أعتقد أن الأناركية هي ابنة التمرد الإنساني، الجماعي و الفردي.. قد يصح أن الأناركية هي بشكل من الأشكال ابنة الثورات.. تشكل الثورات فرصة نادرة حقا لتجلي الأناركية و تجسدها في العقول و الأفعال، ليس فقط كتيار فكري سياسي من بين تيارات متنافسة، بل كتعبير عن توق البشر إلى الحرية و رغبتهم بأن يصبحوا سادة أنفسهم، أن يحطموا قيودهم ويعيشوا كبشر أحرار و متساوين.. يمكننا فهم ذلك إذا أدركنا الثورات كحراك شعبي عفوي عريض يهدف لتحطيم البنى القائمة و المهيمنة، كلحظات مؤقتة من التاريخ تمتلك فيها الجماهير قوة هائلة و حاسمة أحيانا.. لذلك فإن علاقة الأناركية المعاصرة وثيقة جدا بكومونة باريس والموجة الثورية العالمية بين عامي 1917 – 1923 والثورة الإسبانية 1936 وثورات 1968 الخ..
على عكس القول بأنه لا ثورة دون ثوريين، الأصح أنه لا ثوريين دون ثورة.. هذا يصح أيضا على ثورات ما سمي بالربيع العربي: عفوية هذه الثورات ولا مركزيتها، واعتمادها أساسا على الشباب غير المسيس بالمعنى التقليدي، و أشكال التنظيم الذاتي العفوي العابرة التي ظهرت مرارا في سياق هذه الثورات، عدا عن الدور الذي لعبته الأفكار و التكتيكات الأناركية مباشرة في هذه الثورات.. لم تتطابق انتفاضات الربيع العربي مع أي من التنظيرات السلطوية سواء من اليمين (الإسلام السياسي) أو اليسار التقليدي أو الليبرالي، لقد كانت في مجمل تفاصيلها نقيضا لتلك التنظيرات السلطوية.. لكن ليس هذا هو الأهم.. الأهم أنه مع هزيمة الثورات يستعيد السلطويون الجرأة على انتقاد مبادرات الجماهير العفوية لانتزاع مصيرهم بأيديهم و يعيدون الاعتبار لكل الأفكار و الممارسات السلطوية التي نقضتها الجماهير بنضالها الثوري: يعيدون اكتشاف أن الجماهير “عاجزة عن حكم نفسها و تسيير أمورها” دون قادة، دون سادة.. هذا يطرح سؤالا مهما: كيف يمكن لفكرة و ممارسة ثورية كالأناركية أن تستمر بعد هزيمة الثورات، و الأهم، كيف يمكن أن تساعد في مواجهة الردة الرجعية و الإعداد للهجوم الثوري القادم، ليس فقط على مستوى قمع الأنظمة الذي يزداد همجية مع كل لحظة، بل أيضا في نقد القوى “الثورية” التي تزداد سلطوية و ازدراءا للجماهير..
يملك الأناركيون رصيدا ثمينا في مواجهة الأنظمة القمعية و إن كان رصيدا حافلا بالهزائم و الآلام.. واجه الأناركيون الموجة القمعية الشرسة التي اجتاحت أوروبا بعد كومونة باريس بالديناميت و باستهداف كبار رموز القمع و دفع الكثير منهم ثمنا باهظا في هذه المواجهة قبل أن يغيروا تكتيكاتهم فيما بعد و يلعبوا دورا رئيسيا في تأسيس الحركة السينديكالية ( النقابية الثورية ) مع بداية القرن العشرين و التي لعبت دورا هاما في ثورات النصف الأول من ذلك القرن.. أعتقد أن مسالة التكتيكات التي يجب اتباعها اليوم تتعلق أساسا بالأهداف التي يريد الأناركيون تحقيقها.. أعتقد مثلا أن أحد أهم التحديات الماثلة أمامنا اليوم هي دمج الأفكار الأناركية بالطبقات الشعبية، ألا تبقى الأفكار الأناركية أسيرة الحلقات الشبابية ذات التعليم المتوسط أو العالي.. كان ماخنو و دوروتي و زاباتا و غيرهم عمالا أو فلاحين تمكنوا في لحظات النهوض الثوري من أن يلعبوا دورا استثنائيا في نضال الجماهير التحرري.. أعتقد أن تكتيكاتنا في مرحلة التراجع الثوري الراهنة يجب أن تخدم هذا الهدف..
على الصعيد الشخصي جعلتني الثورة أكثر إيمانا بالأناركية، أكثر من أي وقت مضى.. أذكى المثقفين و أشرس المعارضين يتحول بلمسة سحرية من عصا سلطة أو قوة سلطوية ما إما إلى ديكتاتور لا يتورع عن ارتكاب أشنع الجرائم أو إلى خادم ذليل ينضح عبودية و مازوخية أمام كرسي السلطة.. لا يوجد إنسان يستطيع أن يقول الحقيقة، مهما بلغت من وضوح، إذا تعلق الأمر بالقوة السلطوية التي يتبعها أو يبررها أو يتملقها.. لا تلمس السلطة شيئا إلا و تحوله إلى تفاهة، غباء، هراء، والأخطر: إلى جنون سلطوي منفلت لا يؤمن إلا بالسجون.. بمجرد أن تصبح اية فكرة إيديولوجيا سائدة، تبريرا لسلطة ما، حتى تتحول إلى عقيدة جامدة غير قادرة على تعديل نفسها أو “التطور” و قبول الآخر و محاورته أو قبول أدنى نقد أو أتفه محاولة للتفكير الحر أو المستقل..
هذا كله أثبت لي صحة الأناركية كبحث دؤوب لا يتوقف عن حرية الجسد و الفكر، كنفي لكل سلطة مصطنعة فوق البشر إلا سلطتهم هم على أنفسهم.. لقد جعلتني الثورة أكثر “شجاعة”، تحت قنابل الأسد في تلبيسة و الرستن و ادلب و الغوطة و أمام عربات الأمن المركزي في شوارع القاهرة، لكني أعترف أن ذلك كان لأننا اعتقدنا أننا على وشك تغيير العالم و التاريخ، مرة واحدة و إلى الأبد.. لكني أعتبر نفسي محظوظا أني على قيد الحياة اليوم، ليس فقط لأرى هزيمة أحلامنا، بل لأحاول أن أفهم بشكل موضوعي أكثر حقيقة ما حدث، ليس فقط منذ 2010 بل منذ تمرد أول عبد في التاريخ على سيده و على قدره.. أعترف أني اليوم أقل دوغمائية في فهم الأناركية و أكثر إيمانا بنسبية الحقيقة، أقل إيمانا “بالإنسان” و بفكرة التطور و أقرب للإيمان بعشوائية هذا العالم و عبثيته، أبعد عن الوصفات الأخلاقية الشائعة، عن الحتميات الكبرى و عن محاولة اختزال العالم في قوانين أو وصفات أو أفكار نهائية منجزة الخ.. إن هزيمة الثورات هي بالفعل هزيمة للحلم، هزيمة للجماهير، لكل ما هو تحرري، و انتصار للسلطوية بكل أشكالها و فاتحة لتغول جديد ضد الناس العاديين، لاستبدادات قديمة و جديدة.. لكن خلافا لكل الهراء عن الحتميات الكبرى، تبقى الثورة و التمرد الحتمية الأكيدة و الثابت الدائم في عالمنا حتى اليوم.. أن أحدا لن يستطيع أن يقضي نهائيا على التمرد و الثورة، أن يدجن البشر و يحولهم إلى روبوتات أو ببغاوات غبية.. لكن هذا أحد جانبي الحقيقة فقط: الجانب الآخر هو أن الثورات، و الناس العاديين، ما تزال تبحث، حتى الآن، عن نهاية لكل اضطهاد و قمع على هذه الأرض..
على الصعيد الشخصي أيضا وضعت الثورة أمامي تحديات جدية: إذا كانت الثورة تعني أن يتغير الناس العاديون، أن يتحولوا من عبيد إلى أحرار في كل شيء، فلا بد أن أكون أنا أيضا قادر على التغير، على ممارسة التمرد في كل شيء، أن أصبح أنا أيضا جديرا بأن أكون إنسانا حر….
على عكس القول بأنه لا ثورة دون ثوريين، الأصح أنه لا ثوريين دون ثورة.. هذا يصح أيضا على ثورات ما سمي بالربيع العربي: عفوية هذه الثورات ولا مركزيتها، واعتمادها أساسا على الشباب غير المسيس بالمعنى التقليدي، و أشكال التنظيم الذاتي العفوي العابرة التي ظهرت مرارا في سياق هذه الثورات، عدا عن الدور الذي لعبته الأفكار و التكتيكات الأناركية مباشرة في هذه الثورات.. لم تتطابق انتفاضات الربيع العربي مع أي من التنظيرات السلطوية سواء من اليمين (الإسلام السياسي) أو اليسار التقليدي أو الليبرالي، لقد كانت في مجمل تفاصيلها نقيضا لتلك التنظيرات السلطوية.. لكن ليس هذا هو الأهم.. الأهم أنه مع هزيمة الثورات يستعيد السلطويون الجرأة على انتقاد مبادرات الجماهير العفوية لانتزاع مصيرهم بأيديهم و يعيدون الاعتبار لكل الأفكار و الممارسات السلطوية التي نقضتها الجماهير بنضالها الثوري: يعيدون اكتشاف أن الجماهير “عاجزة عن حكم نفسها و تسيير أمورها” دون قادة، دون سادة.. هذا يطرح سؤالا مهما: كيف يمكن لفكرة و ممارسة ثورية كالأناركية أن تستمر بعد هزيمة الثورات، و الأهم، كيف يمكن أن تساعد في مواجهة الردة الرجعية و الإعداد للهجوم الثوري القادم، ليس فقط على مستوى قمع الأنظمة الذي يزداد همجية مع كل لحظة، بل أيضا في نقد القوى “الثورية” التي تزداد سلطوية و ازدراءا للجماهير..
يملك الأناركيون رصيدا ثمينا في مواجهة الأنظمة القمعية و إن كان رصيدا حافلا بالهزائم و الآلام.. واجه الأناركيون الموجة القمعية الشرسة التي اجتاحت أوروبا بعد كومونة باريس بالديناميت و باستهداف كبار رموز القمع و دفع الكثير منهم ثمنا باهظا في هذه المواجهة قبل أن يغيروا تكتيكاتهم فيما بعد و يلعبوا دورا رئيسيا في تأسيس الحركة السينديكالية ( النقابية الثورية ) مع بداية القرن العشرين و التي لعبت دورا هاما في ثورات النصف الأول من ذلك القرن.. أعتقد أن مسالة التكتيكات التي يجب اتباعها اليوم تتعلق أساسا بالأهداف التي يريد الأناركيون تحقيقها.. أعتقد مثلا أن أحد أهم التحديات الماثلة أمامنا اليوم هي دمج الأفكار الأناركية بالطبقات الشعبية، ألا تبقى الأفكار الأناركية أسيرة الحلقات الشبابية ذات التعليم المتوسط أو العالي.. كان ماخنو و دوروتي و زاباتا و غيرهم عمالا أو فلاحين تمكنوا في لحظات النهوض الثوري من أن يلعبوا دورا استثنائيا في نضال الجماهير التحرري.. أعتقد أن تكتيكاتنا في مرحلة التراجع الثوري الراهنة يجب أن تخدم هذا الهدف..
على الصعيد الشخصي جعلتني الثورة أكثر إيمانا بالأناركية، أكثر من أي وقت مضى.. أذكى المثقفين و أشرس المعارضين يتحول بلمسة سحرية من عصا سلطة أو قوة سلطوية ما إما إلى ديكتاتور لا يتورع عن ارتكاب أشنع الجرائم أو إلى خادم ذليل ينضح عبودية و مازوخية أمام كرسي السلطة.. لا يوجد إنسان يستطيع أن يقول الحقيقة، مهما بلغت من وضوح، إذا تعلق الأمر بالقوة السلطوية التي يتبعها أو يبررها أو يتملقها.. لا تلمس السلطة شيئا إلا و تحوله إلى تفاهة، غباء، هراء، والأخطر: إلى جنون سلطوي منفلت لا يؤمن إلا بالسجون.. بمجرد أن تصبح اية فكرة إيديولوجيا سائدة، تبريرا لسلطة ما، حتى تتحول إلى عقيدة جامدة غير قادرة على تعديل نفسها أو “التطور” و قبول الآخر و محاورته أو قبول أدنى نقد أو أتفه محاولة للتفكير الحر أو المستقل..
هذا كله أثبت لي صحة الأناركية كبحث دؤوب لا يتوقف عن حرية الجسد و الفكر، كنفي لكل سلطة مصطنعة فوق البشر إلا سلطتهم هم على أنفسهم.. لقد جعلتني الثورة أكثر “شجاعة”، تحت قنابل الأسد في تلبيسة و الرستن و ادلب و الغوطة و أمام عربات الأمن المركزي في شوارع القاهرة، لكني أعترف أن ذلك كان لأننا اعتقدنا أننا على وشك تغيير العالم و التاريخ، مرة واحدة و إلى الأبد.. لكني أعتبر نفسي محظوظا أني على قيد الحياة اليوم، ليس فقط لأرى هزيمة أحلامنا، بل لأحاول أن أفهم بشكل موضوعي أكثر حقيقة ما حدث، ليس فقط منذ 2010 بل منذ تمرد أول عبد في التاريخ على سيده و على قدره.. أعترف أني اليوم أقل دوغمائية في فهم الأناركية و أكثر إيمانا بنسبية الحقيقة، أقل إيمانا “بالإنسان” و بفكرة التطور و أقرب للإيمان بعشوائية هذا العالم و عبثيته، أبعد عن الوصفات الأخلاقية الشائعة، عن الحتميات الكبرى و عن محاولة اختزال العالم في قوانين أو وصفات أو أفكار نهائية منجزة الخ.. إن هزيمة الثورات هي بالفعل هزيمة للحلم، هزيمة للجماهير، لكل ما هو تحرري، و انتصار للسلطوية بكل أشكالها و فاتحة لتغول جديد ضد الناس العاديين، لاستبدادات قديمة و جديدة.. لكن خلافا لكل الهراء عن الحتميات الكبرى، تبقى الثورة و التمرد الحتمية الأكيدة و الثابت الدائم في عالمنا حتى اليوم.. أن أحدا لن يستطيع أن يقضي نهائيا على التمرد و الثورة، أن يدجن البشر و يحولهم إلى روبوتات أو ببغاوات غبية.. لكن هذا أحد جانبي الحقيقة فقط: الجانب الآخر هو أن الثورات، و الناس العاديين، ما تزال تبحث، حتى الآن، عن نهاية لكل اضطهاد و قمع على هذه الأرض..
على الصعيد الشخصي أيضا وضعت الثورة أمامي تحديات جدية: إذا كانت الثورة تعني أن يتغير الناس العاديون، أن يتحولوا من عبيد إلى أحرار في كل شيء، فلا بد أن أكون أنا أيضا قادر على التغير، على ممارسة التمرد في كل شيء، أن أصبح أنا أيضا جديرا بأن أكون إنسانا حر….