اليوم وأنا أسْتلم كتابِيَهْ بيميني رغم أنِّي ألَّفتهُ من المحبرة التي تنْبُض دافقةً في يساري، أشعُر أنِّي تخلَّصتُ من عِبْءٍ أثقل طويلا كاهلي، ألَسْنا نرجوا من كل كتابةٍ ندْفعها لتُلاقي نشُورها، سوى تلكم الخِفَّة في الروح والجسد، وهي أشبه بخفَّة من صار ذنبه مغفورا، فلا أحد ينصرف من الوجود دون أن يُعبر عن الأخطاء التي يعيشُها بدرجة ملاك!
اليوم أسْتلم كتابِيَهْ بيميني وأدخل جنَّة اسمها فاس من أبواب القرويين، وأعلم أن كل كتابة لا نقْترِفها عبثاً إنما لِنتخلَّص ممَّا يكتُم أنفاسنا، وكأننا نتوق بهذا الخلاص أنْ يلي ما نكتُب المحْو، فنحن لا نعرف مصير كلماتنا بعد أن اعتلتْ أجنحةَ الورق أو إلى أي سماء تطير؟
اليوم تنْقلِب الديباجة الكلاسيكية للرِّسالة لتنوب الأقدام عن الأقلام، وقد وَصلتْني الفكرة بحرارتها وشعرتُ عميقا بالمغْزى الكامن في حركة السفر من الرباط إلى فاس لأسْتلِم كتابيه، شعرتُ أنِّي بهذه الحركة إنما أؤدي بصيغة ملموسة هذه الرسالة التي خُلق لأجل أمانتها الجسيمة الكاتب مادام يتوفَّر على ضمير حي، كان الكاتب منَّا حين يطْبع عملا في إحدى دور النشر، ينتظر نُسخاً من كتابه تقذفها شاحنة في علبة كارطونية عند باب المنزل، فيَهُبُّ وحيدا يفتحها كما يفتح الطفل علبة الهدية منزويا إلى فرحه الصغير، لا أحد يُشاطره الحَدَث المهيب الذي يستحقُّ حسب تقدير عواطفه الجيَّاشة فرحا كبيرا وغفيرا، وثمَّة من تَصعقُه المفاجأة حين يجد مؤلفه مُصْطفّاً يُباع على رفوف إحدى المكتبات، فلا يعرف لِخطاه في الشوارع سبيلا، كان يحْسبُ لِكونه المَعْنيَّ بالنَّشر أنَّه أوَّل من سيحظى بالتَّسْليم، ولكن هاهو أمام هوْلِ الخيانة يقول بصيغة التعجُّب المغربية ( التسليم..!)، بل إنَّه لا يجد عزاءً بعد أن تحوَّل فرحه إلى مأتم، سوى أن يشْتري كتابه بالقَدْرِ أو النُّسخ التي تسمح بها السيولة في جيبِه، ومهما فاضت فلن تكون بحجْم الحُزن الذي تفجَّر من قلبه نزيفا!
اليوم آتي إلى فاس ليس فقط لأسْتلم كتابيَه، بل لأنخرط في نمط نشر حضاري لا نجد مثيلا لتقاليده الراقية، إلا لدى بعض دور النشر العريقة في العالم، وهاهي مُؤسَّسة مُقاربات بطاقمها الثقافي الرَّصين وتحْت إشْراف مُبدعها الأديب جمال بوطيب، تسْلَكُ بِمهَنِيَّتِها وحُسْن تدبيرها نفس النَّهج، وتجعلُ الكاتب يسْتعيد مع مُناخه الطبيعي حيث يوجد القارئ، قيمته الرمزية، فتوقيعاتٌ وصورٌ وتبادلٌ للأفْكار مع أرقام الهاتف التي ستجعل الكتاب كائناً ناطقاً بعد طُول خرس، إنَّها لحرارةٌ جعلتْ خطَّ الحوار موصولا عبر شراييننا التي تصل بين القُلوب، ولست مُجْبراً أن أعترف في هذه الشَّهادة المُسْتقاة من عين المكان وليس أذنه كَمَنْ سمع، أنَّ مُؤسَّسة مُقاربات قد وضعتْ بالمغامرة في تجربة النشر ببلدنا، لبنة من ذهب، قاطعةً مع الأهواء التي تتجاذبُ بفسادها الأنفسَ الضَّعيفة وتخَرِّبُ الإنسان، لتأخذ الكلمة التي لا يجب أن تبقى حبيسة الأدراج بَكْماء، موضَعها الصحيح ليس فقط من الغلاف إلى الغلاف، بل يجب أنْ نُحرِّر مربِط الفرس، ونفُكَّ العزلة على الكتاب لنصيب توزيعاً لأقصى الضفاف!
اليوم لا آتي مُتحدَّثاً عن "هزائمي المُنتصرة"، فهذا الكتاب قد تحدَّث عن نفسه مُتفرِّقاً في افتتاحياتي الأسبوعية لملحق "العلم الثقافي"، ولكن يمكنني القول بارتياح إنني بتجْميع هذه الافتتاحيات في كتاب، كمن وجد سكناً بعد طول كراء، وعِوض أن يلتقي بقُرَّائه في نُسخ أو أماكن موزعة مع الجريدة عبر ربوع البلاد، صار يملك عنواناً يَشْغُل مساحةً رمزية صغيرة في جغرافيا الحياة، ورغم أنَّه عنوانٌ لا يستغلُّ حيِّزاً في السِّجل العقاري، وغير قابل للبيع أو الشراء كأي حائط آيلٍ للخراب، إلا أنه عنوانٌ يفضي إلى كتاب بكل الأصوات التي تسكُنني بضمائرها غير الغائبة، فمنْ يخشى بعد الآن أن يضيع أثره سواء كان خارج الزمن أو داخله ينتظر الأجل، من يخْشى أن تفْقِد روحُهُ مَسْكنها، وقد حفَر في الكون عنواناً يسْتدلُّ مُحبُّوه بضوئه في المرْجِع والذهاب؟
اليوم غير بعيدٍ إلا بساعات عن الأمس، أنظر لكتابيَه رغم أنه ملء يميني، بكثير من الرِّيبة، فقد شعرتُ بخمول يسْري في أوصالي، وما مبْعثُ هذا الشعور الذي يشل الأطراف، إلا من زهْوٍ كاذبٍ قد ينتاب بخدره الجميل، كل كاتب أمسك بضالَّته بعد نزيف طويل، وقد يجعله هذا الإحساس الهش يتمطى في مْشْيته بخُيلاءٍ بيْن الناس كمنْ فقَد عموده الفقري ليغدو محسوبا على الكائنات الرخوية، فأنا لا أريد لعنوان هذا الكتاب أن يُوصِد دوني أبواباً قد أسْلكها مستقبلاً في مغامرة القول الأدبي والإعلامي، ولا يَهمُّ إذا ضِعْتُ في جسارتها الغير محمودة العناكب، ولكن الأهم أن أتجاوز الأمس الذي ما أكثر من يتخذ من تراكمه ضريحا لنفسه يزوره بالشموع ، أريد أنْ أبْتكر رؤية انقلابية لا تخطىء وهي تحدِّق بأعين النَّمر أين يكمن الغد، وأعلم أني وقد صرتُ أسلك في الكتابة جمالية الوضوح، قد أصل لهذا الغد مُثخناً بالجروح، وما منْ أحد..!
(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس9 يناير 2020، وهي الكلمة التي ألقيت بعض أسطُرها لضيق الحيز الزمني، في حفل تسليم الكتب التي أصدرتها مؤسسة مقاربات، وذلك يوم السبت 4 يناير 2020 بدار الثقافة-لافياط – بفاس)
https://www.facebook.com/mohamed.bachkar.1/posts/10220808579625822
اليوم أسْتلم كتابِيَهْ بيميني وأدخل جنَّة اسمها فاس من أبواب القرويين، وأعلم أن كل كتابة لا نقْترِفها عبثاً إنما لِنتخلَّص ممَّا يكتُم أنفاسنا، وكأننا نتوق بهذا الخلاص أنْ يلي ما نكتُب المحْو، فنحن لا نعرف مصير كلماتنا بعد أن اعتلتْ أجنحةَ الورق أو إلى أي سماء تطير؟
اليوم تنْقلِب الديباجة الكلاسيكية للرِّسالة لتنوب الأقدام عن الأقلام، وقد وَصلتْني الفكرة بحرارتها وشعرتُ عميقا بالمغْزى الكامن في حركة السفر من الرباط إلى فاس لأسْتلِم كتابيه، شعرتُ أنِّي بهذه الحركة إنما أؤدي بصيغة ملموسة هذه الرسالة التي خُلق لأجل أمانتها الجسيمة الكاتب مادام يتوفَّر على ضمير حي، كان الكاتب منَّا حين يطْبع عملا في إحدى دور النشر، ينتظر نُسخاً من كتابه تقذفها شاحنة في علبة كارطونية عند باب المنزل، فيَهُبُّ وحيدا يفتحها كما يفتح الطفل علبة الهدية منزويا إلى فرحه الصغير، لا أحد يُشاطره الحَدَث المهيب الذي يستحقُّ حسب تقدير عواطفه الجيَّاشة فرحا كبيرا وغفيرا، وثمَّة من تَصعقُه المفاجأة حين يجد مؤلفه مُصْطفّاً يُباع على رفوف إحدى المكتبات، فلا يعرف لِخطاه في الشوارع سبيلا، كان يحْسبُ لِكونه المَعْنيَّ بالنَّشر أنَّه أوَّل من سيحظى بالتَّسْليم، ولكن هاهو أمام هوْلِ الخيانة يقول بصيغة التعجُّب المغربية ( التسليم..!)، بل إنَّه لا يجد عزاءً بعد أن تحوَّل فرحه إلى مأتم، سوى أن يشْتري كتابه بالقَدْرِ أو النُّسخ التي تسمح بها السيولة في جيبِه، ومهما فاضت فلن تكون بحجْم الحُزن الذي تفجَّر من قلبه نزيفا!
اليوم آتي إلى فاس ليس فقط لأسْتلم كتابيَه، بل لأنخرط في نمط نشر حضاري لا نجد مثيلا لتقاليده الراقية، إلا لدى بعض دور النشر العريقة في العالم، وهاهي مُؤسَّسة مُقاربات بطاقمها الثقافي الرَّصين وتحْت إشْراف مُبدعها الأديب جمال بوطيب، تسْلَكُ بِمهَنِيَّتِها وحُسْن تدبيرها نفس النَّهج، وتجعلُ الكاتب يسْتعيد مع مُناخه الطبيعي حيث يوجد القارئ، قيمته الرمزية، فتوقيعاتٌ وصورٌ وتبادلٌ للأفْكار مع أرقام الهاتف التي ستجعل الكتاب كائناً ناطقاً بعد طُول خرس، إنَّها لحرارةٌ جعلتْ خطَّ الحوار موصولا عبر شراييننا التي تصل بين القُلوب، ولست مُجْبراً أن أعترف في هذه الشَّهادة المُسْتقاة من عين المكان وليس أذنه كَمَنْ سمع، أنَّ مُؤسَّسة مُقاربات قد وضعتْ بالمغامرة في تجربة النشر ببلدنا، لبنة من ذهب، قاطعةً مع الأهواء التي تتجاذبُ بفسادها الأنفسَ الضَّعيفة وتخَرِّبُ الإنسان، لتأخذ الكلمة التي لا يجب أن تبقى حبيسة الأدراج بَكْماء، موضَعها الصحيح ليس فقط من الغلاف إلى الغلاف، بل يجب أنْ نُحرِّر مربِط الفرس، ونفُكَّ العزلة على الكتاب لنصيب توزيعاً لأقصى الضفاف!
اليوم لا آتي مُتحدَّثاً عن "هزائمي المُنتصرة"، فهذا الكتاب قد تحدَّث عن نفسه مُتفرِّقاً في افتتاحياتي الأسبوعية لملحق "العلم الثقافي"، ولكن يمكنني القول بارتياح إنني بتجْميع هذه الافتتاحيات في كتاب، كمن وجد سكناً بعد طول كراء، وعِوض أن يلتقي بقُرَّائه في نُسخ أو أماكن موزعة مع الجريدة عبر ربوع البلاد، صار يملك عنواناً يَشْغُل مساحةً رمزية صغيرة في جغرافيا الحياة، ورغم أنَّه عنوانٌ لا يستغلُّ حيِّزاً في السِّجل العقاري، وغير قابل للبيع أو الشراء كأي حائط آيلٍ للخراب، إلا أنه عنوانٌ يفضي إلى كتاب بكل الأصوات التي تسكُنني بضمائرها غير الغائبة، فمنْ يخشى بعد الآن أن يضيع أثره سواء كان خارج الزمن أو داخله ينتظر الأجل، من يخْشى أن تفْقِد روحُهُ مَسْكنها، وقد حفَر في الكون عنواناً يسْتدلُّ مُحبُّوه بضوئه في المرْجِع والذهاب؟
اليوم غير بعيدٍ إلا بساعات عن الأمس، أنظر لكتابيَه رغم أنه ملء يميني، بكثير من الرِّيبة، فقد شعرتُ بخمول يسْري في أوصالي، وما مبْعثُ هذا الشعور الذي يشل الأطراف، إلا من زهْوٍ كاذبٍ قد ينتاب بخدره الجميل، كل كاتب أمسك بضالَّته بعد نزيف طويل، وقد يجعله هذا الإحساس الهش يتمطى في مْشْيته بخُيلاءٍ بيْن الناس كمنْ فقَد عموده الفقري ليغدو محسوبا على الكائنات الرخوية، فأنا لا أريد لعنوان هذا الكتاب أن يُوصِد دوني أبواباً قد أسْلكها مستقبلاً في مغامرة القول الأدبي والإعلامي، ولا يَهمُّ إذا ضِعْتُ في جسارتها الغير محمودة العناكب، ولكن الأهم أن أتجاوز الأمس الذي ما أكثر من يتخذ من تراكمه ضريحا لنفسه يزوره بالشموع ، أريد أنْ أبْتكر رؤية انقلابية لا تخطىء وهي تحدِّق بأعين النَّمر أين يكمن الغد، وأعلم أني وقد صرتُ أسلك في الكتابة جمالية الوضوح، قد أصل لهذا الغد مُثخناً بالجروح، وما منْ أحد..!
(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس9 يناير 2020، وهي الكلمة التي ألقيت بعض أسطُرها لضيق الحيز الزمني، في حفل تسليم الكتب التي أصدرتها مؤسسة مقاربات، وذلك يوم السبت 4 يناير 2020 بدار الثقافة-لافياط – بفاس)
https://www.facebook.com/mohamed.bachkar.1/posts/10220808579625822