هل كانت السينما بالنسبة لي مجرد ملاذ بسيط أتعاطاه حين أهرب من المدرسة، أو هموم التحصيل وأنا صغير، ألوذ فيها بأسطورية متخيلة تجنبني واقعاً بائساً ( لا أزال أعيش بعضاً منه)، أم ربما كانت جزءاً من أدبيات تكويني (قبل أن أعرف الأدب) ساهم في بلورة التخييل واستقصاء الحبكة والدراما وسرد الأحوال بدرجة تفارق الواقع ولا تُلغيه؟
أما هجومي شبه الدائم على دور السينما: فلأني شخص بدائي مخبول (أبكي من مشهد غراميّ بائس)، أو مجنون بالحركة في الكون (تفتّح زهرة خُزامى في الليل على فتفوتة سكر، لون أذن الحبيبة بعد الغرام، انصهار شمعة في ليلة رأس السنة، فتحة فستان مجهول تكشف عن قطعة من اللحم الحرام، إصبع طفل ينظر إلى إصبعكَ لا حيثُ ما تريد، جنون شاعر بكلمة تهذي في خياله ولا يستطيع لها دفعاً، إلخ).
غرامي بالسينما أيضاً لأني صوفيّ مجذوب للألوان (وعلى رأسها الأبيض والأسود)، حيث لم أفقد جزءاً من طفولتي بعد (إذ لا زلت أخاف من هجوم قطار على الشاشة). وبينما أنا عدوانيّ تبريريّ أخّاذ (أفرح لمرأى شظايا البطل وهي تنتثر في الفضاء) أحبّ الرقص شفافاً، لكني لا أمارسه إلا سيراً بين الشوارع في فضاء نفسيّ حزين (تنتفض روحي كالذبيحة لرقصة أنتوني كوين في "زوربا"، أو سعاد حسني في "زوزو"، أو خصيصاً أفلام الباليرينيات المأسوية).
تشكّل السينما مجموعة الرموز الإنسانية التي تنمّط في أحيان كثيرة حياة البشر: فهناك بطل متاح لكل طبع، وهناك فكرة مخزونة تلهب خلايا المبدعين، وهناك امرأة سهلة المنال عند الليل لدى كل جوعان أو مراهق. لذلك فإن السينما بالنسبة لكلّ منا هي مخزون المشاعر الخاصة، بعيداً عن مخزون الذاكرة التراكميّ.
أرى السرد (في دورته السريعة بالفيلم) كأنه يختصر الحياة استجلاباً لآخرها. وهنا يصل الموت. فهل تتعامل السينما مع الموت كالشهوة للوجود، كأنه جزء من دورة الحياة التي لا تني تبدأ حتى تنتهي وقد تبدأ من جديد، حياة منسوخة، وهكذا دواليك (وهذه الكلمة تحديداً تذكّرني بعالم السينما، إذ توحي بالتغير والتبديل والتداول والجماهيرية والسخرية والعشق والتمكن والوجود وبكرة الفيلم).
بعد الفيلم نتمتّع بالحوار مع الذات أو الآخرين، بالحنين أو التوتر، اللاواقعية الحرة أو خلخلة الزمن، والجسد الطافي على بحر من الفن والنعومة والخيال. السينما في النهاية زاد من لا زاد له، أيقونة المُعوِزين وحِرزٌ للضالّين.
بين الدخول إلى والخروج من السينما يتباين وقتان مختلفان: الوقت الطقسيّ الواقعيّ ووقت الفيلم التخييليّ. وهو يشتمل كذلك على واقعين متجاورين متناقضين: الواقع الفادح الصريح وواقع الفيلم الرمزيّ. كما تؤشّر العلاقة مع السينما إلى مجموعة علاقات مع مدن وعوالم مختلفة، كجزء من تجربة أشد تعقيداً ومن تاريخ أكثر مغايرة.
قد تُجبرنا السينما أن نعي كيف نرى وجودنا اليوميّ بطريقة تُغيّر علاقتنا بأنفسنا (مثالاً: فيلّيني في فيلم "8,5"…). فيلّيني: أسطورة محمومة تخرج إلى الضوء من دون أن نعرف متى ولا كيف، لكن فيلّيني يعتقد أن المثقف حالة ميئوس منها، لذلك لم يفقد القدرة أبداً على الاتّصال بالجمهور حتى بعدما صارت أفلامه أشدّ تعقيداً.
ويجب ألا يكون الوفاء للحقيقة مقياساً للحكم الفنيّ على أيّ عمل سينمائيّ، كما قال كالفينو مرة، فمع السينما نعترف بأن أكثر ما ينبغي الابتعاد عنه يربطنا في الحقيقة بالواقع. فالفيلم الذي ظننا أننا نشاهده ليس سوى حكاية قديمة لأيامنا. كما نتلفّت بعدما نخرج منه في حيرة، مستوحشين، كمن هو في ليلة الحكم الأخير. أقول: وقد يحيا الإنسان على كلمة واحدة، كلمة لم يسطّرها شاعرٌ بعدُ في قصيدة!
أما هجومي شبه الدائم على دور السينما: فلأني شخص بدائي مخبول (أبكي من مشهد غراميّ بائس)، أو مجنون بالحركة في الكون (تفتّح زهرة خُزامى في الليل على فتفوتة سكر، لون أذن الحبيبة بعد الغرام، انصهار شمعة في ليلة رأس السنة، فتحة فستان مجهول تكشف عن قطعة من اللحم الحرام، إصبع طفل ينظر إلى إصبعكَ لا حيثُ ما تريد، جنون شاعر بكلمة تهذي في خياله ولا يستطيع لها دفعاً، إلخ).
غرامي بالسينما أيضاً لأني صوفيّ مجذوب للألوان (وعلى رأسها الأبيض والأسود)، حيث لم أفقد جزءاً من طفولتي بعد (إذ لا زلت أخاف من هجوم قطار على الشاشة). وبينما أنا عدوانيّ تبريريّ أخّاذ (أفرح لمرأى شظايا البطل وهي تنتثر في الفضاء) أحبّ الرقص شفافاً، لكني لا أمارسه إلا سيراً بين الشوارع في فضاء نفسيّ حزين (تنتفض روحي كالذبيحة لرقصة أنتوني كوين في "زوربا"، أو سعاد حسني في "زوزو"، أو خصيصاً أفلام الباليرينيات المأسوية).
تشكّل السينما مجموعة الرموز الإنسانية التي تنمّط في أحيان كثيرة حياة البشر: فهناك بطل متاح لكل طبع، وهناك فكرة مخزونة تلهب خلايا المبدعين، وهناك امرأة سهلة المنال عند الليل لدى كل جوعان أو مراهق. لذلك فإن السينما بالنسبة لكلّ منا هي مخزون المشاعر الخاصة، بعيداً عن مخزون الذاكرة التراكميّ.
أرى السرد (في دورته السريعة بالفيلم) كأنه يختصر الحياة استجلاباً لآخرها. وهنا يصل الموت. فهل تتعامل السينما مع الموت كالشهوة للوجود، كأنه جزء من دورة الحياة التي لا تني تبدأ حتى تنتهي وقد تبدأ من جديد، حياة منسوخة، وهكذا دواليك (وهذه الكلمة تحديداً تذكّرني بعالم السينما، إذ توحي بالتغير والتبديل والتداول والجماهيرية والسخرية والعشق والتمكن والوجود وبكرة الفيلم).
بعد الفيلم نتمتّع بالحوار مع الذات أو الآخرين، بالحنين أو التوتر، اللاواقعية الحرة أو خلخلة الزمن، والجسد الطافي على بحر من الفن والنعومة والخيال. السينما في النهاية زاد من لا زاد له، أيقونة المُعوِزين وحِرزٌ للضالّين.
بين الدخول إلى والخروج من السينما يتباين وقتان مختلفان: الوقت الطقسيّ الواقعيّ ووقت الفيلم التخييليّ. وهو يشتمل كذلك على واقعين متجاورين متناقضين: الواقع الفادح الصريح وواقع الفيلم الرمزيّ. كما تؤشّر العلاقة مع السينما إلى مجموعة علاقات مع مدن وعوالم مختلفة، كجزء من تجربة أشد تعقيداً ومن تاريخ أكثر مغايرة.
قد تُجبرنا السينما أن نعي كيف نرى وجودنا اليوميّ بطريقة تُغيّر علاقتنا بأنفسنا (مثالاً: فيلّيني في فيلم "8,5"…). فيلّيني: أسطورة محمومة تخرج إلى الضوء من دون أن نعرف متى ولا كيف، لكن فيلّيني يعتقد أن المثقف حالة ميئوس منها، لذلك لم يفقد القدرة أبداً على الاتّصال بالجمهور حتى بعدما صارت أفلامه أشدّ تعقيداً.
ويجب ألا يكون الوفاء للحقيقة مقياساً للحكم الفنيّ على أيّ عمل سينمائيّ، كما قال كالفينو مرة، فمع السينما نعترف بأن أكثر ما ينبغي الابتعاد عنه يربطنا في الحقيقة بالواقع. فالفيلم الذي ظننا أننا نشاهده ليس سوى حكاية قديمة لأيامنا. كما نتلفّت بعدما نخرج منه في حيرة، مستوحشين، كمن هو في ليلة الحكم الأخير. أقول: وقد يحيا الإنسان على كلمة واحدة، كلمة لم يسطّرها شاعرٌ بعدُ في قصيدة!