محمد بشكار - اتَّسع غيابُنا وضاق الوطن!..

نحن شعبٌ ولا أستثني نفسي من العُشب الذي على هشاشته يكْلأ المتنفِّذون، نُحقِّق حضورنا الذاتي في الغياب، ولستُ أعْني ذلكم الغياب المُسْتَحب الذي يفيد التواضع، وإلا مَنْ تراه في زمننا يملك القدرة على اختيار الإقامة في الظل متنازلا لغيره عن حصَّة من الضوء عساه يتمتع بفرصة للعيش، إنما أقصد الغياب الذي يجعلنا بتقاعس بعض الناس عن أداء واجبهم المهني والسياسي والثقافي، غائبين جميعا عن الوطن، فلا أحد هناك في المستشفى قد يسبق ملاك الموت الذي لا مهرب من حتميته القدرية، ولو بجُرعة للتَّخفيف من ألم المريض، ولا أحد يشتغل لإيجاد حل لأزمة الشُّغل، أما مؤسساتنا السياسية الموكول لضمائرها الغائبة الدفاع عن حقوق المقهورين، فقد اختارت الحياد في المساحة الفارغة بين من يشُدُّ الحزام بقبضة من حديد ومن يشده أسفل قليلا للرقص، وشتان بين من يختار المواجهة والصراع وبين من يمسك الإيقاع !
لسْنا بحاجةٍ إلى أن نفتح جرحا في ذاكرتنا، لكي نقتفي أثر هذا الغياب المُمتد في ما يشبه التسلسل الإجرامي، إلى زمن المدرسة منذ نعومة أظافرنا الابتدائية، ألمْ نكن بقاماتنا الفتِية التي لا تتجاوز في العلو عباد الشمس، نقف مثنى.. مثنى أمام باب القسم الذي مثلما ينتظر أن نملأ فراغه بولوجنا، كُنا كذلك نَنتظر قدوم المعلم ليملأ فراغنا السَّقيم للمعرفة، وحدنا بقينا نملأ الفراغ ثابتين كالأشجار الصغيرة في الساحة خارج القسم، ننتظر مجيء المعلم بأعيننا التي نطوِّحها بين نظرة وأخرى إلى البوابة الكبرى للمدرسة، لا أحد يدخل من الباب سواه مستقبلنا يتوارى مع المعلم في الغياب، كل الأقسام من مختلف المستويات التربوية احتضنت الآن في أرحامها التلاميذ لتعيدهم خلْقا جديدا بمراحل متقدمة في الحياة، إلا صفَّنا الذي صار اليوم أطول بعد أن انضم إلى طابور من الضائعين مما جعل كل البلد في حالة انتظار، أما كان أجدر بالإدارة أن تُعوِّض خسارتنا التاريخية بمعلِّم آخر بَدَلَ أن تبعث الحارس العام ليدحونا إلى خارج المدرسة وهو يصفق كفيه كمَنْ ينفض الغبار، ماذا ترانا نصْنع ونحن الطلقاء، أنمضي إلى البيت صاغرين أو نمْتثِل لنداء الشيطان نقضي معه حصة الدراسة لعباً بالنار في الشارع ، منْ كان بمثل شغبي يحلِّق مع الطيور سيفهمني، بل ويفهم أيضا مع التقدُّم في العمر درسا مصيريا في الحياة، ورغم أنَّه لم يكن ينجح كأترابه المُجدِّين بالعَشرة على عَشَرة إلا أنَّه أفْلح بتجربة العِشرة مع الغياب!
اسْتَحْلينا الغياب وما زلنا إلى اليوم مُرابطين في صفِّنا بالساحة المدرسية، ننتظر قدوم المعلم لينقذنا من الخطر المُحْدق بوعينا الصغير في الشارع، ولا أنْكر أنَّ بيننا نحن التلاميذ مَنْ لِشِدَّة توْقه للانعتاق من الجدران الأربعة التي تحاصرنا بسبُّورتها السوداء، قد تشعْوذ في تفكيره واقتص من الذباب الأجنحة، ولم ينس وهو يدفنها عند موطئ البوابة الكبرى للمدرسة، أن يتلو بعض التعاويذ لتقف بأحْجبتها السِّحرية عائقا دون حضور المُعلم، لم أكنْ أتوقع أن مثل هذه الحِيل اللئيمة التي تمتح مرجعيتها من الدَّجَل، ستمتد بنجاحها الذي أفشل مستقبلنا إلى أبعد مدى، وأن المعلِّم سيغيب ببذْرته إلى الأبد عن كل ما يُشكِّل عصب الحياة في البلد، وها نحن نَجْني مُرَّه وليس ثمرهُ حِصْرماً بعد أن انعكس غياب المعلم في ما نعيشه اليوم من انحطاط في سلوك المعاملات وضحالة في الوعي وإلحادٍ لقيم الشرف والأمانة والوفاء والصدق في العمل، وليته اتخذ لإلحاده بهذه القِيم صنماً كُنا آمنا رغم ما في الجنة من نار!
كيف إذاً لا نفقد الأمل في المستقبل ونحن نكابد من أفظع غياب يقترفه النواب في حق الأمة ، تاركين الشعب في مجلسه التمثيلي فارغا دون صوت ولو لأجل الغناء في الحمَّام، فهل يكفي أن تقتطع إدارة البرلمان من التعويضات الشهرية لبعض نوام الأمة وتنشر أسماءهم في الجريدة الرسمية، كي نستعيد جميعا مع المعلم الأول بلدنا من الغياب؟
كبرنا ولم نخلع وِزرة التلميذ الذي فقد مُعلمه صغيرا، واستحْلينا العِشرة وصارت لا تهون مع الغياب، ولا غرابة حين نجد ظلال هذه الوضعية المأزومة، تَرِينُ اليوم بإرثها العقيم على كل أجهزتنا السياسية والاقتصادية والثقافية، ويتسع شللُها لِيُعطِّل من فاعلية مرافقنا الاجتماعية وإداراتنا التي لا تملأ شبابيكها إلا كراسي فارغة، ولن نبالغ إذا قلنا إن البلد يشتغل في حالة غياب علنية ولا أحد يتَّهم أحدا بالسكر والاعتداء على مصالح المواطنين، فما جدوى بلاد توجد على خريطة العالم ولا نوجد فيها إلا غائبين، لذلك نجد اليوم من لم يسْتسِغ التَّعايُش مع هذه الفوضى التي لا تفرِّق بين الكفؤ والانتهازي، فإما أن يُهاجر بدماغه البلد أو يترُك دماغه يهاجر رأسه مستسلماً للجنون وهو على يقين أن حظَّه سيءٌ في الجغرافيا؟

(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 26 دجنبر 2019)


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...