[ هل أفرح أم أحزن لأنه كان من حظي أن أعتز بمعرفة وصداقة، صداقة خاصة، بشكل استثنائي بين العديد من الأحبة "المشاركين" في هذا النص؟
عبد المنعم رمضان، من تكرّم بإرسال هذا النص، وحلمي سالم (رفيقي قبل أن يصبح "دليلي" في القاهرة)، ومحمد عيد إبراهيم الذي كان قلبي يرف عندما كان يضمن رسالته دائمًا تسمية "ست الكل" التي أُدرك تمامًا انها دارجة، ولكن منه كنت "أُصدقها"، أخجل، ولكني كنت أتقبًلها لأنه لم يكن يكيل الكلام جزافـًا؛ كيف ومتى سأتجرأ على فتح صندوق رسائلنا المتبادلة بالشأن الثقافي غالبًا، وليس فقط ؟ | سهام داوود ]
•
| كنت أظنه وحده من سيصل إلى المستقبل الذي لا نهاية له، لكنه مات، مات محمد عيد، مات أًصغرنا، ما الذي ينبغي أن أفعله الآن، أن أكتب مقالة وأتخيّله يقرأها بسخرية، أم أعود إلى كتابيْ محمود الربيعي، أم أبحث عن أول دواوينه "طور الوحشة"، وأقرأه بصوت مسموع، ولمّا أنتهي أقول لنفسي: (مات صاحب "طيور الوحشة"، مات الراهب، مات الديكتاتور، مات صاحبي). |
كان الدكتور محمود الربيعي قد أهداني كتابيه، الأول: "أخي محمد الربيعي ذكريات ومختارات"، والثاني: "في صحبة السعيد بدوي" الكتابان ينشعان بالفقد ويلتمعان بالعاطفة. بعد قراءتي أول الكتابين، بلغني نبأ وفاة الشاعر محمد عيد ابراهيم، فتوقفتُ إلى ما بعد، إلى ما بعد البعد، حتى استقرار النبأ، وتَمَكُّنه من داخلي، وتفشّيه في بقية أعضائي. عندها شرعت في قراءة الكتاب الثاني، آملاً في المواساة، أظنني كنت أجتهد كي لا أبكي، أظنني كنت أروّض حزني، قلت لنفسي: "سوف أتغلّب على البكاء"، وصَمتُّ، ثم قلت لنفسي: "سوف أتغلب بالحكي، ثم بكتابة الحكي، سأكون حريصًا على ألا أُنشئ نصًا، سأحتال بالذاكرة على القلب، علّني أروغ". هكذا هيّأتُ نفسي. وبعد أن استسلمت، تذكرتُ أننا كنا خمسة في جماعة، ثم تذكرتُ الجماعة الأخرى التي تميزت علينا بمرونتها، لأننا كنا الأكثر تشددًا، في الصباح نفكر في الحسين ونقرأ تروتسكي، ونخاف اليسار الرسمي، ونحلم بالثورة الدائمة، وفي الليل نقف فوق ظلالنا، الجماعتان المتشددة والمرنة، كانتا معًا تمثلان بنصوصهما أبرز ما أنتجه شعراء السبعينيات. الجماعتان هما: "أصوات" و"إضاءة". تيتّمت "إضاءة" مبكّرا بموت علي قنديل، وبعد عقود تيتّمت يُتمها الفادح بموت حلمي سالم، الذي ساعة موته كنتُ صديقه الحميم، وها هو، ها هو ذا، ها هو ذا الموت، بعد أن اتسعت مسافات التاريخ ومسافات الجغرافيا بين شعراء جماعتنا، ها هو يدهمنا لأول مرة، وينال أصغرنا، ينال أصغرنا سنًا، ينال الراهب، فالموت نقّاد. أُقسم بأُمي أن الموت نقّاد، الكبيران سنًا في الجماعتين: محمد سليمان وحسن طلب، أتيانا هاربين من جيلهما الذي لم تشتعل ناره الشعرية طويلاً، أتيانا هاربين من عصر الستينيات لأن شعراءه تعبوا فور البداية، فضاقت رؤيتهم واتسعت عبارتهم، الاثنان أتيانا واعترفا بأن رفاقهما الستينيين أوشكوا على الانحسار، فصحنا: "لولا أسماء ثلاثة: عفيفي مطر، وأمل دنقل، وإبراهيم أبو سنة"، أجابانا: "نعم نعم، في الطريق الطويلة اعترفنا لأنفسنا أن الأولَين: مطر ودنقل، شغلا الجماعتين بالتأييد والتنديد، وأن الثالث قنع بالاستقامة". كان عفيفي، في ظنّنا جميعًا، أقرب إلى شارات السبعينيات، وبِشَاراتها، تحبه الجماعتان وتنحازان إليه. أما أمل دنقل، فحظي شعاره الذي هو أغلب شعره بالتصفيق، وحظي شعره الذي هو "أوراق الغرفة 8" بالتمجيد. وظلّ أولَ الاثنين: مطر ودنقل لدى كل نافخ بوق، وثاني الاثنين لدى جماعتينا وحوارييهما، ومات للأسف قبل أن يغتسل دمه بدمنا، مات للأسف قبل أن يتنفس هواء زماننا بعمق، في زمن رواج الشعار، زمن الستينيات، راج صوت عبد الناصر ورطانة هيكل وحماسة أمل دنقل، وفي الزمن التالي، زمن السبعينيات، راج شعر "موسيقى الغرفة" منذ النفري حتى عفيفي مطر، والاثنان عفيفي وعيد عكفا يعملان كزميلين من عمر واحد، وينقلان عن الإنچليزية آثار الشاعر السويدي إديت سودرچران الكاملة، وكانت هذه الترجمة أول ترجمة قام بها محمد عيد كعضو جديد في فرقة "موسيقى الغرفة". ومعهما، عفيفي وعيد، تبدأ "دار شرقيات" في إنجاز دورها كحليفة لحداثتنا، فيما يد إدوار الخراط اليسرى تربّت على ظهورنا جميعًا، "أصوات" و"إضاءة"، بأُخوة وليس بأُبوة، ويده اليمنى تفتح الطريق، بأُخوة أيضًا. وكان محمد أحد من عشقوا إدوار، أحد من مجّدوه، وسمّوه "الراهب"، ولما عاد من غربته، وابيضّ شعره، ومشى، أي محمد، يتوكّأ على عصا، لبس ثوب إدوار، ثوب الراهب. أذكر أننا قبل منتصف سبعينيات القرن الماضي بقليل، بدأنا -محمد عيد وأنا- حياة مشتركة جمعتنا لفترة طويلة، إلى ما قبل سفره إلى الصحراء العربية، التي أزعم لنفسي أنها أفقدته بعض ماء الحياة، أزعم لنفسي أنها هدمت جزءًا من سوره العالي، بدأنا -محمد عيد وأنا-، بدأنا هكذا، كأننا اخترعنا حياتنا، كأننا ألّفناها وألِفناها. كنتُ في آخرة دراستي بجامعة عين شمس، مثل المرآة، كنتُ ملوثًا جدًا بالماضي، وكان في أوّلة دراسته بجامعة القاهرة، مثل العين السحرية، كان مغسولاً جدا بالمستقبل، يحمله فوق ظهره، وناء ظهره، فأصبح عموده الفقري أقل استقامة مما ينبغي لشاب في أول عشرينياته، ولم يكن إنسان عينيه، ما دامت عين الشخص هي القادرة على كشفه كما يقول بعض الرسامين، لم يكن إنسان عينيه أسود مثل غالبيتنا، كان أخضر على التقريب، أخضر مشوبًا بالسواد، تعارفنا بالصدفة، أيامها كنت أُجرب أن أُحب الكلام، وفوجئت به يجيد الصمت والمشاهدة، يجيد الدهشة أو النفور، وبسبب بعض قصائد نشرتها، ومقالة تشجيعية كتبها أحمد عبد المعطي حجازي عن شعري، وعلاقة خاصة بالعوضي الوكيل، لم أستطع أن أُخفي زهوي للأسف، وللأسف أيضًا انتبه محمد إلى زهوي، ونقلني بحديثه القاطع والطيب إلى الشعراء الذين يحبهم، والذين أفرج موت عبد الناصر عن دواوينهم التي كانت شبه ممنوعة من دخول مصر، عندها فوجئنا أننا تحت مظلة واحدة، دون تخطيط، نحب معًا شعر أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وتوفيق صايغ، ونختلف في تقديم أحدهم وتأخير سواه، ونحب فيروز ولبنان والشام كله. أذكر أنه قدّم أُنسي الحاج على الجميع، وعكف أكثر على شوقي أبي شقرا. أذكر أيضًا أنه شاركني الغبطة بعدما تعرّفت فيما بعد على أُنسي، بعدما صاحبته وصاحبني، عمومًا، أيام لقائنا الأول، أو بعده، كانت الجامعة تموج بالاحتجاجات الطلابية ذات الاتجاهات المختلفة، تعرفت على الناصريين، مُلاّك المنصات آنذاك، مُلاّكها ملكية كانت تشي بعدم الاستمرار، ولم أسترح. تعرفت على طوائف اليسار الماركسي، فأرهقني تفاؤلهم وتديّنهم الماديّ، على الرغم من أنهم حرروني من بعض عاداتي، وبعد إحدى المحاضرات، استوقفني زميلي الشيخ رزق -المسؤول الإعلامي لجماعة شكري مصطفى-، كما عرفت فيما بعد، وحاول محاورتي، لكنني زهدت في حواره، وابتعد أحدنا عن الآخر. آنذاك أنقذني محمد عيد عندما شجّعني على أن نقوم معًا بتحرير مجلة حائط، أصدرت منها عددين، واخترنا لها عنوانًا استفزازيًا كان قد اقترحه هو، "شيوعيون ولكن". محمد لم يكن شيوعيًا ذات يوم، لكنه كان يمارس شهوته الفائقة في تزويج الكلمات زيجات محرّمة، على الأرجح زيجات محرمة جدًا، ولأن خطه جميل وواضح قام بكتابة العددين، خط محمد كان أوضح ما فيه. الأكيد أنه كان يؤمن بأن العلانية ابتذال، بأن وضوح المعنى ابتذال، بأن ترسيم الحدود ابتذال، بأن عاطفية اللغة ابتذال. أندمُ الآن على أنني لم أعرّفه على ماجدة فكري شعراوي، أظنها كانت ستغيّره، قد يشهد معي بذلك محمود الورداني، قد يشهد صنع الله ابراهيم، عرّفته فقط على الشعراء: محمد سليمان ومحمد خلّاف، فتآلف مع سليمان وارتبك مع خلّاف، وعن طريقه تعرّفت على أحمد طه وعبد المقصود عبد الكريم، لنبدأ جميعًا معًا، باستثناء خلّاف، سيرة حياة ثانية يجمعنا فيها بيت سليمان وصيدليته، وخلاء سطح بيت أحمد طه، وشوارع وسط البلد ومقاهيها، وبسرعة أصبحنا شبه عصابة، أصبحنا عصابة، نلتقي كل خميس في شبه ندوة، كنّا مغرورين وساذجين ومتحمّسين وممتلئين بكلام يفيض ويسيل من أفواهنا، فيما عدا محمد، عيناه هما ما يفيض بالكلام، عيناه الوديعتان الأكثر بريقًا، رأيت بريقهما بوضوح ساعة انحصرنا معًا داخل قطار رمسيس - المرج أيام انتفاضة 1977م، بريق الخوف، رأيت بريقهما بوضوح ساعة فكّرنا في تأسيس جماعة، بريق الفرح، رأيته ساعة بحثنا عن التسمية، فاجأنا هو بالاسم الذي ارتضيناه، لأنه يشير إلى تعددنا، قال: "أصوات"، فقلنا بعده: "أصوات"، وهدأنا. ولما فيما بعد فكرنا في إصدار مجلة فاجأنا ثانية وقال: "الكتابة السوداء"، فقلنا: "الكتابة السوداء"، كنّا أيامها أصحاب نزوع سوريالي، فيما عدا محمد سليمان، حتى أننا ادّعينا أن جورج حنين رفيقنا، وأصدرنا ديوانه: "لا مبررات الوجود"، ومثلما حيرتنا غريزة التسمية لدى محمد عيد، ومثلما حيّرنا صمته، ذهب شعره بنا إلى نهاية الحيرة، بتعدُّد التآويل، ومثلما كان صمته ينشع بالكلمات كـ"أصوات"، نشع شعره، فعرفنا أن الماضي كتراث لم يكن شاغله إلا باستثناءات نادرة، أشهرها الغرام بالنفري، الغرام بالمواقف أكثر من المخاطبات، عرفنا أنه طوال الوقت كان يتكلم مثل قادم من المستقبل، لذلك لم نفهمه أحيانًا، ودفاعًا عن أنفسنا اتهمناه بالغموض المعتم. كنّا حداثيين نثور على الماضي، وكان يجارينا، ولا يدري أنه إحدى المقدمات المبهمة لما بعد الحداثة، لا ندري ولا يدري هو أنه يهجس بها ويثور على الحاضر، تخيّلته في معمله الشعري يعجن الكلمات ويخبزها ليدخلها في علاقات غير مألوفة، تخيّلته لا ييأس لأننا لم نفهمه، في أول عمله بـ "قصر ثقافة الريحاني"، امتلأ بعاطفة فائقة، كانت محبوبته رسامة وزوجة، لكنه رغم عاطفته حرص على تنظيف شعره من العاطفية، على تنظيفه من الجهر، سأل نفسه: "ما المعنى"، ودون تردد أجاب: "المعنى عَرَقُ الشكل"، سأل نفسه: "وما الشكل"، فتعددت إجاباته. لما زار أدونيس القاهرة سنة 1988م زيارة سرية كأنها علانية، التقيناه ودعوناه إلى "خميس أصوات"، وأتى مصحوبًا بعبد المنعم تليمة وسيد يس وسهير فهمي وأحمد إسماعيل. الأكيد أننا قرأنا أشعارنا، أيامها كان أدونيس يصدر في پاريس مجلته "مواقف"، لمّا أنهينا القراءات، طلب أدونيس من محمد سليمان وأحمد طه ومني قصائد للمجلة، وانكسر قلب محمد عيد لأنه كان أكثرنا انتظارًا. في السنة التالية، 1989م، دعي أدونيس إلى "معرض الكتاب"، قلت له: "هل تعلم أنك أحبطت محمد عيد وكسرت قلبه"!؟، فوعدني بألا ينشر له قصيدة واحدة، بل حزمة قصائد، وحملت القصائد من محمد عيد وأعطيتها لأدونيس. فور النشر، فوجئنا بالشاعرة السورية لينا الطيبي، تكتب مقالة في صحيفة "الحياة" اللندنية تنشر فيها نصًا ترجمته هي عن الإنچليزية لشاعرة مصرية قديمة، ربما، والنص مختار من أنطولوجيا شعر المرأة عبر العصور حتى أيامنا، أعدّه ونقله إلى الإنچليزية شاعر أمريكي كبير لا أذكر اسمه، النص الذي ترجمته لينا كان مطابقًا تقريبًا لإحدى قصائد محمد المنشورة في "مواقف". أعترف بصفتي الوسيط أنني خجلت وانخذلت وحزنت، أعترف أنني هاجمت محمد عيد بشدة، ولمدة أُسبوعين تاليين تقريبًا التزم هو بالذهاب يوميًا إلى مقهى "زهرة البستان"، ملتقى المثقفين، ليحاور من يتهمه، ساعتها كان يعرف أكثر منّا أن مبولة في حمام غيرها في قاعة عرض، ساعتها كان يعرف أكثر منّا أن إضافة شارب إلى الجيوكندا مثلما فعل سلڤادور دالي سيجعل الجيوكندا لوحة جديدة. غرامه بالفنون الجميلة علّمه توابع هذه الفنون، علّمه الـ"كولاج" والـ"چرافيك ديزاين"، فوضع داخل نصوصه نصوص آخرين، وتقدم علينا إدوار الخراط وعدلي رزق الله بفهمهما لما يفعله محمد. عمومًا ليته راعى قدامة ثقافتنا وميّز نصوص الآخرين بتغيير البُنط، ليته راعى واحترز، حتى السلسلة التي رأس تحريرها، "سلسلة آفاق الترجمة"، لم يحرص فيها على طباعة كتب جديدة، حرص أكثر على أن يضع الكتب التي عشقها طوال عمره في سياق يجعلها وكأنها مؤلفاته بأقلام سواه، ونجح في أن يجبرنا على تحويل السلسلة إلى أيقونة غير دينية، أيقونة لا تقوم على تقديس الماضي، بل تتأسس كسياق أو كعقد فريد مفرداته الكتب، وما زلنا نرى الأيقونة فريدة ومعلّقة في رقبته. فعلها أيضًا رجاء النقاش في ذاكرة الكتابة، غير أن أيقونة رجاء عكست الماضي وفتنتنا أيضًا، فيما أيقونة محمد ظلت موهوبة للمستقبل، وهكذا مثلما فعل، أي محمد، بصمته وبعينيه وبمستقبله، فعل بحياته وتمادى، انفصل عن زوجة طيبة لأنها لم تتعاطف مع قصائده، وعلى الرغم من أننا معًا أحببنا الشام، شعره وأهله، إلا أنه استطاع وحده أن يحوّل حبه إلى فعل خلاّق، فتزوج كاتبة سورية شاركته بقية رحلته إلى آخرها، لم تمتعض من سورياليته، لم تمتعض من فكاهته السوداء، من نصوصه المتوحشة، نصوصه غير المفهومة غالبًا، لم تمتعض من توقه إلى تحطيم المحرمات، لكنه في الأخير خذلها ومات، مثلما خذلنا، مثلما خذلني ومات، كنت أظنه وحده من سيصل إلى المستقبل الذي لا نهاية له، لكنه مات، مات محمد عيد، مات أًصغرنا، ما الذي ينبغي أن أفعله الآن، أن أكتب مقالة وأتخيّله يقرأها بسخرية، أم أعود إلى كتابيْ محمود الربيعي، أم أبحث عن أول دواوينه "طور الوحشة"، وأقرأه بصوت مسموع، ولمّا أنتهي أقول لنفسي: (مات صاحب "طيور الوحشة"، مات الراهب، مات الديكتاتور، مات صاحبي).
من الملف الخاص عن محمد عيد إبراهيم، الذي صدر الأحد ١٩ كانون الثاني / يناير ٢٠٢٠ -
عبد المنعم رمضان، من تكرّم بإرسال هذا النص، وحلمي سالم (رفيقي قبل أن يصبح "دليلي" في القاهرة)، ومحمد عيد إبراهيم الذي كان قلبي يرف عندما كان يضمن رسالته دائمًا تسمية "ست الكل" التي أُدرك تمامًا انها دارجة، ولكن منه كنت "أُصدقها"، أخجل، ولكني كنت أتقبًلها لأنه لم يكن يكيل الكلام جزافـًا؛ كيف ومتى سأتجرأ على فتح صندوق رسائلنا المتبادلة بالشأن الثقافي غالبًا، وليس فقط ؟ | سهام داوود ]
•
| كنت أظنه وحده من سيصل إلى المستقبل الذي لا نهاية له، لكنه مات، مات محمد عيد، مات أًصغرنا، ما الذي ينبغي أن أفعله الآن، أن أكتب مقالة وأتخيّله يقرأها بسخرية، أم أعود إلى كتابيْ محمود الربيعي، أم أبحث عن أول دواوينه "طور الوحشة"، وأقرأه بصوت مسموع، ولمّا أنتهي أقول لنفسي: (مات صاحب "طيور الوحشة"، مات الراهب، مات الديكتاتور، مات صاحبي). |
كان الدكتور محمود الربيعي قد أهداني كتابيه، الأول: "أخي محمد الربيعي ذكريات ومختارات"، والثاني: "في صحبة السعيد بدوي" الكتابان ينشعان بالفقد ويلتمعان بالعاطفة. بعد قراءتي أول الكتابين، بلغني نبأ وفاة الشاعر محمد عيد ابراهيم، فتوقفتُ إلى ما بعد، إلى ما بعد البعد، حتى استقرار النبأ، وتَمَكُّنه من داخلي، وتفشّيه في بقية أعضائي. عندها شرعت في قراءة الكتاب الثاني، آملاً في المواساة، أظنني كنت أجتهد كي لا أبكي، أظنني كنت أروّض حزني، قلت لنفسي: "سوف أتغلّب على البكاء"، وصَمتُّ، ثم قلت لنفسي: "سوف أتغلب بالحكي، ثم بكتابة الحكي، سأكون حريصًا على ألا أُنشئ نصًا، سأحتال بالذاكرة على القلب، علّني أروغ". هكذا هيّأتُ نفسي. وبعد أن استسلمت، تذكرتُ أننا كنا خمسة في جماعة، ثم تذكرتُ الجماعة الأخرى التي تميزت علينا بمرونتها، لأننا كنا الأكثر تشددًا، في الصباح نفكر في الحسين ونقرأ تروتسكي، ونخاف اليسار الرسمي، ونحلم بالثورة الدائمة، وفي الليل نقف فوق ظلالنا، الجماعتان المتشددة والمرنة، كانتا معًا تمثلان بنصوصهما أبرز ما أنتجه شعراء السبعينيات. الجماعتان هما: "أصوات" و"إضاءة". تيتّمت "إضاءة" مبكّرا بموت علي قنديل، وبعد عقود تيتّمت يُتمها الفادح بموت حلمي سالم، الذي ساعة موته كنتُ صديقه الحميم، وها هو، ها هو ذا، ها هو ذا الموت، بعد أن اتسعت مسافات التاريخ ومسافات الجغرافيا بين شعراء جماعتنا، ها هو يدهمنا لأول مرة، وينال أصغرنا، ينال أصغرنا سنًا، ينال الراهب، فالموت نقّاد. أُقسم بأُمي أن الموت نقّاد، الكبيران سنًا في الجماعتين: محمد سليمان وحسن طلب، أتيانا هاربين من جيلهما الذي لم تشتعل ناره الشعرية طويلاً، أتيانا هاربين من عصر الستينيات لأن شعراءه تعبوا فور البداية، فضاقت رؤيتهم واتسعت عبارتهم، الاثنان أتيانا واعترفا بأن رفاقهما الستينيين أوشكوا على الانحسار، فصحنا: "لولا أسماء ثلاثة: عفيفي مطر، وأمل دنقل، وإبراهيم أبو سنة"، أجابانا: "نعم نعم، في الطريق الطويلة اعترفنا لأنفسنا أن الأولَين: مطر ودنقل، شغلا الجماعتين بالتأييد والتنديد، وأن الثالث قنع بالاستقامة". كان عفيفي، في ظنّنا جميعًا، أقرب إلى شارات السبعينيات، وبِشَاراتها، تحبه الجماعتان وتنحازان إليه. أما أمل دنقل، فحظي شعاره الذي هو أغلب شعره بالتصفيق، وحظي شعره الذي هو "أوراق الغرفة 8" بالتمجيد. وظلّ أولَ الاثنين: مطر ودنقل لدى كل نافخ بوق، وثاني الاثنين لدى جماعتينا وحوارييهما، ومات للأسف قبل أن يغتسل دمه بدمنا، مات للأسف قبل أن يتنفس هواء زماننا بعمق، في زمن رواج الشعار، زمن الستينيات، راج صوت عبد الناصر ورطانة هيكل وحماسة أمل دنقل، وفي الزمن التالي، زمن السبعينيات، راج شعر "موسيقى الغرفة" منذ النفري حتى عفيفي مطر، والاثنان عفيفي وعيد عكفا يعملان كزميلين من عمر واحد، وينقلان عن الإنچليزية آثار الشاعر السويدي إديت سودرچران الكاملة، وكانت هذه الترجمة أول ترجمة قام بها محمد عيد كعضو جديد في فرقة "موسيقى الغرفة". ومعهما، عفيفي وعيد، تبدأ "دار شرقيات" في إنجاز دورها كحليفة لحداثتنا، فيما يد إدوار الخراط اليسرى تربّت على ظهورنا جميعًا، "أصوات" و"إضاءة"، بأُخوة وليس بأُبوة، ويده اليمنى تفتح الطريق، بأُخوة أيضًا. وكان محمد أحد من عشقوا إدوار، أحد من مجّدوه، وسمّوه "الراهب"، ولما عاد من غربته، وابيضّ شعره، ومشى، أي محمد، يتوكّأ على عصا، لبس ثوب إدوار، ثوب الراهب. أذكر أننا قبل منتصف سبعينيات القرن الماضي بقليل، بدأنا -محمد عيد وأنا- حياة مشتركة جمعتنا لفترة طويلة، إلى ما قبل سفره إلى الصحراء العربية، التي أزعم لنفسي أنها أفقدته بعض ماء الحياة، أزعم لنفسي أنها هدمت جزءًا من سوره العالي، بدأنا -محمد عيد وأنا-، بدأنا هكذا، كأننا اخترعنا حياتنا، كأننا ألّفناها وألِفناها. كنتُ في آخرة دراستي بجامعة عين شمس، مثل المرآة، كنتُ ملوثًا جدًا بالماضي، وكان في أوّلة دراسته بجامعة القاهرة، مثل العين السحرية، كان مغسولاً جدا بالمستقبل، يحمله فوق ظهره، وناء ظهره، فأصبح عموده الفقري أقل استقامة مما ينبغي لشاب في أول عشرينياته، ولم يكن إنسان عينيه، ما دامت عين الشخص هي القادرة على كشفه كما يقول بعض الرسامين، لم يكن إنسان عينيه أسود مثل غالبيتنا، كان أخضر على التقريب، أخضر مشوبًا بالسواد، تعارفنا بالصدفة، أيامها كنت أُجرب أن أُحب الكلام، وفوجئت به يجيد الصمت والمشاهدة، يجيد الدهشة أو النفور، وبسبب بعض قصائد نشرتها، ومقالة تشجيعية كتبها أحمد عبد المعطي حجازي عن شعري، وعلاقة خاصة بالعوضي الوكيل، لم أستطع أن أُخفي زهوي للأسف، وللأسف أيضًا انتبه محمد إلى زهوي، ونقلني بحديثه القاطع والطيب إلى الشعراء الذين يحبهم، والذين أفرج موت عبد الناصر عن دواوينهم التي كانت شبه ممنوعة من دخول مصر، عندها فوجئنا أننا تحت مظلة واحدة، دون تخطيط، نحب معًا شعر أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وتوفيق صايغ، ونختلف في تقديم أحدهم وتأخير سواه، ونحب فيروز ولبنان والشام كله. أذكر أنه قدّم أُنسي الحاج على الجميع، وعكف أكثر على شوقي أبي شقرا. أذكر أيضًا أنه شاركني الغبطة بعدما تعرّفت فيما بعد على أُنسي، بعدما صاحبته وصاحبني، عمومًا، أيام لقائنا الأول، أو بعده، كانت الجامعة تموج بالاحتجاجات الطلابية ذات الاتجاهات المختلفة، تعرفت على الناصريين، مُلاّك المنصات آنذاك، مُلاّكها ملكية كانت تشي بعدم الاستمرار، ولم أسترح. تعرفت على طوائف اليسار الماركسي، فأرهقني تفاؤلهم وتديّنهم الماديّ، على الرغم من أنهم حرروني من بعض عاداتي، وبعد إحدى المحاضرات، استوقفني زميلي الشيخ رزق -المسؤول الإعلامي لجماعة شكري مصطفى-، كما عرفت فيما بعد، وحاول محاورتي، لكنني زهدت في حواره، وابتعد أحدنا عن الآخر. آنذاك أنقذني محمد عيد عندما شجّعني على أن نقوم معًا بتحرير مجلة حائط، أصدرت منها عددين، واخترنا لها عنوانًا استفزازيًا كان قد اقترحه هو، "شيوعيون ولكن". محمد لم يكن شيوعيًا ذات يوم، لكنه كان يمارس شهوته الفائقة في تزويج الكلمات زيجات محرّمة، على الأرجح زيجات محرمة جدًا، ولأن خطه جميل وواضح قام بكتابة العددين، خط محمد كان أوضح ما فيه. الأكيد أنه كان يؤمن بأن العلانية ابتذال، بأن وضوح المعنى ابتذال، بأن ترسيم الحدود ابتذال، بأن عاطفية اللغة ابتذال. أندمُ الآن على أنني لم أعرّفه على ماجدة فكري شعراوي، أظنها كانت ستغيّره، قد يشهد معي بذلك محمود الورداني، قد يشهد صنع الله ابراهيم، عرّفته فقط على الشعراء: محمد سليمان ومحمد خلّاف، فتآلف مع سليمان وارتبك مع خلّاف، وعن طريقه تعرّفت على أحمد طه وعبد المقصود عبد الكريم، لنبدأ جميعًا معًا، باستثناء خلّاف، سيرة حياة ثانية يجمعنا فيها بيت سليمان وصيدليته، وخلاء سطح بيت أحمد طه، وشوارع وسط البلد ومقاهيها، وبسرعة أصبحنا شبه عصابة، أصبحنا عصابة، نلتقي كل خميس في شبه ندوة، كنّا مغرورين وساذجين ومتحمّسين وممتلئين بكلام يفيض ويسيل من أفواهنا، فيما عدا محمد، عيناه هما ما يفيض بالكلام، عيناه الوديعتان الأكثر بريقًا، رأيت بريقهما بوضوح ساعة انحصرنا معًا داخل قطار رمسيس - المرج أيام انتفاضة 1977م، بريق الخوف، رأيت بريقهما بوضوح ساعة فكّرنا في تأسيس جماعة، بريق الفرح، رأيته ساعة بحثنا عن التسمية، فاجأنا هو بالاسم الذي ارتضيناه، لأنه يشير إلى تعددنا، قال: "أصوات"، فقلنا بعده: "أصوات"، وهدأنا. ولما فيما بعد فكرنا في إصدار مجلة فاجأنا ثانية وقال: "الكتابة السوداء"، فقلنا: "الكتابة السوداء"، كنّا أيامها أصحاب نزوع سوريالي، فيما عدا محمد سليمان، حتى أننا ادّعينا أن جورج حنين رفيقنا، وأصدرنا ديوانه: "لا مبررات الوجود"، ومثلما حيرتنا غريزة التسمية لدى محمد عيد، ومثلما حيّرنا صمته، ذهب شعره بنا إلى نهاية الحيرة، بتعدُّد التآويل، ومثلما كان صمته ينشع بالكلمات كـ"أصوات"، نشع شعره، فعرفنا أن الماضي كتراث لم يكن شاغله إلا باستثناءات نادرة، أشهرها الغرام بالنفري، الغرام بالمواقف أكثر من المخاطبات، عرفنا أنه طوال الوقت كان يتكلم مثل قادم من المستقبل، لذلك لم نفهمه أحيانًا، ودفاعًا عن أنفسنا اتهمناه بالغموض المعتم. كنّا حداثيين نثور على الماضي، وكان يجارينا، ولا يدري أنه إحدى المقدمات المبهمة لما بعد الحداثة، لا ندري ولا يدري هو أنه يهجس بها ويثور على الحاضر، تخيّلته في معمله الشعري يعجن الكلمات ويخبزها ليدخلها في علاقات غير مألوفة، تخيّلته لا ييأس لأننا لم نفهمه، في أول عمله بـ "قصر ثقافة الريحاني"، امتلأ بعاطفة فائقة، كانت محبوبته رسامة وزوجة، لكنه رغم عاطفته حرص على تنظيف شعره من العاطفية، على تنظيفه من الجهر، سأل نفسه: "ما المعنى"، ودون تردد أجاب: "المعنى عَرَقُ الشكل"، سأل نفسه: "وما الشكل"، فتعددت إجاباته. لما زار أدونيس القاهرة سنة 1988م زيارة سرية كأنها علانية، التقيناه ودعوناه إلى "خميس أصوات"، وأتى مصحوبًا بعبد المنعم تليمة وسيد يس وسهير فهمي وأحمد إسماعيل. الأكيد أننا قرأنا أشعارنا، أيامها كان أدونيس يصدر في پاريس مجلته "مواقف"، لمّا أنهينا القراءات، طلب أدونيس من محمد سليمان وأحمد طه ومني قصائد للمجلة، وانكسر قلب محمد عيد لأنه كان أكثرنا انتظارًا. في السنة التالية، 1989م، دعي أدونيس إلى "معرض الكتاب"، قلت له: "هل تعلم أنك أحبطت محمد عيد وكسرت قلبه"!؟، فوعدني بألا ينشر له قصيدة واحدة، بل حزمة قصائد، وحملت القصائد من محمد عيد وأعطيتها لأدونيس. فور النشر، فوجئنا بالشاعرة السورية لينا الطيبي، تكتب مقالة في صحيفة "الحياة" اللندنية تنشر فيها نصًا ترجمته هي عن الإنچليزية لشاعرة مصرية قديمة، ربما، والنص مختار من أنطولوجيا شعر المرأة عبر العصور حتى أيامنا، أعدّه ونقله إلى الإنچليزية شاعر أمريكي كبير لا أذكر اسمه، النص الذي ترجمته لينا كان مطابقًا تقريبًا لإحدى قصائد محمد المنشورة في "مواقف". أعترف بصفتي الوسيط أنني خجلت وانخذلت وحزنت، أعترف أنني هاجمت محمد عيد بشدة، ولمدة أُسبوعين تاليين تقريبًا التزم هو بالذهاب يوميًا إلى مقهى "زهرة البستان"، ملتقى المثقفين، ليحاور من يتهمه، ساعتها كان يعرف أكثر منّا أن مبولة في حمام غيرها في قاعة عرض، ساعتها كان يعرف أكثر منّا أن إضافة شارب إلى الجيوكندا مثلما فعل سلڤادور دالي سيجعل الجيوكندا لوحة جديدة. غرامه بالفنون الجميلة علّمه توابع هذه الفنون، علّمه الـ"كولاج" والـ"چرافيك ديزاين"، فوضع داخل نصوصه نصوص آخرين، وتقدم علينا إدوار الخراط وعدلي رزق الله بفهمهما لما يفعله محمد. عمومًا ليته راعى قدامة ثقافتنا وميّز نصوص الآخرين بتغيير البُنط، ليته راعى واحترز، حتى السلسلة التي رأس تحريرها، "سلسلة آفاق الترجمة"، لم يحرص فيها على طباعة كتب جديدة، حرص أكثر على أن يضع الكتب التي عشقها طوال عمره في سياق يجعلها وكأنها مؤلفاته بأقلام سواه، ونجح في أن يجبرنا على تحويل السلسلة إلى أيقونة غير دينية، أيقونة لا تقوم على تقديس الماضي، بل تتأسس كسياق أو كعقد فريد مفرداته الكتب، وما زلنا نرى الأيقونة فريدة ومعلّقة في رقبته. فعلها أيضًا رجاء النقاش في ذاكرة الكتابة، غير أن أيقونة رجاء عكست الماضي وفتنتنا أيضًا، فيما أيقونة محمد ظلت موهوبة للمستقبل، وهكذا مثلما فعل، أي محمد، بصمته وبعينيه وبمستقبله، فعل بحياته وتمادى، انفصل عن زوجة طيبة لأنها لم تتعاطف مع قصائده، وعلى الرغم من أننا معًا أحببنا الشام، شعره وأهله، إلا أنه استطاع وحده أن يحوّل حبه إلى فعل خلاّق، فتزوج كاتبة سورية شاركته بقية رحلته إلى آخرها، لم تمتعض من سورياليته، لم تمتعض من فكاهته السوداء، من نصوصه المتوحشة، نصوصه غير المفهومة غالبًا، لم تمتعض من توقه إلى تحطيم المحرمات، لكنه في الأخير خذلها ومات، مثلما خذلنا، مثلما خذلني ومات، كنت أظنه وحده من سيصل إلى المستقبل الذي لا نهاية له، لكنه مات، مات محمد عيد، مات أًصغرنا، ما الذي ينبغي أن أفعله الآن، أن أكتب مقالة وأتخيّله يقرأها بسخرية، أم أعود إلى كتابيْ محمود الربيعي، أم أبحث عن أول دواوينه "طور الوحشة"، وأقرأه بصوت مسموع، ولمّا أنتهي أقول لنفسي: (مات صاحب "طيور الوحشة"، مات الراهب، مات الديكتاتور، مات صاحبي).
من الملف الخاص عن محمد عيد إبراهيم، الذي صدر الأحد ١٩ كانون الثاني / يناير ٢٠٢٠ -