في المعتقل، كان صديقي مجاهد الدومة صامداً، الأمنجي الذي كُلّف بمهمة التحقيق معه أزعجه صمود وشجاعة مجاهد، فأراد أن يرى مجاهداً مهزوماً منكسراً، فمارس ضده أبشع أنواع الضرب، ورغم ذلك لم ينكسر صديقي.
أصبحت أمنية الأمنجي الوحيدة في الحياة هي رؤية دموع مجاهد، فكان يضربه يومياً، لكن صديقي كان صامداً. مرت الأيام والسياط ما زالت تنزل على ظهر صديقي، ودمعته ما زالت عصية على النزول.
وأخيراً إنتصرت الثورة، جاء الثوار وكسّروا السجن، واستسلم الأمنجية.
دخل الثوار الزنزانة التي يوجد فيها صديقي، وجدوه مقيداً بالسلاسل يقف الأمنجي بالقرب منه حاملاً سوطه.
قبض الثوار على الأمنجي، أبعدوا القيود عن يدي مجاهد، و قالوا له:
(لقد انتصرت الثورة يا مجاهد، أنت الآن في وطن يسع الجميع)
عندما سمع مجاهد هذا الكلام لم يصدق أُذنيه، فتحققت أمنية الأمنجي الوحيدة في الحياة. (سالت دموع مجاهد)
*****
في ذلك المساء الغريب، انفتح باب الزنزانة الضيقة رديئة التهوية، دخل رجل واسع الجبين، سهل الخدين، كث اللحية، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، يحمل حقيبة سوداء كبيرة، سلّم على المعتقلين، وضع الحقيبة وجلس.
أخذ المعتقلون ينظرون إليه باستغراب، ابتسم لهم وقال: (لا تخافوا! لقد أتيتُ لمساعدتكم).
فتح الرجل حقيبته الكبيرة، أخرج طعاماً وشراباً، قدمه للمعتقلين، كان الطعام شهياً والشراب لذيذاً، أكل المعتقلون حتى شبعوا.
فتح حقيبته مرة أخرى، استخرج سيجائر ماركة (برنجي) قدمه للمعتقلين، نظروا إليه مرة أخرى مستغربين، ولم يصدقوا أعينهم، لقد انقضت ثلاثة أشهر دون أن يدخنوا، أخذوا السجائر ودخنوه بمزاج فريد.
رأى الرجل آثار الضرب على ظهورهم، ففتح حقيبته الكبيرة، استخرج ترياقا أبيضا، مسحه على ظهورهم، فذهب الألم، ومنذ ذلك اليوم أصبحوا لا يتألمون عندما يضربهم الأمنجية. أخذ الرجل حقيبته وخرج من الزنزانة، ثم أغلق الباب خلفه. تساءل المعتقلون، من هو هذا الشخص؟ هل هو أمنجي؟
في الصباح دخل الضابط الكبير الزنزانة، فتسربت رائحة السيجائر إلى أنفه، فاجتمع بالجنود المناوبين في الليلة الماضية، واتهمهم بأنهم يتواطؤون مع المعتقلين ويقدمون لهم السيجائر. نفى العساكر هذه التهمة، لكنه لم يصدق كلامهم، وقام بمعاقبتهم وخصم من رواتبهم.
في مساء اليوم الثاني وفي نفس الموعد انفتح باب الزنزانة، دخل الرجل بحقيبته، أخرج لهم الطعام والشراب والسجائر، واستخرج خطابا وناوله لأحد المعتقلين قائلا: “هذه رسالة من حبيبتك.” قرأ المعتقل الرسالة وصاح قائلاً: “نعم .. إنها من حبيبتي”
وفي الصباح عثر الضابط الكبير على الجواب في جيب المعتقل، قرأه بغضب، ثم أحضر العساكر المناوبين في الليلة الماضية، واتهمهم بأنهم يدخلون الخطابات الغرامية للمعتقلين، وقام بفصلهم من الخدمة.
في اليوم الثالث وفي نفس التوقيت، وكالعادة انفتح باب الزنزانة، دخل الرجل بحقيبته، قدم لهم الطعام والشراب والسجائر.
قال أحد المعتقلين مخاطبا الرجل: “أيها الرجل الطيب لقد بلغني أن أمي مريضة فهلا سمحت لي بزيارتها؟”
رد الرجل الطيب متحسراً: “أيها الثوار الشرفاء، سأحضر لكم كل ما تحتاجونه لكنني لا أستطيع إخراجكم من هنا، فأنا حين أدخل لا يراني الأمنجية رغم أنني أعبُر أمام أعينهم، لكن أنتم لا تملكون هذه الكرامات.”
أصبح الرجل يأتي كل مساء، يعطي المعتقلين كل ما يحتاجون من الأشياء، حتى رسائل الغرام والصور والورود أصبحت تصل إلى المعتقلين عن طريق الرجل الطيب المجهول. أصبحت الزنزانات مثل الفنادق، الرجل الطيب يأتي بأشهى أنواع الطعام في المساء ويمسح الترياق على ظهور المعتقلين فلا يشعرون بألم الضرب إطلاقا.
بعد انتصار الثورة، بحث المعتقلون عن الرجل الطيب الذي كان يزور الزنزانات كل مساء، لم يجدوا له أثراً. سألوا أحد الحكماء عن ماهية الرجل المجهول، ذكروا له أوصافه بشكل دقيق. فقال الحكيم: “قبل عشر سنوات حدث زلزال في مدينة كاستموني التركية، وبعد أسبوعين استخرجوا طفلا من تحت الأنقاض، فذكر الطفل أن هناك رجلاً بهذه المواصفات كان يُحضر له الطعام والشراب أثناء الفترة التي قضها تحت الأنقاض، وذات الرجل كان يزور طفلة سقطت في بئر في قرية صغيرة جنوب اليابان. أنا أعتقد والله أعلم بأنه أحد الملائكة. هكذا قال الحكيم وصدقه الثوار.
*******
في كتفي الكنداكة الثائرة ملكان، ملك في الكتف اليمين يكتب الحسنات، وملك في الكتف اليسار يكتب السيئات. كانت الكنداكة تشارك في كل المواكب، ما إن يتم فض موكب إلا انضمت لموكب آخر، فتظل تتجول بين الأحياء طوال النهار باحثة عن المواكب لكي تشارك فيها، فتذهب إلى بُري، العباسية، شمبات، الجحفان، الديامة حطب القيامة وأمبدة، وإلى كل أحياء العاصمة.
في نهاية اليوم ترجع إلى منزلهم ويرجع معها الملكان.
يقول الملك الأول: “لقد كان يوماً شاقاً، ذهبنا إلى معظم الأحياء برفقة هذه الثائرة.”
يقول الملك الثاني: “يوم غد سترتاح هذه الثائرة الجميلة ولن تتجول في الأحياء وسنرتاح معها أيضاً.”
يتساءل الملك الأول: “ألا يوجد موكب غداً!”
يرد الملك الثاني: “غداً العصيان المدني”
فيبتسم الملك ابتسامة ملائكية.
*****
قبل الموكب بنصف ساعة، استعد صديقنا الجميل، جهّز ملصقات ورقية كثيرة، كتب خطاباً طالب فيه الرئيس بأن يتنحى عن الحكم، جهّز نسخاً كثيرة من ذات الخطاب، قرر أن يصل إلى القصر ويسلم الرئيس نسخة من الخطاب وبقية النسخ سيوزعها على الموظفين الذين يعملون هناك، إنها مهمة صعبة بالتأكيد لكنه لن يتخلى عنها وإن كلفه ذلك حياته، جهّز كماماته، اتصل على حبيبته وودّعها، ودّع والدته و إخوانه، ثم توضأ وخرج، وصل إلى صينية القندول في الزمن المحدد، وعندما اقترب الموعد حبس الناس أنفاسهم، ثم انفجرت زغرودة قوية، وانطلق الهتاف، وبدأت عبوات البمبان تتساقط مثل المطر، وبعد ثبات واستبسال تفرق الموكب، وبدأت معركة الكر والفر، لم يكن صديقي يعرف الكر والفر، أخذ أوراقه الكثيرة وتقدم بشجاعة قاصداً القصر الرئاسي، كان العسكر يقفون في الشارع المؤدي إلى القصر، اقترب منهم. أمر الضابط أحد الجنود بأن يطلق عليه النار، وجه الجندي سلاحه تجاه صديقنا، وأطلق عليه النار، سقط صديقنا على الأرض، سال دمه على الأسفلت، تساقط الورق الذي كان يحمله، واستسلمت روحه للموت، وكأن الطبيعة أرادت أن تعلن حزنها وغضبها في تلك اللحظة، فأظلمت الأرض بالغمام، وأمطرت السماء، وجاءت عاصفة ترابية كاسحة ملأت الأرجاء. وبعد انتهاء العاصفة، وذهاب الغمام، خرج موظفو القصر من مكاتبهم للذهاب إلى بيوتهم، فوجدوا أن ساحة القصر قد امتلأت بالأوراق، كميات مخيفة من الأوراق التي جاءت بها الرياح، قرأ الموظفون الأوراق فاكتشفوا أنها خطابات تدعوا إلى تنحي الرئيس.
اجتمع الرئيس بالقوات الأمنية فوراً، وبّخهم وغضب عليهم وسألهم مستنكراً: كيف وصلت هذه الأوراق الكثير إلى القصر؟
قال الضابط الكبير: لقد سقط شهيداً كان يحمل أوراقاً، وبعد سقوطه انطلقت العاصفة الترابية، رأينا الأوراق تتطاير في الهواء، وبعد ذلك أظلمت الأرض ولم نر شيئاً.
كان الجنرال يعمل على إعداد خطة لمكافحة المتظاهرين والقضاء عليهم، أما الآن فقد بدأ يفكر بصور جادة لإعداد خطة لمكافحة الهواء والقضاء عليه.
*****
بعد أن عرف مدير المخابرات بأن أعضاء تجمع المهنيين سيكونون في قيادة الموكب، أرسل عدداً من أفراد الأمن من المشهود لهم بالقسوة والتفاني في العمل، أمرهم بأن يكونوا داخل الموكب ووسط الثوار، وكانت مهمتهم هي اكتشاف أعضاء التجمع واعتقالهم جميعا.
وعندما انطلق الموكب كان أعضاء التجمع في وسط الثوار، يوجهون سير الموكب، ويساعدون المصابين.
في ذلك اليوم رأى الثوار أعضاء التجمع وتعرفوا عليهم.
أفراد الأمن الذين كانوا وسط الموكب لم يروا أعضاء التجمع، فقط كانوا يرون جرادلا تأتي بمفردها وتغطي عبوات البمبان، والمتاريس الكبيرة تتحرك من الرصيف بمفردها وتغلق الطريق أمام عربات الأمن.
في الموكب كان الجميع يرى أعضاء التجمع وهم يقومون بأدوار عظيمة، إلا الأمنجية لا يرونهم، ويتساءلون دوما:
من هم قادة التجمع، لماذا لا نراهم؟
بالتأكيد لن يرى الأمنجية أعضاء التجمع، لأن الشياطينُ لا تستطيع رؤية الملائكة.
*****
من هو أدمن صفحة تجمع المهنيين في موقع فيس بوك؟ هذا السؤال حيّر الجميع. في حقيقة الأمر كان هناك شخصان فقط يعرفان كلمة المرور الخاصة بصفحة التجمع. تمكنت السلطات من القبض على الشخص الأول.
ونتيجة للتعذيب الشديد منحهم كلمة المرور للصفحة، وعندما أردوا الدخول إليها وصلهم إشعار بأن كلمة المرور قد تم تغييرها، فأدركوا أن شخص الآخر غيّر كلمة المرور.
تبقى شخص واحد يعرف كلمة المرور، وبعد مجهود جبار استطاعت سلطات القمع القبض عليه، حاولوا أن يأخذوا منه رمز الدخول للصفحة، لكنه رفض، فقاموا بتعذيبه، توفى الشخص نتيجة للتعذيب الشديد، وفقدت سلطات القمع الكرت الأخير الذي يدخلها الصفحة.
وبعد موت الشخص الأخير، أصبح الآن لا يوجد شخص يعرف كلمة المرور لصفحة تجمع المهنيين.
ورغم ذلك استمرت البيانات تخرج في موعدها بذات اللغة الرصينة الجميلة الأمر الذي حيّر سلطات القمع وحيّر الجميع. من يدير الصفحة الآن؟ بل حتى المعارضة لم تكن تعرف من يدير الصفحة، لكنها لم تنزعج طالما أن الثورة مستمرة والبيانات تخرج بصورة منتظمة وبتوجيهات رائعة.
أخيرا انتصرت الثورة، تم القبض على جميع لصوص السلطة وقُدموا للمحاكمات، اجتمع الثوار لمناقشة قضية التحول السلمي والبديل الديموقراطي، حينها بدأوا يسألون أنفسهم عن أدمن الصفحة بعد موت الشخص الأخير؟ لكن لا أحد يعرف.
فكتبوا في صفحاتهم بأن يا أدمن الصفحة لقد انتصرت الثورة فاظهر لكي تُدير المرحلة الانتقالية فأنت تستحق ذلك عن جدارة.
حينها كتب أدمن الصفحة البيان الأخير وأهم ما جاء فيه هو قوله: “أيها الثوار الشرفاء، أنتم من قمتم بهذه الثورة وأنتم من تحددون مصيركم، أما أنا فقد انتهت مهمتي هنا، وسيرفعني الله إليه.”
البيان أُرفق معه فيديو لشخص ضخم يرتدي زي البابا ويحمل إنجيلا في يده اليمنى وصليبا في يده اليسرى، واقفا أمام كنيسة ضخمة ومنها انطلق مثل السهم إلى السماء.
اتفق كل خبراء التصوير على أن الفيديو حقيقي تماما. ومن بعد هذا البيان اختفت صفحة تجمع المهنيين إلى الأبد.
محمد أحمد محمد إسحق - السودان
gealgaded.com
أصبحت أمنية الأمنجي الوحيدة في الحياة هي رؤية دموع مجاهد، فكان يضربه يومياً، لكن صديقي كان صامداً. مرت الأيام والسياط ما زالت تنزل على ظهر صديقي، ودمعته ما زالت عصية على النزول.
وأخيراً إنتصرت الثورة، جاء الثوار وكسّروا السجن، واستسلم الأمنجية.
دخل الثوار الزنزانة التي يوجد فيها صديقي، وجدوه مقيداً بالسلاسل يقف الأمنجي بالقرب منه حاملاً سوطه.
قبض الثوار على الأمنجي، أبعدوا القيود عن يدي مجاهد، و قالوا له:
(لقد انتصرت الثورة يا مجاهد، أنت الآن في وطن يسع الجميع)
عندما سمع مجاهد هذا الكلام لم يصدق أُذنيه، فتحققت أمنية الأمنجي الوحيدة في الحياة. (سالت دموع مجاهد)
*****
في ذلك المساء الغريب، انفتح باب الزنزانة الضيقة رديئة التهوية، دخل رجل واسع الجبين، سهل الخدين، كث اللحية، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، يحمل حقيبة سوداء كبيرة، سلّم على المعتقلين، وضع الحقيبة وجلس.
أخذ المعتقلون ينظرون إليه باستغراب، ابتسم لهم وقال: (لا تخافوا! لقد أتيتُ لمساعدتكم).
فتح الرجل حقيبته الكبيرة، أخرج طعاماً وشراباً، قدمه للمعتقلين، كان الطعام شهياً والشراب لذيذاً، أكل المعتقلون حتى شبعوا.
فتح حقيبته مرة أخرى، استخرج سيجائر ماركة (برنجي) قدمه للمعتقلين، نظروا إليه مرة أخرى مستغربين، ولم يصدقوا أعينهم، لقد انقضت ثلاثة أشهر دون أن يدخنوا، أخذوا السجائر ودخنوه بمزاج فريد.
رأى الرجل آثار الضرب على ظهورهم، ففتح حقيبته الكبيرة، استخرج ترياقا أبيضا، مسحه على ظهورهم، فذهب الألم، ومنذ ذلك اليوم أصبحوا لا يتألمون عندما يضربهم الأمنجية. أخذ الرجل حقيبته وخرج من الزنزانة، ثم أغلق الباب خلفه. تساءل المعتقلون، من هو هذا الشخص؟ هل هو أمنجي؟
في الصباح دخل الضابط الكبير الزنزانة، فتسربت رائحة السيجائر إلى أنفه، فاجتمع بالجنود المناوبين في الليلة الماضية، واتهمهم بأنهم يتواطؤون مع المعتقلين ويقدمون لهم السيجائر. نفى العساكر هذه التهمة، لكنه لم يصدق كلامهم، وقام بمعاقبتهم وخصم من رواتبهم.
في مساء اليوم الثاني وفي نفس الموعد انفتح باب الزنزانة، دخل الرجل بحقيبته، أخرج لهم الطعام والشراب والسجائر، واستخرج خطابا وناوله لأحد المعتقلين قائلا: “هذه رسالة من حبيبتك.” قرأ المعتقل الرسالة وصاح قائلاً: “نعم .. إنها من حبيبتي”
وفي الصباح عثر الضابط الكبير على الجواب في جيب المعتقل، قرأه بغضب، ثم أحضر العساكر المناوبين في الليلة الماضية، واتهمهم بأنهم يدخلون الخطابات الغرامية للمعتقلين، وقام بفصلهم من الخدمة.
في اليوم الثالث وفي نفس التوقيت، وكالعادة انفتح باب الزنزانة، دخل الرجل بحقيبته، قدم لهم الطعام والشراب والسجائر.
قال أحد المعتقلين مخاطبا الرجل: “أيها الرجل الطيب لقد بلغني أن أمي مريضة فهلا سمحت لي بزيارتها؟”
رد الرجل الطيب متحسراً: “أيها الثوار الشرفاء، سأحضر لكم كل ما تحتاجونه لكنني لا أستطيع إخراجكم من هنا، فأنا حين أدخل لا يراني الأمنجية رغم أنني أعبُر أمام أعينهم، لكن أنتم لا تملكون هذه الكرامات.”
أصبح الرجل يأتي كل مساء، يعطي المعتقلين كل ما يحتاجون من الأشياء، حتى رسائل الغرام والصور والورود أصبحت تصل إلى المعتقلين عن طريق الرجل الطيب المجهول. أصبحت الزنزانات مثل الفنادق، الرجل الطيب يأتي بأشهى أنواع الطعام في المساء ويمسح الترياق على ظهور المعتقلين فلا يشعرون بألم الضرب إطلاقا.
بعد انتصار الثورة، بحث المعتقلون عن الرجل الطيب الذي كان يزور الزنزانات كل مساء، لم يجدوا له أثراً. سألوا أحد الحكماء عن ماهية الرجل المجهول، ذكروا له أوصافه بشكل دقيق. فقال الحكيم: “قبل عشر سنوات حدث زلزال في مدينة كاستموني التركية، وبعد أسبوعين استخرجوا طفلا من تحت الأنقاض، فذكر الطفل أن هناك رجلاً بهذه المواصفات كان يُحضر له الطعام والشراب أثناء الفترة التي قضها تحت الأنقاض، وذات الرجل كان يزور طفلة سقطت في بئر في قرية صغيرة جنوب اليابان. أنا أعتقد والله أعلم بأنه أحد الملائكة. هكذا قال الحكيم وصدقه الثوار.
*******
في كتفي الكنداكة الثائرة ملكان، ملك في الكتف اليمين يكتب الحسنات، وملك في الكتف اليسار يكتب السيئات. كانت الكنداكة تشارك في كل المواكب، ما إن يتم فض موكب إلا انضمت لموكب آخر، فتظل تتجول بين الأحياء طوال النهار باحثة عن المواكب لكي تشارك فيها، فتذهب إلى بُري، العباسية، شمبات، الجحفان، الديامة حطب القيامة وأمبدة، وإلى كل أحياء العاصمة.
في نهاية اليوم ترجع إلى منزلهم ويرجع معها الملكان.
يقول الملك الأول: “لقد كان يوماً شاقاً، ذهبنا إلى معظم الأحياء برفقة هذه الثائرة.”
يقول الملك الثاني: “يوم غد سترتاح هذه الثائرة الجميلة ولن تتجول في الأحياء وسنرتاح معها أيضاً.”
يتساءل الملك الأول: “ألا يوجد موكب غداً!”
يرد الملك الثاني: “غداً العصيان المدني”
فيبتسم الملك ابتسامة ملائكية.
*****
قبل الموكب بنصف ساعة، استعد صديقنا الجميل، جهّز ملصقات ورقية كثيرة، كتب خطاباً طالب فيه الرئيس بأن يتنحى عن الحكم، جهّز نسخاً كثيرة من ذات الخطاب، قرر أن يصل إلى القصر ويسلم الرئيس نسخة من الخطاب وبقية النسخ سيوزعها على الموظفين الذين يعملون هناك، إنها مهمة صعبة بالتأكيد لكنه لن يتخلى عنها وإن كلفه ذلك حياته، جهّز كماماته، اتصل على حبيبته وودّعها، ودّع والدته و إخوانه، ثم توضأ وخرج، وصل إلى صينية القندول في الزمن المحدد، وعندما اقترب الموعد حبس الناس أنفاسهم، ثم انفجرت زغرودة قوية، وانطلق الهتاف، وبدأت عبوات البمبان تتساقط مثل المطر، وبعد ثبات واستبسال تفرق الموكب، وبدأت معركة الكر والفر، لم يكن صديقي يعرف الكر والفر، أخذ أوراقه الكثيرة وتقدم بشجاعة قاصداً القصر الرئاسي، كان العسكر يقفون في الشارع المؤدي إلى القصر، اقترب منهم. أمر الضابط أحد الجنود بأن يطلق عليه النار، وجه الجندي سلاحه تجاه صديقنا، وأطلق عليه النار، سقط صديقنا على الأرض، سال دمه على الأسفلت، تساقط الورق الذي كان يحمله، واستسلمت روحه للموت، وكأن الطبيعة أرادت أن تعلن حزنها وغضبها في تلك اللحظة، فأظلمت الأرض بالغمام، وأمطرت السماء، وجاءت عاصفة ترابية كاسحة ملأت الأرجاء. وبعد انتهاء العاصفة، وذهاب الغمام، خرج موظفو القصر من مكاتبهم للذهاب إلى بيوتهم، فوجدوا أن ساحة القصر قد امتلأت بالأوراق، كميات مخيفة من الأوراق التي جاءت بها الرياح، قرأ الموظفون الأوراق فاكتشفوا أنها خطابات تدعوا إلى تنحي الرئيس.
اجتمع الرئيس بالقوات الأمنية فوراً، وبّخهم وغضب عليهم وسألهم مستنكراً: كيف وصلت هذه الأوراق الكثير إلى القصر؟
قال الضابط الكبير: لقد سقط شهيداً كان يحمل أوراقاً، وبعد سقوطه انطلقت العاصفة الترابية، رأينا الأوراق تتطاير في الهواء، وبعد ذلك أظلمت الأرض ولم نر شيئاً.
كان الجنرال يعمل على إعداد خطة لمكافحة المتظاهرين والقضاء عليهم، أما الآن فقد بدأ يفكر بصور جادة لإعداد خطة لمكافحة الهواء والقضاء عليه.
*****
بعد أن عرف مدير المخابرات بأن أعضاء تجمع المهنيين سيكونون في قيادة الموكب، أرسل عدداً من أفراد الأمن من المشهود لهم بالقسوة والتفاني في العمل، أمرهم بأن يكونوا داخل الموكب ووسط الثوار، وكانت مهمتهم هي اكتشاف أعضاء التجمع واعتقالهم جميعا.
وعندما انطلق الموكب كان أعضاء التجمع في وسط الثوار، يوجهون سير الموكب، ويساعدون المصابين.
في ذلك اليوم رأى الثوار أعضاء التجمع وتعرفوا عليهم.
أفراد الأمن الذين كانوا وسط الموكب لم يروا أعضاء التجمع، فقط كانوا يرون جرادلا تأتي بمفردها وتغطي عبوات البمبان، والمتاريس الكبيرة تتحرك من الرصيف بمفردها وتغلق الطريق أمام عربات الأمن.
في الموكب كان الجميع يرى أعضاء التجمع وهم يقومون بأدوار عظيمة، إلا الأمنجية لا يرونهم، ويتساءلون دوما:
من هم قادة التجمع، لماذا لا نراهم؟
بالتأكيد لن يرى الأمنجية أعضاء التجمع، لأن الشياطينُ لا تستطيع رؤية الملائكة.
*****
من هو أدمن صفحة تجمع المهنيين في موقع فيس بوك؟ هذا السؤال حيّر الجميع. في حقيقة الأمر كان هناك شخصان فقط يعرفان كلمة المرور الخاصة بصفحة التجمع. تمكنت السلطات من القبض على الشخص الأول.
ونتيجة للتعذيب الشديد منحهم كلمة المرور للصفحة، وعندما أردوا الدخول إليها وصلهم إشعار بأن كلمة المرور قد تم تغييرها، فأدركوا أن شخص الآخر غيّر كلمة المرور.
تبقى شخص واحد يعرف كلمة المرور، وبعد مجهود جبار استطاعت سلطات القمع القبض عليه، حاولوا أن يأخذوا منه رمز الدخول للصفحة، لكنه رفض، فقاموا بتعذيبه، توفى الشخص نتيجة للتعذيب الشديد، وفقدت سلطات القمع الكرت الأخير الذي يدخلها الصفحة.
وبعد موت الشخص الأخير، أصبح الآن لا يوجد شخص يعرف كلمة المرور لصفحة تجمع المهنيين.
ورغم ذلك استمرت البيانات تخرج في موعدها بذات اللغة الرصينة الجميلة الأمر الذي حيّر سلطات القمع وحيّر الجميع. من يدير الصفحة الآن؟ بل حتى المعارضة لم تكن تعرف من يدير الصفحة، لكنها لم تنزعج طالما أن الثورة مستمرة والبيانات تخرج بصورة منتظمة وبتوجيهات رائعة.
أخيرا انتصرت الثورة، تم القبض على جميع لصوص السلطة وقُدموا للمحاكمات، اجتمع الثوار لمناقشة قضية التحول السلمي والبديل الديموقراطي، حينها بدأوا يسألون أنفسهم عن أدمن الصفحة بعد موت الشخص الأخير؟ لكن لا أحد يعرف.
فكتبوا في صفحاتهم بأن يا أدمن الصفحة لقد انتصرت الثورة فاظهر لكي تُدير المرحلة الانتقالية فأنت تستحق ذلك عن جدارة.
حينها كتب أدمن الصفحة البيان الأخير وأهم ما جاء فيه هو قوله: “أيها الثوار الشرفاء، أنتم من قمتم بهذه الثورة وأنتم من تحددون مصيركم، أما أنا فقد انتهت مهمتي هنا، وسيرفعني الله إليه.”
البيان أُرفق معه فيديو لشخص ضخم يرتدي زي البابا ويحمل إنجيلا في يده اليمنى وصليبا في يده اليسرى، واقفا أمام كنيسة ضخمة ومنها انطلق مثل السهم إلى السماء.
اتفق كل خبراء التصوير على أن الفيديو حقيقي تماما. ومن بعد هذا البيان اختفت صفحة تجمع المهنيين إلى الأبد.
محمد أحمد محمد إسحق - السودان
في مديح الثوار - جيل جديد
في المعتقل، كان صديقي مجاهد الدومة صامداً، الأمنجي الذي كُلّف بمهمة التحقيق معه أزعجه صمود وشجاعة مج