ازدانت المكتبة العربية بكتاب جديد بعنوان "التشكيل بين التأطير والتنظير"، للكاتبة والفنانة التشكيلية المغربية خيرة جليل، عن جامعة المبدعين المغاربة للنشر. وفيه رصدت تجارب تشكيلية متنوّعة من الداخل والخارج، وقدّمت له بنص تأليفي يعكس رؤية واسعة وإطلاع دقيق ومواكبة شاملة لمستجدات الفن التشكيلي في العالم. حيث نبّهت الى الهوّة الحاصلة بين واقعنا التشكيلي في العالم العربي، وما يحدث في بقية أرجاء العالم. أيضا كشفت ومنذ البداية عن رهانها المتمثّل في تجاوز عتبة الارتباط بفكرة المرجعية الفنية أو الخلفية الفكرية، نحو ابداع حر، انساني.
وقد أماطت اللثام عن معوّقات الابداع في العالم العربي وتعرّضت بالخصوص الى مشكلة الاقصاء وسيادة العلاقات الشخصية ومركزية النشاط الثقافي وطمر تجارب المغمورين، من خلال تلك الخطابات المشوبة بالإطراء والمجاملات التي عوّضت النقد البناء.
تنحت إذن خيرة جليل مصطلحا جديدا، أو لِنَقُلْ تنحتُ داخله، والمقصود هنا "دمقرطة الابداع التشكيلي". إنّ القول بذلك يجعلنا نُفكّر في مسألة الفن المتاح للجميع، وهي فكرة قديمة متجدّدة لمّح لها أصحاب مذهب "البوب آرت" (pop art) في أواسط القرن العشرين. لكن ما تُنبّهُ له خيرة جليل هو سطوة وسائل الاتصال المعاصرة وسلطتها في فتح مجال التشكيل والتواصل والنقد والكتابة، بدون رقيب، مما يدفع للسقوط في مزالق الابتذال والارتجال. أمّا "دمقرطة الابداع التشكيلي" فلا يعدو أن يكون سوى فعل الاعتراف الصريح بالتجارب الفنية الصادقة، التي تنبع من الذات والتي تخاطب الانسانية. وليس حكرا على عَلياء القوم ونبلائه أو أكاديمي عارف بالتقنية ومرجعياتها، بل أيضا كم من عصامي كسر حدود المألوف بعفوية تفكيره وطفولية لعبه التشكيلي.
إنّ "دمقرطة الابداع التشكيلي" هو أريحية النظر والفعل والقبول والتواصل. وهذا ما نحتاجه في عالمنا العربي لدفع عجلة الابداع. وهو أيضا ما جعلت منه خيرة جليل بمثابة "منهجا نقديا" اعتمدته في كتابها "التشكيل بين التأطير والتنظير". حيث عمدت الى اختيار أكثر من عشرة تجارب تشكيلية من داخل المغرب وخارجه، مقياسها الوحيد في ذلك إعتراف ضمني بإبداعية هذه التجارب التشكيلية. فخرجت عن المألوف والمتداول من الأسماء المتكررة والمستهلكة، نحو محاولات إبداعية أخرى تبدو مهجورة ولم تنل الاهتمام اللازم. على غرار مصطفى بن مالك، صليحة مجاطي، امنة فاتن الازهری وربیعة سیکوک وشامة المؤذن، رهف عيد، سعيد العلاوي، شفقت محمود، أحمد الأنصاري، لطيفة مزهار، هند عبد الحميد عبد الغفار أحمد، أحمد محروس.......
ويظهر من خلال أسلوب الكاتبة، أننا بصدد نمط نقدي غير متداول، حيث إتّسم نَفَسها في الكتابة بالسلاسة والوضوح والمباشراتية، وقد أضفى على أسلوبها نوعا من " الواقعية النقدية الجديدة".. فما معنى ذلك؟
إن كل عارف بمجال النقد الفني وخاصة في ميدان الفن التشكيلي، يعلم أنّ نقاد الفن في العالم العربي ـ وعلى قلّتهم ـ يذهبون نحو تصنيف التجارب ودراستها ونقدها بحسب نظريات معلومة لديهم، أو بحسب خلفيات فكرية ما، أو في بعض الأحيان بميول ايديولوجية ضيّقة. وهذا يُكبّل القراءة ويحصرها في أحواز محدودة الآفاق التأويلية. ويُغيّب الفعل الإبداعي مما يفرز نصوصا مغرقة في المفاهيم والنظريات والسياقات التي تنأى عن إنشائية الفعل الإبداعي وتُغيّب حقيقة الفعل والانفعال والتفاعل. لكن ما نلحظه لدى خيرة جليل، هو استحضار واقعي لتجربة الفنان، بتكوينات العمل الفني وعناصره، ووبايحاءاته المرئية واللامرئية. وهي قراءة تستشعر خلالها أنك إزاء كاتب عارف بكنه وأسرار الممارسة التشكيلية. وهذا أساسي في النقد الفني، بل يُذكرنا إذا أردنا الرجوع الى أصول معايشة الفعل التشكيلي، بكتابات " روني باسرون" وأطروحاته الإنشائية (poïétique). مما يُدعّم لدى القارئ قيمة إضافية نحو الوعي بزمنية لحظة الانشاء.
من ثمة، تنكّبت الكاتبة صعاب البحث في المهجور والمتروك والمُهمّش من تجارب المبدعين الذين لم تطلهم الأضواء وبقوا في الظل يعملون بصمت وهدوء. وهو خيار جريء يعكس مصداقية الكاتبة ووعيها الفني. وهذا ما أُسَمّيه بروح الأريحية. فأن تكون ذا أريحية فهذا يعني قدرا كبيرا من الموضوعية والحياد والحرية. وهو ما يوصلنا الى كلمة حرّة ومسؤولة تُعطي استحقاقا كاملا.
وتبدو محاولة خيرة جليل ـ في كتابها " التشكيل بين التأطير والتنظير" ـ بمثابة مساهمة لإثراء المكتبات الجامعية التي تشكو نقصا فادحا في المرجعيات والتجارب التشكيلية العربية. وهو عمل نرفع له القبعة لغاياته النبيلة ولنتائجه المرتقبة على بحوث الطلبة الذين يتذمرون ويشتكون من قلة المراجع المحلية. بل أكثر من ذلك، يستدعي هذا المجهود النقدي المواصلة والمثابرة حتى يتوسع ويصبح مشروعا شاملا يسلط الضوء على جميع المحاولات التشكيلية المغمورة، وهو ما يُسهم في تطويرها وبعثها من جديد. وبذلك الحس النقدي البنّاء تتطوّر وتنهض نحو العالمية.
في: 16 نوفمبر 2019
د. حاتم تراب - جامعة قابس - تونس
وقد أماطت اللثام عن معوّقات الابداع في العالم العربي وتعرّضت بالخصوص الى مشكلة الاقصاء وسيادة العلاقات الشخصية ومركزية النشاط الثقافي وطمر تجارب المغمورين، من خلال تلك الخطابات المشوبة بالإطراء والمجاملات التي عوّضت النقد البناء.
تنحت إذن خيرة جليل مصطلحا جديدا، أو لِنَقُلْ تنحتُ داخله، والمقصود هنا "دمقرطة الابداع التشكيلي". إنّ القول بذلك يجعلنا نُفكّر في مسألة الفن المتاح للجميع، وهي فكرة قديمة متجدّدة لمّح لها أصحاب مذهب "البوب آرت" (pop art) في أواسط القرن العشرين. لكن ما تُنبّهُ له خيرة جليل هو سطوة وسائل الاتصال المعاصرة وسلطتها في فتح مجال التشكيل والتواصل والنقد والكتابة، بدون رقيب، مما يدفع للسقوط في مزالق الابتذال والارتجال. أمّا "دمقرطة الابداع التشكيلي" فلا يعدو أن يكون سوى فعل الاعتراف الصريح بالتجارب الفنية الصادقة، التي تنبع من الذات والتي تخاطب الانسانية. وليس حكرا على عَلياء القوم ونبلائه أو أكاديمي عارف بالتقنية ومرجعياتها، بل أيضا كم من عصامي كسر حدود المألوف بعفوية تفكيره وطفولية لعبه التشكيلي.
إنّ "دمقرطة الابداع التشكيلي" هو أريحية النظر والفعل والقبول والتواصل. وهذا ما نحتاجه في عالمنا العربي لدفع عجلة الابداع. وهو أيضا ما جعلت منه خيرة جليل بمثابة "منهجا نقديا" اعتمدته في كتابها "التشكيل بين التأطير والتنظير". حيث عمدت الى اختيار أكثر من عشرة تجارب تشكيلية من داخل المغرب وخارجه، مقياسها الوحيد في ذلك إعتراف ضمني بإبداعية هذه التجارب التشكيلية. فخرجت عن المألوف والمتداول من الأسماء المتكررة والمستهلكة، نحو محاولات إبداعية أخرى تبدو مهجورة ولم تنل الاهتمام اللازم. على غرار مصطفى بن مالك، صليحة مجاطي، امنة فاتن الازهری وربیعة سیکوک وشامة المؤذن، رهف عيد، سعيد العلاوي، شفقت محمود، أحمد الأنصاري، لطيفة مزهار، هند عبد الحميد عبد الغفار أحمد، أحمد محروس.......
ويظهر من خلال أسلوب الكاتبة، أننا بصدد نمط نقدي غير متداول، حيث إتّسم نَفَسها في الكتابة بالسلاسة والوضوح والمباشراتية، وقد أضفى على أسلوبها نوعا من " الواقعية النقدية الجديدة".. فما معنى ذلك؟
إن كل عارف بمجال النقد الفني وخاصة في ميدان الفن التشكيلي، يعلم أنّ نقاد الفن في العالم العربي ـ وعلى قلّتهم ـ يذهبون نحو تصنيف التجارب ودراستها ونقدها بحسب نظريات معلومة لديهم، أو بحسب خلفيات فكرية ما، أو في بعض الأحيان بميول ايديولوجية ضيّقة. وهذا يُكبّل القراءة ويحصرها في أحواز محدودة الآفاق التأويلية. ويُغيّب الفعل الإبداعي مما يفرز نصوصا مغرقة في المفاهيم والنظريات والسياقات التي تنأى عن إنشائية الفعل الإبداعي وتُغيّب حقيقة الفعل والانفعال والتفاعل. لكن ما نلحظه لدى خيرة جليل، هو استحضار واقعي لتجربة الفنان، بتكوينات العمل الفني وعناصره، ووبايحاءاته المرئية واللامرئية. وهي قراءة تستشعر خلالها أنك إزاء كاتب عارف بكنه وأسرار الممارسة التشكيلية. وهذا أساسي في النقد الفني، بل يُذكرنا إذا أردنا الرجوع الى أصول معايشة الفعل التشكيلي، بكتابات " روني باسرون" وأطروحاته الإنشائية (poïétique). مما يُدعّم لدى القارئ قيمة إضافية نحو الوعي بزمنية لحظة الانشاء.
من ثمة، تنكّبت الكاتبة صعاب البحث في المهجور والمتروك والمُهمّش من تجارب المبدعين الذين لم تطلهم الأضواء وبقوا في الظل يعملون بصمت وهدوء. وهو خيار جريء يعكس مصداقية الكاتبة ووعيها الفني. وهذا ما أُسَمّيه بروح الأريحية. فأن تكون ذا أريحية فهذا يعني قدرا كبيرا من الموضوعية والحياد والحرية. وهو ما يوصلنا الى كلمة حرّة ومسؤولة تُعطي استحقاقا كاملا.
وتبدو محاولة خيرة جليل ـ في كتابها " التشكيل بين التأطير والتنظير" ـ بمثابة مساهمة لإثراء المكتبات الجامعية التي تشكو نقصا فادحا في المرجعيات والتجارب التشكيلية العربية. وهو عمل نرفع له القبعة لغاياته النبيلة ولنتائجه المرتقبة على بحوث الطلبة الذين يتذمرون ويشتكون من قلة المراجع المحلية. بل أكثر من ذلك، يستدعي هذا المجهود النقدي المواصلة والمثابرة حتى يتوسع ويصبح مشروعا شاملا يسلط الضوء على جميع المحاولات التشكيلية المغمورة، وهو ما يُسهم في تطويرها وبعثها من جديد. وبذلك الحس النقدي البنّاء تتطوّر وتنهض نحو العالمية.
في: 16 نوفمبر 2019
د. حاتم تراب - جامعة قابس - تونس