تقوم علاقة الأنا بالآخر على إدراك ووعي كل منهما بنفسه وبمن سواه، وفي رسمها لصورة الآخر فإن الأنا غالبا ما ترسم صورتها الذاتية أيضا، فإن تجلت تلك الصورة فى عمل إبداعي فإنها لا تعكس حقيقة الآخر بقدر ما تعكس تصورات الأنا المبدعة عنه، وعن العالم المحيط بها، بل وعن ذاتها أيضا.
والرواية أقدر الفنون تجسيد تلك الإشكالية، بما يتيحه لصوت الأنا من فرصة التعبير عن هواجسه ومخاوفه، "وبقدرتها على تقديم تفاصيل الحياة بكل حقائقها وأوهامها" وليس سوى المدينة فضاء رحبا يتسع لتلك العلاقة بكل تجلياتها وتشابكاتها، سواء استقرت فيها الأنا الساردة أو ارتحلت مبتعدة عنها.
باريس الرمادية
للروائي التونسي الحبيب السالمي عشر روايات، يصوّر فيها الازدواجية التي يحياها الإنسان بعيداً عن وطنه الأصلي، حيث تصبح الذاكرة موزعة بين مكانين، ويصبح سؤالا الهوية والانتماء هما الأكثر إلحاحاً.
يربط الكاتب هذا السؤال بهجرته إلى المدينة التي يشبهها بالتيه، يقول في شهادة إبداعية منشورة: "تونس التي انتقلت إليها مباشرة من الريف كانت مدينة التيه الأول"، أما باريس التي يقيم فيها منذ مايزيد على الثلاثين عاما فيصفها بأنها "مدينة التيه الثاني"، قصدها السالمي باعتبارها أسطورة لكنه وجدها "باريس الرمادية" التي تستنفر حواسه بإيقاعها اللاهث، وبطرحها الدائم لأسئلة الذات ووعيها بنفسها وبالآخر القريب والبعيد في آن واحد.. هذا التيه يظهر في روايتيه "متاهة الرمل" و"حفر دافئة" حيث تبدو باريس مدينة بلا تخوم، مستعصية وعدائية.
متاهة الرمل
تبدأ رواية "متاهة الرمل" ذات صباح حار، والأم تعرض على ابنها آخر صورة أرسلها عمه المغترب بباريس، وآخر رسالة وصلت منه، بعدها إنقطعت أخباره إثر وفاة الأب، يبدو لها كجذر أخير إن تم إجتثاثه سيتيهون في الدنيا، لذا تحث إبنها على السفر بحثا عن عمه، لذا تدور أحداث الرواية في مناطق رحلة البحث. يرويها الباحث بضمير الأنا، وتنتهي بحمله للحقيبة وخروجه عائدا إلى تونس، دون أن يجد على الغائب. فالرواية تجعل من العم الغائب رمزا لكل المهاجرين التوانسة الضائعين في تيه باريس. وهم – وكما هو حال أغلب شخصيات الرواية- مشدودون إلى الوطن، لا أحد منهم ينوي البقاء الدائم في باريس التي تظل منفي، وحتى لم تسع للإندماج في المجتمع الفرنسي، يحكي عنه خليفة العياري: "كان عمك يحدثني عن المشاريع التي يفكر في إنجازها إثر عودته إلى تونس"، خليفة نفسه وقد هجر تونس بحثا عن عمل، يقول "سأحال على التعاقد بعد سنتين، عندئذ سأعود إلى تونس نهائيا". فهجرتهم لم تكن بحثا عن وطن بديل، بل بحثا عن فرصة عمل تسهم في تحسين الأوضاع في الوطن.
المنفيون
في رواية "متاهة الرمل" كان تيه الراوي أول ما واجهنا، يقول الراوي "بالرغم من أنني رسمت خريطة صغيرة للاستعانة بها في التنقل من الحيّ الذي تقيم فيه مدام ميشون إلى المكان الذي أقيم فيه فقد تهت في تلك الممرات الطويلة التي تتقاطع في عدّة أمكنة". وهنا نشارك الناقد محمد البدوي تساؤله "فهل تكون هذه المتاهة بمثابة ضياع الراوي في الحضارة الغربية فتصبح الرحلة بين مكان إقامته و مكان إقامة مدام ميشون على قصرها ووضوحها طويلة محفوفة بمخاطر الضياع والتيه؟ يتأكد هذا المعنى في آخر الرواية فرغم الطول النسبي للمدة التي قضاها الراوي في باريس وتمرّس خلالها بمحطات المترو فهو تائه يبحث عن طريق الخلاص من الممرات الطويلة.
وفي الرواية كثرت الشخصيات التي عانت من التيه، فالشخصيات كلها تضافرت جهودها من أجل استحضار الوطن في المنفى، فتعاملوا مع المكان بشكل ينسيهم الغربة، وفي الرواية لم يصف السالمي باريس ومعالمها المشهورة بل اكتفى بمكانين احتاجتهما المتاهة هما باربيس وبلفيل، ورغم إقامة الراوي في فندق قريب من محطة ليون فإن أغلب الأحداث تدور في حيّ باربيس وهو حيّ أغلب سكانه من العرب وفيه تجد كلّ أنواع المأكولات والملابس والأغاني العربية حتّى لكأن المتجول يحسّ أنه موجود في مكان مغاربي، وخلال تجوال الراوي في الشارع لا يكاد يرى فرنسيا، فقط عرب وأفارقة، ويكاد الأمر يتكرر في "بلفيل" أيضا، فالأحياء العربية في باريس أشبه بالجيتوهات، وتكاد تكون أماكن مغلقة على نفسها، كأنها مدفوعة للانعزال عن المجتمع الفرنسي، ممنوعة من الإندماج فيه، فالراوي أول ما سمع بالمكان من مدام بيشون قرنت الأسم بالتحذير، وفيما بعد نسمع لكهل فرنسي قوله: "فرنسا امتلأت بالأجانب، السود والعرب غزوا بلادنا، فرنسا أصبحت مزبلة".
حفر دافئة
"حفر دافئة" صدرت بعد "متاهة الرمل" بسنوات خمس، وقدم فيها السالمي عوالم وشخصيات شبيهة بما قدمه في سابقتها، فبدت الرواية الثانية وكأنها جزء متمم للأولى، تبدأ الرواية بشكوى الراوي من بطء الليل، ولا عزاء له إلا مفكرة قديمة ملقاة على الطاولة، يفكر في استبدالها بواحدة جديدة لكن لا يجرؤ. فاهتراؤها و إن كان دليلا على تقادمها لكنه يكشف عن ارتباطها بماضيه الصالح للاستدعاء ليؤنسه في ليل الغربة البطىء. والراوي في عزلته، تبدو حجرته الضيقة كحفرة وسط المتاهة، مغترب وحيد ليس بوسعه إلا ان يتذكر، والمفكرة وسيلته لذلك، فيها يتجلى كل ماضيه وإن كان اختزله في أسماء مجردة، وأرقام تليفونات، يبعث الأسماء المجرد فتخرج حكاياتها من بين صفحات المفكرة.
وتتقاطع حكايات ثلاثة شخصيات لا يربط بينها في الظاهر إلا سابق مرورها بحياة الراوي، فأثبتها في المفكرة، فيبدو إستعراضه لحيواتهم وتقاطعها مع حياته وكأنه ينظر في مرايا ليطالع وجه واحد متعدد الأحوال لكنه مسكون بالأسي وترقب الموت، يصف من الشخصيات الثلاثة وجوههم فقط وكأنه يتأملها في مرآة، يتوجس منهم عند بدء علاقته بأي منهم، لأنهم مثله يتفرسون في الوجوه، لكن توثق العلاقات بما يتيحه من ألفة يسمح بتبادل الأحاديث، فتنطلق الألسنة و تكف العيون عن التحديق الصامت في وجوه أشباهه من نزلاء الحفر الدافئة، والحفر هنا يقصد بها بيوت الغرباء وكلها في روايتيه قديمة، ضيقة، غير نظيفة، لكنها تصلح للاحتماء من العراء، فهي ليست سكنا وملاذا بل تشبه القبر بكونها حفرة في الأرض وليست بناء، وربما تمنحها ذكريات الغرباء دفئا يبعثه الحنين إلى بلاد بعيدة، كان قرار العودة إليها واضحا في الرواية الأولى، لكن غبارا كساه في الثانية، ويخفت حلم العودة لدي شخصيات الحبيب السالمي في رواياته التالية، لتستمر في سكنى حفر تملأ المتاهة.
والرواية أقدر الفنون تجسيد تلك الإشكالية، بما يتيحه لصوت الأنا من فرصة التعبير عن هواجسه ومخاوفه، "وبقدرتها على تقديم تفاصيل الحياة بكل حقائقها وأوهامها" وليس سوى المدينة فضاء رحبا يتسع لتلك العلاقة بكل تجلياتها وتشابكاتها، سواء استقرت فيها الأنا الساردة أو ارتحلت مبتعدة عنها.
باريس الرمادية
للروائي التونسي الحبيب السالمي عشر روايات، يصوّر فيها الازدواجية التي يحياها الإنسان بعيداً عن وطنه الأصلي، حيث تصبح الذاكرة موزعة بين مكانين، ويصبح سؤالا الهوية والانتماء هما الأكثر إلحاحاً.
يربط الكاتب هذا السؤال بهجرته إلى المدينة التي يشبهها بالتيه، يقول في شهادة إبداعية منشورة: "تونس التي انتقلت إليها مباشرة من الريف كانت مدينة التيه الأول"، أما باريس التي يقيم فيها منذ مايزيد على الثلاثين عاما فيصفها بأنها "مدينة التيه الثاني"، قصدها السالمي باعتبارها أسطورة لكنه وجدها "باريس الرمادية" التي تستنفر حواسه بإيقاعها اللاهث، وبطرحها الدائم لأسئلة الذات ووعيها بنفسها وبالآخر القريب والبعيد في آن واحد.. هذا التيه يظهر في روايتيه "متاهة الرمل" و"حفر دافئة" حيث تبدو باريس مدينة بلا تخوم، مستعصية وعدائية.
متاهة الرمل
تبدأ رواية "متاهة الرمل" ذات صباح حار، والأم تعرض على ابنها آخر صورة أرسلها عمه المغترب بباريس، وآخر رسالة وصلت منه، بعدها إنقطعت أخباره إثر وفاة الأب، يبدو لها كجذر أخير إن تم إجتثاثه سيتيهون في الدنيا، لذا تحث إبنها على السفر بحثا عن عمه، لذا تدور أحداث الرواية في مناطق رحلة البحث. يرويها الباحث بضمير الأنا، وتنتهي بحمله للحقيبة وخروجه عائدا إلى تونس، دون أن يجد على الغائب. فالرواية تجعل من العم الغائب رمزا لكل المهاجرين التوانسة الضائعين في تيه باريس. وهم – وكما هو حال أغلب شخصيات الرواية- مشدودون إلى الوطن، لا أحد منهم ينوي البقاء الدائم في باريس التي تظل منفي، وحتى لم تسع للإندماج في المجتمع الفرنسي، يحكي عنه خليفة العياري: "كان عمك يحدثني عن المشاريع التي يفكر في إنجازها إثر عودته إلى تونس"، خليفة نفسه وقد هجر تونس بحثا عن عمل، يقول "سأحال على التعاقد بعد سنتين، عندئذ سأعود إلى تونس نهائيا". فهجرتهم لم تكن بحثا عن وطن بديل، بل بحثا عن فرصة عمل تسهم في تحسين الأوضاع في الوطن.
المنفيون
في رواية "متاهة الرمل" كان تيه الراوي أول ما واجهنا، يقول الراوي "بالرغم من أنني رسمت خريطة صغيرة للاستعانة بها في التنقل من الحيّ الذي تقيم فيه مدام ميشون إلى المكان الذي أقيم فيه فقد تهت في تلك الممرات الطويلة التي تتقاطع في عدّة أمكنة". وهنا نشارك الناقد محمد البدوي تساؤله "فهل تكون هذه المتاهة بمثابة ضياع الراوي في الحضارة الغربية فتصبح الرحلة بين مكان إقامته و مكان إقامة مدام ميشون على قصرها ووضوحها طويلة محفوفة بمخاطر الضياع والتيه؟ يتأكد هذا المعنى في آخر الرواية فرغم الطول النسبي للمدة التي قضاها الراوي في باريس وتمرّس خلالها بمحطات المترو فهو تائه يبحث عن طريق الخلاص من الممرات الطويلة.
وفي الرواية كثرت الشخصيات التي عانت من التيه، فالشخصيات كلها تضافرت جهودها من أجل استحضار الوطن في المنفى، فتعاملوا مع المكان بشكل ينسيهم الغربة، وفي الرواية لم يصف السالمي باريس ومعالمها المشهورة بل اكتفى بمكانين احتاجتهما المتاهة هما باربيس وبلفيل، ورغم إقامة الراوي في فندق قريب من محطة ليون فإن أغلب الأحداث تدور في حيّ باربيس وهو حيّ أغلب سكانه من العرب وفيه تجد كلّ أنواع المأكولات والملابس والأغاني العربية حتّى لكأن المتجول يحسّ أنه موجود في مكان مغاربي، وخلال تجوال الراوي في الشارع لا يكاد يرى فرنسيا، فقط عرب وأفارقة، ويكاد الأمر يتكرر في "بلفيل" أيضا، فالأحياء العربية في باريس أشبه بالجيتوهات، وتكاد تكون أماكن مغلقة على نفسها، كأنها مدفوعة للانعزال عن المجتمع الفرنسي، ممنوعة من الإندماج فيه، فالراوي أول ما سمع بالمكان من مدام بيشون قرنت الأسم بالتحذير، وفيما بعد نسمع لكهل فرنسي قوله: "فرنسا امتلأت بالأجانب، السود والعرب غزوا بلادنا، فرنسا أصبحت مزبلة".
حفر دافئة
"حفر دافئة" صدرت بعد "متاهة الرمل" بسنوات خمس، وقدم فيها السالمي عوالم وشخصيات شبيهة بما قدمه في سابقتها، فبدت الرواية الثانية وكأنها جزء متمم للأولى، تبدأ الرواية بشكوى الراوي من بطء الليل، ولا عزاء له إلا مفكرة قديمة ملقاة على الطاولة، يفكر في استبدالها بواحدة جديدة لكن لا يجرؤ. فاهتراؤها و إن كان دليلا على تقادمها لكنه يكشف عن ارتباطها بماضيه الصالح للاستدعاء ليؤنسه في ليل الغربة البطىء. والراوي في عزلته، تبدو حجرته الضيقة كحفرة وسط المتاهة، مغترب وحيد ليس بوسعه إلا ان يتذكر، والمفكرة وسيلته لذلك، فيها يتجلى كل ماضيه وإن كان اختزله في أسماء مجردة، وأرقام تليفونات، يبعث الأسماء المجرد فتخرج حكاياتها من بين صفحات المفكرة.
وتتقاطع حكايات ثلاثة شخصيات لا يربط بينها في الظاهر إلا سابق مرورها بحياة الراوي، فأثبتها في المفكرة، فيبدو إستعراضه لحيواتهم وتقاطعها مع حياته وكأنه ينظر في مرايا ليطالع وجه واحد متعدد الأحوال لكنه مسكون بالأسي وترقب الموت، يصف من الشخصيات الثلاثة وجوههم فقط وكأنه يتأملها في مرآة، يتوجس منهم عند بدء علاقته بأي منهم، لأنهم مثله يتفرسون في الوجوه، لكن توثق العلاقات بما يتيحه من ألفة يسمح بتبادل الأحاديث، فتنطلق الألسنة و تكف العيون عن التحديق الصامت في وجوه أشباهه من نزلاء الحفر الدافئة، والحفر هنا يقصد بها بيوت الغرباء وكلها في روايتيه قديمة، ضيقة، غير نظيفة، لكنها تصلح للاحتماء من العراء، فهي ليست سكنا وملاذا بل تشبه القبر بكونها حفرة في الأرض وليست بناء، وربما تمنحها ذكريات الغرباء دفئا يبعثه الحنين إلى بلاد بعيدة، كان قرار العودة إليها واضحا في الرواية الأولى، لكن غبارا كساه في الثانية، ويخفت حلم العودة لدي شخصيات الحبيب السالمي في رواياته التالية، لتستمر في سكنى حفر تملأ المتاهة.