(كتاب الرسائل من خناثة بنونة)
تعوَّدتُ أن أكتب رسائل الكفران، وفي مَتْنِها غير الديني أُورد كما في مُوجز الأخبار، خواطر وتأمُّلات تجعلني أقف بين الشَّذْرة والشَّفرة التي قدْ تحلق لبعضهم دون ماء في حالة توفُّرهم على وجوه، ولا أحتاج لمغارات كي أسْتوحي هذه التأملات من الأخيار والأشرار، كما لا أقفز عن الواقع إلى الحساب الأُخروي مثلما صنع المعري في رائعته "رسالة الغفران"، فَفئةٌ دون رشوة في الجنة وفئةٌ زجَّها بما اكتسبتْ واحْتطبتْ في النار..!
أكتب رسائل الكفران، ولستُ في رسائلي أُلحِد إلا بواقعٍ يعُمُّه الفساد، ولا أضع نفسي في مرتبة المقارنة مع المعرِّي إذْ ألمح لرسالة الغفران، فأنا لا أملك من الحكمة إلا ما يختلج جريحا في موضع القلب ويُطيِّرُ العقل من موضعه، رغم أنِّي والمعري وباقي البشرية بأجْداثنا نُساهم في تخصيب تربة أديم الأرض، وقد يأتي من يشتريها بالمتر المربع وتصير قيمتنا ونحن رميم أغلى منها في الحياة، ولكن هاهي الأديبة الكبيرة خناثة بنونة تنقذني من رسائل الكفران وتبعث لي رسائل الإيمان محفوفةً بأبْلغ وأجمل إهداء، فكأني وأنا مُستهيمٌ أقرأ عملها الجديد: " كتاب الرسائل من خناثة بنونة"، ما عاد يسعني الحيز بين سطْر وآخر لأهرب من نفسي فبالأحْرى الهروب مما يحاصرنا بفضائحه الفسادُ السياسي والثقافي، والحقيقة أنَّ هذا الكتاب الصادر عن مطبعة البيضاوي في 138 صفحة لعام 2019، سقط من يدي بعد أن شلَّتْها صدْمتي من بعض الأسماء الذين ورَد ذِكرهم في الرسائل، فمنْ لي مع كل هذه القِيم الإنسانية المُنْهارة بيد تُمْسك السماء خوْف أن تقع؟
لا أنْكر أنِّي استمتعتُ بالأسلوب الفريد لأديبتنا خناثة بنونة وهي تبعث هذه الرسائل لزمن غير زمننا قد يولد من رحمه غير العاقر جيل الغضب، فهي تكتب كما لو تضرب حجرا بحجر، ولا تنسى أن تضع بينهما بعض عيدان الثقاب الهزيلة، لتجعلنا وهي تصنع المُفارقة نندلع بشرارة الدهشة، فإما بردا وسلاما للشرفاء والأبرياء أو محكمة كبرى في حضْرة التاريخ لكل من ينُوء بوِزْرِه اتِّهاما..!
إنَّ الرسالة وهي تنساب بحرائقها من عروق خناثة، تصبح سيرة ذاتية لا يمكن مع تدفُّقها الجارف أن تسْتبدل القلم بالقدم للضغط على فرامل البوح، لا رقابة ولا قناع، ومن وقف عائقا أمام الحقائق ليزيِّفها فمآله الاصطدام من الحياة السيَّارة التي لا يقودها نفاق اجتماعي، ومن يبحث في هذه الرسائل عن الشيطان فلن تعوزه الوسائل ليجده في تفاصيل تصلح مادَّة دسمة للصحف التي تدير ناعورة أرباحها بالفضائح، لكنني اكتفيت في رسائل خناثة بنونة، بالجانب الهادىء من العاصفة التي تجعل اللغة تمطر ليصبح الطقس صحوا، اكتفيتُ بالأمل الذي تبثُّه الكاتبة في رسائل كانت تبعثها في ظرف غير مُتَنْبَرٍ ولكنها مختومة بطابع القلب الذي يخفق حبا للمناضلَيِن الفقيه البصري وحميد بودرقة في المنفى، ولعبد القادر الشاوي وهي تبحث له بقلقٍ أسْقَمَها عن منفذٍ للانعتاق من المعتقل، لم تكنْ خناثة بنونة مِلْك نفسها بل أسْدَتْ روحها الحيَّة للجميع، ولا أعرف هل توافقني الرأي وأنا أقول إن بعض من بعثتْ لهم هذه الرسائل لم تصلهم إلى اليوم كلمة من أحرفها، وأنها كانت تنفخ روحها الحيَّة في قِربٍ مثقوبة لا يملأها هواء، أليس الزمن في مِحكَّه أشبه بالغسيل الذي يجعلنا نميِّز بين الانسان الزائف والأصيل؟
قد تطفو بوعينا السذاجة كما يطفو الماء بالفلِّين، إذا نحن وظَّفنا في وصف هذه الرسائل عبارات جاهزة ومتداولة كالنقود التي تُضرب في دار السكة، من قبيل: إنها شهادة صادقة عن عصرها، أو إنها وثيقة للتاريخ والذكرى، فمثل هذه العبارات لا تصلح إلا لتحنيط أثمن أشيائنا في المتاحف جَلْباً للسياح، أمَّا وبعد أنْ أُصِبْتُ بعدوى المثقف الأشْبه بالأشعَّة التي يستعملها الأطباء في التشريح الدقيق، فقد صرتُ أقرأ دون أن أسْلم من الأمراض الكامنة تحت السطور، لذلك أعتبر رسائل خناثة بنونة كشْف حسابٍ ليس لرصيدٍ بنكي، ولكن لقلب إنساني كبير يَبْكي الموت الذي حاق ببعض الضمائر، فباعتْ بأرخص التنازلات في الحاضر مع البلد، مواقفها النِّضالية التي كانت مُشرِّفة بالتضحيات قبل أنْ ينقلب المعطف في غفلة من المرآة، ويتحول كل شيء إلى مجرد موعدٍ رومانسي تحت الجسر حيث جرى نزيف كثير، وليْتها تعلم أن كل الأجيال القادمة كانت على نفس الدَّرب لو أكملتِ الطريق، كُنَّا ربما سنصل جميعا اليوم، إلى أبْعد من الحلم الذي يرمي لأجله اليوم الشباب أنفسهم في البحر وهم يهاجرون سراً بحثا عن وطن جديد، ولكن ماذا نصْنع وقد انقلب حلم العيش الكريم بسبب الخذلان إلى جدار..!
ولا غرابة إذْ أجد هذه الأديبة الناسكة تسْتأصل من النسيان جزءاً من حياتها كي تنشره في رسائل لكل غاية مفيدة بين الناس، ولا يخلو بعض ما استأصلته من أورام خبيثة، ولأنِّي تعرَّفت عن قرب على روحها المرحة، فالأكيد أنها تُجلْجل الآن ضحكا ليس سخرية من العالم، بل ممن يقيمون فيه دون أن يعثروا إلى اليوم على أنفسهم في كل الأزمنة التي ضيَّعوها بعد أن فقدوا الوفاء، أكرِّر لاغرابة، فخناثة بنونة كما عهدْناها لا تمُدُّ يداً للكتابة إلا لتضعها في النَّار، مع يقين مُسْبقٍ أن الثَّمن سيكون باهظا بهذا الاختيار..!
محمد بشكار
(افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليومه الخميس 28 نونبر 2019)
https://www.facebook.com/mohamed.bachkar.1/posts/10220413549670320
تعوَّدتُ أن أكتب رسائل الكفران، وفي مَتْنِها غير الديني أُورد كما في مُوجز الأخبار، خواطر وتأمُّلات تجعلني أقف بين الشَّذْرة والشَّفرة التي قدْ تحلق لبعضهم دون ماء في حالة توفُّرهم على وجوه، ولا أحتاج لمغارات كي أسْتوحي هذه التأملات من الأخيار والأشرار، كما لا أقفز عن الواقع إلى الحساب الأُخروي مثلما صنع المعري في رائعته "رسالة الغفران"، فَفئةٌ دون رشوة في الجنة وفئةٌ زجَّها بما اكتسبتْ واحْتطبتْ في النار..!
أكتب رسائل الكفران، ولستُ في رسائلي أُلحِد إلا بواقعٍ يعُمُّه الفساد، ولا أضع نفسي في مرتبة المقارنة مع المعرِّي إذْ ألمح لرسالة الغفران، فأنا لا أملك من الحكمة إلا ما يختلج جريحا في موضع القلب ويُطيِّرُ العقل من موضعه، رغم أنِّي والمعري وباقي البشرية بأجْداثنا نُساهم في تخصيب تربة أديم الأرض، وقد يأتي من يشتريها بالمتر المربع وتصير قيمتنا ونحن رميم أغلى منها في الحياة، ولكن هاهي الأديبة الكبيرة خناثة بنونة تنقذني من رسائل الكفران وتبعث لي رسائل الإيمان محفوفةً بأبْلغ وأجمل إهداء، فكأني وأنا مُستهيمٌ أقرأ عملها الجديد: " كتاب الرسائل من خناثة بنونة"، ما عاد يسعني الحيز بين سطْر وآخر لأهرب من نفسي فبالأحْرى الهروب مما يحاصرنا بفضائحه الفسادُ السياسي والثقافي، والحقيقة أنَّ هذا الكتاب الصادر عن مطبعة البيضاوي في 138 صفحة لعام 2019، سقط من يدي بعد أن شلَّتْها صدْمتي من بعض الأسماء الذين ورَد ذِكرهم في الرسائل، فمنْ لي مع كل هذه القِيم الإنسانية المُنْهارة بيد تُمْسك السماء خوْف أن تقع؟
لا أنْكر أنِّي استمتعتُ بالأسلوب الفريد لأديبتنا خناثة بنونة وهي تبعث هذه الرسائل لزمن غير زمننا قد يولد من رحمه غير العاقر جيل الغضب، فهي تكتب كما لو تضرب حجرا بحجر، ولا تنسى أن تضع بينهما بعض عيدان الثقاب الهزيلة، لتجعلنا وهي تصنع المُفارقة نندلع بشرارة الدهشة، فإما بردا وسلاما للشرفاء والأبرياء أو محكمة كبرى في حضْرة التاريخ لكل من ينُوء بوِزْرِه اتِّهاما..!
إنَّ الرسالة وهي تنساب بحرائقها من عروق خناثة، تصبح سيرة ذاتية لا يمكن مع تدفُّقها الجارف أن تسْتبدل القلم بالقدم للضغط على فرامل البوح، لا رقابة ولا قناع، ومن وقف عائقا أمام الحقائق ليزيِّفها فمآله الاصطدام من الحياة السيَّارة التي لا يقودها نفاق اجتماعي، ومن يبحث في هذه الرسائل عن الشيطان فلن تعوزه الوسائل ليجده في تفاصيل تصلح مادَّة دسمة للصحف التي تدير ناعورة أرباحها بالفضائح، لكنني اكتفيت في رسائل خناثة بنونة، بالجانب الهادىء من العاصفة التي تجعل اللغة تمطر ليصبح الطقس صحوا، اكتفيتُ بالأمل الذي تبثُّه الكاتبة في رسائل كانت تبعثها في ظرف غير مُتَنْبَرٍ ولكنها مختومة بطابع القلب الذي يخفق حبا للمناضلَيِن الفقيه البصري وحميد بودرقة في المنفى، ولعبد القادر الشاوي وهي تبحث له بقلقٍ أسْقَمَها عن منفذٍ للانعتاق من المعتقل، لم تكنْ خناثة بنونة مِلْك نفسها بل أسْدَتْ روحها الحيَّة للجميع، ولا أعرف هل توافقني الرأي وأنا أقول إن بعض من بعثتْ لهم هذه الرسائل لم تصلهم إلى اليوم كلمة من أحرفها، وأنها كانت تنفخ روحها الحيَّة في قِربٍ مثقوبة لا يملأها هواء، أليس الزمن في مِحكَّه أشبه بالغسيل الذي يجعلنا نميِّز بين الانسان الزائف والأصيل؟
قد تطفو بوعينا السذاجة كما يطفو الماء بالفلِّين، إذا نحن وظَّفنا في وصف هذه الرسائل عبارات جاهزة ومتداولة كالنقود التي تُضرب في دار السكة، من قبيل: إنها شهادة صادقة عن عصرها، أو إنها وثيقة للتاريخ والذكرى، فمثل هذه العبارات لا تصلح إلا لتحنيط أثمن أشيائنا في المتاحف جَلْباً للسياح، أمَّا وبعد أنْ أُصِبْتُ بعدوى المثقف الأشْبه بالأشعَّة التي يستعملها الأطباء في التشريح الدقيق، فقد صرتُ أقرأ دون أن أسْلم من الأمراض الكامنة تحت السطور، لذلك أعتبر رسائل خناثة بنونة كشْف حسابٍ ليس لرصيدٍ بنكي، ولكن لقلب إنساني كبير يَبْكي الموت الذي حاق ببعض الضمائر، فباعتْ بأرخص التنازلات في الحاضر مع البلد، مواقفها النِّضالية التي كانت مُشرِّفة بالتضحيات قبل أنْ ينقلب المعطف في غفلة من المرآة، ويتحول كل شيء إلى مجرد موعدٍ رومانسي تحت الجسر حيث جرى نزيف كثير، وليْتها تعلم أن كل الأجيال القادمة كانت على نفس الدَّرب لو أكملتِ الطريق، كُنَّا ربما سنصل جميعا اليوم، إلى أبْعد من الحلم الذي يرمي لأجله اليوم الشباب أنفسهم في البحر وهم يهاجرون سراً بحثا عن وطن جديد، ولكن ماذا نصْنع وقد انقلب حلم العيش الكريم بسبب الخذلان إلى جدار..!
ولا غرابة إذْ أجد هذه الأديبة الناسكة تسْتأصل من النسيان جزءاً من حياتها كي تنشره في رسائل لكل غاية مفيدة بين الناس، ولا يخلو بعض ما استأصلته من أورام خبيثة، ولأنِّي تعرَّفت عن قرب على روحها المرحة، فالأكيد أنها تُجلْجل الآن ضحكا ليس سخرية من العالم، بل ممن يقيمون فيه دون أن يعثروا إلى اليوم على أنفسهم في كل الأزمنة التي ضيَّعوها بعد أن فقدوا الوفاء، أكرِّر لاغرابة، فخناثة بنونة كما عهدْناها لا تمُدُّ يداً للكتابة إلا لتضعها في النَّار، مع يقين مُسْبقٍ أن الثَّمن سيكون باهظا بهذا الاختيار..!
محمد بشكار
(افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليومه الخميس 28 نونبر 2019)
https://www.facebook.com/mohamed.bachkar.1/posts/10220413549670320