هل يمكن تعريف الكتاب على أنه مجموعة الأوراق المضمومة إلى بعضها؟ ولكن هذا لا يعني أنها قد تكون كُتبًا بالضرورة، خاصة إذا لم تحتوي على معرفة، إذن؛ مفهوم الكتاب يستمد تعريفه من المحتوى، وليس من المادة المصنوع منها، فمن المعروف أن الإلياذة والأوديسة مثلا وجدا على ألسنة الناس قبل سنوات من تدوينهما، وكذلك العديد من أشعار العرب، ولكن هل يعني هذا أن المعرفة التي تتناقلُ شفاهة يُمكن اعتبارها كُتبًا؟
يرتبط ظهور الكتاب بنشأة الكتابة، ويغالي البعض بربطه باللغة، فمتى استطاع الإنسان أن يُعبر عن أفكاره ولو بالرموز فإنه يصنع كُتبًا. تقول الآراء السائدة أن توثيق الأدب الشفاهي خنق نموه وتطوره، فأصبح لا يمكن إضافة بيت جديد إلى الإلياذة مثلا بعد تدوينها، ومن هنا عرف الإنسان "الكتاب"، ولذلك يقول بعض المفكرين أن الكتابة أوجدت الكتاب، ولا يُمكن فصله عنها، فهل هذا صحيح؟
يُعتبر اختراع الكتابة نقطة فارقة في تقدم الحضارات وتطور التفكير الإنساني، فالكتابة حفظت أفكار الإنسان، وجعلتها مادة للدراسة والنقد، فتلاشت ذاتية الإنسان، وتمكن من الاستعانة بأفكار الآخرين، فظهرت أنماط متعددة من الفكرة الواحدة، فأمكن الإنسان أن يُطور إدراكه للعالم المحيط به بشكل غير مسبوق، ولذلك يمكننا القول إن الكتب هي نوع من الذاكرة، حفظت أفكار الإنسان وتجاربه، مُكتسبة صفتين خاصتين هُما: الدوام والثبات. بعكس الذاكرة الشفاهية التي تتسم بسرعة التغير وعدم الاستقرار على شكل ثابت لها.
وعلى مر العصور ارتبطت الكتابة بوسائط مختلفة كالحجر والأواني الفخارية أو الزجاجية أو المعدنية، حتى ظهور الكتابة على الورق والجلد وغيره، واستطاعت الصخور أن تحفظ لنا تاريخ الحضارات وأفكارها السائدة، وبحكم العصر كانت الكتابة هي الشيء الوحيد الذي يمكنه عمل ذلك، وهذا يجعلنا نفكر أن مفهوم الكتاب يرتكز في الأساس على آلية "الثبات"، فصحيح أن الكتابة حققت ذلك على مدى قرون طويلة، لكن هذا لا يعني أنه لا يتحقق بدونها، إذ تتوفر وسائل أخرى تحفظ التراث البشري بشكل آمن ومستقر. وبالتالي يمكن اعتبار كل ذاكرة تتسم بالثبات/ الدوام على أنها شكل من أشكال الكتاب، سواء كانت هذه الذاكرة حجرية أو ورقية، أو إلكترونية.
ولقد عانى الكتاب الحجري أو الورقي تحديات عديدة، سواء بسبب الحروب القديمة التي كانت تقضي على الكثير من المكتبات، أو بسبب التقلبات السياسية، فقد كان يرى بعضُ القادة أن كُل ما يُكتب يُمثل تهديدًا لهم، ويمكن التفكير في أن سهولة إتلاف الورق كمادة؛ كانت دافعًا لإثارة غرور بعض الحكام ورغبتهم في التحكم والتسلط على الماضي والحاضر والمستقبل.
ولأسباب شبيهة سعى الإمبراطور الصيني "شي هوانغ تي" لحرق كتب التاريخ والتقارير والسجلات القديمة، ومجموعات الشعر والأغاني وكتابات كونفشيوس ولاوتسو، وربما ما تبقى هو بعض كتب عن الزراعة ومن كان يُضبط بحوزته أي نوع آخر من الكتب كان يُعدم فورًا. فقد أراد مسح أي ذكر عن الأسر السابقة، ليبقى هو مُهيمنًا على ذاكرة شعبه، ومازال حتى الآن يُذكر في الصين على أنه رائد نهضتها ومؤسس سورها العظيم. ولم يكن ينتمي هذا الإمبراطور إلى عائلة ملكية، وكان والده أميرًا لإحدى مقاطعات الصين تدعى "شين"، حيثُ تسمت العائلة باسم هذه المُقاطعة، وفي الغالب أن الصين كلها تدعى بهذا الاسم اليوم نسبة له!
ومع ظهور الفلسفة وارتباطها بالدين؛ كان الحُكام يدعمون التيارات الفلسفية التي تدعم بقاءهم، بينما يضطهدون أصحاب المذاهب الأخرى، فيقومون بسجنهم أو إعدامهم، أو حرق كتبهم، مثل وقوف الخليفة المتوكل ضد المعتزلة، وحرق الخليفة المنصور كتب ابن رشد. ولأسباب اقتصادية أيضًا، لم تكن لتصمد الكتب الورقية ضد كل ذلك طويلًا، وخاصة في التاريخ القديم، فقد كان النَسْخُ يتم على أيدي العبيد الذي يعملون بالسُخرة، فكانت النُسخ قليلة للغاية، ويُحتفظ بها في أماكن محدودة، فإذا تعرضت للدمار ذهبت الكتب إلى العدم. وكما فُقدت كتب لأدباء وفلاسفة الإغريق قديمًا؛ أورد الدكتور إحسان عباس لبعض كتب العرب التي صارت في طي العدم في كتابه الشهير: "شذرات من الكتب المفقودة".
وعندما عرفت الدولة الرومانية سوقًا للكتاب؛ نشأت أول نقابة للنساخ، وظهر الناشرون وتجار الكتب، وارتفعت أسعار الكتب للغاية، ولكن ظلّ الكاتبُ بعيدًا عن الأحداث، يحيا على ما يجود به السلطان والأمراء عليه من هبات ملكية، ما جعل فعل التأليف ترفًا مقصورًا على خاصة بعينهم، ولذلك ظل تطور الفكر الإنساني بطيئًا، وربما تجد شعوبًا بأكملها لم تستطع أن تسهم في تاريخ الفكر الإنساني القديم بنصيب يُذكر.
وقد فّرَ "جوتنبرج" جهدًا عظيمًا كان يُبذل من أجل نسخ بضعة أوراق، عندما اخترع المطبعة في حوالي عام 1400م، مُستخدما الحروف المتفرقة المصبوبة في قوالب، والمكبس كوسيلة آلية للطباعة بعد أن كانت الورقة تطبع على الخشب ويتم الضغط عليها بالفرشاة أو المدلكة؛ فانخفضت أسعار الكتب، وزادت عدد النسخ المتاحة من كل كتاب بشكل خيالي -بالنسبة لذلك الزمن- ودخلنا عصرًا جديدًا، زادت فيه أعداد المتعلمين والمثقفين، وظهر مفكرون من تيارات مختلفة.
ولم يقمْ العرب بدور كبير في نقل المطبعة، ففي مصر كان الناس يعرفون الطباعة منذ أمد على الألواح الحجرية، وقد طبعت بواسطة القوالب الخشبية آيات قرآنية وأدعية، ومع ذلك يتراوح ظهور المطبوعات الإسلامية ما بين 900 و1350م، ولكن التقاليد الدينية أوجبت نسخ القرآن باليد، حتى القرن التاسع عشر، وعند قدوم نابليون فوجئ النُساخ بتهميشهم أمام الآلة التي تمتاز بحسن الخط وسرعة النسخ، ودقة الطباعة. ويمكن القول إن العالم صار يسعى بعد الثورة الصناعية إلى تقليل الاعتماد على العنصر البشري، وبالتالي فإن تطور مفهوم الكتاب مرتبط طوال الوقت بتطور آليات اقتصاد العصر للحفاظ على الذاكرة الإنسانية بشكل آمن ودائم.
ولقد أضافت الذاكرة الرقمية ميزات متعددة؛ ليس من ناحية انخفاض التكلفة الاقتصادية لحفظ الكتب عبرها، وتوفير الجهد البشري لأقل عدد ممكن؛ ولكنها أوجدت لأول مرة في تاريخ البشرية أدوات جديدة لحفظ الذاكرة، ليس بواسطة الكتابة فقط، ولكن بواسطة الصوت والصورة أيضًا، وهكذا نشهد في الألفية الثالثة ازدهار أنواع من الكتب لم تُعرف في السابق بشكل واضح، مثل الكتاب المسموع والكتاب الفيلمي؛ باعتبار الأفلام الوثائقية تنتمي إلى تعريف الكتاب.
أما اختراع الانترنت فقد غيّر تحديات التوزيع التقليدية، فقضى على عامل الوقت، ولم يعد هناك مكان فيه بشر لا يمكن أن يصله أي كتاب. وبالتالي أصبح الحديث عن الشكل القديم للكتاب ضربًا من العبث، بل لا نغالي إذا قُلنا إن العالم قد لا يحتاج كُتبًا ورقية فيما بعد؛ بل ربما تخفّفَ المستقبلُ من الكتبِ التي تعتمد على الكتابة من الأساس!
لقد أثر السوق الرقمي بشكل كبير على طبيعة الكتب الورقية بشكل عام، فقد تراجعت النصوص العلمية المطبوعة اليوم كثيرًا. فالتطور السريع للمعرفة العلمية؛ أصبح ضد بقاء الكتب المطبوعة. وربما مازال سوق الكتاب الورقي مُحتفظًا بولائه الأكبر إلى كتب الأدب والفنون، والتي ربما لو زادت وتيرة تطور هذه الحقول لأصبح من الصعب على المطبعة أن تلحق بهم.
إن الكتاب الورقي يقف متواضعًا أمام الخدمات التي يقدمها الكتاب الرقمي لدور النشر من حيث توفير أعباء إصدار الكتاب وتوزيعه وتقليل مخاطرة النشر، أو مراكز الأبحاث والجامعات، التي تحتاج طوال الوقت لتوفير معلومات عن الكتب بشكل أدق وأسرع، ويمكن الإشارة إلى نظام الأرشفة الذي تتبعه مكتبة الإسكندرية، والذي يسمحُ بالبحث عن كلمة بعينها وبيان مواضعها المختلفة داخل أي كتاب مُدرج ضمن أرشيفها الرقمي، وهو ما يُعد ثورة بالفعل في نُظم الأرشفة، حيث يوفر جهود الباحثين، وييسر الطريق عليهم -خاصة عند التعامل مع كتب التراث المهجورة- ويثري المجال المعرفي أكثر وأكثر.
ولم يعد الأمر يتعلق بسلعة ملموسة، أو بورق مطبوع، لأن بائعي كتب المستقبل هم بائعو بيانات أيضًا، وستكون وظيفتهم في عدم استغناء المُستهلكين عن دورهم كمرشدين، حيث يزدهر دور تحليل البيانات، ما يخدمُ المؤلفين ودور النشر ويساعد على مزيد من التوافق بين ما يقدمه الناشر وما يريده القارئ، وبعبارة أخرى فإن الكتاب الإلكتروني يصبح جزءًا إيجابيًا من منظومة "الكتاب" كصناعة تسعى للاستمرار وفق منافسة شرسة من الفنون السمعية والبصرية التي قد تهدد وجود "الكتاب" في حياتنا من الأساس.
يرتبط ظهور الكتاب بنشأة الكتابة، ويغالي البعض بربطه باللغة، فمتى استطاع الإنسان أن يُعبر عن أفكاره ولو بالرموز فإنه يصنع كُتبًا. تقول الآراء السائدة أن توثيق الأدب الشفاهي خنق نموه وتطوره، فأصبح لا يمكن إضافة بيت جديد إلى الإلياذة مثلا بعد تدوينها، ومن هنا عرف الإنسان "الكتاب"، ولذلك يقول بعض المفكرين أن الكتابة أوجدت الكتاب، ولا يُمكن فصله عنها، فهل هذا صحيح؟
يُعتبر اختراع الكتابة نقطة فارقة في تقدم الحضارات وتطور التفكير الإنساني، فالكتابة حفظت أفكار الإنسان، وجعلتها مادة للدراسة والنقد، فتلاشت ذاتية الإنسان، وتمكن من الاستعانة بأفكار الآخرين، فظهرت أنماط متعددة من الفكرة الواحدة، فأمكن الإنسان أن يُطور إدراكه للعالم المحيط به بشكل غير مسبوق، ولذلك يمكننا القول إن الكتب هي نوع من الذاكرة، حفظت أفكار الإنسان وتجاربه، مُكتسبة صفتين خاصتين هُما: الدوام والثبات. بعكس الذاكرة الشفاهية التي تتسم بسرعة التغير وعدم الاستقرار على شكل ثابت لها.
وعلى مر العصور ارتبطت الكتابة بوسائط مختلفة كالحجر والأواني الفخارية أو الزجاجية أو المعدنية، حتى ظهور الكتابة على الورق والجلد وغيره، واستطاعت الصخور أن تحفظ لنا تاريخ الحضارات وأفكارها السائدة، وبحكم العصر كانت الكتابة هي الشيء الوحيد الذي يمكنه عمل ذلك، وهذا يجعلنا نفكر أن مفهوم الكتاب يرتكز في الأساس على آلية "الثبات"، فصحيح أن الكتابة حققت ذلك على مدى قرون طويلة، لكن هذا لا يعني أنه لا يتحقق بدونها، إذ تتوفر وسائل أخرى تحفظ التراث البشري بشكل آمن ومستقر. وبالتالي يمكن اعتبار كل ذاكرة تتسم بالثبات/ الدوام على أنها شكل من أشكال الكتاب، سواء كانت هذه الذاكرة حجرية أو ورقية، أو إلكترونية.
ولقد عانى الكتاب الحجري أو الورقي تحديات عديدة، سواء بسبب الحروب القديمة التي كانت تقضي على الكثير من المكتبات، أو بسبب التقلبات السياسية، فقد كان يرى بعضُ القادة أن كُل ما يُكتب يُمثل تهديدًا لهم، ويمكن التفكير في أن سهولة إتلاف الورق كمادة؛ كانت دافعًا لإثارة غرور بعض الحكام ورغبتهم في التحكم والتسلط على الماضي والحاضر والمستقبل.
ولأسباب شبيهة سعى الإمبراطور الصيني "شي هوانغ تي" لحرق كتب التاريخ والتقارير والسجلات القديمة، ومجموعات الشعر والأغاني وكتابات كونفشيوس ولاوتسو، وربما ما تبقى هو بعض كتب عن الزراعة ومن كان يُضبط بحوزته أي نوع آخر من الكتب كان يُعدم فورًا. فقد أراد مسح أي ذكر عن الأسر السابقة، ليبقى هو مُهيمنًا على ذاكرة شعبه، ومازال حتى الآن يُذكر في الصين على أنه رائد نهضتها ومؤسس سورها العظيم. ولم يكن ينتمي هذا الإمبراطور إلى عائلة ملكية، وكان والده أميرًا لإحدى مقاطعات الصين تدعى "شين"، حيثُ تسمت العائلة باسم هذه المُقاطعة، وفي الغالب أن الصين كلها تدعى بهذا الاسم اليوم نسبة له!
ومع ظهور الفلسفة وارتباطها بالدين؛ كان الحُكام يدعمون التيارات الفلسفية التي تدعم بقاءهم، بينما يضطهدون أصحاب المذاهب الأخرى، فيقومون بسجنهم أو إعدامهم، أو حرق كتبهم، مثل وقوف الخليفة المتوكل ضد المعتزلة، وحرق الخليفة المنصور كتب ابن رشد. ولأسباب اقتصادية أيضًا، لم تكن لتصمد الكتب الورقية ضد كل ذلك طويلًا، وخاصة في التاريخ القديم، فقد كان النَسْخُ يتم على أيدي العبيد الذي يعملون بالسُخرة، فكانت النُسخ قليلة للغاية، ويُحتفظ بها في أماكن محدودة، فإذا تعرضت للدمار ذهبت الكتب إلى العدم. وكما فُقدت كتب لأدباء وفلاسفة الإغريق قديمًا؛ أورد الدكتور إحسان عباس لبعض كتب العرب التي صارت في طي العدم في كتابه الشهير: "شذرات من الكتب المفقودة".
وعندما عرفت الدولة الرومانية سوقًا للكتاب؛ نشأت أول نقابة للنساخ، وظهر الناشرون وتجار الكتب، وارتفعت أسعار الكتب للغاية، ولكن ظلّ الكاتبُ بعيدًا عن الأحداث، يحيا على ما يجود به السلطان والأمراء عليه من هبات ملكية، ما جعل فعل التأليف ترفًا مقصورًا على خاصة بعينهم، ولذلك ظل تطور الفكر الإنساني بطيئًا، وربما تجد شعوبًا بأكملها لم تستطع أن تسهم في تاريخ الفكر الإنساني القديم بنصيب يُذكر.
وقد فّرَ "جوتنبرج" جهدًا عظيمًا كان يُبذل من أجل نسخ بضعة أوراق، عندما اخترع المطبعة في حوالي عام 1400م، مُستخدما الحروف المتفرقة المصبوبة في قوالب، والمكبس كوسيلة آلية للطباعة بعد أن كانت الورقة تطبع على الخشب ويتم الضغط عليها بالفرشاة أو المدلكة؛ فانخفضت أسعار الكتب، وزادت عدد النسخ المتاحة من كل كتاب بشكل خيالي -بالنسبة لذلك الزمن- ودخلنا عصرًا جديدًا، زادت فيه أعداد المتعلمين والمثقفين، وظهر مفكرون من تيارات مختلفة.
ولم يقمْ العرب بدور كبير في نقل المطبعة، ففي مصر كان الناس يعرفون الطباعة منذ أمد على الألواح الحجرية، وقد طبعت بواسطة القوالب الخشبية آيات قرآنية وأدعية، ومع ذلك يتراوح ظهور المطبوعات الإسلامية ما بين 900 و1350م، ولكن التقاليد الدينية أوجبت نسخ القرآن باليد، حتى القرن التاسع عشر، وعند قدوم نابليون فوجئ النُساخ بتهميشهم أمام الآلة التي تمتاز بحسن الخط وسرعة النسخ، ودقة الطباعة. ويمكن القول إن العالم صار يسعى بعد الثورة الصناعية إلى تقليل الاعتماد على العنصر البشري، وبالتالي فإن تطور مفهوم الكتاب مرتبط طوال الوقت بتطور آليات اقتصاد العصر للحفاظ على الذاكرة الإنسانية بشكل آمن ودائم.
ولقد أضافت الذاكرة الرقمية ميزات متعددة؛ ليس من ناحية انخفاض التكلفة الاقتصادية لحفظ الكتب عبرها، وتوفير الجهد البشري لأقل عدد ممكن؛ ولكنها أوجدت لأول مرة في تاريخ البشرية أدوات جديدة لحفظ الذاكرة، ليس بواسطة الكتابة فقط، ولكن بواسطة الصوت والصورة أيضًا، وهكذا نشهد في الألفية الثالثة ازدهار أنواع من الكتب لم تُعرف في السابق بشكل واضح، مثل الكتاب المسموع والكتاب الفيلمي؛ باعتبار الأفلام الوثائقية تنتمي إلى تعريف الكتاب.
أما اختراع الانترنت فقد غيّر تحديات التوزيع التقليدية، فقضى على عامل الوقت، ولم يعد هناك مكان فيه بشر لا يمكن أن يصله أي كتاب. وبالتالي أصبح الحديث عن الشكل القديم للكتاب ضربًا من العبث، بل لا نغالي إذا قُلنا إن العالم قد لا يحتاج كُتبًا ورقية فيما بعد؛ بل ربما تخفّفَ المستقبلُ من الكتبِ التي تعتمد على الكتابة من الأساس!
لقد أثر السوق الرقمي بشكل كبير على طبيعة الكتب الورقية بشكل عام، فقد تراجعت النصوص العلمية المطبوعة اليوم كثيرًا. فالتطور السريع للمعرفة العلمية؛ أصبح ضد بقاء الكتب المطبوعة. وربما مازال سوق الكتاب الورقي مُحتفظًا بولائه الأكبر إلى كتب الأدب والفنون، والتي ربما لو زادت وتيرة تطور هذه الحقول لأصبح من الصعب على المطبعة أن تلحق بهم.
إن الكتاب الورقي يقف متواضعًا أمام الخدمات التي يقدمها الكتاب الرقمي لدور النشر من حيث توفير أعباء إصدار الكتاب وتوزيعه وتقليل مخاطرة النشر، أو مراكز الأبحاث والجامعات، التي تحتاج طوال الوقت لتوفير معلومات عن الكتب بشكل أدق وأسرع، ويمكن الإشارة إلى نظام الأرشفة الذي تتبعه مكتبة الإسكندرية، والذي يسمحُ بالبحث عن كلمة بعينها وبيان مواضعها المختلفة داخل أي كتاب مُدرج ضمن أرشيفها الرقمي، وهو ما يُعد ثورة بالفعل في نُظم الأرشفة، حيث يوفر جهود الباحثين، وييسر الطريق عليهم -خاصة عند التعامل مع كتب التراث المهجورة- ويثري المجال المعرفي أكثر وأكثر.
ولم يعد الأمر يتعلق بسلعة ملموسة، أو بورق مطبوع، لأن بائعي كتب المستقبل هم بائعو بيانات أيضًا، وستكون وظيفتهم في عدم استغناء المُستهلكين عن دورهم كمرشدين، حيث يزدهر دور تحليل البيانات، ما يخدمُ المؤلفين ودور النشر ويساعد على مزيد من التوافق بين ما يقدمه الناشر وما يريده القارئ، وبعبارة أخرى فإن الكتاب الإلكتروني يصبح جزءًا إيجابيًا من منظومة "الكتاب" كصناعة تسعى للاستمرار وفق منافسة شرسة من الفنون السمعية والبصرية التي قد تهدد وجود "الكتاب" في حياتنا من الأساس.