ـ بطاقة تعريف:
صدرت "مزامير المدينة" عن دار الفؤاد للنشر و التوزيع سنة 2018 (الطبعة الأولى)، وهي الجزء الثاني من روايته التي صدرت عن دار فضاءات في الأردن (الصورة الثالثة) عام 2015؛ كتاب أدبي (300 صفحة، من الحجم المتوسط) ينتمي لجنس "الرواية"؛ هكذا صنّفه مؤلفه الأديب و الناقد العراقي علي لفته سعيد. مادة دسمة و جميلة و هادفة استأثرت بعدة قراءات نقدية متخصصة لنقاد عرب نشرت في منابر إعلامية ورقية و رقمية محترمة.
ـ حيثيات منهجية:
1 ـ سؤال جنس العمل الأدبي:
ـ هل "مزامير المدينة" رواية؟
الهدف من طرح السؤال ليس الغوص في جدال إشكالية التجنيس، و لا البحث بالتالي عبر "ربوع" "مزامير المدينة" عن مجموعة خصائص ثابتة تحكم الممارسة الابداعية انطلاقا من "كليشيهات" كلاسيكية، هي تمتلاتنا عن جنس الرواية كما درسناه على كراسي المدارس و الكليات... بل الهدف منه "تكريس أعراف جديدة في قراءة النصوص، تستلزم بالضرورة تخطي الموجه الجنسي للنص، بحثا عن شعرية خاصة به... " (كما جاء على لسان د. ورقاء يحيى قاسم الحب في معرض حديثها عن "النص الدبي و إشكالية التجنيس").
2 ـ أية منهجية لمقاربة رواية "مزامير المدينة" ؟
لا توجد وصفة سحرية منهجية صالحة لقراءة جميع النصوص الروائية (جنس الرواية أنواع، و تنظيمها العضوي يختلف من رواية لأخرى)، لكن هذا لا يعني، بعيدا عن أي إسقاط، تجاهل "آليات النقد التطبيقي" الحديثة التي تساعد القارئ على سبر أغوار العمل الأدبي بحثا عن حمولة النص/ المتن (كخطاب، و كرسالة، و كأبعاد ثقافية و تاريخية و سياسية...)، و عن جمالية التشكيل.
و من بين هذه الآليات، إخترنا استهلالا اعتماد تقنية بيداغوجية/ تواصلية يطلق عليها اسم: "العاصفة الذهنية" (brainstorming) (كما عرفها أليكس أوزبورن) لمقاربة "عتبة النص" (عنوان الرواية)، و "دالات نظرية التلفظ" (Théorie de l’énonciation) لتحليل الخطاب ( كما عرفها كورتاس)، و التي من خلالها نسلط الضوء على تقنية "تعدد الأصوات" في الرواية (pluralité de voix) (كما عرفها جرار جونيت)، و التي بدورها ستحيلنا على وظيفة "التبئير" (وجهة نظر) (focalisation) عند نفس الناقد/ المنظّر.
ـ مقاربة العنوان:
تفيد تقنية "العاصفة الذهنية" (أو العصف الذهني) أن نطرح السؤال: ما الذي أفهمه من "مزامير"؟ الاجابة هي كلّ ما يتبادر إلى الذهن في التّو دون عمق تفكير أو الاستعانة بقاموس أو بمضمون الرواية.. و تعتبر كلّ الاجابات فرضيات قراءة (قراءات ممكنة):
ـ الفرضية الأولى: أن تؤخذ مفردة "مزامير" بمدلولها اللفظي الأوّلي: جمع "مزمار"، و هو آلة موسيقية من الآلات الخشبية وآلات النفخ... بهذا المعنى يُفترض أن الكاتب يدعونا من خلال عنوان روايته إلى أجواء احتفالية شعبية تنفخ فيها المزامير... و الاحتفال ليس بالضرورة إحياء لمناسبة فرح في بلد ألْف حزن و حزن...
ـ الفرضية الثانية: أن تكون لمفردة "مزامير" دلالة دينية ذكِرت في القرآن نسبة إلى سفر المزامير، و هو أحد أسفار التناخ اليهودي والعهد القديم من الكتاب المقدس المسيحي... بهذا المعنى نلج مجال توظيف المجاز (استعارة و تورية و كناية...) للتعبير عن واقع "الأبواق" المتعددة التي تروج للطائفية الدينية في العراق...
ـ الفرضية الثالثة: أن تفهم "مزامير المدينة" على أنها مرادفة ل "صفّارات الانذار" أيام الحرب؛ خصوصا و أن الفضاء الروائي هو بلد العراق الذي أنهكته الحروب و الصراعات...
فرضيات قراءة مترابطة و متشابكة تفتح من جهة أبواب التأويل على مصراعيها، و من جهة ثانية تجعل القارئ يطرح أكثر من علامة استفهام حول آفاق انتظاراته.
و قبل مدخل أوّل وحدة سردية (لم يسميها الكاتب فصلا و لا جزءا)، نقرأ:
"لا أدري لمن تعزف المزامير؟ ربما إلى القبور."
تصريح لم يأت بإجابة لتأكيد أو تفنيد الفرضيات السابقة، بل توخى الغموض و الابهام... و كأن الكاتب يضيف فرضية رابعة: تعزف المزامير "ربما إلى القبور؟". هو معطى أولي لولوج فضاء روائي درامي تؤثث أجواءه المأساة، قبل "تهاطل" عناوين فرعية للوحدات السردية كما "طبول حرب": "للحروب آلهتها و الجنود عبيد"، و "الفردوس آخر أبواب جهنم و الميتة الأولى طغاة"، و "الحروب أناشيد و الضحايا بلا موسيقى"... لتصبح تيمة "الحرب/ الموت" طاغية على تضاعيف الرواية برمّتها، تجسدها لغة شعرية تشبه "التراتيل" بتوظيف حقل معجمي/ دلالي بعنوان الحرب و الموت على طول الرواية، اختزله الكاتب منذ البدء في "كلمات أولى" من "ملحمة جلجامش"حيث نقرأ:
"يموت الرجل في مدينتي، وقلبه مثقل بالهموم
يهلك الرجل و هو محزون القلب
ها أنا انظر من فوق الأسوار
فأرى الجثث تطفو على النهر
و أنا سيحل بي حقا نفس المصير."(ص. 7)
وفي الوحدة السردية الأولى ("للحروب آلهتها و الجنود عبيد" ص. 9)، حيث نقرأ:
"قالها لك قبل عقود، الأب المغرم بتفاصيل التاريخ و هو يحكي عن الحرب إن قامت في العراق لن تقف و أسماها مثل (طابوقة). جملة اختصرت كتبا..."
و تصبّ في هذا الحقل الدلالي رمزية عمل البطل المحوري "محسن" (و إن شئنا "اللا ـ بطل" حسب آلان روب غريّي): حفار القبور.
اختيار "حفار القبور" ليس بغريب عن الأدب العراقي المكتوب عن الحرب و الموت و كأنه اللعنة ألهمت شعرا و نثرا: شاهدة عليها قصيدة بدر شاكر السياب "حفار القبور"، و قصيدة الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر "الحفار"، رغم أن حفار القبور عند علي لفته سعيد أقرب لحفار السياب من حيث البحث بين سراديب الموت و ملكوت الحياة عن الذات الضائعة في متاهات الحرب و الصراعات... يقول السياب في مطلع من قصيدة "حفار القبور":
"ضوء الأصيل يغيم كالحلم الكئيب على القبور … واه كما ابتسم اليتامى أو كما بهتت شموع
في غيهب الذكرى يهوم ظلهن على دموع … والمدرج النائي تهب عليه أسراب الطيور
كفان جامدتان أبرد من جباه الخاملين … وكأن جولهما هواء كان في بعض اللحود
في مقلة جوفاء خاوية يهوم في ركود … كفان قاسيتان جائعتان كالذئب السجين
وعلام تنعب هذه الغربان والكون الرحيب … باق يدور يعج بالأحياء مرضى جائعين"
و نقرأ في رواية "مزامير المدينة":
"السماء مثل أرجوحة تتغير الوانها حسب صراخ الحروب. و لا ذاكرة لمعرفة الفصول، إلا من درجة الحرارة، ترتدي السماء حجابا أسود، سرعان ما تغيره إلى أبيض ثم تحيله إلى شبكة من المياه و البرد، و الناس بسراويل هائجة، يضعون الألم بين أصابعهم و يحملون نعوشهم خلايا ناضجة من الموت..." (ص. 10)
حسن "حفار القبور" ليس بطلا روائيا بالمعنى الكلاسيكي للمفهوم. و لا حتى "ذاتا ساردة" تستأثر بالحكي بضمير المتكلم "الأنا" كما الشأن في العديد من الروايات العربية. تكرس رواية "مزامير المدينة" لعلي لفته سعيد تصورا مختلفا تماما بتغييب "سارد رئيسي" بضمير "الأنا"، أو "الهوّ" ك "ذات عالمة" بمجريات الأحداث مسبقا، و ذلك بتوظيف تقنية "تعدد الأصوات" كما عرفها جرار جونيت.
ـ ظاهرة تعدد الصوات في "مزامير المدينة":
كتب الناقد علي حسين يوسف في قراءة نقدية لنفس الرواية تحت عنوان: " تمثلات الحضور والغيات في الرواية" :
" فالرواية مجموعة من الهموم والذكريات التي تجري بين الراوي ومحسن ويوسف وجمعة وناهض وعلي الدفان ومجتبى ومحمود فضلا على أشخاص غير محوريين مثل سلوى . فكل هؤلاء الأشخاص هم من واقع الكاتب فقد جعل منهم ندماء لذاكرته الموشومة بالذكريات المؤلمة رغم أن الذاكرة لا تدفن الحاضر كله ."
تقنية تعدد الأصوات الساردة في الرواية بآليات تلفظ محكمة الاختيار (استعمال المخاطَب أنتَ على طول الرواية: ("قالها لك قبل عقود..." (ص. 9)، "تقول لي: أريد وقتا مهما لأكتب... لكن لا ترد ماذا تكتب..." ص. 14)، "يقول لك: لا أحد ينشر خبر جيرانه..." (ص. 37)...) تضع القارئ العادي في حيرة تحديد "نوعية النص" انطلاقا من "آليات التلفظ" كالضمائر: إن كان نصا سرديا (Récit)، أو حوارا (Dialogue)؟... هو ليس حوارا مباشرا بالمعني المتعارف عليه من خلال نحو الجملة (Discours direct)، و ليس دائما حوارا منقولا (Discours indirect)، بل في جل ردهات و مقامات رواية "مزامير المدينة" هو ما قد نطلق عليه "سرد بالحوار" (Discours narrativisé) يشبه إلى حدّ بعيد تقنية السرد على لسان الشخصيات المختلفة فوق خشبة مسرح؛ نقرأ:
"قلتَ لناهض مرّة و أنت ترد عليه حين قال انه يجب مخالفة الذات الجمعية: عليك أن تجد طريقك الذاتي من خلال عقلك لا من خلال وجدانية مصلحية و عاطفة مزيفة... و كان يردّ عليك أن لا مستقيم يبقى مستقيما و لا طريقا باتجاه واحد..." (ص. 129).
في هذا السياق نقرأ في مقال عن رواية "مزامير المدينة" نشر بالوقع الالكتروني ل طالقدس العربي بتاريخ 13 يونيو 2018):
" ينتهج المؤلف في الرواية نهج الراوي للأحداث والوقائع من خلال حديثه الطويل لصديقه بطل الرواية (محسن)، انطلاقا من الحاضر فيذهب بالاحداث الى الماضي ليجلب منه حكايات الحرب وما خلفته والذكريات المريرة والكثير من التناقضات التي حفل بها المجتمع العراقي على مختلف الاصعدة ، لاسيما في حاضره حيث (كل يضحك على الكل، السياسيون على السياسيين ورجال الدين على رجال الدين والمفسرون على المفسرين، ولا خاسر سوى عقل المواطن البسيط وكل هؤلاء يخافون من قول المثقف، وقتله أبسط من قتل اسير ولا أحد يقف وينادي من قتل مثقف في هذه البلاد )، فيذهب الروائي في اتجاهات الازمنة المختلفة ومختلف الاماكن ليسرد الحكايات حتى وان كانت فكاهية من المواقف التي يذّكر بها صديقه والتي تتسع لتشمل كل ما يخص الحياة العراقية ،فهي جزء من تاريخ شعب ."
و عليه، فإن تعدد الحكايات و الأصوات داخل هذه الرواية يجعلنا نستحضر نظرية "التبئير" (وجهة نظر، أو زوايا الرؤية) (Focalisation) كما عرّفها جيرار جونيت. ينتقل الكاتب علي لفته سعيد من "التبئير درجة الصفر" (Focalisation degré zéro) لما يترك للراوي وحده مهمة السرد، إلى "التبئير الداخلي" (Focalisation interne) لما يعطي الكلمة لإحدى شخصيات الرواية لتتحدث بضمير المتكلم "الأنا"، ليصل إلى "التبئير الخارجي" (Focalisation externe) لما تتعدد الأصوات المتدخلة سردا و حوارا كأنها شاهدة على عصر و خراب.. ذاكرة جماعية تبحث عن الذات وسط الحطام، حيث "الحروب اناشيد و الضحايا بلا موسيقى" كما كتب علي لفته سعيد.
و لنا عودة في مستقبل الأيام للرواية.
بوزيان موساوي . وجدة. المغرب.
https://www.facebook.com/khalidbonziane.moussaoui/posts/554099491821407
صدرت "مزامير المدينة" عن دار الفؤاد للنشر و التوزيع سنة 2018 (الطبعة الأولى)، وهي الجزء الثاني من روايته التي صدرت عن دار فضاءات في الأردن (الصورة الثالثة) عام 2015؛ كتاب أدبي (300 صفحة، من الحجم المتوسط) ينتمي لجنس "الرواية"؛ هكذا صنّفه مؤلفه الأديب و الناقد العراقي علي لفته سعيد. مادة دسمة و جميلة و هادفة استأثرت بعدة قراءات نقدية متخصصة لنقاد عرب نشرت في منابر إعلامية ورقية و رقمية محترمة.
ـ حيثيات منهجية:
1 ـ سؤال جنس العمل الأدبي:
ـ هل "مزامير المدينة" رواية؟
الهدف من طرح السؤال ليس الغوص في جدال إشكالية التجنيس، و لا البحث بالتالي عبر "ربوع" "مزامير المدينة" عن مجموعة خصائص ثابتة تحكم الممارسة الابداعية انطلاقا من "كليشيهات" كلاسيكية، هي تمتلاتنا عن جنس الرواية كما درسناه على كراسي المدارس و الكليات... بل الهدف منه "تكريس أعراف جديدة في قراءة النصوص، تستلزم بالضرورة تخطي الموجه الجنسي للنص، بحثا عن شعرية خاصة به... " (كما جاء على لسان د. ورقاء يحيى قاسم الحب في معرض حديثها عن "النص الدبي و إشكالية التجنيس").
2 ـ أية منهجية لمقاربة رواية "مزامير المدينة" ؟
لا توجد وصفة سحرية منهجية صالحة لقراءة جميع النصوص الروائية (جنس الرواية أنواع، و تنظيمها العضوي يختلف من رواية لأخرى)، لكن هذا لا يعني، بعيدا عن أي إسقاط، تجاهل "آليات النقد التطبيقي" الحديثة التي تساعد القارئ على سبر أغوار العمل الأدبي بحثا عن حمولة النص/ المتن (كخطاب، و كرسالة، و كأبعاد ثقافية و تاريخية و سياسية...)، و عن جمالية التشكيل.
و من بين هذه الآليات، إخترنا استهلالا اعتماد تقنية بيداغوجية/ تواصلية يطلق عليها اسم: "العاصفة الذهنية" (brainstorming) (كما عرفها أليكس أوزبورن) لمقاربة "عتبة النص" (عنوان الرواية)، و "دالات نظرية التلفظ" (Théorie de l’énonciation) لتحليل الخطاب ( كما عرفها كورتاس)، و التي من خلالها نسلط الضوء على تقنية "تعدد الأصوات" في الرواية (pluralité de voix) (كما عرفها جرار جونيت)، و التي بدورها ستحيلنا على وظيفة "التبئير" (وجهة نظر) (focalisation) عند نفس الناقد/ المنظّر.
ـ مقاربة العنوان:
تفيد تقنية "العاصفة الذهنية" (أو العصف الذهني) أن نطرح السؤال: ما الذي أفهمه من "مزامير"؟ الاجابة هي كلّ ما يتبادر إلى الذهن في التّو دون عمق تفكير أو الاستعانة بقاموس أو بمضمون الرواية.. و تعتبر كلّ الاجابات فرضيات قراءة (قراءات ممكنة):
ـ الفرضية الأولى: أن تؤخذ مفردة "مزامير" بمدلولها اللفظي الأوّلي: جمع "مزمار"، و هو آلة موسيقية من الآلات الخشبية وآلات النفخ... بهذا المعنى يُفترض أن الكاتب يدعونا من خلال عنوان روايته إلى أجواء احتفالية شعبية تنفخ فيها المزامير... و الاحتفال ليس بالضرورة إحياء لمناسبة فرح في بلد ألْف حزن و حزن...
ـ الفرضية الثانية: أن تكون لمفردة "مزامير" دلالة دينية ذكِرت في القرآن نسبة إلى سفر المزامير، و هو أحد أسفار التناخ اليهودي والعهد القديم من الكتاب المقدس المسيحي... بهذا المعنى نلج مجال توظيف المجاز (استعارة و تورية و كناية...) للتعبير عن واقع "الأبواق" المتعددة التي تروج للطائفية الدينية في العراق...
ـ الفرضية الثالثة: أن تفهم "مزامير المدينة" على أنها مرادفة ل "صفّارات الانذار" أيام الحرب؛ خصوصا و أن الفضاء الروائي هو بلد العراق الذي أنهكته الحروب و الصراعات...
فرضيات قراءة مترابطة و متشابكة تفتح من جهة أبواب التأويل على مصراعيها، و من جهة ثانية تجعل القارئ يطرح أكثر من علامة استفهام حول آفاق انتظاراته.
و قبل مدخل أوّل وحدة سردية (لم يسميها الكاتب فصلا و لا جزءا)، نقرأ:
"لا أدري لمن تعزف المزامير؟ ربما إلى القبور."
تصريح لم يأت بإجابة لتأكيد أو تفنيد الفرضيات السابقة، بل توخى الغموض و الابهام... و كأن الكاتب يضيف فرضية رابعة: تعزف المزامير "ربما إلى القبور؟". هو معطى أولي لولوج فضاء روائي درامي تؤثث أجواءه المأساة، قبل "تهاطل" عناوين فرعية للوحدات السردية كما "طبول حرب": "للحروب آلهتها و الجنود عبيد"، و "الفردوس آخر أبواب جهنم و الميتة الأولى طغاة"، و "الحروب أناشيد و الضحايا بلا موسيقى"... لتصبح تيمة "الحرب/ الموت" طاغية على تضاعيف الرواية برمّتها، تجسدها لغة شعرية تشبه "التراتيل" بتوظيف حقل معجمي/ دلالي بعنوان الحرب و الموت على طول الرواية، اختزله الكاتب منذ البدء في "كلمات أولى" من "ملحمة جلجامش"حيث نقرأ:
"يموت الرجل في مدينتي، وقلبه مثقل بالهموم
يهلك الرجل و هو محزون القلب
ها أنا انظر من فوق الأسوار
فأرى الجثث تطفو على النهر
و أنا سيحل بي حقا نفس المصير."(ص. 7)
وفي الوحدة السردية الأولى ("للحروب آلهتها و الجنود عبيد" ص. 9)، حيث نقرأ:
"قالها لك قبل عقود، الأب المغرم بتفاصيل التاريخ و هو يحكي عن الحرب إن قامت في العراق لن تقف و أسماها مثل (طابوقة). جملة اختصرت كتبا..."
و تصبّ في هذا الحقل الدلالي رمزية عمل البطل المحوري "محسن" (و إن شئنا "اللا ـ بطل" حسب آلان روب غريّي): حفار القبور.
اختيار "حفار القبور" ليس بغريب عن الأدب العراقي المكتوب عن الحرب و الموت و كأنه اللعنة ألهمت شعرا و نثرا: شاهدة عليها قصيدة بدر شاكر السياب "حفار القبور"، و قصيدة الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر "الحفار"، رغم أن حفار القبور عند علي لفته سعيد أقرب لحفار السياب من حيث البحث بين سراديب الموت و ملكوت الحياة عن الذات الضائعة في متاهات الحرب و الصراعات... يقول السياب في مطلع من قصيدة "حفار القبور":
"ضوء الأصيل يغيم كالحلم الكئيب على القبور … واه كما ابتسم اليتامى أو كما بهتت شموع
في غيهب الذكرى يهوم ظلهن على دموع … والمدرج النائي تهب عليه أسراب الطيور
كفان جامدتان أبرد من جباه الخاملين … وكأن جولهما هواء كان في بعض اللحود
في مقلة جوفاء خاوية يهوم في ركود … كفان قاسيتان جائعتان كالذئب السجين
وعلام تنعب هذه الغربان والكون الرحيب … باق يدور يعج بالأحياء مرضى جائعين"
و نقرأ في رواية "مزامير المدينة":
"السماء مثل أرجوحة تتغير الوانها حسب صراخ الحروب. و لا ذاكرة لمعرفة الفصول، إلا من درجة الحرارة، ترتدي السماء حجابا أسود، سرعان ما تغيره إلى أبيض ثم تحيله إلى شبكة من المياه و البرد، و الناس بسراويل هائجة، يضعون الألم بين أصابعهم و يحملون نعوشهم خلايا ناضجة من الموت..." (ص. 10)
حسن "حفار القبور" ليس بطلا روائيا بالمعنى الكلاسيكي للمفهوم. و لا حتى "ذاتا ساردة" تستأثر بالحكي بضمير المتكلم "الأنا" كما الشأن في العديد من الروايات العربية. تكرس رواية "مزامير المدينة" لعلي لفته سعيد تصورا مختلفا تماما بتغييب "سارد رئيسي" بضمير "الأنا"، أو "الهوّ" ك "ذات عالمة" بمجريات الأحداث مسبقا، و ذلك بتوظيف تقنية "تعدد الأصوات" كما عرفها جرار جونيت.
ـ ظاهرة تعدد الصوات في "مزامير المدينة":
كتب الناقد علي حسين يوسف في قراءة نقدية لنفس الرواية تحت عنوان: " تمثلات الحضور والغيات في الرواية" :
" فالرواية مجموعة من الهموم والذكريات التي تجري بين الراوي ومحسن ويوسف وجمعة وناهض وعلي الدفان ومجتبى ومحمود فضلا على أشخاص غير محوريين مثل سلوى . فكل هؤلاء الأشخاص هم من واقع الكاتب فقد جعل منهم ندماء لذاكرته الموشومة بالذكريات المؤلمة رغم أن الذاكرة لا تدفن الحاضر كله ."
تقنية تعدد الأصوات الساردة في الرواية بآليات تلفظ محكمة الاختيار (استعمال المخاطَب أنتَ على طول الرواية: ("قالها لك قبل عقود..." (ص. 9)، "تقول لي: أريد وقتا مهما لأكتب... لكن لا ترد ماذا تكتب..." ص. 14)، "يقول لك: لا أحد ينشر خبر جيرانه..." (ص. 37)...) تضع القارئ العادي في حيرة تحديد "نوعية النص" انطلاقا من "آليات التلفظ" كالضمائر: إن كان نصا سرديا (Récit)، أو حوارا (Dialogue)؟... هو ليس حوارا مباشرا بالمعني المتعارف عليه من خلال نحو الجملة (Discours direct)، و ليس دائما حوارا منقولا (Discours indirect)، بل في جل ردهات و مقامات رواية "مزامير المدينة" هو ما قد نطلق عليه "سرد بالحوار" (Discours narrativisé) يشبه إلى حدّ بعيد تقنية السرد على لسان الشخصيات المختلفة فوق خشبة مسرح؛ نقرأ:
"قلتَ لناهض مرّة و أنت ترد عليه حين قال انه يجب مخالفة الذات الجمعية: عليك أن تجد طريقك الذاتي من خلال عقلك لا من خلال وجدانية مصلحية و عاطفة مزيفة... و كان يردّ عليك أن لا مستقيم يبقى مستقيما و لا طريقا باتجاه واحد..." (ص. 129).
في هذا السياق نقرأ في مقال عن رواية "مزامير المدينة" نشر بالوقع الالكتروني ل طالقدس العربي بتاريخ 13 يونيو 2018):
" ينتهج المؤلف في الرواية نهج الراوي للأحداث والوقائع من خلال حديثه الطويل لصديقه بطل الرواية (محسن)، انطلاقا من الحاضر فيذهب بالاحداث الى الماضي ليجلب منه حكايات الحرب وما خلفته والذكريات المريرة والكثير من التناقضات التي حفل بها المجتمع العراقي على مختلف الاصعدة ، لاسيما في حاضره حيث (كل يضحك على الكل، السياسيون على السياسيين ورجال الدين على رجال الدين والمفسرون على المفسرين، ولا خاسر سوى عقل المواطن البسيط وكل هؤلاء يخافون من قول المثقف، وقتله أبسط من قتل اسير ولا أحد يقف وينادي من قتل مثقف في هذه البلاد )، فيذهب الروائي في اتجاهات الازمنة المختلفة ومختلف الاماكن ليسرد الحكايات حتى وان كانت فكاهية من المواقف التي يذّكر بها صديقه والتي تتسع لتشمل كل ما يخص الحياة العراقية ،فهي جزء من تاريخ شعب ."
و عليه، فإن تعدد الحكايات و الأصوات داخل هذه الرواية يجعلنا نستحضر نظرية "التبئير" (وجهة نظر، أو زوايا الرؤية) (Focalisation) كما عرّفها جيرار جونيت. ينتقل الكاتب علي لفته سعيد من "التبئير درجة الصفر" (Focalisation degré zéro) لما يترك للراوي وحده مهمة السرد، إلى "التبئير الداخلي" (Focalisation interne) لما يعطي الكلمة لإحدى شخصيات الرواية لتتحدث بضمير المتكلم "الأنا"، ليصل إلى "التبئير الخارجي" (Focalisation externe) لما تتعدد الأصوات المتدخلة سردا و حوارا كأنها شاهدة على عصر و خراب.. ذاكرة جماعية تبحث عن الذات وسط الحطام، حيث "الحروب اناشيد و الضحايا بلا موسيقى" كما كتب علي لفته سعيد.
و لنا عودة في مستقبل الأيام للرواية.
بوزيان موساوي . وجدة. المغرب.
https://www.facebook.com/khalidbonziane.moussaoui/posts/554099491821407