أحمد أبو خنيجر - تبة عزيزة‏.. قصة قصيرة

-‏ أهلا يا بطل‏.‏ بلاد لا تختلف عن بلادنا‏,‏ نفس الدروب المتعرجة و الحقول الضيقة‏,‏ ونفس الوجوه الفرحة بالنصر و التي تقف لدي رؤيتها للذي يرتدي الزي العسكري‏,‏ تجري نحوه وتأخذه في حضنها‏,‏ تلتف حوله تسأل عن أخبار الحرب‏,‏ يقدمون الأكل و السجائر‏,‏ يجرونه نحو أقرب المساطب و تخرج الطبلية العامرة بخيرها مع براد الشاي‏,‏ الوجه يصبح اثنين حتي يصير جمعا كبيرا‏,‏ تستمع بتلهف لما يقال‏;‏ منذ أن تركت القطار و لا أقدر أن أتحرك بحرية‏,‏ خطوات ثم أتوقف‏,‏ حين أهم بالسؤال عن أهل دياب‏,‏ تكون أسئلة كثيرة قد انهالت تستفسر عنه‏:‏ هل رأيته؟ لماذا لم يعد؟ هل استشهد أم هو مجروح؟ و لم أدر بم أجيب‏.‏
حدثني فقال‏:‏
بلادنا يا جرجس الناس فيها عائلة واحدة رغم الخلافات و المشاكل التي تقع بينهم‏,‏ لكنهم لا ينسون أن أباهم واحد وأمهم واحدة‏,‏ قبيلة واحدة رغم تعدد النجوع‏.‏
‏-‏ أهلا بالبطل‏.‏
و كنت انتزعت نفسي من بين أحضان الأهل و القرية كلها‏,‏ و التي أخذت تقيم الولائم لنا نحن العائدين من الحرب‏,‏ حتي الذين استشهد أبناؤهم أيضا يولمون ويأتون بالمقرئ ليقرأ القرآن و المغنواتية و تهيص الليالي‏,‏ و كأنه فرح دأئم و الكل صاحبه‏,‏ العائدون يتبارون في قص البطولات والأحداث التي شاهدوها‏,‏ كانوا يملكون الكثير من الحكايات‏,‏ و كنت أستغرب هذا‏,‏ أنا الذي لم يكن لدي سوي حكاية واحدة‏,‏ حكايتك يا‏'‏ دياب‏';‏ كنت أحكي لهم و أراك أمامي تضحك و بعيني تنزل الدموع‏.‏
حين أيقظتني زوجتي ذات ليلة و الهلع باد في وجهها‏,‏ و باقي الكلمات ما تزال بصدري‏'‏ الأمانة يا جرجس‏..‏ الأمانة‏'.‏ و كان صوتك با دياب فاخذت قطار الفجر المتجه جنوبا حيث أهلك‏,‏ تذكر لقائنا بالجيش أول مرة‏,‏ استغربت أنت و أستغربت أنا من اسمك‏'‏ دياب‏'‏ و تساءلت بضحكة كبيرة‏:‏ هل تكثر الذئاب ببلادكم‏.‏
حدثني فقال‏:‏
للسيرة الهلالية كان أبي عاشقا‏,‏ يحفظ أجزاءها شعرا يغنيه مع الشاعر و كان مغرما بالتغريبة‏,‏ و كان دائما يقف في صف الزناتي خليفة و يراه أكثر فتونة من أبي زيد الهلالي في أمور الحرب و الطعان‏,‏ كان يقول عنه‏:‏
في الحروب زي الخليفة ما رأيت
فتوة غايظ نديده
حربته تيتم الواد و البيت
حدش يقدر يكيده‏.‏
حين أنجب أبي أخي الأكبر أسماه خليفة‏,‏ لكنه مات و هو ضغير و دياب ابن غانم جاء بحربته ليجندل الخليفة و كنت لتوي ولدت‏,‏ زعل أبي كثيرا و تخانق مع الشاعر‏,‏ لكنه في النهاية لنفسه قال‏:‏ لابد أن يكون هذا ال‏'‏ دياب‏'‏ أشد من الخليفة فأسماني دياب‏,‏ و ها نحن نعيش الآن في التغريبة‏.‏
و حدثني فقال‏:‏
هل تصدق يا جرجس أنك أول مسيحي أكلمه و أصاحبه أيضا‏,‏ نجوعنا كلها ليس بها مسيحي واحد‏,‏ أليس هذا غريبا‏!!‏
‏-‏ تفضل با بطل‏.‏
عبر الدروب يقودونني إلي بيت والد دياب‏,‏ موكب يأخذ في الازدياد كلما تحركنا و بصعوبة إلي الأمام‏,‏ العيال تجري أمامنا تدق علي الأبواب فيخرج الرجال ينضمون للموكب‏,‏ يسلمون علي‏,‏ بالحضن يأخذوني و الواحد منهم يحلف بالطلاق أن آخذ تحيته‏,‏ النساء يضممن لمؤخرة الموكب‏,‏ هل بينهن عزيزة‏,‏ تري أي واحدة هي؟
حدثني فقال‏:‏
عزيزة مهرة الروح الجموح‏,‏ وقدة القلب في خضاره‏,‏ ابنة العم هي‏,‏ و عمي كان عاشقا للسيرة أيضا‏,‏ لكنه كان يميل إلي أبي زيد‏,‏ لذا أصر علي أن يسمي أخي الأصغر مني يونس‏,‏ و أسمي أبنته التي ولدت بعده عزيزة‏,‏ و قرأ هو و أبي فاتحتها لي‏,‏ كنت وقتها أجري بالدروب ألاعب العيال بالسيف الجريد من فوق حصاني الجريد‏,‏ لكنها بسرعة كبرت و رأيت خراط البنات قد خرطها و صارت عيوننا تترصد الطريق و الموردة وبيت الجد و حكايات الجدة‏.‏
‏-‏ من هنا يا بطل‏.‏
يدي تمتد إلي جيب السترة تتحسس المنديل‏_‏ الأمانة‏-‏ و بالجيب الآخر حافظة أوراقه‏,‏ فأشعر كأن سكينا انغرزت بجنبي بغتة فأجفل وسط الطريق‏,‏ تمتد أيدي الرجال تسندني‏,‏ أتظاهر بأنني تعثرت بحجارة الشارع‏,‏ و أبتسم للوجوه البشوشة من حولي‏.‏
حدثني فقال‏:‏
قلبك رهيف يا جرجس‏,‏ قوي قلبك يا رجل‏,‏ الحرب محتاجة قوة القلوب و عزم السواعد‏,‏ أحسن لك تفطر بدل ما أنت صائم رمضان معنا‏.‏ قلت لك‏:‏ ساعة الحرب تتغير كل حاجة‏,‏ و الرسول‏(‏ص‏)‏ في بدر جعل المسلمين بفطرون‏.‏ رحت تضحك و تقص علي حلمك الغريب‏:'‏ طائر أبيض مثل الحليب يطير تجاه الشرق و بعبر فوق الماء و يجط هناك فوق أحد التلال الرملية و كتب عزيزة بلون أحمر‏,‏ ثم طار تجاه السماء متحولا إلي سحابة بيضاء كبيرة‏'.‏
تقول‏:‏ هناك سأموت‏,‏ هذه المرة هي الحرب يا جرجس‏,‏ و أنا سأموت هناك‏..‏ سنعبر إليهم و نضربهم و نطردهم من أرضنا‏.‏ وجهك يشرق و يطل بريق من عينيك و هو يواجه الضفة الأخري‏;‏ تقول‏:‏ هانت‏..‏ سآتيك يا حبيبتي‏.‏ و أنا أتساءل‏:‏ هل يحدث و نعبر القناة إليهم؟ الوقت طال و الصدر ضاق‏,‏ و أعلق علي حلمك‏:‏ تخاريف‏.‏ فتزعل و تقول‏:‏ العلام كان يضرب الرمل لكني أفسر الأحلام‏,‏ و إذا حدث ما قلت لك سيلزمك المشوار حتي تقابل أبي و عزيزة‏.‏
قالت زوجتي‏:‏ متي تعود؟ قلت‏:‏ كنت أتمني أن يقوم هو بهذا المشوار بدلا مني و يأتي إلي هنا‏,‏ لكنه يومها‏_‏ الخميس الحادي عشر من أكتوبر و الخامس عشر من رمضان‏_‏ ونحن نفطر سويا قال‏:‏ هذا آخر إفطار لي بالدنيا‏,‏ غدا سأفطر بالجنة‏.‏ و رمي ما بيده من طعام‏,‏ قال‏:‏ و الله كأني أشم ريح الجنة‏.‏ قلت‏:‏ وسط البارود و الدم؟ قال‏:‏ نعم‏.‏
كنا لتونا استطعنا أن نصد الهجوم الثاني للدبابات الاسرائيلية و المدرعات في محاولة يائسة منهم لاسترداد الموقع‏_‏ تبة المثلثات‏-‏ و التي تشكل بروزا مؤثرا علي خط المرتفعات في عمق‏15‏ كيلو متر شرق القناة‏,‏ و تسيطر علي منطقة الهواويس و التي هي موقع حاكم للغاية في المنطقة‏,‏ كنا قد استولينا علي هذه التبة أثناء تقدمنا علي الطريق الأوسط بنجاح تام و دون مقاومة تذكر حيث فر الجنود الذين لا يقهرون‏;‏ قال القائد‏:‏ بعد نجاحنا في صد الهجوم الثاني و الذي كان جنونيا‏,‏ علينا أن نستعد للهجوم الذي سيقوم به العدو في صبح الغد‏.‏ ثم راح يوضح لنا أن العدو سيقوم بقصف الموقع بطائراته و سيجري عملية إبرار واسعة للجنود و المعدات كي يسترد الموقع‏,‏ لكننا هنا سنقاتل لآخر طلقة وآخر رجل‏;‏ كان الحماس بداخلنا يشتد لمواجهة الغد‏,‏ أكمل القائد‏:‏ كما رأيتم إن خسائرنا قد زادت‏,‏ لذا علينا أن نستخدم مكيدة الحرب و خداعهم‏.‏ كان عددنا لا يتجاوز ال‏35‏ فردا وبعض الجرحي‏,‏ لكن صهيل القتال و عزم الرجال جعلنا نصرخ‏:‏ الله أكبر‏.‏ قال القائد‏:‏ سنقوم بدفع سرية تختبئ خلف الموقع و تظل مستعدة باستمرار لمهاجمة العدو في حالة قيامه بالإبرار‏.‏
كنت أنا و أنت يا دياب لم نفترق منذ أن دخلنا الجيش‏,‏ حتي الأجازات القصيرة كنا ننزلها مع بعضنا‏,‏ و هكذا أيضا كنا ضمن السرية المختبئة في أحد الوديان خلف الموقع‏,‏ وفعلا في العاشرة والنصف من صباح الجمعة بدأ العدو في عملية الإبرار الواسعة خلف و أمام الموقع علي مراحل‏,‏ عربات مجنزرة بأطقمها يتم إبرارها‏,‏ في حين يتقدم طابور من المدرعات صوب التبة‏,‏ تبة عزيزة كما أسميتها يا دياب‏.‏
فتحت أبواب الجحيم و الجنون‏,‏ بدأوا يطلقون النيران في كل الاتجاهات حتي يبطلوا أي مقاومة‏,‏ يصاحب ذلك قصف جوي عنيف‏,‏ و الدبابات تلقي بداناتها تدك الموقع‏,‏ صبر القائد‏..‏ صبر حتي أمرنا بالهجوم‏.‏
كانوا أمامنا ببطن الوادي‏,‏ و رأيتك يا دياب و رأيتني و الرجال كما الوحوش نتقدم بصدورنا للاقتحام‏,‏ و بدأنا في الاصطياد و أخذنا نلاعبهم مستغلين طبيعة المكان‏,‏ في نفس الوقت كان القائد قد أعطي الأمر لكتيبة دبابات تؤمنها كتيبة صواريخ لصد دبابات العدو و إحباط هجومه و منعه من الوصول للتبة‏.‏
بوغت العدو بالهجوم عليه من الخلف و الأجناب أثناء اشتباكه في قتال ضار مع قوة الموقع‏,‏ و أصيبت خطوطه بالارتباك و أخد في الارتداد و الفرار متعجلا فوقع في شراك حقل الألغام الذي تمت زراعته ليلا‏,‏ توالي قتلاهم وخسائرهم‏,‏ و افترشت الوادي الجثث و تطايرت الشظايا‏,‏ وأصبت يا دياب في صدرك وأنا في ذراعي وراح الدم ينزف‏,‏ و رأيت يا دياب إحدي دباباتهم تفر هاربة ومن برجها يطلق أحد الجنود النيران بجنون علينا نحن المختبئين علي جانبي الخور‏,‏ قلت‏:‏ ها الجنة قد قربت‏.‏ بهت و رأيت وجهك يشرق بنور بهي‏,‏ تزعق في‏:‏ اطلق عليه النار‏,‏ لا تجعله يمسك بالمدفع حتي أصل للدبابة‏.‏
ألقيت سلاحك و اندفعت تجري خلف الدبابة و أنت تجهز القنبلة التي بيدك‏,‏ صرخت‏:‏ دعني أقوم بهذا‏.‏ لكنك جريت‏,‏ و أنهمر الرصاص حولك‏,‏ رأيتك تترنح‏,‏ وقفت و أنا أصرخ‏:‏ يا‏...!!..‏ و أطلقت النار بكل غلي علي الدبابة فنزل الجندي إلي داخلها‏,‏ و أنت تجري و تلحق بها و تعتليها‏,‏ تلقي بالقنبلة داخلها و تقفز للخلف‏,‏ دوي الإنفجار و توقفت الدبابة وسط الصراخ منغرزة في الرمال‏,‏ نحوك جريت‏..‏ ممددا علي الأرض كنت و دمك ينزف بغزارة من كل جسدك يروي الرمل‏/‏ الأرض‏,‏ من جيبك أخرجت المنديل‏,‏ و كبشت من الرمال المتشربة دمك و عقدت عليها المنديل و أعطيته لي‏,‏ قلت‏:‏ وجب عليك المشوار‏..‏ اعطي هذا المنديل ليونس أخي و قل له هو وأبي‏:‏ هذا مهر عزيزة التي يجب أن تتزوج بيونس‏,‏ و الذي عليه أن يحتفظ بالمنديل و بما فيه‏,‏ هذه وصيتي‏.‏
حدثني فقال‏:‏
المنديل صنعته عزيزة‏,‏ و في أجازتي الأخيرة يوم رحيلي أعطته لي‏,‏ كانت الدموع بعينيها‏,‏ هل رأت الحلم قبلي‏,‏ و عرفت أن هذا منديل شرفها‏,‏ منديل طهرها‏;‏ حين رف المنديل أمام عيني رأيت مطرزة به صورة لدياب فوق حصانه و حربته الطويلة بيده‏,‏ ناظرا صوب القلعة العالية التي يطل من فوقها خليفة الزناتي‏.‏
‏-‏ خلاص وصلنا يا بطل‏.‏
فسحة صغيرة أمام بيت مطلي بالجير الأبيض حديثا‏,‏ الحوائط مزينة برسوم لطائرات و دبابات و جنود و قنابل و دخان و أرض معركة و هناك علي أحد التلال يقف دياب رافعا العلم و قد أصابته طلقة فاستند لصاري العلم‏,‏ و فوق الباب كتب‏:‏ هذا منزل الشهيد دياب ابن البلد‏.‏ أعلي الدار ترتفع رايات خضراء و كبيرة بها أهلة و نجوم بيضاء‏.‏
حين إنفتح الباب انطلقت زغرودة من داخل الدار و علي الفور تجاوبت معها زغاريد من الخلف‏,‏ حيث النساء‏,‏ و راحت الزغاريد تتعالي و ترتفع‏.‏


أحمد أبو خنيجر
نشر في الأهرام اليومي يوم 08 - 10 - 2010

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...