عبد العزيز أمزيان - شعرية اللغة في ديوان " حيرة الطيف" للشاعر أحمد زنيبر..

يعد ديوان " حيرة الطيف" ثاني باكورة الانجاز الشعري للباحث والشاعر أحمد زنيبر، وقد جاء في حلة فاخرة، عن دار العالمية للنشر سنة 2013 . يقع في ثمانين صفحة، ويضم إحدى عشرة قصيدة وهي : باب الخميس – من وحي الرماد - ظل الطريق - خروج القرصان – أنفاس مقطرة – طفل الفراشات – نبيذ الحواس – صرخة الريح – ومضات – ذاك المساء – سيدة المكان. وفي ختام الديوان ﺇضاءتان : الأولى للناقد بنعيسى بوحمالة، وهي إضاءة قصيرة وموجزة، تتحدث عن التجربة الشعرية للشاعر أحمد زنيبر، والتي يراها تجربة ناضجة ومتماسكة ، وفيها جهد ملموس، في خلق الصور الشعرية، بما يليق بها من تكثيف وتجنيح وإيهام، والثانية للشاعر والباحث حسن نجمي، وهي أيضا مقتضبة تشير إلى " أن الشاعر أحمد زنيبر يختبر العالم من حوله عبر اللغة، ويقدم الفكرة والخطرة والصورة والهاجس استنادا إلى ثقافة مستترة وتاريخ أدبي (عربي أساسا)، باحثا من أول قصيدة في الكتاب إلى آخر قصيدة عن الطيف الذي يطمع إلى زرعه في أفق قارئه". أما لوحة الغلاف فهي للفنان التشكيلي نور الدين ضيف الله، من خلالها نتلمس تكثيف نظرة خاصة، للعالم بما ينسجم وملفوظ قصائد الديوان.
بنبرة موغلة في الأنين الشفيف، وبنغمة ممعنة في الوجع الفاجع، تكاد تنطق، بما تنطوي عليه من معاني جليلة، وتوشك أن تفصح، عما تتضمنه من دلالات باذخة، تنسكب روح الشاعر أحمد زنيبر، وتفيض نفسه عبر امتداد الديوان، بكل ما يجعل القارئ يتابع - بتأثر واضح- أثر الحرف في وجدانه، ويواصل – بانفعال ظاهر - علامة ما يخلفه الخيال الجامح لديه، من تداعيات وصور ومشاهد فائقة الروعة ، عميقة الجمال. ترج في داخله مجاديف الإبحار، في أمواجه المتدافعة المتلاطمة، والسفر في مرافئه الظليلة الوارفة.

هي ذي الحروف
تتعثر بالبياض
ولا أحد غيرك
في هذا الزقاق
يشد وثاق المجاز..ص 11 قصدة باب الخميس.

تطالعك قصائد ديوان " حيرة الطيف" بشعرتيها الجارفة ،تهز معاطفك نحو ارتداد صهاريج المعنى، حيث تغرف منها عصارة روح الشاعر، وترشف رحيق أطيافه، في وحدته التي يكون فيها الشاعر غارقا في نسج غيوم الذات، منهمكا في حياك أحلام الطفولة، في اندماج كلي مع الوقت، الذي راح ينثر رماده على المدى، برنة حزينة، وجرس موسيقي مؤثر، ترتاح لها النفس، وتنسجم مع الجو العام الذي يخيم على القصائد.
لنصغي إلى الشاعر وهو ينشد الحرف بتأثر تكاد تتفتت فيه الذات مع المكان وتنصهر فيه حدا لا نهاية له.

هو نبض
لا يخشى حرس المكان
يطوي المسافات
بلا عدد...
هو نبض
يرسم وجه مدينة كسرت
في المدى
مجاديفها وغابت
إلى الأبد.. ص 23 قصيدة من وحي الرماد.

ترسم شعرية قصائد الديوان، خطى سير القارئ نحو منعطفات واضحة المعالم. في كل منعطف، تتراءى لك شجرة المعنى، فتقف لتستظل تحتها روحك، وينتشي فؤادك، بما تمنحه لك من طاقة السفر، وما تمده إليك من قوة الإبحار، في عوالم مملكة الشعر، في علاقته مع المدينة والزمن المنفلت، والصمت والحلم والسفينة وقصة مناجاتها لسكون الماء. كل ذلك يغور في روحك، فتمسي مروجا يانعة من المعاني، وبساتين مورقة من الدلالات، تخصب خيالك بفيض الرؤى، وتثري أفقك بدفق من النظرات.
لنصغي من جديد إلى الشاعر وهو يرفع وجعه عاليا . له مفعول قوي في النفس:

هو ذا النداء
يلهج بالفتوح الأسيرة
يحمل من مشعل البوح
عوالم ترثي سماء
بلا مطر.. ص 37 قصيدة أنفاس مقطرة.

يتابع الشاعر رسم الظلال، ونحت الأطياف، بلغة شعرية عذبة لذيذة، فيها ألق الحياة، وإشراق الأمل، وبسمة الرجاء، بما تحمله اللغة الموظفة من انسيابية ورقة، تحرك في نفسية القارئ رغبة السفر في الزمن، والغوص في عالم البحر، واستبطان مجاهل الشاعر في علاقته مع البوح، الذي يمضي به إلى نهايته الحتمية . وتبقى المدينة في قصائد هذا الديوان الرائق الموضوعة الأكثر حضورا، والبؤرة التي تتجمع فيها منابع كينونة الشاعر وعلاقته بمحيطها الواسع الممتد في رحابة لا متناهية.
لنستمتع هاهنا بهذا المقطع الشعري اللائق الذي تمتزج حروفه بنفسية الشاعر، حتى لكأن المشاهد نبتت في وجدانه ، وأورقت في قلبه:

في المدينة
تعطلت مواعيد الأصدقاء
فاح عطر الكلام
وراح كل ظل يمحو أثره..ص 50و 51 قصدة صرخة الريح.

وبوتيرة أكثر حرارة، وأشد شعرية، وأعمق فيضا، يغمس الشاعر ريشة روحه، في محبرة أفق المكان الواسع الرحب، فيتسلل الضوء- بعرامة- إلى قلبه، وتغمر وجدانه أشعة الذكريات، المترعة بالجراح في طقس شعري ساحر مؤثر، تطل امرأة من شرفة عمر الشاعر إطلالة، فيها كثير من المعاني المرتبطة بالعلاقة الأزلية، التي تربط الرجل بالمرأة، والصور الرائعة، التي تعطيك الإحساس، بأن الشاعر متفرد في هذا التذكر، الذي يمتد ظلاله إلى المستقبل.

يا صاحب المكان
ها قد انقطع الخط
وضعف الصبيب
فلمن تحكي شهر زاد قصتها
ولم يبق في
ما ترويه ص 71 قصيدة سيدة المكان.
هي ذي القصيدة
سكن لحبيب يسابق الأنفاس
بأجنحة لا تخيب.. ص 73 نفس القصيدة.

أرجو، أن تكون هذه المقاربة المتواضعة، قد لامست بعض الجوانب الفنية في الديوان، وسبرت بعض أغواره الدلالية، حسبي أن أكون فتحت شهية المتلقي، ليقبل على قراءة ديوان " حيرة الطيف" للشاعر الموهوب أحمد زنيبر، ويستمتع بما حفل به، من لغة وعاطفة وخيال وإيحاء ورمز، ويتذوق أبعاده الجمالية، باعتبارها منابت المفاجأة، ومنابع الدهشة.


بقلم عبد العزيز أمزيان


* نشر في الملحق الثقافي لجريدة العلم ا، ليوم 2019/11/14

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...