عندما عُيّنْتُ طبيباً مندوباً إلى السجن لثلاثة أشهر اعتبرْتُها نوعاً من العقوبة الوظيفيّة .. وطرقت باب السجن كارهاً وفُتح لي ودخلت من بابٍ إلى باب ومن دهليزٍ إلى سرداب ، وأقفلوا خلفي بالحديد ونفسي تغصّ كأنها تغوص من دركٍ إلى أعمق.
وصحيحٌ أنّ هنالك مكتباً لي يسمّونه مستوصفاً للسجن لكنّ نوافذه كانت شباكاً حديدية تمدُّ أصابعك الدافئة منها لتلامس الحرّية الباردة خارجاً .. وكان النزلاء المرضى منهم يعودونني فيه دورياً لأكشف عليهم شكليّاً وأملأ استماراتٍ ورقيّة لا بدّ منها للإحصاء .. وأحياناً كنت مضطرّاً للدخول إلى مهاجعهم للكشف على مريضٍ فيهم أو متمارض.
لهم رائحةٌ واحدة هي رائحة السجن .. ولونٌ واحدٌ شاحبٌ دخّاني كشحوب جدرانه .. وقصّةٌ واحدة يكرّرونها متعلّقة بتاريخ متوقّف وموقوف ومقيّد بيوم دخولهم السجن .. يريد البعض منك أن تسمع ، والبعض الآخر يعتبرك شرطياً برداءٍ أبيض فلا يعطيك يده لتقيس ضغطه إلا بصعوبة.
وشيئاً فشيئاً بدأت أكسب ودّ البعض وأستمتع برواياتٍ يرويها القاتل والسارق والزاني وغيرهم من النزلاء الهاوين من قيعان الحياة إلى هاوية الحبس.. كلٌّ حكواتيٌّ على طريقته ويفخر الفاعل بفعلته.
وقال أحدهم :
- لو سمحوا لي بهاتفي الذكي وشابكة مفتوحة لفضّلتُ السجن على الحرية.
وتابعت الاستماع مستغرباً فكرته فأردف يقول:
- لا نحتاج تلفازَهم هنا ولا برامجَه الموجّهة ولا أخبارَه المكرّرة بل نريد أخباراً شخصيّة لا تعطينا إياها إلا مواقع التواصل .. فما يقلقنا هنا هو جهلنا لما يجري في غيبتنا وغيابنا عن المحيطين بنا .. والأخبار التي ينقلونها لنا في زياراتهم الدورية أو اتصالاتهم الهاتفية ملفّقة وكاذبة ومختصرة .. كأننا من أهل الكهف ويقظتنا هنا سباتٌ طويل فنخرج –إن خرجنا –أحياءً من عالم آخر.
لا أشعر بالخوف على نفسي هنا فالسجن أكثر أمناً من حرّيتنا المخيفة .. ولكني أخاف على أهلي من الأحرار الطلقاء الذي يعيثون فساداً وحجبَتْني قضبان السجن عنهم.
وقال آخر :
- لو كان عندي انترنت هنا لشاهدت عائلتي بالصوت والصورة وعشت بينهم بأفراحهم وأتراحهم وحرّهم وقرّهم
ولاعتبرت نفسي مهاجراً عنهم فقط .. منفيّاً خلف الحدود كأيّ لاجئٍ سياسيّ وممنوعاً من دخول الوطن ، وها أنا آكل وأشرب وأستدفئ مجّاناً بدون شقاء .. لا بل وأتوا بك لتعالجنا في فراشنا وبلا مقابل .. آه وسجن الانترنت هو ما يؤرّقني ويقلقني لأنه يفصلني عن واقعي.
عندما أعطيتُ أحدَهم هاتفي الذكي للحظات – رغم علمي بأنّ ذلك ممنوع – كان مستعدّاً أن يدفع أو يقدّم لي أيَّ شيء أطلبه .. لكنّي تركته يدخل إلى حسابه في موقع التواصل ويرى ويكتب ويهيم ويبتسم ويتجهّم في دقائق كيفما تقوده الموجة المكتوبة.
وفاجأته ساحباً منه الهاتف بحجّة أن أحداً ما قد يرانا .. وأمرته أن ينصرف لأنّ الزيارة الطبية انتهت فانسحب بلا حول ولا قوة .. وأوقفته قبل أن يخرج قائلاً:
- إن بقيت ساكتاً فستتابع صفحتك غداً
ولم أجد بعدها حرجاً في متابعة صفحته التي ما زالت مفتوحة لأستطلع الجانب الافتراضيّ من حياته .. مروراً بصوره الشخصية والعائلية ومواقفه المكتوبة سابقاً وحواراته وتساؤلاته عنه وعنها وعنهنّ وعنهم .. أسماءَ وأسماء سطّرها في دقائق .. ونوافذَ إلكترونية فتحها من قلب السجن واستفساراتٍ حرّرها من قيدها السجّان .. وقلت في نفسي لماذا لا يسمحون لهم بمتابعة صفحاتهم على الانترنت كوسيلة مساعدة في التحقيق ؟.. لكني عرفت لوحدي بأنّ زبائني من السجناء انتهت تحقيقاتهم ولن يصلح العطار ما أفسده الدهر .
وبعد أيام من متابعتي لما يكتب ولما يردّون به عليه من كتابات وصور .. عرفتُ بأنّ صديقي السّجين ينقصه الحب ويريد أن يتابع حبَّه القديم إلكترونياً فقط..
ولم يمانع في أن أشاركه محبوبته بكلّ تفاصيلها كضريبة يدفعها لاستمرار الوصال الالكتروني .. ولم يخجل مني كرقيبٍ على عواطفه وعواطفها .. وراقني إخلاصها لحبيبٍ لا يمكنها أن تراه أو تزوره أو حتى تأمل بلقائه إلا بعد حينٍ يُقاس بالسنين .. يبدو أن هنالك حواجزَ أخرى وموانعَ أدهى وأمرّ من جدران السجن .
طلب منها أن تزورني في عيادتي الخاصة .. وزيارة الطبيب مسموحةٌ شرعاً وأسبابها معروفة .. وفعلاً زارتني مع زوجها وابنها ذي العامين والذي كان يشكو من البكاء فقط
في اليوم التالي سألني صديقي السجين عن الصبي وصحته وبأنه مشتاقٌ لرؤيته ..
لم أسأله عن سرّ اشتياقه .. وما سألتها في زياراتها اللاحقة والمتكررة عن سرّ الصبي الذي يقول بابا كثيراً .. ولم أكن لأعرف هل ينادي الصغير والده السجين أم أباه الطليق !؟
لست أدري والقصة انتهت بمجرّد أن استبدلوني بطبيبٍ آخر يهتمُّ بفحص السجناء طبياً وليس اجتماعياً.
د. جوروج سلوم
وصحيحٌ أنّ هنالك مكتباً لي يسمّونه مستوصفاً للسجن لكنّ نوافذه كانت شباكاً حديدية تمدُّ أصابعك الدافئة منها لتلامس الحرّية الباردة خارجاً .. وكان النزلاء المرضى منهم يعودونني فيه دورياً لأكشف عليهم شكليّاً وأملأ استماراتٍ ورقيّة لا بدّ منها للإحصاء .. وأحياناً كنت مضطرّاً للدخول إلى مهاجعهم للكشف على مريضٍ فيهم أو متمارض.
لهم رائحةٌ واحدة هي رائحة السجن .. ولونٌ واحدٌ شاحبٌ دخّاني كشحوب جدرانه .. وقصّةٌ واحدة يكرّرونها متعلّقة بتاريخ متوقّف وموقوف ومقيّد بيوم دخولهم السجن .. يريد البعض منك أن تسمع ، والبعض الآخر يعتبرك شرطياً برداءٍ أبيض فلا يعطيك يده لتقيس ضغطه إلا بصعوبة.
وشيئاً فشيئاً بدأت أكسب ودّ البعض وأستمتع برواياتٍ يرويها القاتل والسارق والزاني وغيرهم من النزلاء الهاوين من قيعان الحياة إلى هاوية الحبس.. كلٌّ حكواتيٌّ على طريقته ويفخر الفاعل بفعلته.
وقال أحدهم :
- لو سمحوا لي بهاتفي الذكي وشابكة مفتوحة لفضّلتُ السجن على الحرية.
وتابعت الاستماع مستغرباً فكرته فأردف يقول:
- لا نحتاج تلفازَهم هنا ولا برامجَه الموجّهة ولا أخبارَه المكرّرة بل نريد أخباراً شخصيّة لا تعطينا إياها إلا مواقع التواصل .. فما يقلقنا هنا هو جهلنا لما يجري في غيبتنا وغيابنا عن المحيطين بنا .. والأخبار التي ينقلونها لنا في زياراتهم الدورية أو اتصالاتهم الهاتفية ملفّقة وكاذبة ومختصرة .. كأننا من أهل الكهف ويقظتنا هنا سباتٌ طويل فنخرج –إن خرجنا –أحياءً من عالم آخر.
لا أشعر بالخوف على نفسي هنا فالسجن أكثر أمناً من حرّيتنا المخيفة .. ولكني أخاف على أهلي من الأحرار الطلقاء الذي يعيثون فساداً وحجبَتْني قضبان السجن عنهم.
وقال آخر :
- لو كان عندي انترنت هنا لشاهدت عائلتي بالصوت والصورة وعشت بينهم بأفراحهم وأتراحهم وحرّهم وقرّهم
ولاعتبرت نفسي مهاجراً عنهم فقط .. منفيّاً خلف الحدود كأيّ لاجئٍ سياسيّ وممنوعاً من دخول الوطن ، وها أنا آكل وأشرب وأستدفئ مجّاناً بدون شقاء .. لا بل وأتوا بك لتعالجنا في فراشنا وبلا مقابل .. آه وسجن الانترنت هو ما يؤرّقني ويقلقني لأنه يفصلني عن واقعي.
عندما أعطيتُ أحدَهم هاتفي الذكي للحظات – رغم علمي بأنّ ذلك ممنوع – كان مستعدّاً أن يدفع أو يقدّم لي أيَّ شيء أطلبه .. لكنّي تركته يدخل إلى حسابه في موقع التواصل ويرى ويكتب ويهيم ويبتسم ويتجهّم في دقائق كيفما تقوده الموجة المكتوبة.
وفاجأته ساحباً منه الهاتف بحجّة أن أحداً ما قد يرانا .. وأمرته أن ينصرف لأنّ الزيارة الطبية انتهت فانسحب بلا حول ولا قوة .. وأوقفته قبل أن يخرج قائلاً:
- إن بقيت ساكتاً فستتابع صفحتك غداً
ولم أجد بعدها حرجاً في متابعة صفحته التي ما زالت مفتوحة لأستطلع الجانب الافتراضيّ من حياته .. مروراً بصوره الشخصية والعائلية ومواقفه المكتوبة سابقاً وحواراته وتساؤلاته عنه وعنها وعنهنّ وعنهم .. أسماءَ وأسماء سطّرها في دقائق .. ونوافذَ إلكترونية فتحها من قلب السجن واستفساراتٍ حرّرها من قيدها السجّان .. وقلت في نفسي لماذا لا يسمحون لهم بمتابعة صفحاتهم على الانترنت كوسيلة مساعدة في التحقيق ؟.. لكني عرفت لوحدي بأنّ زبائني من السجناء انتهت تحقيقاتهم ولن يصلح العطار ما أفسده الدهر .
وبعد أيام من متابعتي لما يكتب ولما يردّون به عليه من كتابات وصور .. عرفتُ بأنّ صديقي السّجين ينقصه الحب ويريد أن يتابع حبَّه القديم إلكترونياً فقط..
ولم يمانع في أن أشاركه محبوبته بكلّ تفاصيلها كضريبة يدفعها لاستمرار الوصال الالكتروني .. ولم يخجل مني كرقيبٍ على عواطفه وعواطفها .. وراقني إخلاصها لحبيبٍ لا يمكنها أن تراه أو تزوره أو حتى تأمل بلقائه إلا بعد حينٍ يُقاس بالسنين .. يبدو أن هنالك حواجزَ أخرى وموانعَ أدهى وأمرّ من جدران السجن .
طلب منها أن تزورني في عيادتي الخاصة .. وزيارة الطبيب مسموحةٌ شرعاً وأسبابها معروفة .. وفعلاً زارتني مع زوجها وابنها ذي العامين والذي كان يشكو من البكاء فقط
في اليوم التالي سألني صديقي السجين عن الصبي وصحته وبأنه مشتاقٌ لرؤيته ..
لم أسأله عن سرّ اشتياقه .. وما سألتها في زياراتها اللاحقة والمتكررة عن سرّ الصبي الذي يقول بابا كثيراً .. ولم أكن لأعرف هل ينادي الصغير والده السجين أم أباه الطليق !؟
لست أدري والقصة انتهت بمجرّد أن استبدلوني بطبيبٍ آخر يهتمُّ بفحص السجناء طبياً وليس اجتماعياً.
د. جوروج سلوم