اعتاد الشاعر منذ القديم أن يتنسم الحرية بجرعات زائدة بقرض الشعر، وينطلق عبر بحوره دون الحاجة إلى رياح أو تيارات تأخذه إلى شواطئ يصبو إليها. ولقد خاض الشعراء، نتيجة تجاربهم في الحياة وتفاعلهم مع الناس، تجربة الأسر والسجن وعانوا مرارته واكتووا بأغلاله. وكان القريض متنفسهم ونافذة أمل لاعتناق الحرية.
«وتزخر كتب الأوائل بمنظوم كثير فاض عن القرائح في السجون لو أفردت قصائده ومقطوعاته، وأخبار قائليه في كتاب لملأت غير سفر ضخم. وما ينشر من قديم مخطوطات الأدب والتراجم والتاريخ يزيد في هذه المادة يوما عن يوم».
وكم من شاعر كانت أشعاره التي كتبها خلال محنته بالسجن أكثر صدقا وعمقا خلدته باقي حياته أكثر من الأشعار التي كتبها وهو حر طليق، ذلك أن السجن «مس كثيرا من كبار الشعراء مسا رفيقا، وأوغل في حياة بعضهم إيغالا، وتعداهم إلى جمهور من أهل العلم والأدب»، فكانت محنتهم بالسجن باعثا قويا لإظهار ما كان خفيا في وجدانهم وتحريك ما كانوا يقاسونه في سجنهم.
والسجين هو الإنسان الذي تسلب حريته، ويُلزم بالإقامة في مكان يسمى السجن، مع تعطيل حركته التي قد يلازمها القيد الذي إذا بلغ غاية الثقل سمي الكبل، ويقول قيس بن الحدادية، في هذا الصدد:
دعوت عديا والكبول تكبني ألا يا عدي يا عدي بن نوفل
اختلفت القيود، وتعددت أشكالها، وكانت الغاية منها الحد من حركة الأسير أو السجين حتى يؤمن جانبه، «ومهما اختلفت أشكال القيود وأنواعها يجمعها اسم الوثاق».
وأشار الجاحظ، في «البيان والتبيين»، إلى أن العرب كانت تشد لسان الأسير بنسعة إذا كان شاعرا خوفا من هجائه، مستشهدا بقول عبد يغوت بن وقاص الحارثي:
أقول وقد شدوا لساني بنسعة أمعشر تيم أطلقوا لساني.
وسمي الأسير أيضا معفوسا أي محبوسا «وكلمة العفس تزخر بمعنى الاحتقار والاتضاع والذلة، فإذا صار الرجل معفوسا، كان أشبه بالناقة المحبوسة الممنوعة من الرعي المحرومة من العلف».
واختلف مفهوم السجين عند العرب عبر التاريخ، فلفظة السجين «ترادف الأسير في الجاهلية، ولا تزيد عليها بمضمون إضافي. ونلمح الترادف ذاته في صدر الإسلام، إذ سمي النبي صلى الله عليه وسلم المحبوس أسيرا، انطلاقا من فهم الإسلام لكلمة حبس وهو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه. وكان هذا الترادف لا يزال ملحوظا في العصر الأموي، وأما في العصر العباسي، فإن لفظة أسير بدأت تختص بالذين يؤخذون حربا، والسجين أو الحبيس هو من تعتقله السلطة».
ويخلص أحمد المختار البرزة في كتابه «الأسر والسجن في شعر العرب»، إلى أن عماد كلمة الأسير أو السجن ثلاثة عناصر، وهي سلب الحرية، وتعطيل الحركة، والإقامة الجبرية، ولكنها لا تتساوى قيمة ومقدارا، وأهم ما فيها العنصر الأول من غير شك. ولا يزال المرء يشعر بأنه لا يملك أمره، ولا نفسه إذا حيل بينه والتصرف الحر الإرادي. ويقول أبو فراس الحمداني، في قصيدته الرائعة عندما كان سجينا وسمع هديل حمامة على شجرة عالية:
أقولُ وقد ناحت بقربي حمامة = أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟
معاذ الهوى! ماذقتُ طارقة النوى = ولا خطرت منك الهموم ببال
أتحمل محزون الفؤاد قوادم = على غصن نائي المسافة عال؟
أيا جارتا، ما أنصف الدهر بيننا! = تعالي أقاسمك الهموم، تعالي!
تعالي تري روحا لدي ضعيفة = تردد في جسم يعذب بالي
أيضحك مأسور، وتبكي طليقة = ويسكت محزون، ويندب سال؟
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة = ولكن دمعي في الحوادث غالي!
فالسجين في عزلته يتشبث بأي رمز متحرك ليجعل منه موضوعا لشعره يتقصى به نسائم الحرية ينعش بها صدره الذي يضيق من وطأة السجن.
ولعل طبيعة المجتمع القبلي العربي الذي يشهد عليه التاريخ السياسي العربي، «وطبيعة الأرض وفقدان الدولة الموحدة في الجزيرة، وتموضع الدول ذات النفوذ والمقاصد على أطرافها، ساعد ذلك على توفير دواعي العداء والشقاق وما يستتبع ذلك من حرب وغزو، والحروب هي أكبر الموارد للأسر، والشعراء الذين وضعتهم الحرب في المعتقلات أصابهم الكثير من أثرها، كما تروي أشعارهم، في ما هي عليه من العنف والأخذ بالقسوة وإيثار اللين والإحسان.
هناك شعراء عرب كثيرون أمضوا قسطا معينا من حياتهم في غياهب السجون، فكانت تجربة حبسهم أن نظموا أشعارا تعددت مواضيعها، كان بعضها سببا في إطلاق سراحهم، في حين لم تنجح أخرى في استدرار عطف من أسروهم أو سجنوهم، ونذكر منهم أبو فراس الحمداني، الشهير بقصة سجنه، وعبيد بن الأبرص حيث شقت قبيلته عصا الطاعة على ملك كان يسيطر على القبائل النجدية، فتم أسره ضمن فرسانها وألحق بهم الذل والهوان، فكان أن استعطف الملك وطلب العفو. «ومن الجميل أن نذكر أن الشاعر الأسير لم يذكر شيئا لنفسه، إذ لم يكن يعاني مأساة ذاتية تهمه وحده، بل كان يعاني مأساة قومية. وكانت نجاته في نجاة قومه، فانطلق في شعره عن إحساس جماعي وألم شائع في ما بينهم جميعا، وقد أرضى الملك هذا الخضوع الذي أعلنه لسان شاعرهم فردهم إلى مسارحهم.
ومن جملة ما قال:
إما تركت، تركت عفــ = وا أو قتلت فلا ملامة
أنت المليك عليهم = وهم العبيد إلى القيامة
ذلوا لسوطك مثلما = ذل الأشيقر ذو الخزامة.
وأودع عمر بن الخطاب الحطيئة السجن، حينما هجا عامله الزبرقان، فأنشد مخاطبا عمر:
ماذا أقول لأفراخ بذي مرخ = زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسيهم في قعر مظلمة = فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه = ألقى إليك مقاليد النهى البشر.
فأخرجه من سجنه وهدده بقطع لسانه إن عاد يهجو أحدا.
وقال ابن زيدون قصيدة مطولة في سجنه، نقتطف منها هذه الأبيات التي يصور فيها نفسه بدرا مخسوفا وسيفا صارما في غمده:
هل الرياح بنجم الأرض عاصفة؟ = أم الكسوف لغير الشمس والقمر؟
إن طال في السجن إيداعي فلا عجب = قد يودع الجفن حد الصارم الذكر
وإن يثبط أبا الحزم الرضى قدر = عن كشف ضري فلا عتب على القدر
ما للذنوب، التي جاني كبائرها = غيري يحملني أوزارها وزري.
يرفض الشاعر أن يتعفن في غياهب سجنه فينفض عنه أشكال الذل والهوان، ويصور نفسه بعدة صور تخفف من وطأة الأسر والسجن، في هذا الصدد يقول الشاعر العباسي علي بن الجهم في حبسه:
قالت حبست فقلت ليس بضائر = حبسي وأي مهند لا يغمد
أو ما رأيت الليث يألف غيله = كبرا وأوباش السباع تردد
والشمس لولا أنها محجوبة عن = ناظريك لما أضاء الفرقد
والبدر يدركه السرار فتنجلي = أيامه وكأنه متجدد
والغيث يحصره الغمام فما يرى = إلا وريقه يراح ويرعد
والنار في أحجارها مخبوءة = لا تصطلى إن لم تثرها الأزند..
إلى أن قال:
والله بالغ أمره في خلقه = وإليه مصدرنا غدا والمورد
ولئن مضيت لقلما يبقى الذي = قد كادني وليجمعنا الموعد
فبأي ذنب أصبحت أعراضنا = نهبا يشيد بها اللئيم الأوغد..
يتميز شعر السجن بصدق العاطفة، ونقاء المعنى من دون زيف أو مجاملة، لأنه نابع من قلب مكلوم يعاني الأسر والوحدة والحرمان، ونفس تنشد الحرية والانعتاق. لذلك كان الشعر الذي نظمه المعتمد بن عباد في سجنه أكثر صدقا وعمقا من الشعر الذي نظمه قبل محنته. ويحتل شعر السجن في ديوانه مكانة مهمة، «والمعتمد، شأنه شأن سائر الشعراء الذين تعرضوا لمحنة السجن، سطر مأساته في الأسر عبر أشعار باكية شاكية كانت عاملا قويا من عوامل شهرته، فرغم قرض المعتمد للشعر قبل الأسر، ورغم تناوله لموضوعات شعرية كثيرة، فإن خلود شعره وشهرته الأدبية لم يتحققا إلا عبر شعر المحنة، إذ كان هذا الشعر أعمق أثرا وأغزر معنى».
عاش المعتمد بن عباد قبل الأسر نكبة قتل أبنائه الثلاثة، لتنضاف إليها خسارته في الحرب مع المرابطين وفقدانه لسلطانه، وأسره المهين، واقتياده ذليلا إلى سجنه بأغمات. ولذلك كانت لسجنه يد بيضاء على خلود شعره، وعلى الأدب معا، فلولا الأسر لما جرى طبعه بتلك النفثات الرائعة، ولا كتب اسمه في سفر الخلود.
نظم المعتد قبل أسره أشعارا في عدة مواضيع كالغزل والفخر والرثاء والتهكم من ابن عمار عندما انقلب عليه، والتهكم على سبيل الدعابة من ابنه الراضي الذي ادعى المرض عندما أمره أبوه بالخروج في عسكر، وأشعارا في أبيه كالمدح والطلب والشكر والاستعطاف والوصف، وأشعارا في أبنائه، وأخرى على شكل رسائل إلى الشعراء والملوك.. وهي أشعار تحتل حيزا كبيرا من ديوانه مقارنة مع الأشعار التي كتبها في أسره، حيث «يشتمل على 875 بيتا، نظم الشاعر منها 528 بيتا قبل الأسر، و293 بيتا بعده، وعليه فإن شعر السجن عند المعتمد لا يتعدى ما نسبته 33.5 في المائة من مجموع شعره».
www.alakhbar.press.ma
«وتزخر كتب الأوائل بمنظوم كثير فاض عن القرائح في السجون لو أفردت قصائده ومقطوعاته، وأخبار قائليه في كتاب لملأت غير سفر ضخم. وما ينشر من قديم مخطوطات الأدب والتراجم والتاريخ يزيد في هذه المادة يوما عن يوم».
وكم من شاعر كانت أشعاره التي كتبها خلال محنته بالسجن أكثر صدقا وعمقا خلدته باقي حياته أكثر من الأشعار التي كتبها وهو حر طليق، ذلك أن السجن «مس كثيرا من كبار الشعراء مسا رفيقا، وأوغل في حياة بعضهم إيغالا، وتعداهم إلى جمهور من أهل العلم والأدب»، فكانت محنتهم بالسجن باعثا قويا لإظهار ما كان خفيا في وجدانهم وتحريك ما كانوا يقاسونه في سجنهم.
والسجين هو الإنسان الذي تسلب حريته، ويُلزم بالإقامة في مكان يسمى السجن، مع تعطيل حركته التي قد يلازمها القيد الذي إذا بلغ غاية الثقل سمي الكبل، ويقول قيس بن الحدادية، في هذا الصدد:
دعوت عديا والكبول تكبني ألا يا عدي يا عدي بن نوفل
اختلفت القيود، وتعددت أشكالها، وكانت الغاية منها الحد من حركة الأسير أو السجين حتى يؤمن جانبه، «ومهما اختلفت أشكال القيود وأنواعها يجمعها اسم الوثاق».
وأشار الجاحظ، في «البيان والتبيين»، إلى أن العرب كانت تشد لسان الأسير بنسعة إذا كان شاعرا خوفا من هجائه، مستشهدا بقول عبد يغوت بن وقاص الحارثي:
أقول وقد شدوا لساني بنسعة أمعشر تيم أطلقوا لساني.
وسمي الأسير أيضا معفوسا أي محبوسا «وكلمة العفس تزخر بمعنى الاحتقار والاتضاع والذلة، فإذا صار الرجل معفوسا، كان أشبه بالناقة المحبوسة الممنوعة من الرعي المحرومة من العلف».
واختلف مفهوم السجين عند العرب عبر التاريخ، فلفظة السجين «ترادف الأسير في الجاهلية، ولا تزيد عليها بمضمون إضافي. ونلمح الترادف ذاته في صدر الإسلام، إذ سمي النبي صلى الله عليه وسلم المحبوس أسيرا، انطلاقا من فهم الإسلام لكلمة حبس وهو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه. وكان هذا الترادف لا يزال ملحوظا في العصر الأموي، وأما في العصر العباسي، فإن لفظة أسير بدأت تختص بالذين يؤخذون حربا، والسجين أو الحبيس هو من تعتقله السلطة».
ويخلص أحمد المختار البرزة في كتابه «الأسر والسجن في شعر العرب»، إلى أن عماد كلمة الأسير أو السجن ثلاثة عناصر، وهي سلب الحرية، وتعطيل الحركة، والإقامة الجبرية، ولكنها لا تتساوى قيمة ومقدارا، وأهم ما فيها العنصر الأول من غير شك. ولا يزال المرء يشعر بأنه لا يملك أمره، ولا نفسه إذا حيل بينه والتصرف الحر الإرادي. ويقول أبو فراس الحمداني، في قصيدته الرائعة عندما كان سجينا وسمع هديل حمامة على شجرة عالية:
أقولُ وقد ناحت بقربي حمامة = أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟
معاذ الهوى! ماذقتُ طارقة النوى = ولا خطرت منك الهموم ببال
أتحمل محزون الفؤاد قوادم = على غصن نائي المسافة عال؟
أيا جارتا، ما أنصف الدهر بيننا! = تعالي أقاسمك الهموم، تعالي!
تعالي تري روحا لدي ضعيفة = تردد في جسم يعذب بالي
أيضحك مأسور، وتبكي طليقة = ويسكت محزون، ويندب سال؟
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة = ولكن دمعي في الحوادث غالي!
فالسجين في عزلته يتشبث بأي رمز متحرك ليجعل منه موضوعا لشعره يتقصى به نسائم الحرية ينعش بها صدره الذي يضيق من وطأة السجن.
ولعل طبيعة المجتمع القبلي العربي الذي يشهد عليه التاريخ السياسي العربي، «وطبيعة الأرض وفقدان الدولة الموحدة في الجزيرة، وتموضع الدول ذات النفوذ والمقاصد على أطرافها، ساعد ذلك على توفير دواعي العداء والشقاق وما يستتبع ذلك من حرب وغزو، والحروب هي أكبر الموارد للأسر، والشعراء الذين وضعتهم الحرب في المعتقلات أصابهم الكثير من أثرها، كما تروي أشعارهم، في ما هي عليه من العنف والأخذ بالقسوة وإيثار اللين والإحسان.
هناك شعراء عرب كثيرون أمضوا قسطا معينا من حياتهم في غياهب السجون، فكانت تجربة حبسهم أن نظموا أشعارا تعددت مواضيعها، كان بعضها سببا في إطلاق سراحهم، في حين لم تنجح أخرى في استدرار عطف من أسروهم أو سجنوهم، ونذكر منهم أبو فراس الحمداني، الشهير بقصة سجنه، وعبيد بن الأبرص حيث شقت قبيلته عصا الطاعة على ملك كان يسيطر على القبائل النجدية، فتم أسره ضمن فرسانها وألحق بهم الذل والهوان، فكان أن استعطف الملك وطلب العفو. «ومن الجميل أن نذكر أن الشاعر الأسير لم يذكر شيئا لنفسه، إذ لم يكن يعاني مأساة ذاتية تهمه وحده، بل كان يعاني مأساة قومية. وكانت نجاته في نجاة قومه، فانطلق في شعره عن إحساس جماعي وألم شائع في ما بينهم جميعا، وقد أرضى الملك هذا الخضوع الذي أعلنه لسان شاعرهم فردهم إلى مسارحهم.
ومن جملة ما قال:
إما تركت، تركت عفــ = وا أو قتلت فلا ملامة
أنت المليك عليهم = وهم العبيد إلى القيامة
ذلوا لسوطك مثلما = ذل الأشيقر ذو الخزامة.
وأودع عمر بن الخطاب الحطيئة السجن، حينما هجا عامله الزبرقان، فأنشد مخاطبا عمر:
ماذا أقول لأفراخ بذي مرخ = زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسيهم في قعر مظلمة = فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه = ألقى إليك مقاليد النهى البشر.
فأخرجه من سجنه وهدده بقطع لسانه إن عاد يهجو أحدا.
وقال ابن زيدون قصيدة مطولة في سجنه، نقتطف منها هذه الأبيات التي يصور فيها نفسه بدرا مخسوفا وسيفا صارما في غمده:
هل الرياح بنجم الأرض عاصفة؟ = أم الكسوف لغير الشمس والقمر؟
إن طال في السجن إيداعي فلا عجب = قد يودع الجفن حد الصارم الذكر
وإن يثبط أبا الحزم الرضى قدر = عن كشف ضري فلا عتب على القدر
ما للذنوب، التي جاني كبائرها = غيري يحملني أوزارها وزري.
يرفض الشاعر أن يتعفن في غياهب سجنه فينفض عنه أشكال الذل والهوان، ويصور نفسه بعدة صور تخفف من وطأة الأسر والسجن، في هذا الصدد يقول الشاعر العباسي علي بن الجهم في حبسه:
قالت حبست فقلت ليس بضائر = حبسي وأي مهند لا يغمد
أو ما رأيت الليث يألف غيله = كبرا وأوباش السباع تردد
والشمس لولا أنها محجوبة عن = ناظريك لما أضاء الفرقد
والبدر يدركه السرار فتنجلي = أيامه وكأنه متجدد
والغيث يحصره الغمام فما يرى = إلا وريقه يراح ويرعد
والنار في أحجارها مخبوءة = لا تصطلى إن لم تثرها الأزند..
إلى أن قال:
والله بالغ أمره في خلقه = وإليه مصدرنا غدا والمورد
ولئن مضيت لقلما يبقى الذي = قد كادني وليجمعنا الموعد
فبأي ذنب أصبحت أعراضنا = نهبا يشيد بها اللئيم الأوغد..
يتميز شعر السجن بصدق العاطفة، ونقاء المعنى من دون زيف أو مجاملة، لأنه نابع من قلب مكلوم يعاني الأسر والوحدة والحرمان، ونفس تنشد الحرية والانعتاق. لذلك كان الشعر الذي نظمه المعتمد بن عباد في سجنه أكثر صدقا وعمقا من الشعر الذي نظمه قبل محنته. ويحتل شعر السجن في ديوانه مكانة مهمة، «والمعتمد، شأنه شأن سائر الشعراء الذين تعرضوا لمحنة السجن، سطر مأساته في الأسر عبر أشعار باكية شاكية كانت عاملا قويا من عوامل شهرته، فرغم قرض المعتمد للشعر قبل الأسر، ورغم تناوله لموضوعات شعرية كثيرة، فإن خلود شعره وشهرته الأدبية لم يتحققا إلا عبر شعر المحنة، إذ كان هذا الشعر أعمق أثرا وأغزر معنى».
عاش المعتمد بن عباد قبل الأسر نكبة قتل أبنائه الثلاثة، لتنضاف إليها خسارته في الحرب مع المرابطين وفقدانه لسلطانه، وأسره المهين، واقتياده ذليلا إلى سجنه بأغمات. ولذلك كانت لسجنه يد بيضاء على خلود شعره، وعلى الأدب معا، فلولا الأسر لما جرى طبعه بتلك النفثات الرائعة، ولا كتب اسمه في سفر الخلود.
نظم المعتد قبل أسره أشعارا في عدة مواضيع كالغزل والفخر والرثاء والتهكم من ابن عمار عندما انقلب عليه، والتهكم على سبيل الدعابة من ابنه الراضي الذي ادعى المرض عندما أمره أبوه بالخروج في عسكر، وأشعارا في أبيه كالمدح والطلب والشكر والاستعطاف والوصف، وأشعارا في أبنائه، وأخرى على شكل رسائل إلى الشعراء والملوك.. وهي أشعار تحتل حيزا كبيرا من ديوانه مقارنة مع الأشعار التي كتبها في أسره، حيث «يشتمل على 875 بيتا، نظم الشاعر منها 528 بيتا قبل الأسر، و293 بيتا بعده، وعليه فإن شعر السجن عند المعتمد لا يتعدى ما نسبته 33.5 في المائة من مجموع شعره».
شعر السجون القصيدة كمعبر للحرية المعتمد بن عباد نموذجا (2/1) - الأخبار جريدة إلكترونية مغربية مستقلة
رضوان السائحي اعتاد الشاعر منذ القديم أن يتنسم الحرية بجرعات زائدة بقرض الشعر، وينطلق عبر بحوره دون الحاجة إلى رياح أو تيارات تأخذه إلى شواطئ يصبو إليها. ولقد خاض الشعراء، نتيجة تجاربهم في الحياة وتفاعلهم مع الناس، تجربة الأسر والسجن وعانوا مرارته واكتووا بأغلاله. وكان القريض متنفسهم ونافذة أمل...