خلال الأماسي التي لايشغلهم عنها عمل منجمي، كانوا يلتقون بورشة حدادة العروسي هي سقيفة تتصدر حوشا يفضي إلي غرفة ومرحاض بناها صاحبها بقوالب الطوب وسقفها بخشب النخيل الذي نقله من حامة الجريد (مسقط رأسه) إلي المتلوي بدأت المساكن تبرز بحي الأمل المجاور غربا حي الطرابلسية لتشكل تلاصقا فوضويا من الحيطان الهشة التي يستطيع المرء أن يدخل في قوالبها الترابية سبابة يده عندما تبللها الأمطار الغزيرة فتحولها إلي عجين لزج.. وكثيرا ما أنهارت بيوت بكاملها بعدما أشبعتها السحب ماء فلم تتحمل الوقوف مبللة تحت ثقل السقوف.
أما منزل العروسي فقد كان منتصبا في الزاوية العليا بالحي خلف تقاطع شارع وزقاق فلم يكن عرضة لانسكاب مياه المآزيب علي جدرانه أو جريانها لصق أسسه لذلك تحول في العديد من الليالي الممطرة إلي مأوي لزملائه العمال من أهل العزوبة فيسهرون ويشتركون في إعداد طعامهم وينامون إلي أن تفرق بينهم مواعيد الشغل بمنجم الجحشة الذي يطعم من معدنه العيال ويقتات هو من أجسامهم.
والعروسي شاب لم يتخط الثلاثين سنة من حياته.. كان قد غادر مسقط رأسه في بداية الأربعينيات من القرن الماضي للانخراط في صفوف عمال الداموس غير آبه بتوسلات أمه العجوز التـي حاولت إثناءه عن عزمه خوفا عليه مما قد يصيبه من مخاطر مهنية سمعت عنها الكثير نتيجة انهيارات الأنفاق تحت ضغوط كتل الطين والجمعر والكلس والصوان العملاقة علي تجويفات الجبل التي حفرتها فؤوس حادة كأظافر الفئران لكنها أصلب من أحجار الصوان التي يتطاير شرارها تحت وقعها القوي.
عمل العروسي بمنجم الجحشة طيلة ثلاث سنوات لم يحصل له فيها مكروها وكان من وقت لآخر يعود إلي حامة الجريد لزيارة أمه حاملا إليها قفة مملوءة سكرا وشايا ومكرونة وكاوكاو وحلوي وعلكا وعلب طماطم بعضها ،مستورد من وادي سوف والعاتر وتبسة وسواق هراس الجزائرية المتاخمة لحدود البلاد بالجنوب الغربي وبعضها مستجلب خصيصا من مصانع مرسيليا إلي مقتصدية شركة الفسفاط وبعضها مصنوع بمعامل بدأت تظهر في مدن تونسية.
تفرح الأم عندما يضع أمامها ابنها القفة التي لايوجد لها مثيل لما بداخلها في حوانيت مسقط رأسه ومتاجر الجريد عامة غير أنها لا تتخلي عن تكرار عباراتها المألوفة
ـــ من أين جئت بهذا ياكبدي؟
ـــ يرفع العروسي رأسه تباهيا وافتخارا
ـــ من تاجر المتلوي ياأمي.
ـــ لابد أنك أنفقت مقابل الحصول عليه كل ما قبضته من عملك.
ـــ جزء ضئيل منه اشتريته بمقابل مالي وأكثره واقتنيته بالكريدي.
ـــ يقال إن عمال المتلوي وهائن لدي شركة الفسفاط لكثرة عيشهم بالكريدي.
تدخل حدة بنت الحركاتي وإذ تقع عيناها علي العروسي تتصنع الخجل
فتتـظاهر بالخروج قبل أن تناديها العجوز.
ـــ حدة تعالي ولا تخجلي لقد جلب العروسي اللوبان من المينة لأمنحك منه بعض الحبات لايهتم بها العروسي الذي يكتفي بمتابعة مايدور بينهما من حديث
ـــ وعندما تخرج الفتاة تقترب منه أمة قائلة.
ـــ حدة تقوي عودها ولحستها الغولة ياولدي.
لحستها الغولة أوالجنية فما دخلي أنا في ذلك.
ـــ إن أردت أخطبها لك؟
أمي. إن كنت ترغبين في أن أزورك مستقبلا فلا تحدثيني عن حدة. فأنا لا ولم ولن أفكر فيها إطلاقا.
= ينتهي الحوار بالصمت
يعرف مصطفي أن العروسي كان أكثر عمال الداموس فتوة وقدرة علي تحمل الصعاب والصبر علي الأتعاب وكان خارج المنجم كريما بشوشا يستقبل زملاءه في بيته ويعقد لهم مجالس الأنس والصفاء فيشربون الشاي ويحتسون اللاقمي المر» القيشم «الذي يستورد له خصيصا من حامة الجريد في أغلب المناسبات التي يزوره فيها أحد الأقارب من أبناء قريته إلا أن الذي حدث غير مجري حياة الرجل، فقد أنهار عليه سلخ من النفق لما كان داخله لاستخراج الفسفاط فتسبب في كسر رجله اليسري التي لم يتفنن الطبيب الاوروبي بالمنجم في معالجتها إلا ببترها وبعد شهرين من الإقامة بالمستشفي خرج العروسي متأبطا عكازا ولاتعويض له عما حل به من طرف الشركة الاستعمارية التي اعتبرته في تقرير مهندس المنجم مخطئا ويتحمل المسئولية فيماحصل.
تعاطف عمال المنجم مع زميلهم فجمعوا له بعض النقود لمواساته وللتخفيف مما أصابه وتفاعل الخضار والعطار والجزار مع الحدث فتخلوا علي ما بذمته لديهم من الكريدي وجاء أقاربه من الجريد لإرجاعه إلي مسقط رأسه فلم يفلحوا في إقناعه بالعودة معهم إذ قال لهم بصريح العبارة «هنا دفنت ساقي اليسري وهنا سأوصي أصدقائي بأن يحفروا لي قبرا تواري فيه رفاتي بعد موتي ولم يعد أحد يطلب منه مغادرة المتلوي حتي عندما يزور مسقط رأسه من حين لآخر قبل أن يتوفي الله أمه.
تذكر العروسي أنه قد اشتغل صانعا لدي أحد الحدادين في قرية دقاش عندما كان مراهقا ففكر في مواصلة حياته وحول سقيفة مسكنه إلي ورشة صغيرة للحدادة يمارس فيها أعمالا بسيطة ومتواصلة لصنع الواقيات الحديدية للشبابيك بالأحياء الفوضوية التي برزت كالفقاقيع تحمل أسماء سكانها الطرابلسية والمغاربة والسوافة والجريدية ومداشر أولاد عمارة. أولاد مبارك. أولاد دينار، أولاد سحيم، أولاد سلامة، أولاد رضوان.
وكان أصحاب المساكن يقون منافذ بيوتهم بالعوارض الحديدية التي يصنعها العروسي حماية لها من تسرب اللصوص والمتربصين ببعض النسوة عندما يغادر أزواجن المنازل ليلا للعمل بالفوج الثالث من العاشرة إلي السادسة صباحا.
أما الأهالي والقاطنون بالبادية في مناطق الحمارة والسبسب والسقي الغربي وريشة النعامة فقد كانوا يحملون إلي الحداد الشاب المناجل والفؤوس وسكك المحاريث لشحذها متعاطفين معه في مصابه فيجودون عليه أحيانا باللبن والحليب والسمن والبيض.
وتحرك دولاب حظ الرجل رغم بعض الإعياء الذي ينتابه عندما تتوانر مسارات عمله لأنه لايستطيع تحمل الوقوف كثيرا علي ساق واحدة معتمدا علي عكازه الذي لايمنحه فرص الاستعداد المناسب للعمل فكان أصدقاؤه يساعدونه دون إشعاره بحاجته إليهم فيسوون له بعض القضبان الحديدية التي كان بعضهم يسرقها من مقتنيات ورشة الحدادة بشركة الفسفاط بل يتعدون ذلك العمل فيصنعون له بعض الأشكال التي يهيء أمثلتها ليشد بعضها إلي بعض بأساور معدنية لغرض تحويلها إلي هيكل واحد متماسك بعد تسويته الشيء الذي يجعل العامل إبراهيم يصرخ بالقول
الصلاة علي النبي خمسة وخميس عليك يا العروسي هذا أحسن من شبابيك دار مدير الكبانية.
بدأت الفرنكات تتجمع في بيت العروسي الذي لم يكن يخشي عليها من السرقة لأن جلاسه أوفياء مخلصين له ولكنته أصبح يشعر بالقلق نتيجة تزايدها وخاف من أن يأتي يوم فينفقها فيما لايعنيه إثر نشوة ناجمة عن عربدة خمرية لذلك فكر في موضوع هام.
اغتنم ذات مساء فرصة تأخر قدوم أصدقائه ووفادة مصطفي فأسر له
ـــ مصطفي أنت صاحبي وأخي.
ـــ ربي يستر ياالعروسي خير إن شاء الله.
ـــ أريد منك أن تكلم لي ولد الزرقة
ـــ في خصوص ماذا؟
ـــ في خصوص رغبتي في الزواج من أخته مباركة.
ـــ يعني أنك ستغلق في وجوهنا باب حانوتك عندما تتزوج؟
لا يا مصطفي الحانوت يبقي حانوتا للعمل ولتجمع الأصدقاء أما الحوش فيصبح لي ولزوجتي فقط بعدما أفتح بابا شرقيا لكي تدخل وتخرج دون أن يراها أحد من جلاسي.
صمت مصطفي قليلا وعيناه تنظران الي زبرة الحدادة ثم رفعهما في وجه العروسي:
ـــ أمهلني عدة أيام حتي آتيك بالجواب.
تغيب مصطفي نصف أسبوع عن مجالسة أصدقائه بالورشة حتي ظنوا أنه علي سوء اتفاق أو خصومة مع العروسي وفي اليوم الموالي التحق بهم فتملي الحداد ملامح وجه صاحبه برموزه وسيمائه فاستنتج أنها تشي بإجابات لا يرغب في الاستماع إليها خصوصا وأن مصطفي قد انضم إلي المجلس علي غير حيويته المعهودة وظل يطلق تنهيداته من حين إلي آخر. وعندما بدأ إخوان الصفاء في مغادرة المحل هتف العروسي بصاحبه.
ـــ مصطفي لا تتعجل الخروج قبل أن أتحدث معك في موضوع خاص .
ـــ تأخر مصطفي عن الخروج وعندما خلا المحل إلا منهما طلب العروسي متلهفا:
ـــ قل لي .. ماذا قال لك ولد الزرقة.
ـــ ولد الزرقة رجل شهم لم يمانع في الموضوع.
ـــ يعني أنني أستطيع الاستعداد للخطوبة.
ـــ لا.. مع الأسف .. أخته العنيدة رفضت المقترح بدعوي أنك.
ـــ فهمت.. أرجوك لا تفش سرا لأحد.
ـــ حرك مصطفي رأسه مؤيدا طلب العروسي.
في اليوم الموالي فوجيء الجميع بأن أصبحت ورشة العروسي مغلقة ومراليوم الثاني والثالث والرابع وهو غائب عن القرية. قال إبراهيم.
العروسي ذاب كالملحة.
عقب حميدة
كان يجدر أن يعلمنا بمقصده قبل غيابه.
استنتج آخر أنه قد يكون سافر إلي حامة الجريد لأمر طاريء ولم ينبس مصطفي بكلمة.
بعد أسبوعين فتح العروسي ورشته فتوافد عليه الزبائن بوفرة.. هذا يطالب بشباك فات الموعد المضروب لتسليمه بعد دفع عربون نصف ثمنه وهذا يريد التعجيل بشحذ مناجله لأن موسم الحصاد علي الأبواب رهذه ترغب في حشو ثقب بقصعة الحديد المخصصة لغسل الملابس وآخر يريد تصفيح حصانه أبغله
وفي المساء انعقد المجلس وكمان أصحابه ضمأي للقيشم الذي يجلبه معه كلما
وطئت قدماه مسقط رأسه غير أنهم لم يترشفوا في تلك السهرة إلا الشاي ولم يتجرأوا عن السؤال لهذا التغيير المفاجيء
حل شهر جويلية فكثر الصخب الليلي بالقرية هذا ختان ولد فلان وهذا عرس فلان بفلانة وهذا الذي تسمع فيه أصوات القوابلية مصحوبا بدق الطبول هو حفل زفاف صالح ولد العكوري علي مباركة بنت الزرقة أحس العروسي بوخزه في صدره أوجعته أكثر مما أوجعة حيث بتر ساقاه ولكنه تحلي بالشجاعة وصبر علي ما أصابه.
ومرت الحادثة بسلام ربما لأن أصحابه قد أنخرطوا في أجواء خمرية
متواترة خلال أماسي ذلك الشهر ليتناسواعزوبتهم فأنسوا العروسي ما يفكر فيه إلي درجة أنه شك في أن مصطفي قد أخبرهم بالموضوع للتخفيف من وطأته عليه فلم يتأخر ذات مساء وهو ينفرد به عن طرح السؤال الحائر:
أعلم الجماعة بالموضوع يا مصطفي
لا ورأسي سيدي حركات
مرت بقية صيف حار وخريف مكفهر وشتاء ممطر وربيع مزهر ونسي العروسي مباركة بنت الزرقة وطن أنه سوف لا يفكر فيها إلي الأبد لولا دخولها ذات صباح ورشته الصغيرة والطقس قائض في أواسط الصيف الموالي، وكأنها لص يبحث عن مخبأ من ملاحقيه، فوجئ الرجل بوجودها غير أنه لم يضطرب وأظهر أنه لا يعرفها عندما حيته..
ـــ صباح الخير يا سي العروسي.
ـــ صباح الخير.. تفضلي.. ألك حاجة عندي.
أنا مباركة بنت الزرقة
ـــ عرفتك.
تهاوت المرأة فوق كيس مملوء بالتراب كان أصحاب الحداد قد أعدوه كغيره من الأكياس للجلوس فوقه وبدأت تذرف الدموع وتبكي بصوت منخفض.
ـــ سامحني ياسي العروسي لقد ظلمتك
متي ظلمتني وأنا لا أذكر أني تعاملت معك أو حدثتك قبل هذا اليوم .
ـــ صحيح، لكنني رفضت الزواج منك لأنك تمشي علي رجل واحدة.
ـــ كل شيء بالمكتوب وهذا لا يهم فأنا متسامح والمسامح كريم.
إذن أنت لم تعد تحقد علي
ـــ لماذا أحقد عليك؟
ـــ لأنني قلت ما يجرح إحساسك.
ـــ إحساسي لم تصبه جروح حتي عندما بترت رجلي.
سكتت المرأة هنيهة ثم واصلت كلامها
ـــ لهذا أنا قد جئت لأعرض عليك نفسي للزواج منك.
وأين زوجك الذي أعلن زفافه عنك في الصيف الماضي
مات يا سي العروسي، بعدما أصيب بمرض الجدري
ـــ عظم الله أجرك والبركة فيك، الله اكبر.. ومتي توفي.
ـــ ليلة الإحتفال بعيد الشغل
ـــ هو الله يرحمه أما أنا فلست صالحا للزواج منك الآن.
ودون أن يلفظ بكلمة أخري رفع مطرقته وهوي بها علي قضيب حديدي فسوي اعوجاجة فوق السندان.
نظرت مباركة بنت الزرقة إلي القضيب الحديدي تتأمل استقامته
وبصمت وقفت وبسكوت انسحبت من الدكان.
.
أما منزل العروسي فقد كان منتصبا في الزاوية العليا بالحي خلف تقاطع شارع وزقاق فلم يكن عرضة لانسكاب مياه المآزيب علي جدرانه أو جريانها لصق أسسه لذلك تحول في العديد من الليالي الممطرة إلي مأوي لزملائه العمال من أهل العزوبة فيسهرون ويشتركون في إعداد طعامهم وينامون إلي أن تفرق بينهم مواعيد الشغل بمنجم الجحشة الذي يطعم من معدنه العيال ويقتات هو من أجسامهم.
والعروسي شاب لم يتخط الثلاثين سنة من حياته.. كان قد غادر مسقط رأسه في بداية الأربعينيات من القرن الماضي للانخراط في صفوف عمال الداموس غير آبه بتوسلات أمه العجوز التـي حاولت إثناءه عن عزمه خوفا عليه مما قد يصيبه من مخاطر مهنية سمعت عنها الكثير نتيجة انهيارات الأنفاق تحت ضغوط كتل الطين والجمعر والكلس والصوان العملاقة علي تجويفات الجبل التي حفرتها فؤوس حادة كأظافر الفئران لكنها أصلب من أحجار الصوان التي يتطاير شرارها تحت وقعها القوي.
عمل العروسي بمنجم الجحشة طيلة ثلاث سنوات لم يحصل له فيها مكروها وكان من وقت لآخر يعود إلي حامة الجريد لزيارة أمه حاملا إليها قفة مملوءة سكرا وشايا ومكرونة وكاوكاو وحلوي وعلكا وعلب طماطم بعضها ،مستورد من وادي سوف والعاتر وتبسة وسواق هراس الجزائرية المتاخمة لحدود البلاد بالجنوب الغربي وبعضها مستجلب خصيصا من مصانع مرسيليا إلي مقتصدية شركة الفسفاط وبعضها مصنوع بمعامل بدأت تظهر في مدن تونسية.
تفرح الأم عندما يضع أمامها ابنها القفة التي لايوجد لها مثيل لما بداخلها في حوانيت مسقط رأسه ومتاجر الجريد عامة غير أنها لا تتخلي عن تكرار عباراتها المألوفة
ـــ من أين جئت بهذا ياكبدي؟
ـــ يرفع العروسي رأسه تباهيا وافتخارا
ـــ من تاجر المتلوي ياأمي.
ـــ لابد أنك أنفقت مقابل الحصول عليه كل ما قبضته من عملك.
ـــ جزء ضئيل منه اشتريته بمقابل مالي وأكثره واقتنيته بالكريدي.
ـــ يقال إن عمال المتلوي وهائن لدي شركة الفسفاط لكثرة عيشهم بالكريدي.
تدخل حدة بنت الحركاتي وإذ تقع عيناها علي العروسي تتصنع الخجل
فتتـظاهر بالخروج قبل أن تناديها العجوز.
ـــ حدة تعالي ولا تخجلي لقد جلب العروسي اللوبان من المينة لأمنحك منه بعض الحبات لايهتم بها العروسي الذي يكتفي بمتابعة مايدور بينهما من حديث
ـــ وعندما تخرج الفتاة تقترب منه أمة قائلة.
ـــ حدة تقوي عودها ولحستها الغولة ياولدي.
لحستها الغولة أوالجنية فما دخلي أنا في ذلك.
ـــ إن أردت أخطبها لك؟
أمي. إن كنت ترغبين في أن أزورك مستقبلا فلا تحدثيني عن حدة. فأنا لا ولم ولن أفكر فيها إطلاقا.
= ينتهي الحوار بالصمت
يعرف مصطفي أن العروسي كان أكثر عمال الداموس فتوة وقدرة علي تحمل الصعاب والصبر علي الأتعاب وكان خارج المنجم كريما بشوشا يستقبل زملاءه في بيته ويعقد لهم مجالس الأنس والصفاء فيشربون الشاي ويحتسون اللاقمي المر» القيشم «الذي يستورد له خصيصا من حامة الجريد في أغلب المناسبات التي يزوره فيها أحد الأقارب من أبناء قريته إلا أن الذي حدث غير مجري حياة الرجل، فقد أنهار عليه سلخ من النفق لما كان داخله لاستخراج الفسفاط فتسبب في كسر رجله اليسري التي لم يتفنن الطبيب الاوروبي بالمنجم في معالجتها إلا ببترها وبعد شهرين من الإقامة بالمستشفي خرج العروسي متأبطا عكازا ولاتعويض له عما حل به من طرف الشركة الاستعمارية التي اعتبرته في تقرير مهندس المنجم مخطئا ويتحمل المسئولية فيماحصل.
تعاطف عمال المنجم مع زميلهم فجمعوا له بعض النقود لمواساته وللتخفيف مما أصابه وتفاعل الخضار والعطار والجزار مع الحدث فتخلوا علي ما بذمته لديهم من الكريدي وجاء أقاربه من الجريد لإرجاعه إلي مسقط رأسه فلم يفلحوا في إقناعه بالعودة معهم إذ قال لهم بصريح العبارة «هنا دفنت ساقي اليسري وهنا سأوصي أصدقائي بأن يحفروا لي قبرا تواري فيه رفاتي بعد موتي ولم يعد أحد يطلب منه مغادرة المتلوي حتي عندما يزور مسقط رأسه من حين لآخر قبل أن يتوفي الله أمه.
تذكر العروسي أنه قد اشتغل صانعا لدي أحد الحدادين في قرية دقاش عندما كان مراهقا ففكر في مواصلة حياته وحول سقيفة مسكنه إلي ورشة صغيرة للحدادة يمارس فيها أعمالا بسيطة ومتواصلة لصنع الواقيات الحديدية للشبابيك بالأحياء الفوضوية التي برزت كالفقاقيع تحمل أسماء سكانها الطرابلسية والمغاربة والسوافة والجريدية ومداشر أولاد عمارة. أولاد مبارك. أولاد دينار، أولاد سحيم، أولاد سلامة، أولاد رضوان.
وكان أصحاب المساكن يقون منافذ بيوتهم بالعوارض الحديدية التي يصنعها العروسي حماية لها من تسرب اللصوص والمتربصين ببعض النسوة عندما يغادر أزواجن المنازل ليلا للعمل بالفوج الثالث من العاشرة إلي السادسة صباحا.
أما الأهالي والقاطنون بالبادية في مناطق الحمارة والسبسب والسقي الغربي وريشة النعامة فقد كانوا يحملون إلي الحداد الشاب المناجل والفؤوس وسكك المحاريث لشحذها متعاطفين معه في مصابه فيجودون عليه أحيانا باللبن والحليب والسمن والبيض.
وتحرك دولاب حظ الرجل رغم بعض الإعياء الذي ينتابه عندما تتوانر مسارات عمله لأنه لايستطيع تحمل الوقوف كثيرا علي ساق واحدة معتمدا علي عكازه الذي لايمنحه فرص الاستعداد المناسب للعمل فكان أصدقاؤه يساعدونه دون إشعاره بحاجته إليهم فيسوون له بعض القضبان الحديدية التي كان بعضهم يسرقها من مقتنيات ورشة الحدادة بشركة الفسفاط بل يتعدون ذلك العمل فيصنعون له بعض الأشكال التي يهيء أمثلتها ليشد بعضها إلي بعض بأساور معدنية لغرض تحويلها إلي هيكل واحد متماسك بعد تسويته الشيء الذي يجعل العامل إبراهيم يصرخ بالقول
الصلاة علي النبي خمسة وخميس عليك يا العروسي هذا أحسن من شبابيك دار مدير الكبانية.
بدأت الفرنكات تتجمع في بيت العروسي الذي لم يكن يخشي عليها من السرقة لأن جلاسه أوفياء مخلصين له ولكنته أصبح يشعر بالقلق نتيجة تزايدها وخاف من أن يأتي يوم فينفقها فيما لايعنيه إثر نشوة ناجمة عن عربدة خمرية لذلك فكر في موضوع هام.
اغتنم ذات مساء فرصة تأخر قدوم أصدقائه ووفادة مصطفي فأسر له
ـــ مصطفي أنت صاحبي وأخي.
ـــ ربي يستر ياالعروسي خير إن شاء الله.
ـــ أريد منك أن تكلم لي ولد الزرقة
ـــ في خصوص ماذا؟
ـــ في خصوص رغبتي في الزواج من أخته مباركة.
ـــ يعني أنك ستغلق في وجوهنا باب حانوتك عندما تتزوج؟
لا يا مصطفي الحانوت يبقي حانوتا للعمل ولتجمع الأصدقاء أما الحوش فيصبح لي ولزوجتي فقط بعدما أفتح بابا شرقيا لكي تدخل وتخرج دون أن يراها أحد من جلاسي.
صمت مصطفي قليلا وعيناه تنظران الي زبرة الحدادة ثم رفعهما في وجه العروسي:
ـــ أمهلني عدة أيام حتي آتيك بالجواب.
تغيب مصطفي نصف أسبوع عن مجالسة أصدقائه بالورشة حتي ظنوا أنه علي سوء اتفاق أو خصومة مع العروسي وفي اليوم الموالي التحق بهم فتملي الحداد ملامح وجه صاحبه برموزه وسيمائه فاستنتج أنها تشي بإجابات لا يرغب في الاستماع إليها خصوصا وأن مصطفي قد انضم إلي المجلس علي غير حيويته المعهودة وظل يطلق تنهيداته من حين إلي آخر. وعندما بدأ إخوان الصفاء في مغادرة المحل هتف العروسي بصاحبه.
ـــ مصطفي لا تتعجل الخروج قبل أن أتحدث معك في موضوع خاص .
ـــ تأخر مصطفي عن الخروج وعندما خلا المحل إلا منهما طلب العروسي متلهفا:
ـــ قل لي .. ماذا قال لك ولد الزرقة.
ـــ ولد الزرقة رجل شهم لم يمانع في الموضوع.
ـــ يعني أنني أستطيع الاستعداد للخطوبة.
ـــ لا.. مع الأسف .. أخته العنيدة رفضت المقترح بدعوي أنك.
ـــ فهمت.. أرجوك لا تفش سرا لأحد.
ـــ حرك مصطفي رأسه مؤيدا طلب العروسي.
في اليوم الموالي فوجيء الجميع بأن أصبحت ورشة العروسي مغلقة ومراليوم الثاني والثالث والرابع وهو غائب عن القرية. قال إبراهيم.
العروسي ذاب كالملحة.
عقب حميدة
كان يجدر أن يعلمنا بمقصده قبل غيابه.
استنتج آخر أنه قد يكون سافر إلي حامة الجريد لأمر طاريء ولم ينبس مصطفي بكلمة.
بعد أسبوعين فتح العروسي ورشته فتوافد عليه الزبائن بوفرة.. هذا يطالب بشباك فات الموعد المضروب لتسليمه بعد دفع عربون نصف ثمنه وهذا يريد التعجيل بشحذ مناجله لأن موسم الحصاد علي الأبواب رهذه ترغب في حشو ثقب بقصعة الحديد المخصصة لغسل الملابس وآخر يريد تصفيح حصانه أبغله
وفي المساء انعقد المجلس وكمان أصحابه ضمأي للقيشم الذي يجلبه معه كلما
وطئت قدماه مسقط رأسه غير أنهم لم يترشفوا في تلك السهرة إلا الشاي ولم يتجرأوا عن السؤال لهذا التغيير المفاجيء
حل شهر جويلية فكثر الصخب الليلي بالقرية هذا ختان ولد فلان وهذا عرس فلان بفلانة وهذا الذي تسمع فيه أصوات القوابلية مصحوبا بدق الطبول هو حفل زفاف صالح ولد العكوري علي مباركة بنت الزرقة أحس العروسي بوخزه في صدره أوجعته أكثر مما أوجعة حيث بتر ساقاه ولكنه تحلي بالشجاعة وصبر علي ما أصابه.
ومرت الحادثة بسلام ربما لأن أصحابه قد أنخرطوا في أجواء خمرية
متواترة خلال أماسي ذلك الشهر ليتناسواعزوبتهم فأنسوا العروسي ما يفكر فيه إلي درجة أنه شك في أن مصطفي قد أخبرهم بالموضوع للتخفيف من وطأته عليه فلم يتأخر ذات مساء وهو ينفرد به عن طرح السؤال الحائر:
أعلم الجماعة بالموضوع يا مصطفي
لا ورأسي سيدي حركات
مرت بقية صيف حار وخريف مكفهر وشتاء ممطر وربيع مزهر ونسي العروسي مباركة بنت الزرقة وطن أنه سوف لا يفكر فيها إلي الأبد لولا دخولها ذات صباح ورشته الصغيرة والطقس قائض في أواسط الصيف الموالي، وكأنها لص يبحث عن مخبأ من ملاحقيه، فوجئ الرجل بوجودها غير أنه لم يضطرب وأظهر أنه لا يعرفها عندما حيته..
ـــ صباح الخير يا سي العروسي.
ـــ صباح الخير.. تفضلي.. ألك حاجة عندي.
أنا مباركة بنت الزرقة
ـــ عرفتك.
تهاوت المرأة فوق كيس مملوء بالتراب كان أصحاب الحداد قد أعدوه كغيره من الأكياس للجلوس فوقه وبدأت تذرف الدموع وتبكي بصوت منخفض.
ـــ سامحني ياسي العروسي لقد ظلمتك
متي ظلمتني وأنا لا أذكر أني تعاملت معك أو حدثتك قبل هذا اليوم .
ـــ صحيح، لكنني رفضت الزواج منك لأنك تمشي علي رجل واحدة.
ـــ كل شيء بالمكتوب وهذا لا يهم فأنا متسامح والمسامح كريم.
إذن أنت لم تعد تحقد علي
ـــ لماذا أحقد عليك؟
ـــ لأنني قلت ما يجرح إحساسك.
ـــ إحساسي لم تصبه جروح حتي عندما بترت رجلي.
سكتت المرأة هنيهة ثم واصلت كلامها
ـــ لهذا أنا قد جئت لأعرض عليك نفسي للزواج منك.
وأين زوجك الذي أعلن زفافه عنك في الصيف الماضي
مات يا سي العروسي، بعدما أصيب بمرض الجدري
ـــ عظم الله أجرك والبركة فيك، الله اكبر.. ومتي توفي.
ـــ ليلة الإحتفال بعيد الشغل
ـــ هو الله يرحمه أما أنا فلست صالحا للزواج منك الآن.
ودون أن يلفظ بكلمة أخري رفع مطرقته وهوي بها علي قضيب حديدي فسوي اعوجاجة فوق السندان.
نظرت مباركة بنت الزرقة إلي القضيب الحديدي تتأمل استقامته
وبصمت وقفت وبسكوت انسحبت من الدكان.
.