفعالية تدور حول الموضوع.. فقصيدة الشاعر إنما تعتصر منه تحت تاثير الموضوع الذى يستثيره" [52].

أى ان العملية الفنية تبدأ بأن يثار الفنان (أو الشاعر) بموضوع محدد ثم يدخل إلى مجال التجربة الشعرية، ويأتى تعبيره عن الموضوع أثناء صياغته القصيدة تحت تأثير الانفعال الذى أثاره الموضوع فى الفنان (الشاعر).

"جون ديوى" هنا يعلق على رأى "صمويل الكسندر"، ويقدم عدة ملاحظـات بهذا الشاعر: "الأولى: وهى أن العمل الفنى الحقيقى هو بمثابة بناء أو تركيـب لخبرة متكاملة، بالاستناد إلى التفاعل الذى يتم بين ظروف الكائن العضوى وطاقته من جهة، وظروف البيئة وطاقاتها من جهة أخرى. أما الملاحظة الثانية: فهى تقرر أن الشئ المعبر عنه إنما يعتصر من المنتـج تحت تأثير الضغط الواقع من قبل الموضوعات الخارجية عن الدوافع والميول بحيث يبـدو التعبير بعيدا كل البعد عن أن يكون مجرد صدور مباشر أو انبثـاق خالـص عن تلك الدوافع أو الميول، وهنا نجد أنفسنا إزاء نقطة ثالثة وهى أن فعل التعبير الذى يكوّن العمل الفنّى هو بناء فى الزمان لا مجـرد صدور آلى. أما الملاحظة الأخيرة: فهى أنه إذا تهيأ للاستثارة المتعلقة بالموضـوع أن تمضى إلى الأعماق، فإنها لابد هنا أن تهيج المعانى المختزنة والمواقف المدخرة، مما ينحدر إلى خبرات سابقة" [53].

إن مجموعة من الظروف الداخلية والخارجية تتضافر معا لكى تستثير الفنان، ففعل التعبير لا يصدر عن الفنان بشكل آلى، بل تتم عملية استثارة معقدة، بوسعها أن تجعل الأفكار أو المعانى المختزنة لدى الفنان تخرج إلى الوجود فى إطار فنى مكتمل متى كان الفنان عارفاً بأسرار فنه، وجمالياته.

ولكن هل الدافع، أى دافع، يمكن أن يكون سببا فى التعبير؟.
يرى "ديوى" أنه ليس فى وسع أن دافع أى ينصهر إلى تعبير، اللهمّ إلا إذا انصهر فى بوتقة الاضطراب الانفعالى، والتهيج النفسى.. فالاضطراب النفسى إنما يحدد الموضـع الذى يتلاقى عنده الدافع الباطنى مع الاحتكاك بالبيئة، سواء كان ذلك فى الواقع أو فى الذهن. فينشأ من تلاقيهما ضرب من الهياج أو الغليان. وأنه لكى تتولد الاستثارة اللازمة فلا بد من أن تكون هنــاك مخاطرة. كأن تحوط الأمر (المعركة مثلا) الرِّيب والشكوك أو يكون هناك أمر صعب التنبؤبه. أما حيـن يكون الشئ يقينا أكيدا، فإنه لا يمكن قط أن يستثيرنا انفعاليا. وتبعا لذلك فإن التعبير لا يكون عن الاستثارة المحضة، بل عن استثارة خاصة بموضوع معين [54].

وإذا كان التعبير نتيجة لاستثارة معينة، أى لانفعال محدد يتعلق بموضوع محدد، فإن هذا قد أدى بالبعض إلى تقسيم الفنون - بالاضافة إلى قسمتها تبعا للمادة الوسيطة التى يعمل بها الفنان، سواء كانت ألفاظا، أو حجـرا، أو ألوانا، أو نغمات.. الخ - تبعا لنوع الانفعال الذى عبر عنه الفنـان، كأن تقسـم إلى ملهاة، ومأساة، وما شابه ذلك. ويرى "كولنجوود" أنه لو "كان الاختلاف بين المأساة والملهاة اختلافا بين الانفعالات التى عبرت عنها كل منها، لمـا تيسر تمثل هذه الاختلافات فى ذهن الفنان عند بدء قيامه بعمله. ولوحدث هذا لعنى معرفته أى انفعـال ينوى التعبير عنه قبل أن يكون قد عبر عنه" [55]. ولكن الفنان غير قادر على التقرير سلفا هل سيكتب ملهاة أم مأساة. وإنه إذا كان فنانا حقا فإنه معرض للكتابة فى أى من المجالين. فالعمل

الفنى لا يمكن تسميته قبل الانتهاء منه. كما أن هناك أعمالا تختلط فيها المأساة مع الملهاة.

وهنا يمكن أن يطرح سؤال: هل يوجد ما يمكن أن نطلق عليه الانفعال الاستاطيقى؟

يرى "جون ديوى" أن الانفعال الاستاطبقى "ظاهرة نوعية متمايزة، ولكنها ليست مفصوله بهوة سحيقة عمـا عداها من الخبرات الطبيعية كما وقع فى ظن بعض الباحثين الذين جاهدوا فى سبيل تقرير وجودها كظاهرة منفصلة.. فمن ناحية نرى قوما يؤكدون أن هناك على الأقل لدى بعض الأشخاص الموهوبين انفعالا يعتبر منذ البداية جماليا، وأن الإنتاج والتقدير الفنيين إنما هو مظهران من مظاهر هذا الانفعال، ومثل هذا الرأى إنما هو الـرأى المقابل بطريقة منطقية حتمية لتلك الاتجاهات التى تجعل من الفن شيئـا سريا خفياً، والتى تُقصى الفنون الجميلة فى عالم ناء تفصله عن خبرات الحياة العادية هوّة غير معبورة. ومن جهة أخرى نجد أن ثمة رد فعل سليما فى اتجاهه العام نشأ ضد التصور السابق، ولكنه قد تطرف فى الرأى فذهب إلى أنه ليس ثمة شئ يمكن اعتباره انفعالا جماليا متمايزا" [56].

ولكن "كـولنجوود" يرى أنه إذا كان هذا الانفعال حقيقة - أى الانفعال الاستاطيقى - فإن هذا يستوحب أن تكون للفنانين انفعالات مختلفة الأنواع من بينها هذه الانفعالات الاستاطيقية المتمايزة، بل وأنهم ينتقون هذه الانفعالات بقصد التعبير. ولو كان الحكم الأول صحيحا، لوجب أن يكون الحكم الثانى باطـلا. فإذا كان الفنانون - كما سبق ورأى كولنجوود - لا يهتدون إلى ماهية انفعالاتهم إلا فى معرض بحثهم عن وسيلة للتعبير عنها، فمعنى هذا تعذر بدء قيامهم بالتعبير إلا بعد تقرير أى انفعال سيعبرون عنه [57].

ومع هذا فإن "كولنجوود" يرى أن هناك (انفعالا استاطيقيا) محددا، ولكن بمعنى مختلف - على حد تعبيره - إنه هو الشعور بالنجاج فى التعبير، وإن من الخطأ اعتباره نوعاً من الانفعال الذى له وجود سابق على التعبير عنـه، إنه نوع من التلوين الانفعالى الذى يصحب التعبير عن أى انفعال كان، ويتميز بأنه عندما يراد التعبير عنه يكون التعبير فنيا، وذلك غير ما يكون بالنسبة للانفعالات الأخرى (غير الاستاطيقية) [58].

وإذا كان الفنان لا يعمد إلى نوع معين من الانفعالات بقصد التعبير عنها، وأن عملية التعبير إنما هى عملية تنبع من تضافر عدة عوامل داخلية وخارجية، تتصـل بالفنان والموضوع، وأن التعبير الحق إنما يجئ كما لو كان غير متعمد. وكثيرا ما تبدو الأعمال الفنية العظيمة بصورة ظواهر تلقائية، وهذه التلقائية ليست "سوى عملية استغراق تام فى موضوع جديد له مـن النضارة (أو الجدّة) ما يستحوذ على الانفعال ويعمد إلى تعضيده وثقويته. وهناك قوتان معاديتان لتلقائية التعبير ألا وهما:

ابتذال المادة أو قدمها أو تفاهتها من جهة، وتطفل الحساب أو تدخل التقدير من جهة أخرى" [59]. وأن كان ليس هناك أى تعارض بين الجهد السابق، وبين الحركة الذاتية للعمل الفنى (قصيدة أو دراما.. الخ) بشرط أن تظهر نتائج هذا الجهد ممتزجة تمام الامتزاج بانفعال جديد كل الجدة [60].

والجدير بالذكر أن أبرز علامة يتميز بها التعبير الحق - على حد قـول كولنجوود - هى الصفاء والوضوح. فالممثلة القديرة، ليست هى القادرة على البكاء بدموع حقيقية فى المشهد الحزين، بل قدرتها المميزة تكمن فى ايضاح ما تعنيه الدموع لها نفسها ولمستميعها ومشاهديها. والفنان لا يولول، ولا يعتمـد العجيـج إطلاقا. ومن يكتب أو يـرسم أو يقوم بأى شئ من هـذا القبيل للتنفيس عن مشاعره مستخدما المواد التقليدية فى الفن، قد يكون جديرا بالثناء عليه لمهارته فى عرض ذاته، إلا أنه - فى رأى كـولنجوود - لا يكون جديرا بلقب الفنّان. هذا لا يعنى بالطبع القول بأنه ليـس من حق كاتب الدراما إظهار شخصيات تعتمد على العجيج. فمثلا هناك عجيـج هائل ظهر فى نهاية مسرحية "أودن" التى ألفها بالاشتراك مع إيشردود سنه 1936، Ascent of F6. قد اقتدى فيها بالعجيج عند "شكسبير" وكـان القصد هو التعبير عن الاستهزاء. فى هذه الحالة ليس المؤلف هو الذى يحدث العجيج بل شخوصه المختلة التى صورها [61].

وهنا يجب أن نفرق بين التعبير المباشر، والتعبير غير المباشر، بمعنى أن التعبير عن القلق، ليس الحـديث عن القلق وكذلك التعبير عن الفرح أو البهجة ليس ترديد القول على لسان المؤلف أو أحد شخصياته بأنه مبتهج أو سعيد. بل التعبير عن هذه الانفعالات، بأن يضع الشخصيات فى مواقـف تجعل المتلقى يشعر بالانفعال الذى تم التعبير عنه سواء كان حزنا أو قلقا، سروراً أو سعادة.. الخ. لقد أوضح "أرسطو" "أن النفس حين تمرّ بتجربة انفعالية فى الفن فإنما يحدث لها بفضل الانفعال الفنى تطهير وتصفية، ينتج عنها اتزان وسلام باطنى مصدره أن الشاعر حين يصوّر لنا الشفقة والخوف يثير فينا الانفعال الجمالى لا يجعلنا عبيداً للانفعالات، بل يجعلنا أكثر تحكما فيها لأننا لا ننفعل بالانفعال مباشرة بل بصورته لأن قوة الانفعال فى الفـن تصبح قوة مصّورة على حدّ تعبير كاسيرر" [62]. والتراجيديا "تفرغ على صورة غير ضارة حاجة الإنسان للإحساس بانفعالات عنيفة حادة لا تعطينا الحياة الاجتمااعية فى المعتاد الفرص الكافية المناسبة لها. من هذه الانفعالات: الفزع والشفقة والحب وكثير غيرها.. وقد أكد "جوته" بأنه كتب آلام فرتر Werther ليتخلص من استحواذات انفعالية ومن اندفاعات إلى الانتحار" [63].

وقد رأى "جون ديوى" أن "التعبير إنما هو تصفية الانفعال المكدّر، ولا تعـرف شهواتنا ذاتها إلا حينما تنعكس على صفحة مرآة الفن. وهى حين تعرف ذاتها فى الوقت نفسه تتحول وتكتسب صورة جديدة. وعندئذ يظهـر الانفعال الجمالى بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وليس هذا الانفعال مجـرد صورة لعاطفة متمايزة توجد منذ البداية مستقلة قائمة بذاتها. وإنما هو انفعال يعمل على إنتاجه مادة ذات صبغة تعبيرية. ونظرا لأنه ينشا ويرتبط بتلك المادة فإنه يكون بمثابة مجموعة من الانفعالات التى خضعت لضرب من التعديل والتحوير" [64].

و"جون ديوى" بهذا يستعيد بشكل أو بأخر، نظرية "أرسطو" فى التطهير. وفى نفس الوقت يؤكد على وجود، ما يسمى، بالانفعال الجمالى الذى ينشأ مرتبطا بمادة ذات صبغة تعبيرية.

وإذا كنا لا نستطيع الحديث عن انفعال استاطيقى بدون وجود العمل الفنى، حيث يكون التعبير مكتملا، فإن الحديث عن الناتج التعبيرى Expressive Product، بمعنى، ماهى المشاعر التى يثيرها فى المتلقى،.. كموصل بينه وبين الفنان، فإن الفنان والمتلقى لا شأن لهما هنا، بل العمل الفنى هو صاحب الشـأن. إنه الموسيقى هى التى تعبر. وإن الموسيقى معبّرة حتى لو كان الفنان بلا انفعالات عندما كتبها، وكان المتلقى متبلدّ الإحساس، غبيا، لا يشعر بشـئ حين يسمعها. فالتعبير لا يعتمد فى تعريفه الدقيق إلى ما يعول عليه من إحساس المتلقى أو الفنان. بل على الموسيقى نفسها.. فالموسيقى تعبر بموضوعية كما لو كانت تحتوى عديدا من المعايير.. أما إذا كان المستمع ممالا يمكن استثارته على نحو ملائم، فيالسوئه من مستمع" [65]. كما يرى "جون هوسبرس".

العمل الفنى هو الذى يوصل الانفعال إذن عندما يكتمل، وهو الذى يثير المشاعر، والعلاقة تكون بين العمل الفنى كأداة للتعبير بصورة جمالية عن الانفعال الاستاطيقى، وبين المشاعر التى تستثار بفعل هذا العمل.

ولقد كان القول بأن الفن يقوم "بتوصيل الانفعال The Communication of Emotiom هو الذى مكّن تولستوى Tolstoy من التمييز بين الفن وما ليس بفن Art And Non Art، مثل التمييز بين صورة الشمس الغاربة، والشمس الغاربة نفسها. فصورة الشمس الغاربة توصل الانفعال الذى شعر به الفنان تجاه الشمس الغاربة، وهى بهذا تعدّ عملا فنيناّ. ولكن الشمس الغاربة نفسها، إذا لم نفكر فيها كعمل لفنان سماوى Divin Astist، فلن تكون، ولا يمكن اعتبارها بأية حال من الأحوال عملا فنيا [66].

الفن ابداع انسانى، وبما أنه كذلك، فإن الإنسان المبدع (الفنان) هو الذى يصوغه ويقدمه فى صورته الفنية، ولذلك فإنه لا يقدم العمل كما هو، بل يقـدم التعبير الفنى عن الانفعال إزاء الموضوع، أى الانفعال الاستاطيقى تجاه الموضوع، وهو هنا الشمس الغاربة. وهذا يختلف عن الموضوع نفسه المـوجود فى الطبيعة، لأنه يخضع لعملية معقدة، تجعله يخرج بصورة فنية.

ولقد أفاد "تولستوى" من هذا فى التميز بين ماهو فن وماليس بفن، بل والتمييز بين الفن الجيد والفن الردئ، اعتماداً على كيفية وسمة وطبيعة الانفعال الموصل. فإذا كان الانفعال من نوع ما من الانفعالات فإننا نحصل على فن جيد، أما إذا كان غير ذلك فإننا نحصل على فن ردئ. ولقد كان أصحاب النظرية الانفعالية Emotive Theory فى الفن أقل تعاطفا مع "تولستوى" فى تمييزه بين الفن الجيد والفن الردئ. فقد روّعوا بالنتائج التى توصل إليها عندما طبق هذا المبدأ الثانوى Secondery Principle على أعمال محدّدة فى الفن، على سبيـل المثال، عندما وجد رواياته العظيمة، ليست إلا مجرد روايات قد تكون جيدة وقد تكون رديئة [67].

لقد توصل "تولستوى" إلى نتائج مزعجة عندما طبق هذا المبدأ على الفن، وذلك لأنه سمح بأن يكون الفن مرعى لكافة الآراء، وأدخل فى مجاله كل ما هو غريب عنه.

يقول تولستوى:

"نشاط الفن يرتكز على حقيقة أن الإنسان يستقبل عبر احساسه بالرؤية أو بالسمع تعبير إنسان آخر عن مشاعره، ويتلقى الانفعال الذى عبر عنه ذلك الإنسان. ولنأخذ مثلا بسيطاً، إذا ضحك انسان وسمع إنسان آخر هذا فإنه يبتهج، وإذا بكى إنسان وسمعه آخر فإنه يشعر نحوه بالأسى. فإذا ما قلق إنسـان ما أو اضطرب ورآه إنسان آخر، فإنه يستحضر نفس الحالة فى ذهنه. بهذه الحركات أو الأصوات يعبر الإنسان عن الشجاعة أو الحزن، وهـذه الحالة العقلية تنتقل من إنسان إلى إنسان آخر.. والفن يقوم أساسا على قدرة إنسـان ما، على استقبال تعبير إنسان آخر عن مشاعره، واختبار هذه المشاعر بنفسه" [68].

الفن إذن هو انتقال المشاعر من إنسان إلى آخر بواسطة التعبير الفنى، وهذا هو ما اسماه "تولستوى" بالعدوى. فالفن - فى رأى "تولستوى" ليس توضيحا لبعض الأفكار الغامضة عن الجمال أو الله، وليس لعبا فيه يفرّغ الإنسان بعضاً عن طاقاته ونشاطه المخزون، وليس تعبيرا عن مشاعر الإنسان بعلامات خارجية Externel Signs، وليس نتاجا لموضوعات سارة، وفضلا عن ذلك فإنه ليس لذة Pleasure. بل هو وسيلة لتوحيد البشر بربطهم بعضهم ببعض بنفس المشاعر، ولا غنى عنه للحياة والتقدم نحو الوجود الأمثل للأفراد وللبشرية [69].

ولقد أكد "تولستوى" فى رأيه هذا على ضرورة التمييز بين "ماهية المشـاعر الفاضلة، ومشاعر الشر. وأن الارتباط الحيوى بين الفن والأخلاق يبدو واضحاً خلال هذا التمييز. وقد رأى كإجابة على السؤال الذى طرحه حول: ماهى أفضل المشاعر التى توحّد بين البشر؟ بأنها المشاعر الأفضل للإنسانية، وقد وافق "تولستوى" على أن تعريف المشاعر الأفضل والأسمى يختلف من عصر إلى عصر، ورأى بأن لكل عصر نظرته إلى الحياة التى يمكن أن توصف بأنها "إدراكه الدينى It’s Religious Preception والإدراك الدينى للعصر المسيحى هو التعاليم المسيحية [70].

وهكذا انتقل "تولستوى" من تعبير الفن عن الانفعال إلى نظريته الأخلاقيـة والدينية المرتكزة على التعاليم المسيحية، وبالتالى رفض الفن الذى لا ينقل المشاعر الملائمة للإدراك الدينى وتوصّل إلى أن الإدراك الحقيقى للفن صار مفقوداً. وأن الفن أضلّ الناس عن الخير وقادهم إلى الشر. وإذا كان الفن موصلاً للانفعال، فإن "تولستوى" قد "انتهى إلى أنه لما كانت أغنيات الفلاحين الروس توصّل الانفعال إلى أعداد أكثر ممن تصل إليهم مسرحية "شكسبير" "الملك لير" لذا اعتقد "تولستوى" أنها مسرحية كريهة وفاسدة وأن هذه الأغانى أعظم من مسرحية "الملك لير" [71].

إن هذا الرأى الذى توصل إليه "تولستوى" اعتماداً على النظرية الانفعالية قد وصل إلى القول بنوع من الذاتية المتطرفة التى ترى أن جمال العمل الفنى، شعراً كان أو موسيقى أو تصويراً يمكن تقديره بالاشارة إلى ما يعتقد فيه الناس عند نظرهم إلى مسألة عمل الفن [72].

إذا كان الفن تعبيراً عن الانفعال، وأن هذا الانفعال يمكن أن يكون ساميـا جليلا، أو بدرجة أدنى، كما أنه يمكن أن يكون خيرا، أو شرا، قد يكون تعبيرا عن القلق أو المرح، عن الحب او الكره، أو الإعجاب والاستسحان، أو الاشمئـزاز والاستهجان. وهنا يمكن ان يدخل القبح Ugly ضمن القيم الجمالية. ذلك أن "وجهة النظر التى ترى أن القبح هو بمثابة فشل فى انجاز التعبير الفنى، إنما تعتمد على القبول الظاهرى لافتراض أن الجمال يكمن بشكل جوهرى فى وحدة شكلية Formal Unity تتجلى بواسطة عناصر متباينة للأثر الفنى.. والعيب الجوهرى فى وجهة النظر هذه التى تطابق بين القبح والعجز عن التعبير هى افتراضها الخفى بأن كل الفنانين فى كل الأزمنة يعدّون التعبير هو الوظيفة الأولية لتقديم فن على درجة فائقة الجمال، ولا يتعلق بالقبيح أو غير الجميل كوسائل لهذه الغاية" [73].

القبح إنما هو تعبير عن انفعال أصيل، وليس مجرد نتوء أو خروج عن القيمة الجمالية، ذلك أننا إذا اعتمدنا الرأى القائل بأن الفن تعبير عن انفعال، وهذا الانفعال يكون استاطيقيا متى تجسّد فى عمل فنى، فإن القبح يمكن أن يكون مجالا خصبا للتعبير عن انفعالات متضادة، وغير متسقة، وتحمل جانبا من التعقيد يفوق هذا الجمال الهادئ، أو ذلك الرائع الذى يتسم بالصفات التقليدية لما هو جميل [74].

إن الانفعال فى الفن ليس انفعالا معقدا فحسب، بل هو انفعال جديد وأصيل. فقد رأى "يرجسون" أن "الانفعال الجديد هو المنبع الذى تصدر عنه عظائم مبدعات الفن والعلم والحضارة، لاباعتبارها حافزا يهيب بالفعل أن يعمل، ويهيب بالارادة أن تدأب فحسب. فالأمر أبعد من ذلك، فهناك انفعالات خلاقة للفكر والابتكار، وان كان عقليا، فإن الانفعال جوهره الثاوى فى أعماقة" [75].

( 3 )
إذا كان الشعر يختلف عن النثر، والفن يختلف عن العلم، فإن ذلك نتيجة لأن "التعبير" الذى هو قوام الشعر أو الفن يختلف اختلافا جوهريا عن (التقـرير) الذى هو قوام النثر أو العلم على أساس أن للتقرير طابع العمومية، "كما أن قيمة أى تقرير عقلى إنما تقاس بمدى قدرته على توجيه الذهن نحو اكبر عدد ممكن من الأمور المتجانسة. والتقرير يكون ناجحاً حينمـا يكون مثله كمثل السبيل الممهد من حيث أنه يوصلنا بسهولة إلى أماكن عدة. وعلى العكس، نجد أن لمعنى الموضوع التعبيرى طابعاً فردياً. وعلى حين أن الرسم التخطيطى الذى يوحى بالحزن لا ينقل إلينا حزن شخص فردى بعينه، بل يعرض أمامنا ذلك النوع العام من التعبير الوجهى الذى بظهره الأفراد بصفة عامة حينما يعانون الحزن، نجد أن التصوير الجمالى للحزن إنما يضع أمام أنظارنا حزن شخص معين فى علاقته بحدث معين" [76]. فالتعبير الفنى له طابعه الخاص، ويمكن استيعابه بدرجات متفاوته من المتلقى." فالخطوط المرسومة بأسلوب جمالى تختلف كثيرا عن الرسوم التخطيطيـة التى تستعمل عادة لمحاكاة أى شكل خاص بكل دقة واتقان. إذ أن الخطوط الجمالية تحقق وظائف عديدة تقترن بتزايد مماثل فى القوة التعبيرية. وآية ذلك أنهـا تجسم معنى الحجم، والمساحة، والوضع والصلابة، والحركة، فضلا عن أنهـا تسهم فى زيادة قوة أجزاء الصورة الأخرى، وتعمل على ربط جميع الأجزاء بعضها بالبعض الآخر [77].

وإذا كان "فراى Fray" يصرّ على إقامة تفرقة حاسمة بين نوعين من القيـم الجمالية الباطنة فى أمور الخبرة العادية، والقيمة الجمالية التى يعنى بها الفنان. ومؤدى هذا القول أن النوع الأول من القيم متعلق تعلقاً مباشراً بالمـادة أو الموضوع. فى حين أن النوع الأخير لا يهتم إلا بالصورة من حيث هى منفصلة عن أى موضوع ويرى "ديوى" أنه قبل أن يتسنى للفنان إعادة تركيب المنظر الماثل أمامه للغة العلاقات الخطية واللونية المميزة للوحة، لابد أن يكون قد لاحظ المنظر بما فيه من معان وقيم حملتها إلى إدراكة الحسّى خبراته السابق [78].

إن الفنان عندما يتعامل مع الموضوع الجمالى، إنما يكون فى واقع الأمر مسلحاً بخبراته السابقة فى الملاحظة، ومشحونا بالانفعال، وفى نفس الوقت مستحضراً جميع خبراته السابقة عن المواد والأشكال. إنها لحظة تكون كل العملية الفنية ماثلة فى ذهنه، وعندما يبدأ التنفيذ لا يكون على وعى تام بالتفاصـيل الخاصة بالمادة والصورة، وبالانفعال ، وإنما يتشكل داخله موقف يجمع كل ما يتصل بعملية الإبداع جملة.

وإذا كانت المواد الداخلة فى عملية الإبداع ذات تأثير على الفنان من حيـث مرونتها أو صلابتها، طواعيتها أو صعوبة التعامل معها، ومدى إدراك الفنان لأبعاد هذه المادة، فإن التعبير هو الذى ينظم هذه العملية، فيقوم الانفعال التعبيرى بدوره الخلاق فى الانتقاء والاختيار، والتفضيل. فالانفعال هو الموجّه لعملية "اختيار اللمواد وحشدها أو تجميعها" [79].

ومع أن الانفعال ضرورى لفعل التعبير، إلا أنه من الخطأ الاعتقاد أو القـول بأن المضمون الحقيقى للعمل الفنى هو الانفعال. فدور "الانفعال فى نشأة الفعل التعبيرى وتطوره لهو كدور المغناطيس الذى يجذب إليه سائر المواد الملائمة. ولا تكون المواد ملائمة إلا حين تكون هناك قرابة تعبيرية مختبرة فى صميم التجربة، تجمع بينها وبين الحالة السائدة من قبل، واختيار المواد وتنظيمها هما فى آن واحد دالة ومعيار للحكم على كيفية (أو نوع ) الانفعال المختبر فى التجربة" [80] ولكنه ليس هو الدلالة أو المضمون بكل ما يحوى من أفكار.

ولكى نصل إلى "المضمون التعبيرى" كما يرى "جيروم ستولينتز" لابد أن نفعل أكثر من مجرد الرؤية أو الاستماع أو القراءة. لابد أن نجرب تلك الإيحاءات وتلك الارتباطات التى لا (تقال) وإن كانت تنبثق عما يقال، وتميّزه [81].

فالعمل الفنى يعبر عن أفكار وانفعالات، وصور، ويكون معبراً عن أمور تدور فى العصر الذى تم فيه إنجاز العمل الفنى، كما يعبر عن الواقع الاجتماعى، بدرجة أو بأخرى، وهو يوحى بأكثر مما يصوره صراحة، فالعمل يمكننا من الوصول إلى معان قريبة حين نتذوقه، ولكن حين نتأمله، ونستغرق فى الجو الذى يشيعه - وكلما كان العمل عميقا - فإننا نصل إلى معان وأفكار أبعد مما يصل إليه المتذوق السطحى.

ولقد رأى "جورج سانتيانا" أننا فى كل تعبير يمكننا أن نميّز بين حدّين: "الأول هو الموضوع المعروض بالفعل، وهو اللفظ والصورة والشئ المعبر. والثانى: هو الموضوع الموحى به. والفكرة اللاحقة، والانفعال أو الصورة المثارة والشئ المعبر عنه" [82].

وقد رأى "ستولنيتز" أن هذا قد يوحى بأن المدرك يشعر بموضوعين مختلفين. غير أن هذا لا يتمشى مع التجربة الجمالية، فنحن نميز تحليليا بين الحد الأول والحد الثانى لكى نوضح طبيعة التعبير بوصفه عنصرا من عناصر الفن، ولكن لا وجود لمثل هذا التمييز فى الممارسة الفعلية للعمل. وقد رأى "سانتيانا" أن الحدّين بندمجان فى الذهن. ولن يلتبس علينا الأمر نتيجـة للكلام عن حدين، مادمنا نستخدم ذلك فحسب من أجل التحليل النظرى الذى يختلف تماما عن التجربة العينية. أما إذا لم يكن الحدّان مندمجين، فعندئد لا يمكن أن يوصف العمل الفنى بأنه معبر [83].

إن هذا الفصل يعنى فشل العمل الفنى، ذلك أن التعبير لا يكون منفصلا أبدا عن المادة والصورة، والعكس صحيح، فالصورة تشع بالتعبير، والتعبير هو المنظم للمادة، وعند التقييم يجب أن نضع فى اعتبارنا جميع عناصر العمل الفنى وإلا كان تقويمنا تقويما خاطئا.

وإذا كان هناك من رأى أن تباين التعبير عند متذوق معين عنه لدى متذوق آخر، يعنى أن العمل الفنى لم يعد شيئاً واحداً، وفيه يكون التعبير منفصلا عن العناصر الأخرى، ويحبذ ارتباط التعبير بالعناصر الموضوعية للعمـل الفنى، وأن يكون المضمون التعبيرى واحدا، وإلا عُدّ ذلك فشلا للعمل الفنى. فإننا نرى أنه، إذا كانت العناصر الفنية للعمل متمازجة ومتداخلة، وتقـوم بدورها، فإن ثراء العمل الفنى - عبر ارتباط عناصره - هو الذى يسمح بالتأويل، وتعدّد أنماط التفسير، وهذا ميزة للعمل الفنى وليس عيبا، فالفن غيـر العلم، كما أن التعبير يختلف عن التقرير والوصف - كما أسلفنا - وإلا كانت الدعوة إلى استشفاف معنى واحد من العمل الفنى، ليسـت إلا دعوة إلى تسطيح العمل وجعله هشًّا ضعيفاً، فقيرا، لا يثير الا انفعالات محدودة، ولا يشع إلا بمعان ضيقة.

والآن كيف تكون الأشياء معبرة؟

يرى "سانتيانا" أن كل تعبير يرجع إلى الترابط أو التداعى. فالحد الأول يكتسب تعبيراً لأنه يرتبط فى ذهن المدرك بتجارب سابقه، ويلصق معنى هذه التجارب ولونها بالموضوع، بحيث يبدو كامناً فيه. وما دمنا على وعى بالثغرة النفسية بين الموضوع وارتباطاته، فإنه لا يكون ذا قوة تعبيرية. فعندئذ يقدّر الموضوع كما نقول صراحة، لما فيه من ارتباطات، ولكن عندما يفلت الانفعال أو الفكرة الموحى بها من الذاكرة، ويتشتت فى الشئ المدرك فعندئذ لا يكون هناك تعبير [84].

هل يؤدى ذلك إلى تفسير التعبير؟

يرى "جيروم ستولنيتز" أن "الرباط لا يكفى لتفسير كل تعبير. بل إنه حتى فى الحالات التى يكون فيها الترابط واحداً من العوامل التى تسهم فى التعبير، فقد لا يكون فى ذاته كافيا لاحداث التعبير" [85].

إذا كان التعبير، فى رأى "سانتيانا" - لا يأتى إلا من التجربة الماضية، فإن ذلك قد يعنى - فيما يعنى - أن الموضوع المدرك ذاته ليس به ما يجعله مسئولا عن دلالته التعبيرية. ولكن هذا الرأى يواجهه رأى آخر، يرى أن المضمون التعبيرى شئ لا نتعلمه من التجربة الماضية بل هو شئ نجده فى التجـربة الحاضرة، كما أن الخطوط والألوان معبرة نظرا إلى سمـاتها البصرية الكامنة، ومن ثم أصبحت ترتبط بأفكار وانفعالات معينـة. ولكن من ناحية أخرى هناك من يجد صعوبة فى القول بأن شيئاً معينـا له قدرة تعبيرية كامنة. ولكن لو كان ما يعبّر عنه "كامنا" حقيقة فيما هـو معبّر، فلابد أن يـدرك الثانى كل من يشاهد الأول. ولكن الواقع أن مثل هذا الأمر لاوجود له. فالناس يختلفون أشد الاختلاف حول المعنى التعبيرى لإحدى المسرحيات، أو فى وصف مايسمعونه فى الموسيقى. فالسمات التعبيرية تختلـف، لأن كل مدرك له تاريخ سابق مختلف، واهتمامات مختلفة، ودرجات متفاوته من الألفة بالعمل. صحيح أن الفرقة الموسيقية تعـزف نفس القطعة - سيمفونية بيتهوفن الخامسة - وأن الجمهور يستمع إلى هذه القطعة الموسيقية بعينيها، ومع ذلك، فإن كلا منهم (يقرأ) فى الموسيقى دلالته التعبيرية الخاصة، تبعا لذكرياته وخياله. وإذن، فعلى حين أن الحدّ الأول - ما يسمـع واحد بالنسبة للجميع، فإن الحدّ الثانى - أى ما يحس به - ليس واحدا [86].

التعبير يرتبط ارتباطا وثيقيا بالانفعال، والانفعال ذاتى، أى خاص بشخـص محدد فى زمان ومكان محدّدين، والمتلقى الذى يستمع إلى الموسيقى أو يشاهد اللوحة إنما هو شخص له ذاكرة تختلف عمن سواه، وله وعى جمالى محدد، وينتمى إلى طبقة أو فئة إجتماعية محددة، ونشأ فى بيئة ما.. الـخ وكل هذه أمور تؤثر فى تلقّيه للعمل، مهما حاولنا أن نضعه فى موقف جمالى منزه عن الغرض، وكان أبعد ما يكون عن الارتباطات الخارجية. ونحن - رغم وعينا الجمالى - نرتبط دائما بالماضى، وبأمور فى حياتنا يكون لها من الأهمية بحيث تطغى أحيانا على كل ماعداها.

لذا فإن الحالات النفسية والأفكار التى ينشرها العمل الفنى، تكون أول ما نلتقـى به، وجميعنا يتصورأن الدلالة التعبيرية موجودة فى باطن العمل كما يوجـد أى عنصر آخر. وذلك دون أن نشعر بأننا فى ذلك إنما نسقط على العمل من المعانى والأفكار التى تروق لنا أحيانا، أو التى تكون قريبة إلينا. وهكذا يبدو أن القدرة التعبيرية شئ يضفيه المتلقى على العمل، وإن الأمر ليس بالمعنـى الدقيق لهذه العبارة، ذلك أن التعبير تتضافر فيه أمور متشعبة تتصل بالعمـل، والمتلقى - كما أوضحنا ذلك سابقا - لكى تقدم المعنى أو المضمون التعبيرى. "فالكيان الكامل للعمل هو المهم. وما يعبر عنه العمـل أو يعنيـه يكمن فى صميم نسيجه وتركيبه، ولا يمكن أن يكون المعنى منفصلا عن العمل" [87]. وإن تباينت الآراء حول المضمون التعبيرى لعمل ما، فإن ذلك ليس دليلا على فشل العمل، أو أى خلل فى التذوق - على افتراض ثبات جميع العوامل المؤثرة فى العمل والمتلقى - بل يعنى ثراء العمل وغناه بالمعنى، بالإضافة إلى تباين حالات التلقى.

وهكذا يبدو التعبير عبر هذه العلاقات المتشابكة بعناصر العمل الأخرى، وبالتلقى كما لو كان أمرا غامضا عسير الفهم، وإن كان هو ما يضفى المعنى على العمل، ويوحّد كيانه.

والتعبير - رغم أهميته - إلا أنه ليس إلا عنصرا من عناصر الفن - لا تنفصل عن العناصر الأخرى - إلا نظريا عند تحليل العمل الفنى - وليس هو الوحيد الذى يعطى للعمل الفنى قيمته، بل إن القيمة الجمالية للعمل الفنى هى تلك القيمة التى تشع من كيان العمل ككل، من علاقات عناصره، تلك العلاقة الجدلية التى لا بنفصل فيها عنصر عن آخر، بل يؤثر (فى) ويتأثر (بـ) الآخر، ويشكل مع مجمل العناصر وحدة العمل الفنى.

ومن الجدير بالذكر أن "شبنجلر" قد ميّز بين التقليد (المحاكاه) Imitation وبين (الزينة) أو الزخـرفه على أساس أنهما نوعان من التعبير، وأنهما إمكانان من الإمكانات الأرقى. ومن الصعب أن ندرك بحّسنا فى البداية استقطابية الـواحدة بالنسبة للأخرى. ولا شك أن التقليد هو اقدم وأقرب من الزخرفة إلى الجنس المنتج. فالتقليد هو نتاح الفكرة السيمائية لشخص ثان استماله شخـص أول فدفع به إلى التجارب، ورنين إيقاع الحياة. بينما الزخرفة تبرهن على (أنا). Ego تعى طبيعتها الخاصة، إن التقليد واسع الانتشار فى عالم الحيوان، بينما إن الزخرفة مرهونة بالإنسان ووقف عليه وحده [88].

ولعلنا نجد هنا خلط "اشبنجلر" بين المحاكاة والتعبير، على اعتبار المحاكاة جزءًا من التعبير، وذلك ربما بسبب عدم توضيحه للتعبير الجمالى على أنه انفعال استاطيقى، أو انفعال يؤدى إلى وجود عمل فنى.

حواشي
[1] شبنجلر، أوسوالد: تدهو الحضارة الغربية - ترجمة أحمد الشيبانى - الجزء الأول - منشورات دار مكتبة الحياة بيروت - د.ت - ص 350.

[2] نفس المصدر - ص 400.

[3] Croce, Bedetto: My Philosophy, Essays On The Moral And political Of Our Time, Selected by R.Rlibensky, Translated by E.F. Carrit., Collier Books, New york, 1969, p.192.

[4] إبراهيم، زكريا: مشكلة الفن - مكتبة مصر - القاهرة - د.ت - ص 49.

[5] ديوى، جون: الفـن خبرة - ترجمة زكريا إبراهيم - مراجعة زكى نجيب محمود - (دار النهضة العربية بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر) (القاهرة - نيويورك) سبتمبر 1963 ص ص 111 ، 112.

[6] نفس المصدر - ص ص 129، 130.

[7] بدوى، عبد الرحمن: شوبنهاور - وكالة المطبوعات - دار القلم (الكويت - بيروت) - د.ت . ص 158.

[8] نفس المصدر - ص 167.

[9] ستولنيتز، جيروم: النقد الفنى - ترجمة فؤاد زكريا - الهيئة المصرية العامة للكتاب - الطبعة الثانية - 1980 ص 374.

[10] نفس المصدر - ص 373.

[11] إبراهيم ، زكريا: مشكلة الفن - مصدر سابق - ص 46.

[12] نفس المصدر - ص 46.

[13] نفس المصدر - ص 46.

[14] بالاشوف، أ.أ: الجمال فى فلسفة كانط (ضمن): الجمال فى تفسيره الماركسى - ترجمة يوسف حلاق - مراجعة أسماء صالح، منشورات وزارة الثقافة والسياحة والارشاد - القومى - دنشق 1968 - ص 23.

[15] Croce, Bendetto: My Philosophy, Op. Cit, P. 142.

[16] See Croce, Bemdetto: The Essence of Aesthetic, Tsanslated by Douglas Ainslir, The Aden Library , London, 1978, P.P. 42 - 44.

[17] Ibid: P., 140.

[18] كاسيرر، ارنست: مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانية أو (مقال فى الإنسان) ترجمة يوسف نجم - دار الأندلس بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين - (بيروت - نيويورك) - 1961 - ص ص 251 ، 253.

[19] إبراهيم، زكريا: فلسفة الفن فى الفكر المعاصر - دار مصر للطباعة - القاهرة - د.ت. - ص 236.

[20] لالو، شارل: مبادئ علم الجمال (الاستاطيقا) - ترجمه مصطفى ماهر - راجعه وقدم له: يوسف مراد - دار إحياء الكتب العربية - القاهرة 1959 ص 48.

[21] ريد، هريرت: التربية عن طريق الفن - ترجمة عبد العزيز جاويد - مراجعة مصطفى طه حبيب - الهيئة العامة للكتاب - القاهرة - 1996 - ص 132.

[22] انظر: نفس المصدر - ص 151.

[23] إبراهيم، زكريا: مشكلة الفن - مصدر سابق - ص 41.

[24] انظر: كاسيرر، ارنست: مصدر سابق - ص 249، 250.

[25] ديوى، فون: مصدر سابق - ص 126.

[26] انظر: كاسيرر، ارنست: مصدر سابق - ص ص 246 - 248.

[27] Castall, Alburey: An Introduction of Moderm Philosophy in Seven Philosophical Probleems - The Macmillan Company, Second ed., London, 1943, P. 502.

[28] Langes, Suzan: Feeling and Frem,Roteldeg, London, 1953. P 42.

[29] Stroh, Guy w: American Philosophy From Edwards to Dewey: An Introduction - Van Nostrand, Reinhold Company, New York,1968 - P. 25.

[30] ديوى، جون: مصدر سابق - ص ص 131 ، 132.

[31] Castell , Alburey : Op. Cit. PP. 205 , 503.

[32] Véron, Eugene: Art As Expression Of Emotion In (Castell, Alburey) Editor of Modern Philosophy - In Seven philosopical Problems - The Macmillon Company - New York, 1943 p 506.

[33] See Langer, S. K.: Feeling and Form, Op cit, PP. 59. 77. (ويمكن الرجوع إلى الفصل الثانى من كتابنا هنا لمزيد من التفاصيل).

[34] Langer, S.K.: Problems of Art, 1957, p62.

[35] Véron, E.: Opcit. P. 507.

[36] I ibid: P. 507.

[37] كولنجوود، روبن جـورج: مبـادئ الفن - ترجمة أحمد حمدى محمود - مراجعة على أدهم - الهيئة المصرية العامة للكتاب - د.ت - ص 144.

[38] ديوى، جون: مصدر سابق - ص 168.

[39] نفس المصدر - ص 168 ، 169.

[40] نفس المصدر - ص 173.

[41] نفس المصدر - ص ص 173 ، 174.

[42] Véron, E.: Op cit, P. 506.

[43] إبراهيم، زكريا: مشكلة الفن - مصدر سابق - ص 47.

[44] Alexander, s.: Beauty and Other Forms of Value - Macmillan Company Limited - London, 1933, P. 129.

[45] Ibid: p 129.

[46] Allen, A. A. B.: The Meaning of Beauty - Philosophy, Vol xxx No. 113, April 1955, Macmillan co. Limited, London, 1955, p. 112.

[47] Zink, Sideny: The Moral Efect of the Art, in ( Vivas, Elisev & Krieger, Murry) eds of the Problems of Aesthetics - Holt, Rineharart and Winston, New york , 1953, p. 553.

[48] Hospers, J.: The Concept of Aesthetic Expression, in (Weitz, Morris) ed. Of Problems in Aesthelics, Macmillan Publishing co. Inc. New york, 1970 p. 222.

[49] Coolingwood, R. G.: The Principles Of Art, P. 109 Quated From Ibid: p. 222.

راجع أيضا الترجمة العربية لكتاب كولنجوود ص ص 141 ، 142.

[50] Hospers, J.: op. Cit, p. 222.

[51] كولنجوود، ر.ج: مصدر سابق - ص 142.

[52] عن ديوى، جون: الفن خبرة - مصدر سابق - ص 112.

[53] ديوى، جون: مصدر سابق - ص 112.

[54] انظر، المصدر السابق - ص 115.

[55] كولنجوود، ر.ج: مصدر سابق - ص 149.

[56] ديوى، جون: مصدر سابق - ص ص 135 ، 136.

[57] انظر: كولنجوود، ر.ج: مصدر سابق - ص 150.

[58] انظر نفس المرجع - ص 150.

[59] ديوى، جون: مصدر سابق 122.

[60] نفس المصدر - ص 123.

[61] كولنجوود، ر.ج: مصدر سابق - ص ص 157 ، 159 ، 160.

[62] مطر، أميره: مقدمة فى علم الجمال - دار النهضة العربية - القاهرة - د.ت - ص 55.

[63] لالو، شارل: مصدر سابق - ص ص 51 ، 52.

[64] ديوى، جون: مصدر سابق - ص 133.

[65] Hospers, J.: Op. Cit . p. 241.

[66] Castell, Alburey: op. Cit., p. 512.

وبلاحظ هنا أن القـول بأن صـورة الشمس الغاربة توصل الانفعال الذى شعر به الفنان تجاه الشمس الغاربة يؤكد وجهة نظر "هوسبرس" السابق ذكرها فى هذا المجال.

[67] Ibid: p. 512.

[68] Tolstoy, Leo: Art As Communication Of Emotion, In Castell

[69] Philosophy in Seven Philosophical Problems, The Macmillan Co. New York, 1943, P. 512

[70] See Ibid: P.P. 513 & 514. 70) Simmons, Ernest j.: Introductin to Tolstoy’s Writing - Phoenix Books - The University of Chicago Press, Chicago, 1969,P. 123

[71] Joad, C. E. M.: Guid to Philosophy - Dover Publication, New York, 1957, p. 335.

[72] I bid: P. 336.

[73] Garvin Lucius: The Problem of Ugliness in Art - Philosophical Review, Vol LVII No. 4, Whol No. 370 July, 1948, Corneil University Press, New York, 1948, p.p. 40 & 47

[74] يمكن الاسترادة فى هذا الموضوع بالرجوع إلى كتابنا:

الأحكام التقويمية فى الجمال والأخلاق - دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر - الإسكندرية 1998 - الفصل الثانى (مقولات القيمة الجمالية - الجميل والقبيح).

[75] برجسون، هنرى: منبعا الدين والأخلاق - ترجمة سامى الدروبى - مراجعة عبد الله عبد الدايم مكتبة نهضة مصر - القاهرة - 1945 - ص ص 49 ، 50.

[76] ديوى، جون: مصدر سابق - ص 154.

[77] انظر: المصدر السابق - ص 158.

[78] انظر: نفس المصدر - ص 152.

[79] نفس المصدر - ص 118.

[80] نفس المصدر - ص 120.

[81] ستولنيتز، جيروم: مصدر سابق - ص 377.

[82] Santayana, G.: The Sense of Beaty - p. 147. عن المصدر السابق - ص 378.

[83] Tomas, Vincent A.: The Concept Of Expression In Art In (Science, Language And Human Rights) University Of Pensylvania Press, 1952 - p.p. 130 FF.

عن ستولينتز، ج: مصدر سابق - ص ص 378 ، 379.

[84] Santayana, G.: Op. Cit, p. 146. عن المصدر السابق - ص 383.

[85] ستولينتز، ج: مصدر سابق - ص 383.

[86] انظر: المصدر السابق - ص ص 384 - 387.

[87] المصدر السابق - ص 382.

[88] راجع: شبنجلر، أو سوالد: تدهور الحضارة الغربية - مصدر سابق - ص 350.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...