وصلتني رسالة من القاص القطيب محمد التناني مرفقة بهذه القصة القصيرة جدا، وطلب مني قراءتها وإبداء الرأي فيها ، فكتبت هذه الاستنتاجات والخواطر، وبعثتها مع ردّ جوابي إلى الأديب ، وارتأيت تعميمها ونشرها في هذه الدوحة.
-------------------------
"مراسيم زفاف"
(( في حضرة القسّ بالكنيسة، وقف شاب مع خطيبته ينتظران انتهاء مراسيم الزفاف.
صاح القسّ:
- انتظرا بركاتي
تلوّت الفتاة بحضن خطيبها أفعى !!
مدّت عنقها نحو القسّ . وضعت على أنامله الرقيقة قبلتها.
صاح الشابّ :
- ومن يبارك زفافنا؟
فردت في فحيح:
- لسنا في حاجة بعد الآن لبركة أي أحد !!.))
الأديب القاصّ القطيب محمد التناني
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
قراءة سردية دلالية تأويلية للقصة القصيرة جدا ( مراسيم زفاف).
ذ. أحمد القطيب
يقدم هذا النص السردي القصير قوىً آدمية ثلاثة، يُؤطّر علاقاتِها برنامجان سرديان متعاكسان؛ برنامج الزواج المرتهن إلى الفضاء الديني ( الكنيسة) وإلى بركات القس مسيّر هذا الفضاء وطقوسـه، الرّامز إلى الطهرانية والخيْرية الإيمانية بشكل عام ؛ والبرنامج السردي الثاني، برنامج معاكس أفشل البرنامج الأول، وحوّل الطقس إلى جوّ جنائزي،دالّتُه القتل والموت والاستحواذ ، ضمن محور الشر العام ، الذي يقابل محور الخير، ومن هنا فإن محور الرغبة يصل بين شخصية الشاب وموضوع ( الزواج المبارك). وما الكنيسةُ والقسُّ إلا عاملان مساعدان على الوصول إلى الموضوع، أما المعيق فهو الفتاة التي تحولت إلى برنامج مضادّ. أما المُرسِل المحفّز لامتلاك الموضوع ضمن محور التواصل فهو الإيمان والخير عموما... أما الفتاة فهي ظاهريا تدخل في برنامج الخطيب بشكل صوري أوّلي، وسرعان ما تبنّت برنامجا مضادا كما أسلفنا، وموضوع الرغبة فيه، قتْل القسّ كهدف وسيط للاستحواذ الجسدي على الشّاب كموضوع متبنّى، أما المرسِل هنا فهو الشرّ كقيمة عامة،أما محور الصراع فبين المساعد ( الشيطان) و المعيقين بالتعاكس ( القسّ والشاب)، لكن هذين بموجب سرعة التحويل والحسم فشلا في الإعاقة، وانتصر برنامج الشر على برنامج الخير. ولا غرو أن إرسالية الخير تتجه إلى مرسلين إليهم متعددين هم أهل البرّ من الخيّرين، وإرسالية الشر تتجه إلى عموم أهل الشرّ ومريديه، وما ذاتا الرغبة في كلا البرنامجين ( الشاب+الفتاة) إلا تمثيلان مصغّران يراد بهما التعميم ؛ لأن الفتاة إبدال للأنثى، والشاب إبدال للرجل، والقس رمز للخير والشيطان الحاضر الغائب رمز للشركما ورد..
ولعلنا من خلال استنطاق البرنامج العامليّ وعلاقاته، نضع اليد على مسار للسردية يسير من الإيجاب إلى السلب، المتجسدِ في فشل البرنامج الخيْري ، اعتمادا على برنامج وسيط ، هو تحوّل الفتاة المفاجئ من آدمية إلى حيّة سامة، ذات فحيح ( بالصوت والصورة)، فاستطاعت الالتواء بحضن الفتى وعليه، ثم قبّلتْ أنامل القس فأرْدته قتيلا لتُحكم الطوق على (( جسد)) الشاب بدل روحه.
ويفاجئنا النسيج السردي بقفز سردي يلغي ما جرى بعد التقبيل، والقفز هنا يمكّن من تكثيف الوقائع والإخلاص للنمط السردي المرهّن بقصر زمن السرد بالمقارنة مع زمن القصة.. وهذا المحذوف يرمّمه القارئ الذي يختزن (( السيناريو)) الغائب اعتمادا على توقعاته وتجاربه السابقة فصياح الشاب الفزِع ( من يباركنا؟) كافٍ لتصور الحدث الدرامي الغائب وهو (( سقط القس ميتاً)).. وللحذف جدوى تداولية أخرى هي دفع المتلقي إلى المشاركة الإنتاجية بانيا للنص، لا متلقيا فحسب.
ولنا أن نطرح السؤال مع مرسم هذه النهاية المأساوية عن مقصدية هذا النص ومغزاه..
**فهل سيرورة الأحداث إيحاء بحتمية الشرّ وعُلوّه وانتصاره على الخير ؟؟
لنترك فرضيتنا جانبا إلى حينٍ.. ولنستعنْ بإحالات ( خارجْ نصيّة) من التاريخ والمجتمع والثقافة ، لفهم بعض رسائل النص ومغازيه.
إن الزواج في جميع الديانات السماوية ، ميثاق مقدس ، ولم يستحضر النص الفضاء الكنسي والمرجعية المسيحية إلا للتمثيل بالمفهوم الطهراني المقدس لهذا الميثاق في الديانات جميعها، ومع ذلك فإن في الطقوس الكنسية ما يقرّبنا من أبعاد النص المأمولة، فالزواج المسيحي بركة الروح المقدس، والزواج كنيسة صغرى، يتعذر فيها الطلاق إلا بموجب قوي وهو ( الزنى) فالزواج زواج الروح بالجسد، والزنى موت الروح على الجسد وبه، وتنصّ العقيدة المسيحية على أن الزواج يفضي إلى أن يكون الاثنان واحدا، والجسدان جسدا ، فلا يفصل بينهما إلا الموت، لكن الطقس الكنسي يقتضي أن يلبس الرجل خاتم الفضة ، وتلبس العروس خاتم الذهب... ألا يوحي هذا التضاد في المعدن ، باختلاف معدن الرجل ومعدن المرأة طبعا وتفكيرا ومشاعرَ؟؟ ثم إن أهم مرحلة في مباركة الزوجين من لدن القسّ أن يكلّلهما بالزهور كما تفعل المجتمعات القديمة بالأبطال المنتصرين، فأولئك انتصروا على عدو ظاهر، والزوجان يكلّلان لأنهما بالزواج انتصرا على الغرائز والرذيلة، وانتصرت روحاهما على غرائز الجسد المحرّمة... ولنقل (الزنى) وكفى... ثم لاحظ معي مدلول التواء الفتاة بجسدها حية تسعى في حضن الفتى!! أليس هذا تحوّلا من زواج مقدس إلى تزاوج مدنّس ، لأن لازمة القسّ الذي يمثل سلطة السماء غُيّبَ وغيّبت البركة والمباركة بموته، فتحول الميثاق الروحي الطهراني إلى تعاقد جسدي يحيا ويموت في الطين، أما وقد عرفنا عرّاب الزواج المقدس وهو القسّ أو رجل الدين، وعرفْنا عرّاب العلاقة المحرمة وهو الشيطان، فلنفهم أن لعبة الشيطان هي المرأة ، ولعبة المرأة هي الرجل وسلاحها الجسد..
ألم يخلق الرجل صيادا ماهرا في المجتمعات البدائية، يؤمّن الصيد للمرأة، ويصارع الوحوش بصلابة، وجسارة، لكنه مع قوته يستسلم للمرأة وسحرها،فتغلب بقلبها عقلَه، وبدهائها حكمته، وبضعفها قوته، ولا تنْسَ في هذا السياق ما وقع في أوروبا ذات مرّة في عصور ظلماتها من اجتماع رجال الدين في مؤتمر كبير للجواب عن هذا السؤال: ( هل المرأة إنسان أم شيطان؟؟)
إن هذه القصة الومضة على وجازتها اختارت حقلا دلاليا نابضا بالرمزية؛ لبناء مقاصدها الرّسالية، معتمدة على لحظة مثيرة للدرامية، ومثيرة لقلق السؤال، حين تحولت الكنيسة من فضاء مقدّس إلى فضاء مدنّس وحين تحول الزواج كطقس بشري من أجل التوليد والتكثير الذي تمتد به الحياة ، إلى فضاء القتل الذي يمتد به الموت والأسْر الذي يشبه الموت ويقود إليه.. فالقسّ مقتول جسدا وروحا، والشاب مأسورٌ جسدا مقتولٌ روحا ، لأنه حين فقد الاختيار فقد الحرية.
أما اختيار ( الحية) قناعا ثانيا للمرأة، فهو يطابق ما أرسته الأساطير القديمة والميثولوجيات عن هذا المخلوق ؛ فالشعوب القديمة نظرت إلى الأفعى بمنظورين مختلفين يتقابلان تارة ، ويتجاوران ويتكاملان أحيانا مثلما ننظر إلى المرأة بمنظار أمومتها تارة، وبمنظار غوايتها في العين الذكورية تارة أخرى.
المنظور الإيجابي: ترمز الحيّة إلى الخصوبة والحياة لقدرتها على التكيف ، والاختباء في بطن الأرض والصبر على البرد والمطر والجوع مُددا طويلة،وكانت بعض الشعوب قديما، تستعمل الأفاعي في الطقوس التعبدية أو في الرقص، لتجديد خصوبة الأرض،وقد تطلقها في الحقول ، لضمان محصول جيد.. كما اعتُبرت الحية رمزا للبعث، لأنها تخرج من جلدها أكثر نضارة، وتلتصق بالأرض بكل جزء من أجزاء جسمها..
المنظور السلبيّ:
في المعتقدات المصرية القديمة سمّوا الحية المتوحشة بــــــ( أبي فيس) واعتبروها في معتقدهم عدوة إله الشمس، فكانوا يصنعون مجسمات لها بالشمع ينحتون عليها الاسم ، ثم يتلون عليها التعاويذ، ثم يحرقونها من أجل شروق الشمس واستدامته.
والحيّة هي التي سرقت نبتة الحياة من جلجامش، بعد صراع مرير وبحث عن الخلود. ولا حظ المجانسة الدالة بين الدليلين اللغويين ( حيّة) و ( حياة)... فالمجانسة صوتية ودلالية أيضا لأن حية اسم وصفة حسب التوظيف ، فهي منحوتة من حيـيَ /حيّةٌ وضدها ( الميّتة).. وهي السمّ الزؤام تارة أخرى تحمل أكفان الموت ، وتستعمل في طقوس السّحر الأسود....
وفي القصة القرآنية ، يضيف بعض المفسرين استنادا إلى المرويات الإسرائيلية، أن إبليس أقنع الحية –لا غيرها - بأن تُدخله إلى الجنة، وتكلم من فمها ليغوي ( حواء) بالأكل من الشجرة المنهي عنها ، ثم أغوت حواءُ آدم، فأكلا معا من الشجرة، فعوقبا بإخراجهما من الجنة، ونحن نأخذ بعين الاعتبار أن القرآن الكريم لم يذكر الحية، و إنما اعتمد القائلون بذلك على كتب اليهود والنصارى مما يُستأنس به ولا يصدّق ولا يُكذّبُ ، ففي سفر التكوين نجد حوارا موجها إلى الحية يقول: ( لأنك فعلـت هذا .. ملعونةٌ أنت من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية) وقد قال ابن عباس رضي الله عنه ( اقتلوها حيث وجدتموها، اخْفروا ذمة عدو الله فيها).
إن المرأة تؤجج الافتتان والشهوات، لهذا اعتبرت فتنة ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم (( ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء)) رواه البخاري ومسلم
وفي التراث اليهودي فَتنت المرأة الراهب المتنسّـك، وكانت وسيلةَ الشيطان لإغوائه بالتدريج ، في غياب إخوتها الذكور الذين أوصوه بها خيرا، فما فتئ يتدرج في السقوط، حتى ولدت منه ،فخاف على نفسه فقتل الصبي، ثم خشي أن تفضحه أمه فقتلها أيضا، فلما عاد الإخوة من السفر وسوس لهم الشيطان في الحلم بحقيقة ما جرى، فلما وجدوا الحلم بينهم واحدا، حفروا قبر أختهم التي ادعى الراهب أنها توفيت ، فوجدوها والرضيع مقتولين، وانتهى الأمر بالحكم على الراهب بالموت، فجاءه الشيطان وهو مكبّل قبل الرجم أو الصّلب، فوعده بإنقاذه إن سجد له برأسه، فسجد له ،فسخر منه وتركه لمصير الموت بعد الكفر..
و نجد في تراثنا الحديثي نهيا عن قتل حيّات البيوت إلا بعد أمرها بالخروج ثلاثا ، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "" إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان""
أما مناسبة الحديث فمشهورة، إذ قتَل فتى مسلم حديثُ عهدٍ بالزواج حية على فراشه، أخرجت عروسه إلى الخارج مذعورة ، فظن أنها متعمدةٌ الخروجَ غنجاً ، وكاد يبطش بها ، فلما قتل الأفعى مات في حينه لم يُدْرَ أيهما أسرع موتاً.
إن الشّرّ إذن جذري في الطبيعة البشرية، وهو الغريزة الغالبة، بحكم طغيان الدوافع المختلفة، و غلبة نداء الحسّ على العقل ، ولم تَسُنّ البشرية القوانين، ولم تَنزلِ الأديان السماوية إلا لقمع دوافع الشر والظلم ، وما زلنا إلى يومنا نرتكب الفظائع على الأرض، باسم القانون، وَكم شنت الحروب الظالمة، باسم الحفاظ على القانون الدولي هنا وهناك.. فلولا الشر لما عرف الخير، فهما غريزتان أزليتان، وقسيمان في تركيب الطبيعة البشرية، فيوم خلق الله آدم، وأمر الملائكة بالسجود له سجدوا إلا إبليس أبى واعترض على الأمر، فأغوى المرآة ( حواء) ومرّ منها واسطةً إلى آدم، وأوعد أن يضِــلّ الخلق أجمعين، بالسلاح نفسه وهو الإغواء، وفي بروتوكولات ' بني صهيون' ما يكفي دليلا إلى أن المرأة استعملت سلاحا لنمْذجة القيم، وسلخ الشعوب عن قيمها وعاداتها، وجرّ الشباب إلى الفوضى الجنسية والمخدرات والموضة... وتخريب الأسرة والتضييق على الزواج ..الخ.
وكانت أول جريمة على الأرضِ إيذاناً بهذه الحرب الضروس بين الخير والشرّ ؛ فقد كان ( هابيل) ممثلا للسلام والخيْرية ،وسقط ضحية ( لقابيل) ممثلِ الشرّ والظلم والطغيان، ولا تزال هذه الثنائية قائمة، وقد جلاّها النص السردي بالتقاطب الصّـراعي بين القسّ الذي يجسد كلام الرّب وسلطة الخير ، و بين المرأةِ التي تجسد سلطة الشيطان والشرّ ، والرجلُ هو مصفاة الصراع وأرضيته، لأنه يعيد دور آدم المتذبذب بين الأمر الإلهي والإغواء الشيطاني،عبر المرأة..
أما وقد انتهى النص بنهاية درامية ( القتل والأسر) فهل يكفي ذلك دليلا إلى أنه يؤمن بحتمية الشّرّ قياساً إلى المصير المأساوي للقسّ والخطيب؟؟ .
إن من يرى إلى صور الشرّ في الأرض قد يتصور أن الشّرّ غالبٌ والخيْرَ سالبٌ، لكننا إن عدنا إلى التاريخ والقصص القرآني نجد حتمية أخرى تتمخض عن بدائل مشرقة، في قصة ' نوح ' و' يوسف' و' إبراهيم'، ومسار الدعوة المحمدية بين مرحلة مكة والمدينة.... ومفاد هذا أن الشر يخسر آخر جولة، فمشاهد الشر ليست إلاّ تجليات مرحلية لصيرورة الصراع بين القيم.. كما قال تعالى (( وكان حقّا علينا نصر المومنين)) " الروم47".. فما صور الشرّ الممتدة الطويلة العريضة إلا جزء من العرض الذي قد يبدو بطيئا لكنه موعود بنهاية مُبهجة..
وعليه .. فإن النص لم يحسم للمأساة،بل أوقف عجلة الوقائع في نهاية مفتوحة لا خاتمة مغلقة ، فتشرئب الأعناق إلى المآل الممكن.. فالفتاة أعلنت للشاب أنها لم تعد بحاجة إلى بركات أحد !!. فهل تنجح الفتاة في كفرانها ببركات السماء؟؟ وهل تنجح في استحواذها؟؟ وهل يستسلم الشاب أم يواجه؟؟ مادام متغيّرا من متغيرات القسّ يتبنى بُغية الكنيسة والسماء في زواج مبارك ، في وقت كان يعتقد فيه أن الفتاة تتبنى برنامجه الخيري ذاته ، فهل يستسلم أم ينتفض؟ أتأسره المرأة بغواية الجسد والإثم ؟أم يتحصّــن بروحه الطاهرة للفَكاك والخلاص... تلك حكاية أخرى... حكايتنا جميعا..
أحمد القطيب30/11/2019 00.15h
----------------------------------------
1/محمد القطيب التناني قاصّ مغربي انخرط في كتابة القصة القصيرة منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وكان ينشر إنتاجه القصصي في الجرائد والمجلات المغربية....له مجموعة قصصية تحت عنوان (عندما يزهر اليأس)....وقد حظي القاص بدراسات ومتابعات نقدية عديدة، إلا أن معظم إنتاجه منبت في الجرائد الوطنية .يحتاج إلى جهد تجميعي .ويبلغ القاص من عمره اليوم سبعا وثمانين سنة.
-------------------------
"مراسيم زفاف"
(( في حضرة القسّ بالكنيسة، وقف شاب مع خطيبته ينتظران انتهاء مراسيم الزفاف.
صاح القسّ:
- انتظرا بركاتي
تلوّت الفتاة بحضن خطيبها أفعى !!
مدّت عنقها نحو القسّ . وضعت على أنامله الرقيقة قبلتها.
صاح الشابّ :
- ومن يبارك زفافنا؟
فردت في فحيح:
- لسنا في حاجة بعد الآن لبركة أي أحد !!.))
الأديب القاصّ القطيب محمد التناني
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
قراءة سردية دلالية تأويلية للقصة القصيرة جدا ( مراسيم زفاف).
ذ. أحمد القطيب
يقدم هذا النص السردي القصير قوىً آدمية ثلاثة، يُؤطّر علاقاتِها برنامجان سرديان متعاكسان؛ برنامج الزواج المرتهن إلى الفضاء الديني ( الكنيسة) وإلى بركات القس مسيّر هذا الفضاء وطقوسـه، الرّامز إلى الطهرانية والخيْرية الإيمانية بشكل عام ؛ والبرنامج السردي الثاني، برنامج معاكس أفشل البرنامج الأول، وحوّل الطقس إلى جوّ جنائزي،دالّتُه القتل والموت والاستحواذ ، ضمن محور الشر العام ، الذي يقابل محور الخير، ومن هنا فإن محور الرغبة يصل بين شخصية الشاب وموضوع ( الزواج المبارك). وما الكنيسةُ والقسُّ إلا عاملان مساعدان على الوصول إلى الموضوع، أما المعيق فهو الفتاة التي تحولت إلى برنامج مضادّ. أما المُرسِل المحفّز لامتلاك الموضوع ضمن محور التواصل فهو الإيمان والخير عموما... أما الفتاة فهي ظاهريا تدخل في برنامج الخطيب بشكل صوري أوّلي، وسرعان ما تبنّت برنامجا مضادا كما أسلفنا، وموضوع الرغبة فيه، قتْل القسّ كهدف وسيط للاستحواذ الجسدي على الشّاب كموضوع متبنّى، أما المرسِل هنا فهو الشرّ كقيمة عامة،أما محور الصراع فبين المساعد ( الشيطان) و المعيقين بالتعاكس ( القسّ والشاب)، لكن هذين بموجب سرعة التحويل والحسم فشلا في الإعاقة، وانتصر برنامج الشر على برنامج الخير. ولا غرو أن إرسالية الخير تتجه إلى مرسلين إليهم متعددين هم أهل البرّ من الخيّرين، وإرسالية الشر تتجه إلى عموم أهل الشرّ ومريديه، وما ذاتا الرغبة في كلا البرنامجين ( الشاب+الفتاة) إلا تمثيلان مصغّران يراد بهما التعميم ؛ لأن الفتاة إبدال للأنثى، والشاب إبدال للرجل، والقس رمز للخير والشيطان الحاضر الغائب رمز للشركما ورد..
ولعلنا من خلال استنطاق البرنامج العامليّ وعلاقاته، نضع اليد على مسار للسردية يسير من الإيجاب إلى السلب، المتجسدِ في فشل البرنامج الخيْري ، اعتمادا على برنامج وسيط ، هو تحوّل الفتاة المفاجئ من آدمية إلى حيّة سامة، ذات فحيح ( بالصوت والصورة)، فاستطاعت الالتواء بحضن الفتى وعليه، ثم قبّلتْ أنامل القس فأرْدته قتيلا لتُحكم الطوق على (( جسد)) الشاب بدل روحه.
ويفاجئنا النسيج السردي بقفز سردي يلغي ما جرى بعد التقبيل، والقفز هنا يمكّن من تكثيف الوقائع والإخلاص للنمط السردي المرهّن بقصر زمن السرد بالمقارنة مع زمن القصة.. وهذا المحذوف يرمّمه القارئ الذي يختزن (( السيناريو)) الغائب اعتمادا على توقعاته وتجاربه السابقة فصياح الشاب الفزِع ( من يباركنا؟) كافٍ لتصور الحدث الدرامي الغائب وهو (( سقط القس ميتاً)).. وللحذف جدوى تداولية أخرى هي دفع المتلقي إلى المشاركة الإنتاجية بانيا للنص، لا متلقيا فحسب.
ولنا أن نطرح السؤال مع مرسم هذه النهاية المأساوية عن مقصدية هذا النص ومغزاه..
**فهل سيرورة الأحداث إيحاء بحتمية الشرّ وعُلوّه وانتصاره على الخير ؟؟
لنترك فرضيتنا جانبا إلى حينٍ.. ولنستعنْ بإحالات ( خارجْ نصيّة) من التاريخ والمجتمع والثقافة ، لفهم بعض رسائل النص ومغازيه.
إن الزواج في جميع الديانات السماوية ، ميثاق مقدس ، ولم يستحضر النص الفضاء الكنسي والمرجعية المسيحية إلا للتمثيل بالمفهوم الطهراني المقدس لهذا الميثاق في الديانات جميعها، ومع ذلك فإن في الطقوس الكنسية ما يقرّبنا من أبعاد النص المأمولة، فالزواج المسيحي بركة الروح المقدس، والزواج كنيسة صغرى، يتعذر فيها الطلاق إلا بموجب قوي وهو ( الزنى) فالزواج زواج الروح بالجسد، والزنى موت الروح على الجسد وبه، وتنصّ العقيدة المسيحية على أن الزواج يفضي إلى أن يكون الاثنان واحدا، والجسدان جسدا ، فلا يفصل بينهما إلا الموت، لكن الطقس الكنسي يقتضي أن يلبس الرجل خاتم الفضة ، وتلبس العروس خاتم الذهب... ألا يوحي هذا التضاد في المعدن ، باختلاف معدن الرجل ومعدن المرأة طبعا وتفكيرا ومشاعرَ؟؟ ثم إن أهم مرحلة في مباركة الزوجين من لدن القسّ أن يكلّلهما بالزهور كما تفعل المجتمعات القديمة بالأبطال المنتصرين، فأولئك انتصروا على عدو ظاهر، والزوجان يكلّلان لأنهما بالزواج انتصرا على الغرائز والرذيلة، وانتصرت روحاهما على غرائز الجسد المحرّمة... ولنقل (الزنى) وكفى... ثم لاحظ معي مدلول التواء الفتاة بجسدها حية تسعى في حضن الفتى!! أليس هذا تحوّلا من زواج مقدس إلى تزاوج مدنّس ، لأن لازمة القسّ الذي يمثل سلطة السماء غُيّبَ وغيّبت البركة والمباركة بموته، فتحول الميثاق الروحي الطهراني إلى تعاقد جسدي يحيا ويموت في الطين، أما وقد عرفنا عرّاب الزواج المقدس وهو القسّ أو رجل الدين، وعرفْنا عرّاب العلاقة المحرمة وهو الشيطان، فلنفهم أن لعبة الشيطان هي المرأة ، ولعبة المرأة هي الرجل وسلاحها الجسد..
ألم يخلق الرجل صيادا ماهرا في المجتمعات البدائية، يؤمّن الصيد للمرأة، ويصارع الوحوش بصلابة، وجسارة، لكنه مع قوته يستسلم للمرأة وسحرها،فتغلب بقلبها عقلَه، وبدهائها حكمته، وبضعفها قوته، ولا تنْسَ في هذا السياق ما وقع في أوروبا ذات مرّة في عصور ظلماتها من اجتماع رجال الدين في مؤتمر كبير للجواب عن هذا السؤال: ( هل المرأة إنسان أم شيطان؟؟)
إن هذه القصة الومضة على وجازتها اختارت حقلا دلاليا نابضا بالرمزية؛ لبناء مقاصدها الرّسالية، معتمدة على لحظة مثيرة للدرامية، ومثيرة لقلق السؤال، حين تحولت الكنيسة من فضاء مقدّس إلى فضاء مدنّس وحين تحول الزواج كطقس بشري من أجل التوليد والتكثير الذي تمتد به الحياة ، إلى فضاء القتل الذي يمتد به الموت والأسْر الذي يشبه الموت ويقود إليه.. فالقسّ مقتول جسدا وروحا، والشاب مأسورٌ جسدا مقتولٌ روحا ، لأنه حين فقد الاختيار فقد الحرية.
أما اختيار ( الحية) قناعا ثانيا للمرأة، فهو يطابق ما أرسته الأساطير القديمة والميثولوجيات عن هذا المخلوق ؛ فالشعوب القديمة نظرت إلى الأفعى بمنظورين مختلفين يتقابلان تارة ، ويتجاوران ويتكاملان أحيانا مثلما ننظر إلى المرأة بمنظار أمومتها تارة، وبمنظار غوايتها في العين الذكورية تارة أخرى.
المنظور الإيجابي: ترمز الحيّة إلى الخصوبة والحياة لقدرتها على التكيف ، والاختباء في بطن الأرض والصبر على البرد والمطر والجوع مُددا طويلة،وكانت بعض الشعوب قديما، تستعمل الأفاعي في الطقوس التعبدية أو في الرقص، لتجديد خصوبة الأرض،وقد تطلقها في الحقول ، لضمان محصول جيد.. كما اعتُبرت الحية رمزا للبعث، لأنها تخرج من جلدها أكثر نضارة، وتلتصق بالأرض بكل جزء من أجزاء جسمها..
المنظور السلبيّ:
في المعتقدات المصرية القديمة سمّوا الحية المتوحشة بــــــ( أبي فيس) واعتبروها في معتقدهم عدوة إله الشمس، فكانوا يصنعون مجسمات لها بالشمع ينحتون عليها الاسم ، ثم يتلون عليها التعاويذ، ثم يحرقونها من أجل شروق الشمس واستدامته.
والحيّة هي التي سرقت نبتة الحياة من جلجامش، بعد صراع مرير وبحث عن الخلود. ولا حظ المجانسة الدالة بين الدليلين اللغويين ( حيّة) و ( حياة)... فالمجانسة صوتية ودلالية أيضا لأن حية اسم وصفة حسب التوظيف ، فهي منحوتة من حيـيَ /حيّةٌ وضدها ( الميّتة).. وهي السمّ الزؤام تارة أخرى تحمل أكفان الموت ، وتستعمل في طقوس السّحر الأسود....
وفي القصة القرآنية ، يضيف بعض المفسرين استنادا إلى المرويات الإسرائيلية، أن إبليس أقنع الحية –لا غيرها - بأن تُدخله إلى الجنة، وتكلم من فمها ليغوي ( حواء) بالأكل من الشجرة المنهي عنها ، ثم أغوت حواءُ آدم، فأكلا معا من الشجرة، فعوقبا بإخراجهما من الجنة، ونحن نأخذ بعين الاعتبار أن القرآن الكريم لم يذكر الحية، و إنما اعتمد القائلون بذلك على كتب اليهود والنصارى مما يُستأنس به ولا يصدّق ولا يُكذّبُ ، ففي سفر التكوين نجد حوارا موجها إلى الحية يقول: ( لأنك فعلـت هذا .. ملعونةٌ أنت من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية) وقد قال ابن عباس رضي الله عنه ( اقتلوها حيث وجدتموها، اخْفروا ذمة عدو الله فيها).
إن المرأة تؤجج الافتتان والشهوات، لهذا اعتبرت فتنة ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم (( ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء)) رواه البخاري ومسلم
وفي التراث اليهودي فَتنت المرأة الراهب المتنسّـك، وكانت وسيلةَ الشيطان لإغوائه بالتدريج ، في غياب إخوتها الذكور الذين أوصوه بها خيرا، فما فتئ يتدرج في السقوط، حتى ولدت منه ،فخاف على نفسه فقتل الصبي، ثم خشي أن تفضحه أمه فقتلها أيضا، فلما عاد الإخوة من السفر وسوس لهم الشيطان في الحلم بحقيقة ما جرى، فلما وجدوا الحلم بينهم واحدا، حفروا قبر أختهم التي ادعى الراهب أنها توفيت ، فوجدوها والرضيع مقتولين، وانتهى الأمر بالحكم على الراهب بالموت، فجاءه الشيطان وهو مكبّل قبل الرجم أو الصّلب، فوعده بإنقاذه إن سجد له برأسه، فسجد له ،فسخر منه وتركه لمصير الموت بعد الكفر..
و نجد في تراثنا الحديثي نهيا عن قتل حيّات البيوت إلا بعد أمرها بالخروج ثلاثا ، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "" إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان""
أما مناسبة الحديث فمشهورة، إذ قتَل فتى مسلم حديثُ عهدٍ بالزواج حية على فراشه، أخرجت عروسه إلى الخارج مذعورة ، فظن أنها متعمدةٌ الخروجَ غنجاً ، وكاد يبطش بها ، فلما قتل الأفعى مات في حينه لم يُدْرَ أيهما أسرع موتاً.
إن الشّرّ إذن جذري في الطبيعة البشرية، وهو الغريزة الغالبة، بحكم طغيان الدوافع المختلفة، و غلبة نداء الحسّ على العقل ، ولم تَسُنّ البشرية القوانين، ولم تَنزلِ الأديان السماوية إلا لقمع دوافع الشر والظلم ، وما زلنا إلى يومنا نرتكب الفظائع على الأرض، باسم القانون، وَكم شنت الحروب الظالمة، باسم الحفاظ على القانون الدولي هنا وهناك.. فلولا الشر لما عرف الخير، فهما غريزتان أزليتان، وقسيمان في تركيب الطبيعة البشرية، فيوم خلق الله آدم، وأمر الملائكة بالسجود له سجدوا إلا إبليس أبى واعترض على الأمر، فأغوى المرآة ( حواء) ومرّ منها واسطةً إلى آدم، وأوعد أن يضِــلّ الخلق أجمعين، بالسلاح نفسه وهو الإغواء، وفي بروتوكولات ' بني صهيون' ما يكفي دليلا إلى أن المرأة استعملت سلاحا لنمْذجة القيم، وسلخ الشعوب عن قيمها وعاداتها، وجرّ الشباب إلى الفوضى الجنسية والمخدرات والموضة... وتخريب الأسرة والتضييق على الزواج ..الخ.
وكانت أول جريمة على الأرضِ إيذاناً بهذه الحرب الضروس بين الخير والشرّ ؛ فقد كان ( هابيل) ممثلا للسلام والخيْرية ،وسقط ضحية ( لقابيل) ممثلِ الشرّ والظلم والطغيان، ولا تزال هذه الثنائية قائمة، وقد جلاّها النص السردي بالتقاطب الصّـراعي بين القسّ الذي يجسد كلام الرّب وسلطة الخير ، و بين المرأةِ التي تجسد سلطة الشيطان والشرّ ، والرجلُ هو مصفاة الصراع وأرضيته، لأنه يعيد دور آدم المتذبذب بين الأمر الإلهي والإغواء الشيطاني،عبر المرأة..
أما وقد انتهى النص بنهاية درامية ( القتل والأسر) فهل يكفي ذلك دليلا إلى أنه يؤمن بحتمية الشّرّ قياساً إلى المصير المأساوي للقسّ والخطيب؟؟ .
إن من يرى إلى صور الشرّ في الأرض قد يتصور أن الشّرّ غالبٌ والخيْرَ سالبٌ، لكننا إن عدنا إلى التاريخ والقصص القرآني نجد حتمية أخرى تتمخض عن بدائل مشرقة، في قصة ' نوح ' و' يوسف' و' إبراهيم'، ومسار الدعوة المحمدية بين مرحلة مكة والمدينة.... ومفاد هذا أن الشر يخسر آخر جولة، فمشاهد الشر ليست إلاّ تجليات مرحلية لصيرورة الصراع بين القيم.. كما قال تعالى (( وكان حقّا علينا نصر المومنين)) " الروم47".. فما صور الشرّ الممتدة الطويلة العريضة إلا جزء من العرض الذي قد يبدو بطيئا لكنه موعود بنهاية مُبهجة..
وعليه .. فإن النص لم يحسم للمأساة،بل أوقف عجلة الوقائع في نهاية مفتوحة لا خاتمة مغلقة ، فتشرئب الأعناق إلى المآل الممكن.. فالفتاة أعلنت للشاب أنها لم تعد بحاجة إلى بركات أحد !!. فهل تنجح الفتاة في كفرانها ببركات السماء؟؟ وهل تنجح في استحواذها؟؟ وهل يستسلم الشاب أم يواجه؟؟ مادام متغيّرا من متغيرات القسّ يتبنى بُغية الكنيسة والسماء في زواج مبارك ، في وقت كان يعتقد فيه أن الفتاة تتبنى برنامجه الخيري ذاته ، فهل يستسلم أم ينتفض؟ أتأسره المرأة بغواية الجسد والإثم ؟أم يتحصّــن بروحه الطاهرة للفَكاك والخلاص... تلك حكاية أخرى... حكايتنا جميعا..
أحمد القطيب30/11/2019 00.15h
----------------------------------------
1/محمد القطيب التناني قاصّ مغربي انخرط في كتابة القصة القصيرة منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وكان ينشر إنتاجه القصصي في الجرائد والمجلات المغربية....له مجموعة قصصية تحت عنوان (عندما يزهر اليأس)....وقد حظي القاص بدراسات ومتابعات نقدية عديدة، إلا أن معظم إنتاجه منبت في الجرائد الوطنية .يحتاج إلى جهد تجميعي .ويبلغ القاص من عمره اليوم سبعا وثمانين سنة.