" أن على الكاتب عندما يجلس ليبدع ، أن يكون طموحا، وأن يضع نصب عينيه بأنه سيكتب أفضل مما كتب سيرفانتس ولوبى دى فيجا وكيفيديو "
موقنا أن التواضع فى مهنة الكتابة فضيلة ممقوتة، لإنك إذا جلست لتكتب بتواضع ستصير كاتبا فى مستوى متواضع. يجب أن يعبئ المبدع نفسه بكل مافى العالم من طموح، واضعا النماذج الكبرى نصب عينيه .
لماذا إذن تكتب ماهو أقل قيمة من الكبار ؟
هذا هو المدخل الصحيح للدخول تحت جلد هذا السارد العظيم الذى طبقت شهرته الآفاق وسيطر على المشهد الروائى العالمى منذ عقود طويلة وصولا إلى هذه اللحظات . لقد جلس إلى ماكينة الكتابة منذ أكثر من نصف قرن، بلا رصيد مالى يذكر، راهنا سيارته الصغيرة، وبعض الأشياء، ومؤجلا دفع إيجار المسكن، مقتصدا فى ضروريات الحياة اليومية ، لكنه ، مفعما بالأمل والطموح، والثقة، بدأ التفرغ لإنجاز شئ تاريخى، وغير مسبوق، مسطرا واحدة من أهم الإفتتاحيات الروائية شهرة فى العصر الحديث :
" بعد سنوات طويلة، وأمام فصيلة الإعدام، سيتذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه للتعرف على الجليد. كانت ماكوندو أنذاك قرية من عشرين بيتا من الطين والقصب، مشيدة على ضفة نهرذى مياه صافية، تنساب فوق فرشة من حجارة مصقولة، بيضاء وكبيرة، مثل بيوض خرافية. كان العالم حديث النشوء، حتى أن أشياء كثيرة كانت بلا أسماء، ومن أجل ذكرها، لابد من الإشارة إيها بالإصبع "
ساردا لفترة زمنية طويلة، تختلط فيها الأشياء الفذة مع الأشياء العادية بكل براءة، كما صرح بعد ذلك . ففى إحياء شعرى لتاريخ أمريكا اللاتينية، راح "جابو" يواصل العمل، يوما بعد يوم، بنثر مكثف، والفاظ منوعة، وتراكيب جمل دقيقة، ومنغمة، فى عملية تنقيب ذاتية بحثا عن معنى لأشخاصه، متجاوزا الواقعية التقليدية، خالقا لعمل فنى ينهض بذاته كواقع مستقل، عبر المهارة، والحيل الفنية المتقنة، والخيال الجامح .
هل كان يعلم حينها، بأنه كان يراهن على مستقبله ؟
هل كان واعيا بأنه ينحت إسمه على جدار الزمن ؟
نعم !
فأنا أعتقد بأنه كان يعى كل شئ، ويعمل على ذلك جيدا. فهو قارئ جيد للتجارب المهمة السابقة عليه . يعلم أين توقف كافكا وفرجينيا وولف وفوكنر وهمنجواى ، أساتذته المباشرين، كما أنه متابع جيد لنثر روبين داريو و بورخيس وأليخوكاربنتي، و بتلك الفخامة اللفظية الفارهة، والبناء المعمارى الحداثى للغة،ويهضم تراث كامل من النصوص الكبرى.
حقا، لم يكن أول من عمل على الاسطورى والفاتنازى والغرائبى .
أيضا لم يكن أول راو عليم كلى المعرفة .
لكنه فى النهاية أستطاع أن يجذبنا نحوه ، مسحورين ، مندهشين، أسرى لهذا الإبداع المبهر.
متأخرون، هكذا نحن ، كقراء عرب، سيئي الحظ دائما، نذهب إلى الحفل وأصحابه يرفعون المقاعد والصحون . كانت هناك ثمة أشياء تدور فى فضاء الثقافة . كلمات مبهمة : ماركيز. مائة عام من العزلة. الواقعية السحرية .نسمع فقط، ولا نطالع شئ، الظاهرة تدوى فى العالم . حتى سميت ب" البوم " . إنفجار روائى .نقدى. مقروئية تتجاوز الملايين . ونحن هنا فى غيبوبة حتى بداية الثمانينات، يجئ ماركيز نجم هذا الجيل الذهبى من كتاب أمريكا اللاتينية, نطالع روايته الأشهر . ثم نواصل معه الرحلة هو ورفاقه .
منذ اليوم الأول لمطالعته، شعرت بأنه قريب لى، وأن هناك صلة رحم !!! ..فهذا كاتب من طراز نادر، أيقظنى من دورات النعاس والتعاسة ، اللتين كانتا تسيطران على وأنا أطالع نصوص مستهلكة ورديئة , لا تحتفى بالخيال أو اللغة , وتفتقرإلى المهارات الأسلوبية الجميلة . كنت ومازلت شغوفا به، إنسانا ومبدعا، متابع جيد لكتاباته، وحواراته، وسيرته الشخصية ولمعظم ماكتب عنه. لقد وجدته كريما، لا يبخل بالبوح عن أصول وأسرار المهنة . واضعا خبرته ونصائحه تحت أنظار هؤلاء الذين قرروا أن تكون الكتابة رهان وجودى فى هذه الحياة .
لا زلت أتذكر واحدة من دروسه المهارية الثمينة .
" عندما أصل إلى نقطة أشعر خلالها بالسأم فأنى ألاحق لحظتها عنصرا جذابا، يمسك ثانية بالقارئ، اكتب كأنك تمارس التنويم المغناطيسى، ينبغى الحرص على عدم تعثر القارئ، ألجأ إلى بعض الحيل عند نهاية كل فترة، ثم ابحث عن شىء يحرض على قراءة السطور التالية "
صابر رشدي
موقنا أن التواضع فى مهنة الكتابة فضيلة ممقوتة، لإنك إذا جلست لتكتب بتواضع ستصير كاتبا فى مستوى متواضع. يجب أن يعبئ المبدع نفسه بكل مافى العالم من طموح، واضعا النماذج الكبرى نصب عينيه .
لماذا إذن تكتب ماهو أقل قيمة من الكبار ؟
هذا هو المدخل الصحيح للدخول تحت جلد هذا السارد العظيم الذى طبقت شهرته الآفاق وسيطر على المشهد الروائى العالمى منذ عقود طويلة وصولا إلى هذه اللحظات . لقد جلس إلى ماكينة الكتابة منذ أكثر من نصف قرن، بلا رصيد مالى يذكر، راهنا سيارته الصغيرة، وبعض الأشياء، ومؤجلا دفع إيجار المسكن، مقتصدا فى ضروريات الحياة اليومية ، لكنه ، مفعما بالأمل والطموح، والثقة، بدأ التفرغ لإنجاز شئ تاريخى، وغير مسبوق، مسطرا واحدة من أهم الإفتتاحيات الروائية شهرة فى العصر الحديث :
" بعد سنوات طويلة، وأمام فصيلة الإعدام، سيتذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه للتعرف على الجليد. كانت ماكوندو أنذاك قرية من عشرين بيتا من الطين والقصب، مشيدة على ضفة نهرذى مياه صافية، تنساب فوق فرشة من حجارة مصقولة، بيضاء وكبيرة، مثل بيوض خرافية. كان العالم حديث النشوء، حتى أن أشياء كثيرة كانت بلا أسماء، ومن أجل ذكرها، لابد من الإشارة إيها بالإصبع "
ساردا لفترة زمنية طويلة، تختلط فيها الأشياء الفذة مع الأشياء العادية بكل براءة، كما صرح بعد ذلك . ففى إحياء شعرى لتاريخ أمريكا اللاتينية، راح "جابو" يواصل العمل، يوما بعد يوم، بنثر مكثف، والفاظ منوعة، وتراكيب جمل دقيقة، ومنغمة، فى عملية تنقيب ذاتية بحثا عن معنى لأشخاصه، متجاوزا الواقعية التقليدية، خالقا لعمل فنى ينهض بذاته كواقع مستقل، عبر المهارة، والحيل الفنية المتقنة، والخيال الجامح .
هل كان يعلم حينها، بأنه كان يراهن على مستقبله ؟
هل كان واعيا بأنه ينحت إسمه على جدار الزمن ؟
نعم !
فأنا أعتقد بأنه كان يعى كل شئ، ويعمل على ذلك جيدا. فهو قارئ جيد للتجارب المهمة السابقة عليه . يعلم أين توقف كافكا وفرجينيا وولف وفوكنر وهمنجواى ، أساتذته المباشرين، كما أنه متابع جيد لنثر روبين داريو و بورخيس وأليخوكاربنتي، و بتلك الفخامة اللفظية الفارهة، والبناء المعمارى الحداثى للغة،ويهضم تراث كامل من النصوص الكبرى.
حقا، لم يكن أول من عمل على الاسطورى والفاتنازى والغرائبى .
أيضا لم يكن أول راو عليم كلى المعرفة .
لكنه فى النهاية أستطاع أن يجذبنا نحوه ، مسحورين ، مندهشين، أسرى لهذا الإبداع المبهر.
متأخرون، هكذا نحن ، كقراء عرب، سيئي الحظ دائما، نذهب إلى الحفل وأصحابه يرفعون المقاعد والصحون . كانت هناك ثمة أشياء تدور فى فضاء الثقافة . كلمات مبهمة : ماركيز. مائة عام من العزلة. الواقعية السحرية .نسمع فقط، ولا نطالع شئ، الظاهرة تدوى فى العالم . حتى سميت ب" البوم " . إنفجار روائى .نقدى. مقروئية تتجاوز الملايين . ونحن هنا فى غيبوبة حتى بداية الثمانينات، يجئ ماركيز نجم هذا الجيل الذهبى من كتاب أمريكا اللاتينية, نطالع روايته الأشهر . ثم نواصل معه الرحلة هو ورفاقه .
منذ اليوم الأول لمطالعته، شعرت بأنه قريب لى، وأن هناك صلة رحم !!! ..فهذا كاتب من طراز نادر، أيقظنى من دورات النعاس والتعاسة ، اللتين كانتا تسيطران على وأنا أطالع نصوص مستهلكة ورديئة , لا تحتفى بالخيال أو اللغة , وتفتقرإلى المهارات الأسلوبية الجميلة . كنت ومازلت شغوفا به، إنسانا ومبدعا، متابع جيد لكتاباته، وحواراته، وسيرته الشخصية ولمعظم ماكتب عنه. لقد وجدته كريما، لا يبخل بالبوح عن أصول وأسرار المهنة . واضعا خبرته ونصائحه تحت أنظار هؤلاء الذين قرروا أن تكون الكتابة رهان وجودى فى هذه الحياة .
لا زلت أتذكر واحدة من دروسه المهارية الثمينة .
" عندما أصل إلى نقطة أشعر خلالها بالسأم فأنى ألاحق لحظتها عنصرا جذابا، يمسك ثانية بالقارئ، اكتب كأنك تمارس التنويم المغناطيسى، ينبغى الحرص على عدم تعثر القارئ، ألجأ إلى بعض الحيل عند نهاية كل فترة، ثم ابحث عن شىء يحرض على قراءة السطور التالية "
صابر رشدي