يمتلك عنوان المجموعة، "ماذا تحكي أيها البحر...؟" العديد من الأبواب والمنافذ، يستحث الفكر ويستنهض التأويل، إنه جملة استفهامية ذات سمك دلالي بين، إنه سؤال يتطلب جوابا لسائل غير عارف، لكنه يستضمر معنى آخر، يتجلى في الاستنكار، استنكار محكيات البحر. وإذا كان العنوان جملة إنشائية لكون المطلوب لم يتحقق بعد، فإنه يتضمن في طياته جملة إنشائية أخرى، ألا وهي النداء بما أنه طلب الإقبال على المنادى بعدما لاحظ انصرافه عنه، إن النداء بهذا الصدد هو لفت انتباه المنادى إلى أمر ما، والاستنكار من الحكي الذي يأتي به البحر.
ونلاحظ أن العنوان قد أنسن البحر، وجعله قادرا على فعل الحكي، أي أن هناك وشيجة تجمع بين الحكي والبحر، لكون هذا المجال المائي مفعم بالقصص، فمن الطبيعي أن يجد لسانا لسرد ما يقع به من أحداث جسام، أحداث كثيرة تؤرخ لتحولات جغرافية وتاريخية، وأحداث تعبر عن القرف من وضع بئيس والسعي إلى العبور لتحقيق المنشود، عبور جغرافي واجتماعي معا.
1) عتبات المجموعة:
أ- العنوان:
يعتمد في اختيار العنوان على طرائق متعددة، منها، أن المبدع يمنح مجموعته عنوانا شبيها بخيمة تستظل بها بقية النصوص، يعتبره عنوانا جامعا، يتضمن أمشاج البقية، وهناك من يمنح مجموعته عنوان نص داخلي يعتبره الأكثر تعبيرا عن انشغالاته، أو يشكل بؤرة المجموعة وبيت قصيدها، وهناك من يمنح مجموعته عنوانا مأخوذا من قفلة نص، وهناك من يجمع بين عنواني نصين من داخل مجموعته، مما يعني أن الاختيارات كثيرة ومتنوعة، وليست محدودة أو ضيقة، تبين حرية المبدع وكفاءته، وإيحاءاته التي يرومها. وفي حالتنا، نجد المبدعة قد اختارت منح مجموعتها عنوان نص داخلي، ولها مبرراتها المنطقية والفنية، ذلك أننا نجد في الصورة امرأة في لحظة حركة، تسير باتجاه البحر، وكأنها تخوض معه حوارا، علما أن أغلب النصوص جاءت بلسان ساردة.
ب- الغلاف:
تزين الغلاف الأمامي صورة فتوغرافية محررة من الإطار، وكأنها تشغل الغلاف بأكمله، تستحوذ على وجهه. فمم يتكون؟ الواضح أنه يتكون من عنصرين اثنين، هما: البحر والمرأة، بينهما علاقة حوار، تتأتى من العنوان، أولا، ومن صورة وجه المرأة المقابل للبحر. ترتدي المرأة لباسا بنيا، يرتبط بشكل قوي بلون الأرض التي تسير عليها حافية، وعري القدمين دليل تواصل حميمي بين الطرفين. ما يظهر أن المرأة عازمة على تحدي الموج لسان حال البحر والناطق بحكاياته، خطوها واثق، وقد تكون راغبة في الغطس تطهرا من لعنة الحكي، أو أنها ترغب في الغوص بحثا عن تلك الحكايات أو إنقاذها من الغرق.
ج- عتبة التجنيس:
التجنيس عتبة تظهر التعاقد الواضح والمبرم بين القاص والقارئ، بحيث ينبغي أن يكون واضحا، لا لبس يعتيريه، وأن يكون عتبة تسهل عملية التلقي، والقاصة وضعت في غلافها الأمامي، كلمة قصص من دون تحديد صفتها، أهي طويلة أم قصيرة، بل جعلتها متحررة من الوصف، طليقة الامتداد والحضور، تاركة للقارئ فضيلة التحديد، فنحن أمام قصص، ولا يهم النعت ولا التوصيف، كل ما عليك أيها القارئ، أن تتفاعل مع هذا الجنس المفتوح على الامتداد والصدر الرحب.
2) تيمة الحرمان:
لعل تيمة الحرمان من بين أهم التيمات التي اشتغلت عليها القاصة فاطمة الزهراء المرابط، وجعلتها أحد العناصر لتناول قضايا أخرى. فالحرمان العاطفي كما الجنسي له تأثيرات شديدة الوطء على الإنسان، تهدد كيانه وتدفعه إلى السوداوية والكآبة، وهي الطريق الملكي للإنتحار. إن الإشباع العاطفي كما الجنسي، يحقق للفرد ذكرا وأنثى اليناعة النفسية والسعادة الروحية، والتوازن الجسدي، فقصة "وردة" نص يجسد هذه القضية بجلاء، فبفعل تغاضي الرجل عن حاجيات المرأة، ومتطلباتها للأمن والسعادة، قادها إلى التفكير في الانتحار والإقدام عليه، «تتلذذ بتعذيب جسدي المحترق كل ليلة ولا أحتج، بل لا أقوى على الاحتجاج. انتهى كل شيء...» ص:46، لقد أدركت أن الرجل الذي يعاشرها لا يبغي سوى الاستمتاع بجسدها، اعتمادا على فلسفته القائلة: «الزواج يقتل الحب» ص:46، ما يعني أنه يسعى إلى المتعة بنزعة كلبية، تستحضر سيرة دون جوان، تتسم بعدم الوفاء لوعودها والبحث المحموم عن الحب المتوهج، مع رفض مطلق للدخول إلى قفص الرباط المقدس.
وتستغرق قضية الحرمان العديد من النصوص تطال الرجل والمرأة على حد سواء، إنها القبضة الخانقة التي لا يمكن لأي كان الانفلات منها إلا بالتفاهم والزواج. فقصة "سفر" وهي أقصر قصة في المجموعة، تظهر مدى التعاسة التي تستحوذ على حياة المرأة، فسطوتها غلبت على حياتها، وقادتها إلى مرافئ الضياع، فحين تريد لمس الشاب الذي يقتسم معها المقصورة، ينتفض بمقت، لتدرك عبر صورتها المنعكسة على المرآة، مدى تعاستها: «ارتبكت المرأة، وعادت إلى مقعدها، لتتأمل أخاديد الزمن في صورتها المنعكسة على نافذة القطار.» ص:19، ولا يكون الحرمان بفعل غياب الطرف الآخر، بل قد يكون بفعل الإفراط، إذ رغم وجود المرأة في حياة الرجل، لكنه يشعر بجوع شديد للمرأة، هذا المسعى الدون جواني لا يعبر إلا عن خواء شديد في الرجل.
فالرجل في قصة "معاكسة" متصاب، يسير وراء رغباته ضاربا عرض الحائط القيم النبيلة التي تتأسس عليها الأسرة، غير أن الساردة تنهي النص بنهاية صادمة وساخرة منه: « فتح فمه، لكن صوته لم يخرج.» ص:32، لقد أضاع صوته، وبالتالي أضاع الحسناء التي ظل يطاردها من دون كلل، تتسرب من بين يديه، تفقدها عيناه، وحين يعاود العثور عليها يفقد صوته، جسر عبور التواصل، بهكذا تتحطم رغبته، ويتبخر أمله. فإلي أي مدى تحتاج المرأة للعواطف، وكيف يمكنها التغلب على هذا الحرمان، قبل أن يتحول إلى مرض؟ لهذا، ستتخذ شخصية نص "وردة" طريق الانتحار كنوع من الاحتجاج على هذا الوضع، ترفضه وتدينه، فلربما يستيقظ الطرف الثاني، ويعيد حساباته.
في نص "عبور" نجد تيمة الحرمان كذلك، ومسعى المرأة إلى الإشباع النفسي والجسدي، وتوقها للحب، ومن تم يصير هذا الحرمان بتفاصيل دالة، تعبر عنها الأصابع الخمسة، إذ لكل إصبع وظيفة، وإمعانا في إبراز الوحدة، تقوم الساردة بسرد تفاصيل الحرمان، وتؤكد على دور الرجل في تحقيق الإشباع، لكن، بخلاف النصوص السابقة، نجد نهاية هذا النص تنحو باتجاه تحقيق الرغبة، والنجاح في اللقاء، وبذلك، يكون هذا النص قد حقق للمرأة توازنها الذي كاد يختل، فيفقدها انسجامها النفسي ويناعتها الروحية، وينتقم لها من سلوك رجل نص "تلك الشقراء"، الذي يعالج قضية التدخين وتوتر العلاقة بين الزوجين؛ وإذا كان الموضوع مطروقا قبلا، فإن ما يميز هذا النص هو تلك الوضعية التي وجد فيها الزوج، حيث إن زوجته بلغت حالة من الغضب بفعل الإهمال الذي استشعرته، والتهديد الذي تشكله السيجارة لحياتها، فقامت بمحاولة الضغط على زوجها للإقلاع، لكن تهديدها كاد يسبب لها الانهيار، لكون الزوج اختار السيجارة على زوجته، مبينا بذلك إدمانه الشديد وإقباله النهم عليها. وما سبق من تصوير يبرز بقوة هذا التوله، مقابل برودة تجاه الزوجة، تنتهي القصة بانغلاق الزوجة على نفسها، راضية بواقعها المرير.
وتزداد مرارة الحرمان بالفقد، إذ حين تبحث المرأة عن الرجل ولا تجده، يختل توازنها، كما في نص "ضباب"، فنهايته الصادمة تؤكد ذلك: «فتحت عيني مرة أخرى، فاصطدمت بالجدران البيضاء والشموع الحمراء.» ص:101، وللونين دلالتهما، فهما معا يشيران للفراغ وقسوة الحرمان.
وفي السياق نفسه، يأتي نص "شمعة" ليوضح لنا مدى أهمية الرجل في حياة المرأة، وقد اعتمدت الساردة على وسائل الاتصال الحديثة، ومواقع التواصل الاجتماعي لمعالجة هذه القضية، فتعيد رسم معالم جو يوحي بالكأبة والوحدة: «الرعد يخترق السماء، كأنه وحش يتوعد بني البشر...» ص:83، تقدم لنا شخصيتها المحورية وهي في لحظة انتظار وترقب، «وتغرق في صمت تأملاتها، سيظهر بين لحظة وأخرى ليزيح عنها هاجسي الخوف والرهبة.» ص:83، فالمرأة بحاجة لرجل يبعد عنها شبح الخوف، إنه جدار أمنها واطمئنانها، وما الشمعة التي وردت في نهاية النص إلا تعبير عن تلك الرغبة الرومانسية الثاوية في نفوس الشخصيات، لا يمكن لعالم التقنية أن يحل محله.
وهذا لا يعني أن الخيبة هي مصير المرأة، ولا أن يكون قدرها الصمت، فها هي في "أيام الباكور" تقف في وجه الرجل/الذكر صارخة: «لا تمد يدك علي مرة أخرى وإلا تعفنت في غياهب السجن.» ص:80، منهية النص بقرارها: «لن أصمت بعد الآن.» ص:80. ما ينبغي التأكيد عليه، أن صورة المرأة لم تكن دوما سلبية، لأننا نعثر طي المجموعة على نساء صارمات، يمتلكن حس الثورة، ويملن إلى إثبات دواتهن في مجتمع ذكوري لا يرغب في التغيير.
عطفا على ما سبق، نشير إلى أن المجموعة انفتحت على قضايا المجتمع، ولم تبق حبيسة تيمة الرجل والمرأة، وعلاقة التوتر والانسجام بينهما، فقد أفلحت في وضع اليد على الكثير من الأعطاب، سواء تلك التي تمس الفرد، كالطموح والرغبة في التألق السريع، مثل قصة "التباس" ص:67، حيث يظهر النص رغبة الشخصية في الترقي السريع وبلوغ النجومية: «حوار واحد معها سيفتح لك أبواب المجد» ص:67، أو تلك التي تنخر جسد المجتمع كالرشوة والمحسوبية، لكونها لا تيسر حياة المواطن بقدر ما تعرقل حياته وتصيبه بالكأبة، فالبيروقراطية داء عضال، والرشوة إحدى إفرازاته.. فقصة "انتظار" تفضح هذا السلوك المعيب، وترصد جزئياته، لتبرز بالمكشوف خطره على نهضة البلاد وتقدمها. والعنوان في حد ذاته انتقاد، إذ السؤال الذي يفرض نفسه بهذا الصدد: متى الخروج من الانتظارية؟ لا يمكن أن تستقيم حياة الناس بالرشاوي، بل بنضج الموظفين وقيامهم بأعمالهم دون الرغبة في الحصول على منافع.
ما يلاحظ على شخصيات المجموعة أنها مصابة بالإحباط والكآبة والعجز والحرمان، فحتى تلك التي أعلنت تمردها على الواقع، وسعت إلى إيقاف العنف المسلط عليها، لم تستطع القيام بذلك إلا اعتمادا على القانون، غير أن ما ينبغي معرفته، أنه قانون من صوغ الرجل، لا يقوم بحمايتها بشكل كبير. لتبقى صيحتها في واد، فالتغيير ينبغي أن يمس الثقافة ككل، ويطال الذهنيات المتكلسة، ويزلزل المصالح الفئوية، والمطامح الطبقية. ولهذا، لا تجد الشخصيات، في ظل مثل هذا الواقع، إلا طريقا واحدا للخلاص، إنه طريق الانتحار، مع الإشارة بشكل خفيف إلى أن اللذة لا تتحقق إلا بغزالة العنف.
3) على مستوى التقنيات:
يلاحظ ميل القاصة، إلى خلق تباعد بينها وبين ساردتها وشخصيات المجموعة، وكان لابد من أن تقوم بذلك، وقد لاحظت أن كثيرا من القراء مازالوا يخلطون بينهما، فيحاكمون الكاتبة عن إبداعها، ولكي تحقق التباعد المطلوب، عمدت في نص "وردة" إلى جعل السارد ذكرا كما أنه هو الشخصية الأساس، وهذا التداخل يدفع القارئ إلى التمهل حتى لا يقع في الخلط بين الذات/الساردة الواقعية والذات/الساردة الورقية، إنه تباعد يجعل كل تداخل بينهما من قبيل العبث، والسير في طريق الضلال.
أ- الملمح التقني الأول:
تمنح الكتابة المشهدية لهذه المجموعة صفة اللوحات التشكيلية والمشاهد السينمائية، إنها مكتوبة للعين، فوقائعها وشخصياتها في حركة دؤوب بفعل التوصيف الدقيق للجزئيات المؤثثة للمشاهد. فالجمل الوصفية تظهر كصورة عدسة كاميرا تلتقط الجزئيات لتدفع بالقارئ إلى بناء المشهد الكبير والكلي. ففي نص "انتظار" على سبيل المثال، نجد عين الساردة تستقرئ تفاصيل المشهد، وتقدم جزئياته، بطريقة فنية تشبه كاميرا السينما، «يردد مع كل ساعة تمر على الأبواب المغلقة في وجهه، يستحضر صورة موظف يتناول وجبة فطوره فوق الملفات الصفراء والزرقاء، صورة موظفة شقراء تتحدث عبر جوالها غير عابئة بصياح المواطنين خارج الشباك الحديدي...» ص:13. وليس اعتباطا حضور كلمة صورة أكثر من مرة. كل هذا من أجل تفاصيل المشهد العبثي بدقة حتى يتفاعل القارئ وكأنه أحد شخصيات النص، ويحس بالغضب من اللامبالاة التي يشعر بها كل مواطن سعى إلى الحصول على معاملة في إدارة ما. القاصة نجحت في توظيف هذا الملمح للإيهام بواقعيته، مع ملاحظة، تتمثل في التركيز على الألوان: الشقراء، السمراء، وتجعله أحد دعامات المعنى، ثم إن الوصف الدقيق لأفعال الموظفين وصفاتهم كان بهدف السخرية منهم ومن تعاملهم اللامسؤول.
ب- الملمح التقني الثاني:
المقابلة العامة والخاصة، ونقصد بالعامة تلك المقابلة بين النصوص، والخاصة، المقابلة داخل النص الواحد. يتبين لقارئ المجموعة أنها تعتمد بشكل ما القيام بمقابلة بين نصين يحملان هما واحدا، مثل نصي: "سفر" و"معاكسة"، فشخصيتا النصين معا عجوزين، في الأول امرأة، وفي الثاني رجل، هما معا يعيشان خسرانا مبينا، فإذا كان الرجل لا يعاني من غياب المرأة في حياته، بخلاف المرأة المتعطشة للرجل، فإنه ورغم ذلك، يظل عاجزا عن إشباع رغباته، أما المرأة، فهي بحاجة لرجل واحد، ورغم ذلك لم تعثر عليه، ما أدى بها إلى الشعور بالخسران والفراغ القاتل. والأمر نفسه بالنسبة لنصي "أنت القصيدة" و"لعنة"، فإذا كان النص الأول، ينتهي بمرارة صنعها الشاعر للمرأة، فإن الثاني يعاقب الشاعر المتطاوس حين لا يجد صوته، فيصير محط سخرية الحاضرين، بعد أن صب جام غضبه، ونقده اللاذع، على من اعتلى المنصة، وبهكذا نجد تعادلا، فالشاعر ينتصر وينهزم، وهناك العديد من النصوص التي تسير على هذا النهج، وكأننا أمام مرآة متعاكسة، تظهر الواحدة ما تخفيه الثانية.
وعلى مستوى النص الواحد، نجد المقابلة مهيمنة، ففي نص "أمواج"، تحضر المقابلة بين قصة البنت وقصة الأب، وهي مقابلة تنحو باتجاه التماثل، إذ كل منهما سعى إلى المشاغبة، والسخرية من الشخصية نفسها، أقصد: شخصية الفقيه المتشدد، حامل العصا والمنذر بالعقاب. ثم المقابلة بين الزمن الماضي والزمن الحاضر، كما أن هناك مقابلة بين فضاءين، أحدهما فسيح والثاني ضيق، الأول يوحي بالحرية والانطلاق، والثاني بالسجن والقيد. وليس بدعا أن تقوم الساردة في لحظة تمرد على واقعها لإثبات ذاتها بتخصيص حيز قصير جدا للفضاء الضيق؛ لأمرين: الإيحاء بضيق وتبرم الذات الساردة منه، والرغبة في تجاوزه كما ورد في بداية النص: «هذا الصباح، قررت التمرد على يومياتي البائسة...» ص:35.
كما نعثر على أسلوب المقارنة في التقابل الذي تقيمه الساردة بين الجدار المتكلم وبقية الجدران الأخرى والتي تعاني من شتى ضروب الإهمال والتهميش والإقصاء. ومن خلال الحوار بين الجدار والساردة، نستشف تلك الرغبة في الانتصار على السواد، فالجدار يدعوها إلى جعل ريشتها في خدمة الحياة، والانتصار على اليأس والقبح. إنه أسلوب الواقعية النقدية الساعية إلى تعرية الواقع، والكشف عن عوراتها بالغوص فيه عميقا، لتجلية أعطابه، وإبراز انكساراته، قصد إعادة بنائه بطريقة جديدة، وفق إيقاع السعادة والكمال؛ أليست الفرشاة هي تلك الأداة السحرية القادرة على تحقيق هذا الإنجاز؟
والنص ذاته يعتمد في بنائه على الدائرة، إنه نص دائري، ينتهي بما ابتدأ به، لكن هذا لا يعني الانغلاق وعدم القدرة على التغيير، بل بالعكس، إن التغيير ينهض من خلال الشكل الذي يدفع إلى كسره، لكونه القيد المتحكم في النفس، والمانع لانطلاقها، إن النص بشكله هذا، لا يدعو إلى اليأس، لأن المبتدأ والمنتهى، والغاية القصوى المنشودة هي التغيير باتجاه الأفضل، ولعل مفردة "الصباح" الواردة في النص أكثر من مرة، خير دليل على ما ذكرناه، أنها النقيض الفعلي للسواد واليأس.
على سبيل الختم:
يمكن القول أن المجموعة من لون غلافها وصورته إلى متنها حافلة بمشاعر الإحباط والحسرة والخيبة، مشاعر ملونة بالقهر والتسلط الذكوري المتمثلان في بيروقراطية الرجل داخل الأسرة وخارجها، الأمر الذي يولد مشاعر الكآبة المفضية إلى الانتحار كنوع من الاحتجاج السلبي، وفي كثير من النصوص تكون نهايتها مخيبة لتوقعات شخصيات النصوص. بيد أننا نعثر على شخصيات جنحت للاحتجاج والرفض، معلنة رغبتها في الانعتاق، كما أننا نعثر على شخصيات عانت الفراغ وكادت تسقط في براثين اليأس، ثم تأتي النهاية بما يشبع رغباتها ويحقق لها الامتلاء واليناعة النفسية. إلا أن الملاحظ، أنها شخصيات بحثت لنفسها عن منفذ من غمها، وهو أمر غير مقبول لكونه لن ينتج التغيير المطلوب، فالحلول الفردية لن تقوم إلا بتعميق الجراح، وتأبيد الواقع المر الرازح على النفوس المحبطة، فالمطلوب هو السعي وراء الحل الجذري، الحل الجماعي، فهو بلسم الجراح، ودواء القهر.
وقد اعتمدت القاصة على العديد من التقنيات في بناء نصوصها، مثل تقنية تكسير الإيهام حتى لا يقع القارئ في معصية التطابق بين الكاتبة والشخصيات، وتقنية التركيب المشهدي وغيرهما، وكانت موفقة في ذلك، حيث قدمت لنا طبقا من النصوص الشهية.
ونلاحظ أن العنوان قد أنسن البحر، وجعله قادرا على فعل الحكي، أي أن هناك وشيجة تجمع بين الحكي والبحر، لكون هذا المجال المائي مفعم بالقصص، فمن الطبيعي أن يجد لسانا لسرد ما يقع به من أحداث جسام، أحداث كثيرة تؤرخ لتحولات جغرافية وتاريخية، وأحداث تعبر عن القرف من وضع بئيس والسعي إلى العبور لتحقيق المنشود، عبور جغرافي واجتماعي معا.
1) عتبات المجموعة:
أ- العنوان:
يعتمد في اختيار العنوان على طرائق متعددة، منها، أن المبدع يمنح مجموعته عنوانا شبيها بخيمة تستظل بها بقية النصوص، يعتبره عنوانا جامعا، يتضمن أمشاج البقية، وهناك من يمنح مجموعته عنوان نص داخلي يعتبره الأكثر تعبيرا عن انشغالاته، أو يشكل بؤرة المجموعة وبيت قصيدها، وهناك من يمنح مجموعته عنوانا مأخوذا من قفلة نص، وهناك من يجمع بين عنواني نصين من داخل مجموعته، مما يعني أن الاختيارات كثيرة ومتنوعة، وليست محدودة أو ضيقة، تبين حرية المبدع وكفاءته، وإيحاءاته التي يرومها. وفي حالتنا، نجد المبدعة قد اختارت منح مجموعتها عنوان نص داخلي، ولها مبرراتها المنطقية والفنية، ذلك أننا نجد في الصورة امرأة في لحظة حركة، تسير باتجاه البحر، وكأنها تخوض معه حوارا، علما أن أغلب النصوص جاءت بلسان ساردة.
ب- الغلاف:
تزين الغلاف الأمامي صورة فتوغرافية محررة من الإطار، وكأنها تشغل الغلاف بأكمله، تستحوذ على وجهه. فمم يتكون؟ الواضح أنه يتكون من عنصرين اثنين، هما: البحر والمرأة، بينهما علاقة حوار، تتأتى من العنوان، أولا، ومن صورة وجه المرأة المقابل للبحر. ترتدي المرأة لباسا بنيا، يرتبط بشكل قوي بلون الأرض التي تسير عليها حافية، وعري القدمين دليل تواصل حميمي بين الطرفين. ما يظهر أن المرأة عازمة على تحدي الموج لسان حال البحر والناطق بحكاياته، خطوها واثق، وقد تكون راغبة في الغطس تطهرا من لعنة الحكي، أو أنها ترغب في الغوص بحثا عن تلك الحكايات أو إنقاذها من الغرق.
ج- عتبة التجنيس:
التجنيس عتبة تظهر التعاقد الواضح والمبرم بين القاص والقارئ، بحيث ينبغي أن يكون واضحا، لا لبس يعتيريه، وأن يكون عتبة تسهل عملية التلقي، والقاصة وضعت في غلافها الأمامي، كلمة قصص من دون تحديد صفتها، أهي طويلة أم قصيرة، بل جعلتها متحررة من الوصف، طليقة الامتداد والحضور، تاركة للقارئ فضيلة التحديد، فنحن أمام قصص، ولا يهم النعت ولا التوصيف، كل ما عليك أيها القارئ، أن تتفاعل مع هذا الجنس المفتوح على الامتداد والصدر الرحب.
2) تيمة الحرمان:
لعل تيمة الحرمان من بين أهم التيمات التي اشتغلت عليها القاصة فاطمة الزهراء المرابط، وجعلتها أحد العناصر لتناول قضايا أخرى. فالحرمان العاطفي كما الجنسي له تأثيرات شديدة الوطء على الإنسان، تهدد كيانه وتدفعه إلى السوداوية والكآبة، وهي الطريق الملكي للإنتحار. إن الإشباع العاطفي كما الجنسي، يحقق للفرد ذكرا وأنثى اليناعة النفسية والسعادة الروحية، والتوازن الجسدي، فقصة "وردة" نص يجسد هذه القضية بجلاء، فبفعل تغاضي الرجل عن حاجيات المرأة، ومتطلباتها للأمن والسعادة، قادها إلى التفكير في الانتحار والإقدام عليه، «تتلذذ بتعذيب جسدي المحترق كل ليلة ولا أحتج، بل لا أقوى على الاحتجاج. انتهى كل شيء...» ص:46، لقد أدركت أن الرجل الذي يعاشرها لا يبغي سوى الاستمتاع بجسدها، اعتمادا على فلسفته القائلة: «الزواج يقتل الحب» ص:46، ما يعني أنه يسعى إلى المتعة بنزعة كلبية، تستحضر سيرة دون جوان، تتسم بعدم الوفاء لوعودها والبحث المحموم عن الحب المتوهج، مع رفض مطلق للدخول إلى قفص الرباط المقدس.
وتستغرق قضية الحرمان العديد من النصوص تطال الرجل والمرأة على حد سواء، إنها القبضة الخانقة التي لا يمكن لأي كان الانفلات منها إلا بالتفاهم والزواج. فقصة "سفر" وهي أقصر قصة في المجموعة، تظهر مدى التعاسة التي تستحوذ على حياة المرأة، فسطوتها غلبت على حياتها، وقادتها إلى مرافئ الضياع، فحين تريد لمس الشاب الذي يقتسم معها المقصورة، ينتفض بمقت، لتدرك عبر صورتها المنعكسة على المرآة، مدى تعاستها: «ارتبكت المرأة، وعادت إلى مقعدها، لتتأمل أخاديد الزمن في صورتها المنعكسة على نافذة القطار.» ص:19، ولا يكون الحرمان بفعل غياب الطرف الآخر، بل قد يكون بفعل الإفراط، إذ رغم وجود المرأة في حياة الرجل، لكنه يشعر بجوع شديد للمرأة، هذا المسعى الدون جواني لا يعبر إلا عن خواء شديد في الرجل.
فالرجل في قصة "معاكسة" متصاب، يسير وراء رغباته ضاربا عرض الحائط القيم النبيلة التي تتأسس عليها الأسرة، غير أن الساردة تنهي النص بنهاية صادمة وساخرة منه: « فتح فمه، لكن صوته لم يخرج.» ص:32، لقد أضاع صوته، وبالتالي أضاع الحسناء التي ظل يطاردها من دون كلل، تتسرب من بين يديه، تفقدها عيناه، وحين يعاود العثور عليها يفقد صوته، جسر عبور التواصل، بهكذا تتحطم رغبته، ويتبخر أمله. فإلي أي مدى تحتاج المرأة للعواطف، وكيف يمكنها التغلب على هذا الحرمان، قبل أن يتحول إلى مرض؟ لهذا، ستتخذ شخصية نص "وردة" طريق الانتحار كنوع من الاحتجاج على هذا الوضع، ترفضه وتدينه، فلربما يستيقظ الطرف الثاني، ويعيد حساباته.
في نص "عبور" نجد تيمة الحرمان كذلك، ومسعى المرأة إلى الإشباع النفسي والجسدي، وتوقها للحب، ومن تم يصير هذا الحرمان بتفاصيل دالة، تعبر عنها الأصابع الخمسة، إذ لكل إصبع وظيفة، وإمعانا في إبراز الوحدة، تقوم الساردة بسرد تفاصيل الحرمان، وتؤكد على دور الرجل في تحقيق الإشباع، لكن، بخلاف النصوص السابقة، نجد نهاية هذا النص تنحو باتجاه تحقيق الرغبة، والنجاح في اللقاء، وبذلك، يكون هذا النص قد حقق للمرأة توازنها الذي كاد يختل، فيفقدها انسجامها النفسي ويناعتها الروحية، وينتقم لها من سلوك رجل نص "تلك الشقراء"، الذي يعالج قضية التدخين وتوتر العلاقة بين الزوجين؛ وإذا كان الموضوع مطروقا قبلا، فإن ما يميز هذا النص هو تلك الوضعية التي وجد فيها الزوج، حيث إن زوجته بلغت حالة من الغضب بفعل الإهمال الذي استشعرته، والتهديد الذي تشكله السيجارة لحياتها، فقامت بمحاولة الضغط على زوجها للإقلاع، لكن تهديدها كاد يسبب لها الانهيار، لكون الزوج اختار السيجارة على زوجته، مبينا بذلك إدمانه الشديد وإقباله النهم عليها. وما سبق من تصوير يبرز بقوة هذا التوله، مقابل برودة تجاه الزوجة، تنتهي القصة بانغلاق الزوجة على نفسها، راضية بواقعها المرير.
وتزداد مرارة الحرمان بالفقد، إذ حين تبحث المرأة عن الرجل ولا تجده، يختل توازنها، كما في نص "ضباب"، فنهايته الصادمة تؤكد ذلك: «فتحت عيني مرة أخرى، فاصطدمت بالجدران البيضاء والشموع الحمراء.» ص:101، وللونين دلالتهما، فهما معا يشيران للفراغ وقسوة الحرمان.
وفي السياق نفسه، يأتي نص "شمعة" ليوضح لنا مدى أهمية الرجل في حياة المرأة، وقد اعتمدت الساردة على وسائل الاتصال الحديثة، ومواقع التواصل الاجتماعي لمعالجة هذه القضية، فتعيد رسم معالم جو يوحي بالكأبة والوحدة: «الرعد يخترق السماء، كأنه وحش يتوعد بني البشر...» ص:83، تقدم لنا شخصيتها المحورية وهي في لحظة انتظار وترقب، «وتغرق في صمت تأملاتها، سيظهر بين لحظة وأخرى ليزيح عنها هاجسي الخوف والرهبة.» ص:83، فالمرأة بحاجة لرجل يبعد عنها شبح الخوف، إنه جدار أمنها واطمئنانها، وما الشمعة التي وردت في نهاية النص إلا تعبير عن تلك الرغبة الرومانسية الثاوية في نفوس الشخصيات، لا يمكن لعالم التقنية أن يحل محله.
وهذا لا يعني أن الخيبة هي مصير المرأة، ولا أن يكون قدرها الصمت، فها هي في "أيام الباكور" تقف في وجه الرجل/الذكر صارخة: «لا تمد يدك علي مرة أخرى وإلا تعفنت في غياهب السجن.» ص:80، منهية النص بقرارها: «لن أصمت بعد الآن.» ص:80. ما ينبغي التأكيد عليه، أن صورة المرأة لم تكن دوما سلبية، لأننا نعثر طي المجموعة على نساء صارمات، يمتلكن حس الثورة، ويملن إلى إثبات دواتهن في مجتمع ذكوري لا يرغب في التغيير.
عطفا على ما سبق، نشير إلى أن المجموعة انفتحت على قضايا المجتمع، ولم تبق حبيسة تيمة الرجل والمرأة، وعلاقة التوتر والانسجام بينهما، فقد أفلحت في وضع اليد على الكثير من الأعطاب، سواء تلك التي تمس الفرد، كالطموح والرغبة في التألق السريع، مثل قصة "التباس" ص:67، حيث يظهر النص رغبة الشخصية في الترقي السريع وبلوغ النجومية: «حوار واحد معها سيفتح لك أبواب المجد» ص:67، أو تلك التي تنخر جسد المجتمع كالرشوة والمحسوبية، لكونها لا تيسر حياة المواطن بقدر ما تعرقل حياته وتصيبه بالكأبة، فالبيروقراطية داء عضال، والرشوة إحدى إفرازاته.. فقصة "انتظار" تفضح هذا السلوك المعيب، وترصد جزئياته، لتبرز بالمكشوف خطره على نهضة البلاد وتقدمها. والعنوان في حد ذاته انتقاد، إذ السؤال الذي يفرض نفسه بهذا الصدد: متى الخروج من الانتظارية؟ لا يمكن أن تستقيم حياة الناس بالرشاوي، بل بنضج الموظفين وقيامهم بأعمالهم دون الرغبة في الحصول على منافع.
ما يلاحظ على شخصيات المجموعة أنها مصابة بالإحباط والكآبة والعجز والحرمان، فحتى تلك التي أعلنت تمردها على الواقع، وسعت إلى إيقاف العنف المسلط عليها، لم تستطع القيام بذلك إلا اعتمادا على القانون، غير أن ما ينبغي معرفته، أنه قانون من صوغ الرجل، لا يقوم بحمايتها بشكل كبير. لتبقى صيحتها في واد، فالتغيير ينبغي أن يمس الثقافة ككل، ويطال الذهنيات المتكلسة، ويزلزل المصالح الفئوية، والمطامح الطبقية. ولهذا، لا تجد الشخصيات، في ظل مثل هذا الواقع، إلا طريقا واحدا للخلاص، إنه طريق الانتحار، مع الإشارة بشكل خفيف إلى أن اللذة لا تتحقق إلا بغزالة العنف.
3) على مستوى التقنيات:
يلاحظ ميل القاصة، إلى خلق تباعد بينها وبين ساردتها وشخصيات المجموعة، وكان لابد من أن تقوم بذلك، وقد لاحظت أن كثيرا من القراء مازالوا يخلطون بينهما، فيحاكمون الكاتبة عن إبداعها، ولكي تحقق التباعد المطلوب، عمدت في نص "وردة" إلى جعل السارد ذكرا كما أنه هو الشخصية الأساس، وهذا التداخل يدفع القارئ إلى التمهل حتى لا يقع في الخلط بين الذات/الساردة الواقعية والذات/الساردة الورقية، إنه تباعد يجعل كل تداخل بينهما من قبيل العبث، والسير في طريق الضلال.
أ- الملمح التقني الأول:
تمنح الكتابة المشهدية لهذه المجموعة صفة اللوحات التشكيلية والمشاهد السينمائية، إنها مكتوبة للعين، فوقائعها وشخصياتها في حركة دؤوب بفعل التوصيف الدقيق للجزئيات المؤثثة للمشاهد. فالجمل الوصفية تظهر كصورة عدسة كاميرا تلتقط الجزئيات لتدفع بالقارئ إلى بناء المشهد الكبير والكلي. ففي نص "انتظار" على سبيل المثال، نجد عين الساردة تستقرئ تفاصيل المشهد، وتقدم جزئياته، بطريقة فنية تشبه كاميرا السينما، «يردد مع كل ساعة تمر على الأبواب المغلقة في وجهه، يستحضر صورة موظف يتناول وجبة فطوره فوق الملفات الصفراء والزرقاء، صورة موظفة شقراء تتحدث عبر جوالها غير عابئة بصياح المواطنين خارج الشباك الحديدي...» ص:13. وليس اعتباطا حضور كلمة صورة أكثر من مرة. كل هذا من أجل تفاصيل المشهد العبثي بدقة حتى يتفاعل القارئ وكأنه أحد شخصيات النص، ويحس بالغضب من اللامبالاة التي يشعر بها كل مواطن سعى إلى الحصول على معاملة في إدارة ما. القاصة نجحت في توظيف هذا الملمح للإيهام بواقعيته، مع ملاحظة، تتمثل في التركيز على الألوان: الشقراء، السمراء، وتجعله أحد دعامات المعنى، ثم إن الوصف الدقيق لأفعال الموظفين وصفاتهم كان بهدف السخرية منهم ومن تعاملهم اللامسؤول.
ب- الملمح التقني الثاني:
المقابلة العامة والخاصة، ونقصد بالعامة تلك المقابلة بين النصوص، والخاصة، المقابلة داخل النص الواحد. يتبين لقارئ المجموعة أنها تعتمد بشكل ما القيام بمقابلة بين نصين يحملان هما واحدا، مثل نصي: "سفر" و"معاكسة"، فشخصيتا النصين معا عجوزين، في الأول امرأة، وفي الثاني رجل، هما معا يعيشان خسرانا مبينا، فإذا كان الرجل لا يعاني من غياب المرأة في حياته، بخلاف المرأة المتعطشة للرجل، فإنه ورغم ذلك، يظل عاجزا عن إشباع رغباته، أما المرأة، فهي بحاجة لرجل واحد، ورغم ذلك لم تعثر عليه، ما أدى بها إلى الشعور بالخسران والفراغ القاتل. والأمر نفسه بالنسبة لنصي "أنت القصيدة" و"لعنة"، فإذا كان النص الأول، ينتهي بمرارة صنعها الشاعر للمرأة، فإن الثاني يعاقب الشاعر المتطاوس حين لا يجد صوته، فيصير محط سخرية الحاضرين، بعد أن صب جام غضبه، ونقده اللاذع، على من اعتلى المنصة، وبهكذا نجد تعادلا، فالشاعر ينتصر وينهزم، وهناك العديد من النصوص التي تسير على هذا النهج، وكأننا أمام مرآة متعاكسة، تظهر الواحدة ما تخفيه الثانية.
وعلى مستوى النص الواحد، نجد المقابلة مهيمنة، ففي نص "أمواج"، تحضر المقابلة بين قصة البنت وقصة الأب، وهي مقابلة تنحو باتجاه التماثل، إذ كل منهما سعى إلى المشاغبة، والسخرية من الشخصية نفسها، أقصد: شخصية الفقيه المتشدد، حامل العصا والمنذر بالعقاب. ثم المقابلة بين الزمن الماضي والزمن الحاضر، كما أن هناك مقابلة بين فضاءين، أحدهما فسيح والثاني ضيق، الأول يوحي بالحرية والانطلاق، والثاني بالسجن والقيد. وليس بدعا أن تقوم الساردة في لحظة تمرد على واقعها لإثبات ذاتها بتخصيص حيز قصير جدا للفضاء الضيق؛ لأمرين: الإيحاء بضيق وتبرم الذات الساردة منه، والرغبة في تجاوزه كما ورد في بداية النص: «هذا الصباح، قررت التمرد على يومياتي البائسة...» ص:35.
كما نعثر على أسلوب المقارنة في التقابل الذي تقيمه الساردة بين الجدار المتكلم وبقية الجدران الأخرى والتي تعاني من شتى ضروب الإهمال والتهميش والإقصاء. ومن خلال الحوار بين الجدار والساردة، نستشف تلك الرغبة في الانتصار على السواد، فالجدار يدعوها إلى جعل ريشتها في خدمة الحياة، والانتصار على اليأس والقبح. إنه أسلوب الواقعية النقدية الساعية إلى تعرية الواقع، والكشف عن عوراتها بالغوص فيه عميقا، لتجلية أعطابه، وإبراز انكساراته، قصد إعادة بنائه بطريقة جديدة، وفق إيقاع السعادة والكمال؛ أليست الفرشاة هي تلك الأداة السحرية القادرة على تحقيق هذا الإنجاز؟
والنص ذاته يعتمد في بنائه على الدائرة، إنه نص دائري، ينتهي بما ابتدأ به، لكن هذا لا يعني الانغلاق وعدم القدرة على التغيير، بل بالعكس، إن التغيير ينهض من خلال الشكل الذي يدفع إلى كسره، لكونه القيد المتحكم في النفس، والمانع لانطلاقها، إن النص بشكله هذا، لا يدعو إلى اليأس، لأن المبتدأ والمنتهى، والغاية القصوى المنشودة هي التغيير باتجاه الأفضل، ولعل مفردة "الصباح" الواردة في النص أكثر من مرة، خير دليل على ما ذكرناه، أنها النقيض الفعلي للسواد واليأس.
على سبيل الختم:
يمكن القول أن المجموعة من لون غلافها وصورته إلى متنها حافلة بمشاعر الإحباط والحسرة والخيبة، مشاعر ملونة بالقهر والتسلط الذكوري المتمثلان في بيروقراطية الرجل داخل الأسرة وخارجها، الأمر الذي يولد مشاعر الكآبة المفضية إلى الانتحار كنوع من الاحتجاج السلبي، وفي كثير من النصوص تكون نهايتها مخيبة لتوقعات شخصيات النصوص. بيد أننا نعثر على شخصيات جنحت للاحتجاج والرفض، معلنة رغبتها في الانعتاق، كما أننا نعثر على شخصيات عانت الفراغ وكادت تسقط في براثين اليأس، ثم تأتي النهاية بما يشبع رغباتها ويحقق لها الامتلاء واليناعة النفسية. إلا أن الملاحظ، أنها شخصيات بحثت لنفسها عن منفذ من غمها، وهو أمر غير مقبول لكونه لن ينتج التغيير المطلوب، فالحلول الفردية لن تقوم إلا بتعميق الجراح، وتأبيد الواقع المر الرازح على النفوس المحبطة، فالمطلوب هو السعي وراء الحل الجذري، الحل الجماعي، فهو بلسم الجراح، ودواء القهر.
وقد اعتمدت القاصة على العديد من التقنيات في بناء نصوصها، مثل تقنية تكسير الإيهام حتى لا يقع القارئ في معصية التطابق بين الكاتبة والشخصيات، وتقنية التركيب المشهدي وغيرهما، وكانت موفقة في ذلك، حيث قدمت لنا طبقا من النصوص الشهية.