كَمْ مِنَ العُمْرِ وَالعُمْرِ يَقْضِي المَرْءُ ذَائِدًا عَنْ أَفْكَارِهِ ظَنِينًا،
قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ أَنَّهُ لَمْ يَذُدْ إِلاَّ عَنْ أَفْكَارٍ أَنْبَتَهَا بِعَقْلِهِ آخَرُونَ يَقَينًا؟
برتْرانْد رَسِلْ
بَلَغَنِي بالأمْسِ القريبِ، مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ على المَلأِ الأدْنَى، أنَّ الكاتبَ الصِّحَافيَّ خيري منصور، في مقالِهِ الحديثِ العهدِ نسبيًّا «جَحِيمُ الشَّكِّ أمْ نَعِيمُهُ؟» (القدس العربي، 26 أيار 2018)، كان قد أجرى مقارنةً، أو بالأحرى موازنةً، منهجيةً موضوعيةً عابرةً بين ثلاثةِ أعلامٍ فُذُوذٍ متباعدينَ تباعُدًا زمنيًّا لافتًا: أوَّلُهُمْ، الفيلسوفُ التاريخِيُّ التونسيُّ ابنُ خلدونٍ، الذي كان ينظرُ إلى الرواياتِ التاريخيةِ كلِّها نظرًا سَبَبِيًّا (شَكِّيًّا) ويرجِّحُ الروايةَ الأقربَ منها إلى الحقيقةِ؛ وثانيهمْ، الفيلسوفُ الرياضيُّ الفرنسيُّ رينيه ديكارت، الذي كان يَسْعَى كلَّ السَّعْيِ إلى إدراكِ هذهِ الحقيقةِ من خلالِ تفْعِيلِ قَوْلَتِهِ الشَّكِّيَّةِ الشهيرةِ «أنا أُفَكِّرُ، إذنْ أنا مَوْجُودٌ»؛ وثالثُهُمْ وأخيرُهُم، «الفيلسوفُ» الأدبيُّ المصريُّ طه حسين، الذي قِيلَ إنَّهُ كان يَحْذُو حَذْوَ تفْعِيلِ المَقُولَةِ الشَّكِّيَّةِ الديكارتيةِ ذاتِها، وذلك التماسًا للوُصُول إلى ذاتِ الحقيقةِ من جرَّاءِ مَا قد ظُنَّ، وما انْفَكَّ يُظَنُّ، أنَّهُ سَبْرٌ وتمْحيصٌ «شَكِّيَّانِ» في دُنَى الأدبِ العربيِّ عامَّةً، وفي دُنْيَا الشعرِ الجاهلي خاصَّةً. عندئذٍ، يتساءلُ الكاتبُ الصِّحَافيُّ تساؤُلَ الناقدِ والسَّاخرِ بكلِّ حَصَافةٍ واتِّزانٍ: بعدَ قُرونٍ وقرونٍ من جُهُودٍ علميةٍ جادَّةٍ «مماثلةٍ» بذلَهَا أولئك الأعلامُ الأفْذَاذُ الذينَ لمْ يَكُنْ حتى لِأيٍّ منهمْ ولا لِأيٍّ منِ أمثالهِمْ أنْ يدَّعي بامْتلاكِ ناصيةِ الحقيقةِ كاملةً، ما زلنا نقرأُ ونقرأُ في مُتونِ الكتاباتِ العربيةِ، حتى هذهِ الأيامِ العصيبةِ، عباراتٍ «يقينيَّةً» مُطْلَقَةً من على شاكلةِ «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، أو «مِمَّا لا يختلفُ فيهِ، أو عليهِ، أو حَوْلَهُ، اثنانِ»، أو ما شابهَ ذلك – فمِنْ أينَ وأيَّانَ، يا تُرى، جاءَ كَتَبَةُ هذهِ الكتاباتِ باليقينِ كلِّهِ، وقدِ اسْتتبَّتْ ألبَابُهُمْ كلَّ هذا الاستتبابِ واسْتنقعتْ كلَّ هذا الاستنقاعِ؟ ومنْ ثمَّ، يستأنفُ الكاتبُ الصِّحَافيُّ حديثَهُ بشيءٍ من الخَوْضِ في غِمَارِ الجَدَلِ التَّنَافَوِيِّ بينَ الشَّكِّ واحْتمالِ كونِهِ «جَحِيمًا» بسببٍ مِمَّا قد يقتضيهِ من مُسَاءَلةٍ وتَسَاؤلٍ لا ينتهيانِ، من جانبٍ، وبينَ اليَقِينِ وتَعَذُّرِ، أو حتى اسْتحالةِ، كونِهِ «نَعِيمًا» حتى لو أدركَ المُسَائلُونَ والمتسائلُونَ إدراكًا ضَالَّتَهم، من جانبٍ آخَرَ. وفي هذا الجَدَلِ التَّنَافَوِيِّ، على سبيلِ الإرْدافِ العابرِ كذلك، ما يُذَكِّرُ بذلك الرأيِ الرشيدِ الذي ارْتَآهُ الكاتبُ والمؤرِّخُ والفيلسوفُ الفرنسيُّ الشهيرُ بحِذْقِهِ وظَرْفِهِ، ڤولْتير (فرانسوا-ماري أورويه)، ذلك الرأيِ الذي يقولُ باسِمًا ومتهكِّمًا إنَّ الشَّكَّ ليسَ فِعْلاً سَارًّا ولا عَمَلاً سَائغًا، وإنَّ اليقينَ هو السُّخْفُ بذاتِهِ وهو العَبثُ بعينِهِ.
وكما أبلغَ مَنْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ على المَلأِ الأدْنَى، فضلاً عنْ ذلك كلِّهِ، ليس ثَمَّةَ خلافٌ مبدئيٌّ يُمكنُ إبداؤُهُ البتَّةَ، ها هنا (وهذا البَتُّ إنْ هو إلاَّ منْ بابِ «اليقينِ» المُضَادِّ، إنْ صَحَّ ذلك)، فيما يرمي إليهِ طرحُ المقالِ الآنفِ الذِّكْرِ، وعلى الأخصِّ من حيثُ تلك الإشارةُ الجليَّةُ إلى ذينك الاستجوابِ والاستنطاقِ الذاتيَّيْنِ اللذَيَن كان الفيلسوفُ العقلانيُّ الألمانيُّ إيمانْويل كَانْتْ نفسُهُ يلجأُ إليهما على الدوام في ضوءِ ما توصَّل إليهِ من معرفةٍ حِسِّيةٍ (يقينيةٍ، أو شبهِ يقينيةٍ) عن عالم ما كانَ يُسمِّيهِ بـ«الظواهرِ» Phenomena، من طرفٍ، وما توصَّل إليهِ من معرفةٍ حَدْسِيةٍ (شَكِّيَّةٍ، أو جِدِّ شَكِّيَّةٍ) عن عالم ما كانَ يَدْعوهُ بـ«البَوَاطِنِ» أو بـ«اللاظواهر» Noumena، من طرفٍ آخَرَ. إذْ أنَّ لهذهِ الإشارةِ الجليةِ، في هذه القرينةِ بالذاتِ، أن تُفيدَ أيَّما إفادةٍ في تنبيهِ، أو حتى في تحذيرِ، أولئك الكَتَبَةِ المعنيِّينَ الذين يردِّدونَ في مُتونِ كتاباتِهِمْ تلك العباراتِ «اليقينيَّةَ» المُطْلَقَةَ، حينما يتحدثونَ عن قضايا فلسفيةٍ من الأهميةِ بمكانٍ، من هذا القبيلِ المعرفيِّ الحَدْسِيِّ (الشَكِّيِّ، أو الجِدِّ شَكِّيٍّ)، تحديدًا. فلا أحدَ مِنَّا، احتذاءً واقتداءً بذينك الاستجوابِ والاستنطاقِ الذاتيَّيْنِ المتواصلَيْنِ، في مقدورهِ أنْ يمتلكَ ناصيةَ اليقينِ مُطْلقًا حتى لو بلغَ من المعرفةِ الحِسِّيةِ ومن المعرفةِ الحَدْسِيةِ مبلغًا أبعدَ بكثيرٍ مِمَّا بلغَهُ إيمانْويل كَانْتْ ذاتُهُ – وهذا النَّفْيُ التوكيديُّ، في حدِّ ذاتِهِ، إنما يتجلَّى كمثالٍ بيِّنٍ كلَّ البَيَانِ من أمثلةِ «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، أو «مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، على سبيل نقيضةٍ من نقائضِ الحُجَّةِ والبُرْهانِ! وليس ثَمَّةَ خلافٌ مبدئيٌّ يُمكنُ إبداؤُهُ البتَّةَ ها هنا، علاوةً على ذلك، فيما يرمي إليهِ طرحُ المقالِ المعنيِّ عينِهِ، وبالأخصِّ من حيثُ ذلك التلميحُ الجليُّ إلى مسألةِ ما يؤدِّي إلى تعدُّديةِ الشخصيةِ الواحدةِ وما تقتضيهِ هذهِ الشخصيةُ حُكْمًا مسبقًا من تعدُّديةِ الأقلامِ التي تكتبُ عنها ومن تعدُّديةِ الأفواهِ التي تتكلَّمُ عليها. وهكذا، ففي هذا الفعلِ ورَدِّ الفعلِ، في الوجهِ الحَميدِ من مسألةِ ما يؤدِّي إلى تعدُّديةِ الشخصيةِ الواحدةِ هذهِ، ما يبيِّنُ كيفَ أنَّ هناك الكثيرَ من النُّزَهَاءِ والمُخْلِصِينَ والمُنْصِفينَ مِمَّنْ آثَرُوا، بطبيعةِ الحالِ، أنْ يؤازِرُوا حاكمًا عادلاً كلَّ العَدْلِ (إنْ تواجَدَ حَقًّا) مُؤازرةَ الواقفينَ اللازِبينَ إلى جانبِ الحَقِّ، في كلِّ مكانٍ وزمانٍ، أيًّا كانتْ آثارُ المُغْرضينَ والوشائجِ، وأيَّةً كانتْ أسبابُ المُعْرضينَ والنتائجِ.
ولكنْ، وفي هذا الفعلِ ورَدِّ الفعلِ ذاتِهِ، في الوجهِ الخَبيثِ المقابلِ من قضيةِ ما يُفْضِي إلى تعدُّديةِ الشخصيةِ الواحدةِ ذاتِها، ما يوضِّحُ أيضًا كيفَ أنَّ هناك الكثيرَ الكثيرَ من السُّفَهَاءِ والمُرائينَ والمتملِّقينَ والمتزلِّفينَ مِمَّنْ كانوا، وما زالوا، يدافعونَ عن طاغيةٍ عَتيٍّ معيّنٍ دفاعًا مُسْتميتًا، على الرَّغمِ من وُجودِ، قُدَّامَ أعينهمْ، كافَّةِ الدلائلِ القطعيةِ التي تدلُّ على انتماءِ هذا الطاغيةِ العَتيِّ إلى هَاوِيَةِ الشَّرِّ والإثْمِ المُطْلَقَيْنِ، لا محالَ – وهذا الإيجابُ التوكيديُّ، في حدِّ ذاتِهِ كذلك، إنَّما يتبدَّى كمثالٍ واضحٍ كلَّ الوُضُوحِ من أمثلةِ «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، أو «مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، على سبيل نقيضةٍ أخرى من نقائضِ الحُجَّةِ والبُرْهانِ! وهلْ ثَمَّةَ، حتى في عالَمِ الخيالِ، مَنْ لا تخْفَى عليهِ بعدُ، في سياقِ هذهِ النقيضةِ الأُخرى بالذاتِ، خافيةُ الاستقراءِ بأنَّ «نيرانَ» الثورةِ المضادَّةِ التي تتأجَّجُ في أعقابِ نُشُوبِ أيَّةِ ثورةٍ شعبيةٍ في التاريخ البشريِّ، قديمِهِ وحديثِهِ، إنَّما ترتكزُ، في اشتدادِ قوَّتِها وفي استمرارِ تأثيرِها في مواجهةِ الشعوبِ الثائرةِ، أيَّما ارتكازٍ على ما يقُولُهُ قولاً وما يفْعَلُهُ فعلاً أولئك السُّفَهَاءُ والمُراؤونَ والمتملِّقونَ والمتزلِّفونَ أنفسُهُمْ؟ وهلْ ثَمَّةَ، حتى في عالَمِ الخيالِ ذاتِهِ، مَنْ لا تخْفَى عليهِ بعدُ كذلك، في سياقِ هذهِ النقيضةِ الأُخرى ذاتِها، خافيةُ الاستنباطِ بأنَّ الفيلسوفَيْنِ الاجتماعيَّيْنِ الألمانيَّيْن الصديقَيْنِ المتصادقَيْنِ كارل ماركس وفريدْريك إنْغِلْز، حينما عمدَا متعمِّدَيْنِ في كتابهِما المشتَرَكِ الشهيرِ، «الأيديولوجيا الألمانية» Die deutsche Ideologie، إلى نحتِ ما اصطلحَا عليهم بـ«سِفْلةُ الطبقةِ العاملة»، أو «حُثَالةُ البروليتاريا» Lumpenproletariat، إنَّما كانا يشيرانِ بهذا الاصطلاحِ الفريدِ، على وجهِ التحديدِ، إلى تلك السِّفْلَةِ، أو تلك الحُثَالةِ، من شُذَّاذِ القومِ التي كانتْ، وما زالتْ، تُكَوِّنُ الأغلبيةَ السَّاحقةَ من أولئك السُّفَهَاءِ والمُرائينَ والمتملِّقينَ والمتزلِّفينَ أنفسِهِمْ؟ وتلك السِّفْلَةُ، أو تلك الحُثَالةُ، من شُذَّاذِ القومِ، في أيِّ مجتمعٍ من المجتمعاتِ البشريةِ، كانتْ، وما زالتْ، تضُمُّ بينَ أذرعِها الأحَاقِرَ من المجرمينَ والعَنَافِيطِ والأخَاسِسَ من البَوَّاقِينَ والعَضَارِيطِ والأخَاسِئَ من القَوَّادِين والشَّرَامِيط والأَدَانِئَ من غيرهِمْ وغيرهِمْ – هذا إنْ لم يُعْمَدْ، بأيِّ شيءٍ من التفصيلِ والإسهابِ، في هذا السياقِ، إلى ذكْرِ ما أفرزتْهُ آفاتُ الثوراتِ المضادَّةِ على الألسُنِ المتهكِّمةِ إفرازًا إبداعيًّا، بُعَيْدَ اندلاعِ الثوراتِ الشعبيةِ «الرَّبيعيةِ» في العالم العربيِّ، من مصطلحاتٍ عامِّيَّةٍ قُحًّا، كمثلِ: «الشَّبِّيحَة» و«المِنْحِبَّكْجِيَّة» و«النَّبِّيحَة» و«البَلْطَجِيَّة»، وغيرِها وغيرِها، تمامًا على غرارِ ذاك الاصطلاح الماركْسِيِّ-الإنْغِلْزِيِّ الفريدِ.
لا خلافَ مبدئيٌّ على كلِّ ما أنِفَ ذِكْرُهُ في هذا المقالِ بتاتًا: في الوجهِ الخَبيثِ المقابلِ (للوجهِ الحَميدِ أو السَّليمِ) من قضيةِ ما يُفْضِي إلى تعدُّديةِ الشخصيةِ الواحدةِ، يدافعُ السُّفَهَاءُ والمُراؤونَ والمتملِّقونَ والمتزلِّفونَ عن شَخْصِ الطاغيةِ العَتيِّ المَعْنِيِّ (كأيِّ طاغيةٍ «عربيٍّ» أو «عُرْبَانيٍّ» أو «مستعرِبٍ» مَعْنِيٍّ) تشويهًا وتشنيعًا لوجهِ الحقيقةِ، ويتيحونَ من ثمَّ لتلك السِّفْلَةِ، أو تلك الحُثَالةِ، منهمْ أنْ يحملوا ما يتيسَّرُ وَ/أوْ ما يتعسَّرُ لهُمْ من «مشاعِلِ» الثورةِ المُضَادَّةِ، إلى أجلٍ مُسَمًّى (أو حتى إلى أجلٍ غيرِ مُسَمًّى)، حتى لو كانوا يشُكُّونَ أو يُوقِنونَ أنَّ هذهِ الثورةَ المُضَادَّةَ عينَها لا تعدُو، في واقعِ الأمرِ، أنْ تكونَ طورًا مذمُومًا من أطوارِ الثورةِ الشعبيةِ (الكونيةِ) ذاتِها، طورًا محْتُومًا زمَانيًّا ومحْسُومًا مكانيًّا مهما امتدَّ زمَانُهُ ومهما اتَّسَعَ مكانُهُ، طورًا محْمُومًا ومسْمُومًا لا بُدَّ لهُ، من كلِّ بُدٍّ، من أنْ يسْعَى إلى حَتْفِهِ بِأظْلافِهِ، حينما تندلعُ ألْسِنَةُ اللَّهَبَانِ الخَبيءِ من جديدٍ عاليًا عاليًا، وحينما تُعْلِنُ هذهِ الألْسِنَةُ بسَعِيرِها العَارمِ إرْهاصَاتِ الطورِ القَرَاريِّ الأخيرِ، طورِ الحَسْمِ الثوريِّ الذَّخِيرِ، شاءتْ أرجاسُ تلك السِّفْلَةِ، أو أنجاسُ تلك الحُثَالةِ، ومَنْ تكنُّ الوَلاءَ لهُمْ من لفيفِ أسيادِهَا الطُّغَاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ، أمْ أبتْ. غيرَ أنَّ ذلكَ الجَدَلَ التَّنَافَوِيَّ بينَ الشَّكِّ واحْتمالِ كونِهِ «جَحِيمًا» وبينَ نقيضِهِ اليَقِينِ وتَعَذُّرِ، أو اسْتحالةِ، كونِهِ «نَعِيمًا» لا يُؤخذُ هكذا على عِلاَّتِهِ بذينك التبسيطِ والاختزالِ المُفرطَيْنِ اللذينِ أشارَ إليهما الكاتبُ الصِّحَافيُّ المذكورُ في مقالهِ الآنفِ الذِّكْرِ ناقدًا وسَاخرًا، حتى لو كانتْ هذهِ الإشارةُ المقصُودةُ قد شملتْ، بادِئَ ذي بدْءٍ، مدى أفقيَّةِ الرؤيةِ الأحاديةِ المعنيَّةِ، في حدِّ ذاتِهَا، ومدى غنائيَّةِ هذهِ الرؤيةِ إلى العالَمِ وإلى التاريخِ، على حدٍّ سَوَاءٍ.
قبلَ كلِّ شيءٍ، «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، و«مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، أنَّ الكاتبَ الصِّحَافيَّ لدى تجشُّمِهِ عناءَ الموازنةِ المنهجيةِ الموضوعيةِ العابرةِ بينَ رينيه ديكارت وطه حسين، من طرفٍ، وبينَ رينيه ديكارت وابنِ خلدونٍ، من طرفٍ آخرَ، قد أساءَ الفهمَ، كلَّ الفهمِ، لما يعنيهِ وما يبتنيهِ مبدأُ الشَّكِّ الديكارتيِّ، أو ما يسمِّيهِ ديكارت نفسُهُ بمبدأِ «الشَّكِّ الإغْراقِيِّ» Le doute hyperbolique، ذلك المبدأِ الذي يقصدُ من الشَّكِّ فَحْوَاهُ الفلسفيَّ الكُلِّيَّ في أعلى مَرَاتبِهِ وفي أقصى مَرَاميهِ – تمامًا مثلما يعنيهِ الإغراقُ (والغُلُوُّ) في الشَّكِّ في كلِّ شيءٍ بالمعنى الحرفيِّ، إلى أنْ يصلَ هذا الشَّكُّ إلى شيءٍ من الأشياءِ لا شَكَّ معقولٌ فيهِ ولا حتى شَكَّ ممكنٌ فيهِ. بجَلِيِّ العبارةِ، ها هنا، وأيَّةً كانتْ شدَّةُ الصِّراعِ بينَ ثقافةِ التشْكيكِ الرَّائزِ وثقافةِ التعْليبِ الجاهزِ، فإنَّ ماهيةَ «الشَّكِّ الأدبيِّ» الذي كانَ في القُلوبِ العِجَافِ «رذيلةً» إبَّانَ صُدورِ كتابِ طه حسين «في الشِّعْرِ الجَاهِليِّ»، والذي صارَ في العُقولِ العِفَافِ «فضيلةً» بعدَ عُقودٍ مديدةٍ من صُدورِ هذا الكتابِ بفضلِ تطوُّرِ الوَعْيِ والإدراكِ العربيَّيْنِ، لَمَاهيةٌ ليستْ لها ايَّةُ علاقةٍ قريبةٍ أو بعيدةٍ بماهيةِ «الشَّكِّ الفلسفيِّ» الذي رامَهُ ديكارت من خلالِ تفْعِيلِ قَوْلَتِهِ الشَّكِّيَّةِ الشهيرةِ «أنا أُفَكِّرُ، إذنْ أنا مَوْجُودٌ»، أو حسبما يفضِّلُ التعبيرَ عنها هو ذاتُهُ باللغةِ اللاتينيةِ (الفُصْحى)، على النحْوِ التالي: Cogito ergo sum. فشتَّانَ بينَ تلك التَّسَاؤلاتِ اللافلسفيةِ المُسَطَّحةِ التي طرحَها «الفيلسوفُ» الأدبيُّ الأوَّلُ حولَ لغةِ الشعرِ الجاهليِّ وحولَ زمنهِ ونَسَبهِ، من جهةٍ، وبين تلك المُسَاءَلاتِ الفلسفيةِ المُعَمَّقةِ التي أثارَها الفيلسوفُ الرياضيُّ الأخيرُ حولَ حقيقةِ الشيءِ الواقعيِّ وحولَ كُنْهِهِ ولُغْزِهِ، من جهة أخرى. وشتَّانَ بينَ «الشَّكِّ الأدبيِّ» الذي لم يأخذْ من الشَّكِّ سوى اسميَّتِهِ الظاهريةِ مقترنةَ ببحثٍ أكاديميٍّ محدَّدٍ كانَ نَسْخًا حرفيًّا، أو نَسْخًا مجازيًّا، لما انتهجَهُ المستشرقُ البريطانيُّ ديڤيد صامْويل مارْغُولْيَاوْثْ، من ناحيةٍ، وبينَ «الشَّكِّ الفلسفيِّ» الذي كانَ يبتغي بمنطقِهِ الرياضيِّ بُلوغَ النقيضِ اليقينيِّ المُطْلَقِ لهذا الشَّكِّ، منفصلاً بذلك عمَّا انتهجَهُ ابنُ خلدونٍ نفسُهُ من منهجيةٍ تاريخيةٍ تطوُّريَّةٍ (حلزونيةٍ)، تلك المنهجيةِ التي طوَّرَها من بعدهِ بزمنٍ مديدٍ الفيلسوفُ التاريخيُّ الإيطاليُّ جِيامْباتيستا ڤيكو، من ناحيةٍ أُخرى.
مرَّةً ثانيةً، «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، و«مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، أنَّ الفذَّ ابنَ خلدونٍ كانَ، من خلالِ نظرَتِهِ السَبَبِيَّةِ (الشَّكِّيَّةِ التي تختلفُ أيَّما اختلافٍ عنْ شَكيَّةِ الإغراقِ والغُلُوِّ بأيٍّ من أشكالِهَا)، كانَ يستدعي كافَّةَ القرائنِ التاريخيةِ الممكنةِ والمحتمَلةِ، وكانَ يُقاربُ من ثمَّ القرينةَ الأقربَ منها إلى الصِّحَّةِ والصَّحَاحِ، مثلما عُرِفَ عنهُ أيَّامَئِذٍ. لكنَّ ابنَ خلدونٍ لم يكنْ يَشُكُّ الشَّكَّ الإغْراقِيَّ المنشودَ في كلِّ شيءٍ، وذلك بسببٍ ممَّا كانَ يرغبهُ، أو لا يرغبهُ، من مُيُولِهِ الأشعريةِ، والأشعريةِ التقليديةِ منها، كما يؤكِّدُ الكثيرُ من الباحثينَ والمنظِّرينَ، في هذا الصَّدَدِ – وهذا الموقفُ الدينيُّ (الخفيفُ)، في حدِّ ذاتِهِ، ليسَ مصدرَ «زَلَلٍ» علميِّ فادحٍ في مجتمعٍ أبويٍّ ذُكُوريٍّ بدأ الطُّغيانُ السياسيُّ يتغَلْغَلُ في كلِّ ثَنِيَّةٍ من ثناياهُ، وفي كلِّ خَلِيَّةٍ من خلاياهُ. ديكارت، من طرفِهِ، كانَ فعلاً يَشُكُّ الشَّكَّ الإغْراقِيَّ المنشودَ في كلِّ شيءٍ: كانَ يَشُكُّ حتى في وُجُودِهِ في اليَقَاظِ وفي المَنَامِ، وكانَ يَشُكُّ حتى في دَرَجَاتِ غبطتِهِ وفي دَرَكَاتِ شُجُونِهِ، وكانَ يَشُكُّ حتى في وَمَضَاتِ عبقريَّتِهِ وفي لَحَظَاتِ جُنُونِهِ. إنَّ الشيءَ الوحيدَ الذي لمْ يَكُنْ ديكارت يشُكُّ فيهِ، على الإطلاقِ، لأنَّهُ كانَ على يقينٍ مُطْلَقٍ منهُ، ولا شَكَّ، إنَّما هو الشَّكُّ الإغْراقِيُّ المنشودُ بعَيْنِهِ. كان يهذي سَادِرًا وسَارِدًا بِهُذَائهِ العقلانيَّ الرياضيَّ، من هذا الخُصُوصِ، على هكذا مثابةٍ: أنا أشُكُّ في كلِّ شيءٍ خَلا في فعلِ الشَّكِّ ذاتِهِ الذي أشُكُّهُ الآنَ، في هذهِ اللحظةِ. وبما أنَّني أشُكُّ (في كلِّ شيءٍ خَلا في فعلِ الشَّكِّ ذاتِهِ)، أنا إذنْ أوقِنُ من فعلِ الشَّكِّ هذا في الآنِ ذاتِهِ. وبما أنَّني أوقِنُ (من فعلِ الشَّكِّ هذا)، أنا إذنْ أفكِّرُ بالشيءِ الذي أشكُّ فيهِ. وبما أنَّني أفكِّرُ (بالشيءِ الذي أشُكُّ فيهِ)، أنا إذنْ أُوجَدُ حيثُ أفكِّرُ (بالشيءِ الذي أشُكُّ فيهِ)، إلى آخرهِ، إلى آخرهِ. وهذا الهُذَاءُ العقلانِيُّ الرياضيُّ لا يعدو أنْ يكونَ، في جوهرِهِ الشَّكِّيِّ الإغراقيِّ الكَنِينِ، برهانًا مباشرًا، أو حتى غيرَ مباشرٍ، على صِحَّةِ وصَحَاحِ مبدأٍ «مثاليٍّ» (أي منسوبٍ إلى المذهبِ المُسَمَّى بـ«المثالية» Idealism، على النقيضِ الكاملِ من المذهبِ المدعوِّ بـ«المادِّية» Materialism)، مبدأٍ يسعى بدورِهِ، من خلالِ منهجهِ الفلسفيِّ الخاصِّ هذا، إلى أن يبرهنَ بُرْهَانًا على أسبقيةِ الفكرِ (أو الوَعْيِ) على الوُجُودِ (أو المَادَّةِ)، كما نوَّهَ عن ذلك المفكِّرُ اللبنانيُّ حسين مروة تنويهًا في كتابِهِ الشهيرِ «النزعاتُ المادِّيةُ في الفلسفةِ العربيةِ الإسلاميةِ». وهذا البُرْهَانُ الشَّكِّيُّ (الإغراقيُّ)، رغمَ وُصُولِهِ إلى هكذا «يقينٍ»، ليسَ، في حدِّ ذاتِهِ، يقينًا مُطْلَقًا، هو الآخَرُ.
مرَّةً ثالثةً، «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، و«مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، أنَّ ثَمَّةَ في الكونِ يَقِينيَّاتٍ عديدةً، من جهةٍ، وأنَّ ثَمَّةَ في هذا الكونِ شَكِّيَّاتٍ عديدةً، بلْ شَكِّيَّاتٍ لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، من جهةٍ أخرى. لنفرضْ، في سياقٍ سياسيٍّ قبيحٍ، أنَّ الاجتماعَ الثلاثيَّ الأمريكي-الروسي-الأردني الذي قيلَ إنَّهُ سيُعقدُ مُكَرَّسًا لصَوْنِ الهُدوءِ العسكريِّ في جنوبِ سوريا، لنفرضْ أنَّ هذا الاجتماعَ قد أفلحَ في مهمَّتهِ التكريسيةِ هذهِ إفلاحًا باهرًا، ولنفرضْ أنَّهُ، على النقيضِ، قد أخفقَ في مهمَّتهِ ذاتِها إخفاقًا ذريعًا. في هذهِ الحالةِ بالذاتِ، في كلٍّ من طرفَيْها، هلْ هناك شَكٌّ، أو حتى أدنى شَكٍّ، في «اليقينِ» من أكاذيبِ النظامِ «الجُمْلُوكِيِّ» الطائفيِّ الفُلوليِّ الذي لا يَنِي يتشدَّقُ بأوهامِ «السيادةِ الوطنيةِ»، دونَ أنْ يكونَ لهُ أيُّ دورٍ في إبرامِ الاتِّفاقِ المعنيِّ، ودونَ أنْ يكونَ لهُ حتى أيُّ تشارُكٍ في وَضْعِ أو صَوْغِ بُنودِ هذا الاتِّفاقِ، لا منْ قريبٍ ولا من بعيدٍ؟ – الجانبُ «السوريُّ» ليسَ لهُ فعلٌ فعليٌّ في ذاتِ الاجتماعِ، إذنْ هو غائبٌ غائبٌ؛ والجانبُ الإسرائيليٌّ ليس لهُ فعلٌ فعليٌّ في ذاتِ الاجتماعِ أيضًا، لكنَّهُ غائبٌ حاضرٌ، في حقيقةِ الأمرِ. لنفرضْ، في سياقٍ آخَرَ طبيعيٍّ أكثرَ جَمالاً بكثيرٍ، أنَّنا التقينا مَعًا في يومٍ ربيعيٍّ مُسِرٍّ ذِي أطيارٍ أخَّاذَةٍ خَلاَّبَةٍ غَنَّاءَ، يومٍ ربيعيٍّ مُشْرِقٍ ذِي سَماءٍ خَلِيَّةٍ منْ كلِّ غمامٍ صَافيةٍ كلَّ الصَّفاءِ. في هذهِ الحالةِ بالذاتِ، من طرفٍ، هلْ هناك شَكٌّ، أو حتى أدنى شَكٍّ، في «اليقينِ» من الإجابةِ بنوعيةِ زَرَاقِ «اللونِ الأزرقِ الفاتحِ»، مثلاً، حينَ السُّؤالُ عن لونِ السَّماءِ في هذا اليومِ، وحينَ النظرُ إلى هذهِ السَّماءِ بالعينِ البصريةِ، أو بالعينِ العينيةِ، دونَ غيرِها؟ وفي هذهِ الحالةِ بالذاتِ، من طرفٍ مقابلٍ، هلْ هناك شَكٌّ، أو حتى أدنى شَكٍّ، في «الشًّكِّ» في الإجابةِ بماهيةِ زَرَاقِ «اللونِ الأزرقِ الفاتحِ» ذاتِهِ، حينَ السُّؤالُ ذاتُهُ عن لونِ السَّماءِ في هذا اليومِ، وحينَ النظرُ إلى هذهِ السَّماءِ بالعينِ العقليةِ، أو بالعينِ العلميةِ، هذهِ المرَّةَ؟ – فالسَّماءُ ذاتُ البُرُوجِ، أيًّا كانتْ تلك البُرُوجُ واقعًا، لا لونَ لَهَا، في واقعِ الأمرِ.
مرَّةً رابعةً وأخيرةً، «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، و«مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، أنَّهُ حتى في القرآنِ الكريمِ ذاتِهِ، مَثَلُهُ كَمَثَلِ أيِّ كتابٍ كريمٍ سَبَقَهُ في الزَّمَانِ والمَكَانِ، ثَمَّةَ شكٌّ لا ريبَ فيهِ، منْ جانبٍ، وثَمَّةَ يقينٌ لا ريبَ فيهِ كذلك، منْ جانبٍ آخَرَ، شاءَ العَالِمُ العَلاَّمَةُ الحَصِيفُ النَّبِيهُ اللَّبِيبُ أمْ أبَى. فعلى سبيلِ التمثيلِ لا الحصْرِ، ها هنا: «مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ» (آل عمران: 7). وما «التشابُهُ»، ها هنا، سوى شكلٍ من أشكالِ «الشكِّ» أو «الرَّيْبِ» بعينِهِ، من ذاك الجانبِ الأوَّلِ، وما «الإحْكَامُ»، ها هنا، سوى نوعٍ من أنواعِ «اليقينِ» أو «اللارَيْبِ» بعينِ عينِهِ، من ذاك الجانبِ المقابلِ الثاني! ناهيكِ، بالطبعِ، عن وُقُوعِ الكاتبِ الصِّحَافيِّ المَعْنِيِّ، شاعرًا أو غيرَ شاعرٍ، في الشَّرَكِ الاِرْتِدَادِيِّ في الكتابةِ، حينما يتحدَّثُ ناقدًا وسَاخرًا عن عباراتٍ «يقينيَّةٍ» مُطْلَقَةٍ من على شاكلةِ «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، أو «مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، وحينما يستخدمُ في ذاتِ الحديثِ عباراتٍ «يقينيَّةً» مُطْلَقَةً تتشابهُ في المعنى وفي اجترارِ الفكراتِ من على هذه الشَّاكلةِ ذاتِها، ولكنَّها تتغايرُ في المبنى وفي اختيارِ المفرداتِ، وليسَ غيرَ ذلك. وعلى سبيلِ التمثيلِ لا الحصْرِ، كذلك، من تلك العباراتِ «اليقينيَّةِ» المُطْلَقَةِ، والجازمةِ كلَّ الجزْمِ، التي يكتظُّ بها أسلوبُهُ في ذلك المقالِ، والتي تبدأ بحُرُوفِ التوكيدِ المشبَّهةِ بالأفعالِ، ما يلي: «ما يجزمُ بأنَّ ما يتحكمُ في مثلِ هذهِ المواقفِ هو الترصُّدُ مع سبقِ الإصرارِ»، أو «لكنَّ اليقينَ ليسَ نعيمًا حتى لو شعرَ مَنْ أركنوا إليهِ بذلك»، أو «لأنَّ الشكَّ يدفعُ إلى استدعاءِ القرائنِ»، أو «فإنَّ احتمالَ الشكِّ ليسَ ميسورًا للجميعِ»، وغيرها، وغيرها.
وناهيكِ، بطبيعِةِ الحَالِ، والأنكى من ذلك كلِّهِ، عن وُقُوعِ الكاتبِ الصِّحَافيِّ المَعْنِيِّ، شاعرًا أو غيرَ شاعرٍ، في الشَّرَكِ الاِرْتِدَادِيِّ في الثقافةِ كذلك، حينما يتحدَّثُ واعظًا وواجسًا متوجِّسًا ومستشهِدًا بكلِّ ثقةِ نفسٍ بقولِ المُحَلِّلِ النفسانيِّ الألمانيِّ «أريش فروم» عن خوفِ الإنسانِ من الحريَّةِ ذاتِهَا، وعن هُروبِهِ من هذهِ الحريَّةِ لِمَا تقتضيهِ من مسؤوليةٍ كبيرةٍ، في حينِ أنَّ أريش فروم نفسَهُ كانَ قدِ استشهدَ، قَبْلَئِذٍ، بهذا القولِ عازيًا إيَّاهُ، بالحَقِّ والحَقيقِ، إلى مُعَلِّمِهِ الفَذِّ، المُحَلِّلِ النفسانيِّ النمسَاويِّ زيغموند فرويد!
*** *** ***
غياث المرزوق
لندن، 29 أيار 2018
قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ أَنَّهُ لَمْ يَذُدْ إِلاَّ عَنْ أَفْكَارٍ أَنْبَتَهَا بِعَقْلِهِ آخَرُونَ يَقَينًا؟
برتْرانْد رَسِلْ
بَلَغَنِي بالأمْسِ القريبِ، مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ على المَلأِ الأدْنَى، أنَّ الكاتبَ الصِّحَافيَّ خيري منصور، في مقالِهِ الحديثِ العهدِ نسبيًّا «جَحِيمُ الشَّكِّ أمْ نَعِيمُهُ؟» (القدس العربي، 26 أيار 2018)، كان قد أجرى مقارنةً، أو بالأحرى موازنةً، منهجيةً موضوعيةً عابرةً بين ثلاثةِ أعلامٍ فُذُوذٍ متباعدينَ تباعُدًا زمنيًّا لافتًا: أوَّلُهُمْ، الفيلسوفُ التاريخِيُّ التونسيُّ ابنُ خلدونٍ، الذي كان ينظرُ إلى الرواياتِ التاريخيةِ كلِّها نظرًا سَبَبِيًّا (شَكِّيًّا) ويرجِّحُ الروايةَ الأقربَ منها إلى الحقيقةِ؛ وثانيهمْ، الفيلسوفُ الرياضيُّ الفرنسيُّ رينيه ديكارت، الذي كان يَسْعَى كلَّ السَّعْيِ إلى إدراكِ هذهِ الحقيقةِ من خلالِ تفْعِيلِ قَوْلَتِهِ الشَّكِّيَّةِ الشهيرةِ «أنا أُفَكِّرُ، إذنْ أنا مَوْجُودٌ»؛ وثالثُهُمْ وأخيرُهُم، «الفيلسوفُ» الأدبيُّ المصريُّ طه حسين، الذي قِيلَ إنَّهُ كان يَحْذُو حَذْوَ تفْعِيلِ المَقُولَةِ الشَّكِّيَّةِ الديكارتيةِ ذاتِها، وذلك التماسًا للوُصُول إلى ذاتِ الحقيقةِ من جرَّاءِ مَا قد ظُنَّ، وما انْفَكَّ يُظَنُّ، أنَّهُ سَبْرٌ وتمْحيصٌ «شَكِّيَّانِ» في دُنَى الأدبِ العربيِّ عامَّةً، وفي دُنْيَا الشعرِ الجاهلي خاصَّةً. عندئذٍ، يتساءلُ الكاتبُ الصِّحَافيُّ تساؤُلَ الناقدِ والسَّاخرِ بكلِّ حَصَافةٍ واتِّزانٍ: بعدَ قُرونٍ وقرونٍ من جُهُودٍ علميةٍ جادَّةٍ «مماثلةٍ» بذلَهَا أولئك الأعلامُ الأفْذَاذُ الذينَ لمْ يَكُنْ حتى لِأيٍّ منهمْ ولا لِأيٍّ منِ أمثالهِمْ أنْ يدَّعي بامْتلاكِ ناصيةِ الحقيقةِ كاملةً، ما زلنا نقرأُ ونقرأُ في مُتونِ الكتاباتِ العربيةِ، حتى هذهِ الأيامِ العصيبةِ، عباراتٍ «يقينيَّةً» مُطْلَقَةً من على شاكلةِ «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، أو «مِمَّا لا يختلفُ فيهِ، أو عليهِ، أو حَوْلَهُ، اثنانِ»، أو ما شابهَ ذلك – فمِنْ أينَ وأيَّانَ، يا تُرى، جاءَ كَتَبَةُ هذهِ الكتاباتِ باليقينِ كلِّهِ، وقدِ اسْتتبَّتْ ألبَابُهُمْ كلَّ هذا الاستتبابِ واسْتنقعتْ كلَّ هذا الاستنقاعِ؟ ومنْ ثمَّ، يستأنفُ الكاتبُ الصِّحَافيُّ حديثَهُ بشيءٍ من الخَوْضِ في غِمَارِ الجَدَلِ التَّنَافَوِيِّ بينَ الشَّكِّ واحْتمالِ كونِهِ «جَحِيمًا» بسببٍ مِمَّا قد يقتضيهِ من مُسَاءَلةٍ وتَسَاؤلٍ لا ينتهيانِ، من جانبٍ، وبينَ اليَقِينِ وتَعَذُّرِ، أو حتى اسْتحالةِ، كونِهِ «نَعِيمًا» حتى لو أدركَ المُسَائلُونَ والمتسائلُونَ إدراكًا ضَالَّتَهم، من جانبٍ آخَرَ. وفي هذا الجَدَلِ التَّنَافَوِيِّ، على سبيلِ الإرْدافِ العابرِ كذلك، ما يُذَكِّرُ بذلك الرأيِ الرشيدِ الذي ارْتَآهُ الكاتبُ والمؤرِّخُ والفيلسوفُ الفرنسيُّ الشهيرُ بحِذْقِهِ وظَرْفِهِ، ڤولْتير (فرانسوا-ماري أورويه)، ذلك الرأيِ الذي يقولُ باسِمًا ومتهكِّمًا إنَّ الشَّكَّ ليسَ فِعْلاً سَارًّا ولا عَمَلاً سَائغًا، وإنَّ اليقينَ هو السُّخْفُ بذاتِهِ وهو العَبثُ بعينِهِ.
وكما أبلغَ مَنْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ على المَلأِ الأدْنَى، فضلاً عنْ ذلك كلِّهِ، ليس ثَمَّةَ خلافٌ مبدئيٌّ يُمكنُ إبداؤُهُ البتَّةَ، ها هنا (وهذا البَتُّ إنْ هو إلاَّ منْ بابِ «اليقينِ» المُضَادِّ، إنْ صَحَّ ذلك)، فيما يرمي إليهِ طرحُ المقالِ الآنفِ الذِّكْرِ، وعلى الأخصِّ من حيثُ تلك الإشارةُ الجليَّةُ إلى ذينك الاستجوابِ والاستنطاقِ الذاتيَّيْنِ اللذَيَن كان الفيلسوفُ العقلانيُّ الألمانيُّ إيمانْويل كَانْتْ نفسُهُ يلجأُ إليهما على الدوام في ضوءِ ما توصَّل إليهِ من معرفةٍ حِسِّيةٍ (يقينيةٍ، أو شبهِ يقينيةٍ) عن عالم ما كانَ يُسمِّيهِ بـ«الظواهرِ» Phenomena، من طرفٍ، وما توصَّل إليهِ من معرفةٍ حَدْسِيةٍ (شَكِّيَّةٍ، أو جِدِّ شَكِّيَّةٍ) عن عالم ما كانَ يَدْعوهُ بـ«البَوَاطِنِ» أو بـ«اللاظواهر» Noumena، من طرفٍ آخَرَ. إذْ أنَّ لهذهِ الإشارةِ الجليةِ، في هذه القرينةِ بالذاتِ، أن تُفيدَ أيَّما إفادةٍ في تنبيهِ، أو حتى في تحذيرِ، أولئك الكَتَبَةِ المعنيِّينَ الذين يردِّدونَ في مُتونِ كتاباتِهِمْ تلك العباراتِ «اليقينيَّةَ» المُطْلَقَةَ، حينما يتحدثونَ عن قضايا فلسفيةٍ من الأهميةِ بمكانٍ، من هذا القبيلِ المعرفيِّ الحَدْسِيِّ (الشَكِّيِّ، أو الجِدِّ شَكِّيٍّ)، تحديدًا. فلا أحدَ مِنَّا، احتذاءً واقتداءً بذينك الاستجوابِ والاستنطاقِ الذاتيَّيْنِ المتواصلَيْنِ، في مقدورهِ أنْ يمتلكَ ناصيةَ اليقينِ مُطْلقًا حتى لو بلغَ من المعرفةِ الحِسِّيةِ ومن المعرفةِ الحَدْسِيةِ مبلغًا أبعدَ بكثيرٍ مِمَّا بلغَهُ إيمانْويل كَانْتْ ذاتُهُ – وهذا النَّفْيُ التوكيديُّ، في حدِّ ذاتِهِ، إنما يتجلَّى كمثالٍ بيِّنٍ كلَّ البَيَانِ من أمثلةِ «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، أو «مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، على سبيل نقيضةٍ من نقائضِ الحُجَّةِ والبُرْهانِ! وليس ثَمَّةَ خلافٌ مبدئيٌّ يُمكنُ إبداؤُهُ البتَّةَ ها هنا، علاوةً على ذلك، فيما يرمي إليهِ طرحُ المقالِ المعنيِّ عينِهِ، وبالأخصِّ من حيثُ ذلك التلميحُ الجليُّ إلى مسألةِ ما يؤدِّي إلى تعدُّديةِ الشخصيةِ الواحدةِ وما تقتضيهِ هذهِ الشخصيةُ حُكْمًا مسبقًا من تعدُّديةِ الأقلامِ التي تكتبُ عنها ومن تعدُّديةِ الأفواهِ التي تتكلَّمُ عليها. وهكذا، ففي هذا الفعلِ ورَدِّ الفعلِ، في الوجهِ الحَميدِ من مسألةِ ما يؤدِّي إلى تعدُّديةِ الشخصيةِ الواحدةِ هذهِ، ما يبيِّنُ كيفَ أنَّ هناك الكثيرَ من النُّزَهَاءِ والمُخْلِصِينَ والمُنْصِفينَ مِمَّنْ آثَرُوا، بطبيعةِ الحالِ، أنْ يؤازِرُوا حاكمًا عادلاً كلَّ العَدْلِ (إنْ تواجَدَ حَقًّا) مُؤازرةَ الواقفينَ اللازِبينَ إلى جانبِ الحَقِّ، في كلِّ مكانٍ وزمانٍ، أيًّا كانتْ آثارُ المُغْرضينَ والوشائجِ، وأيَّةً كانتْ أسبابُ المُعْرضينَ والنتائجِ.
ولكنْ، وفي هذا الفعلِ ورَدِّ الفعلِ ذاتِهِ، في الوجهِ الخَبيثِ المقابلِ من قضيةِ ما يُفْضِي إلى تعدُّديةِ الشخصيةِ الواحدةِ ذاتِها، ما يوضِّحُ أيضًا كيفَ أنَّ هناك الكثيرَ الكثيرَ من السُّفَهَاءِ والمُرائينَ والمتملِّقينَ والمتزلِّفينَ مِمَّنْ كانوا، وما زالوا، يدافعونَ عن طاغيةٍ عَتيٍّ معيّنٍ دفاعًا مُسْتميتًا، على الرَّغمِ من وُجودِ، قُدَّامَ أعينهمْ، كافَّةِ الدلائلِ القطعيةِ التي تدلُّ على انتماءِ هذا الطاغيةِ العَتيِّ إلى هَاوِيَةِ الشَّرِّ والإثْمِ المُطْلَقَيْنِ، لا محالَ – وهذا الإيجابُ التوكيديُّ، في حدِّ ذاتِهِ كذلك، إنَّما يتبدَّى كمثالٍ واضحٍ كلَّ الوُضُوحِ من أمثلةِ «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، أو «مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، على سبيل نقيضةٍ أخرى من نقائضِ الحُجَّةِ والبُرْهانِ! وهلْ ثَمَّةَ، حتى في عالَمِ الخيالِ، مَنْ لا تخْفَى عليهِ بعدُ، في سياقِ هذهِ النقيضةِ الأُخرى بالذاتِ، خافيةُ الاستقراءِ بأنَّ «نيرانَ» الثورةِ المضادَّةِ التي تتأجَّجُ في أعقابِ نُشُوبِ أيَّةِ ثورةٍ شعبيةٍ في التاريخ البشريِّ، قديمِهِ وحديثِهِ، إنَّما ترتكزُ، في اشتدادِ قوَّتِها وفي استمرارِ تأثيرِها في مواجهةِ الشعوبِ الثائرةِ، أيَّما ارتكازٍ على ما يقُولُهُ قولاً وما يفْعَلُهُ فعلاً أولئك السُّفَهَاءُ والمُراؤونَ والمتملِّقونَ والمتزلِّفونَ أنفسُهُمْ؟ وهلْ ثَمَّةَ، حتى في عالَمِ الخيالِ ذاتِهِ، مَنْ لا تخْفَى عليهِ بعدُ كذلك، في سياقِ هذهِ النقيضةِ الأُخرى ذاتِها، خافيةُ الاستنباطِ بأنَّ الفيلسوفَيْنِ الاجتماعيَّيْنِ الألمانيَّيْن الصديقَيْنِ المتصادقَيْنِ كارل ماركس وفريدْريك إنْغِلْز، حينما عمدَا متعمِّدَيْنِ في كتابهِما المشتَرَكِ الشهيرِ، «الأيديولوجيا الألمانية» Die deutsche Ideologie، إلى نحتِ ما اصطلحَا عليهم بـ«سِفْلةُ الطبقةِ العاملة»، أو «حُثَالةُ البروليتاريا» Lumpenproletariat، إنَّما كانا يشيرانِ بهذا الاصطلاحِ الفريدِ، على وجهِ التحديدِ، إلى تلك السِّفْلَةِ، أو تلك الحُثَالةِ، من شُذَّاذِ القومِ التي كانتْ، وما زالتْ، تُكَوِّنُ الأغلبيةَ السَّاحقةَ من أولئك السُّفَهَاءِ والمُرائينَ والمتملِّقينَ والمتزلِّفينَ أنفسِهِمْ؟ وتلك السِّفْلَةُ، أو تلك الحُثَالةُ، من شُذَّاذِ القومِ، في أيِّ مجتمعٍ من المجتمعاتِ البشريةِ، كانتْ، وما زالتْ، تضُمُّ بينَ أذرعِها الأحَاقِرَ من المجرمينَ والعَنَافِيطِ والأخَاسِسَ من البَوَّاقِينَ والعَضَارِيطِ والأخَاسِئَ من القَوَّادِين والشَّرَامِيط والأَدَانِئَ من غيرهِمْ وغيرهِمْ – هذا إنْ لم يُعْمَدْ، بأيِّ شيءٍ من التفصيلِ والإسهابِ، في هذا السياقِ، إلى ذكْرِ ما أفرزتْهُ آفاتُ الثوراتِ المضادَّةِ على الألسُنِ المتهكِّمةِ إفرازًا إبداعيًّا، بُعَيْدَ اندلاعِ الثوراتِ الشعبيةِ «الرَّبيعيةِ» في العالم العربيِّ، من مصطلحاتٍ عامِّيَّةٍ قُحًّا، كمثلِ: «الشَّبِّيحَة» و«المِنْحِبَّكْجِيَّة» و«النَّبِّيحَة» و«البَلْطَجِيَّة»، وغيرِها وغيرِها، تمامًا على غرارِ ذاك الاصطلاح الماركْسِيِّ-الإنْغِلْزِيِّ الفريدِ.
لا خلافَ مبدئيٌّ على كلِّ ما أنِفَ ذِكْرُهُ في هذا المقالِ بتاتًا: في الوجهِ الخَبيثِ المقابلِ (للوجهِ الحَميدِ أو السَّليمِ) من قضيةِ ما يُفْضِي إلى تعدُّديةِ الشخصيةِ الواحدةِ، يدافعُ السُّفَهَاءُ والمُراؤونَ والمتملِّقونَ والمتزلِّفونَ عن شَخْصِ الطاغيةِ العَتيِّ المَعْنِيِّ (كأيِّ طاغيةٍ «عربيٍّ» أو «عُرْبَانيٍّ» أو «مستعرِبٍ» مَعْنِيٍّ) تشويهًا وتشنيعًا لوجهِ الحقيقةِ، ويتيحونَ من ثمَّ لتلك السِّفْلَةِ، أو تلك الحُثَالةِ، منهمْ أنْ يحملوا ما يتيسَّرُ وَ/أوْ ما يتعسَّرُ لهُمْ من «مشاعِلِ» الثورةِ المُضَادَّةِ، إلى أجلٍ مُسَمًّى (أو حتى إلى أجلٍ غيرِ مُسَمًّى)، حتى لو كانوا يشُكُّونَ أو يُوقِنونَ أنَّ هذهِ الثورةَ المُضَادَّةَ عينَها لا تعدُو، في واقعِ الأمرِ، أنْ تكونَ طورًا مذمُومًا من أطوارِ الثورةِ الشعبيةِ (الكونيةِ) ذاتِها، طورًا محْتُومًا زمَانيًّا ومحْسُومًا مكانيًّا مهما امتدَّ زمَانُهُ ومهما اتَّسَعَ مكانُهُ، طورًا محْمُومًا ومسْمُومًا لا بُدَّ لهُ، من كلِّ بُدٍّ، من أنْ يسْعَى إلى حَتْفِهِ بِأظْلافِهِ، حينما تندلعُ ألْسِنَةُ اللَّهَبَانِ الخَبيءِ من جديدٍ عاليًا عاليًا، وحينما تُعْلِنُ هذهِ الألْسِنَةُ بسَعِيرِها العَارمِ إرْهاصَاتِ الطورِ القَرَاريِّ الأخيرِ، طورِ الحَسْمِ الثوريِّ الذَّخِيرِ، شاءتْ أرجاسُ تلك السِّفْلَةِ، أو أنجاسُ تلك الحُثَالةِ، ومَنْ تكنُّ الوَلاءَ لهُمْ من لفيفِ أسيادِهَا الطُّغَاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ، أمْ أبتْ. غيرَ أنَّ ذلكَ الجَدَلَ التَّنَافَوِيَّ بينَ الشَّكِّ واحْتمالِ كونِهِ «جَحِيمًا» وبينَ نقيضِهِ اليَقِينِ وتَعَذُّرِ، أو اسْتحالةِ، كونِهِ «نَعِيمًا» لا يُؤخذُ هكذا على عِلاَّتِهِ بذينك التبسيطِ والاختزالِ المُفرطَيْنِ اللذينِ أشارَ إليهما الكاتبُ الصِّحَافيُّ المذكورُ في مقالهِ الآنفِ الذِّكْرِ ناقدًا وسَاخرًا، حتى لو كانتْ هذهِ الإشارةُ المقصُودةُ قد شملتْ، بادِئَ ذي بدْءٍ، مدى أفقيَّةِ الرؤيةِ الأحاديةِ المعنيَّةِ، في حدِّ ذاتِهَا، ومدى غنائيَّةِ هذهِ الرؤيةِ إلى العالَمِ وإلى التاريخِ، على حدٍّ سَوَاءٍ.
قبلَ كلِّ شيءٍ، «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، و«مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، أنَّ الكاتبَ الصِّحَافيَّ لدى تجشُّمِهِ عناءَ الموازنةِ المنهجيةِ الموضوعيةِ العابرةِ بينَ رينيه ديكارت وطه حسين، من طرفٍ، وبينَ رينيه ديكارت وابنِ خلدونٍ، من طرفٍ آخرَ، قد أساءَ الفهمَ، كلَّ الفهمِ، لما يعنيهِ وما يبتنيهِ مبدأُ الشَّكِّ الديكارتيِّ، أو ما يسمِّيهِ ديكارت نفسُهُ بمبدأِ «الشَّكِّ الإغْراقِيِّ» Le doute hyperbolique، ذلك المبدأِ الذي يقصدُ من الشَّكِّ فَحْوَاهُ الفلسفيَّ الكُلِّيَّ في أعلى مَرَاتبِهِ وفي أقصى مَرَاميهِ – تمامًا مثلما يعنيهِ الإغراقُ (والغُلُوُّ) في الشَّكِّ في كلِّ شيءٍ بالمعنى الحرفيِّ، إلى أنْ يصلَ هذا الشَّكُّ إلى شيءٍ من الأشياءِ لا شَكَّ معقولٌ فيهِ ولا حتى شَكَّ ممكنٌ فيهِ. بجَلِيِّ العبارةِ، ها هنا، وأيَّةً كانتْ شدَّةُ الصِّراعِ بينَ ثقافةِ التشْكيكِ الرَّائزِ وثقافةِ التعْليبِ الجاهزِ، فإنَّ ماهيةَ «الشَّكِّ الأدبيِّ» الذي كانَ في القُلوبِ العِجَافِ «رذيلةً» إبَّانَ صُدورِ كتابِ طه حسين «في الشِّعْرِ الجَاهِليِّ»، والذي صارَ في العُقولِ العِفَافِ «فضيلةً» بعدَ عُقودٍ مديدةٍ من صُدورِ هذا الكتابِ بفضلِ تطوُّرِ الوَعْيِ والإدراكِ العربيَّيْنِ، لَمَاهيةٌ ليستْ لها ايَّةُ علاقةٍ قريبةٍ أو بعيدةٍ بماهيةِ «الشَّكِّ الفلسفيِّ» الذي رامَهُ ديكارت من خلالِ تفْعِيلِ قَوْلَتِهِ الشَّكِّيَّةِ الشهيرةِ «أنا أُفَكِّرُ، إذنْ أنا مَوْجُودٌ»، أو حسبما يفضِّلُ التعبيرَ عنها هو ذاتُهُ باللغةِ اللاتينيةِ (الفُصْحى)، على النحْوِ التالي: Cogito ergo sum. فشتَّانَ بينَ تلك التَّسَاؤلاتِ اللافلسفيةِ المُسَطَّحةِ التي طرحَها «الفيلسوفُ» الأدبيُّ الأوَّلُ حولَ لغةِ الشعرِ الجاهليِّ وحولَ زمنهِ ونَسَبهِ، من جهةٍ، وبين تلك المُسَاءَلاتِ الفلسفيةِ المُعَمَّقةِ التي أثارَها الفيلسوفُ الرياضيُّ الأخيرُ حولَ حقيقةِ الشيءِ الواقعيِّ وحولَ كُنْهِهِ ولُغْزِهِ، من جهة أخرى. وشتَّانَ بينَ «الشَّكِّ الأدبيِّ» الذي لم يأخذْ من الشَّكِّ سوى اسميَّتِهِ الظاهريةِ مقترنةَ ببحثٍ أكاديميٍّ محدَّدٍ كانَ نَسْخًا حرفيًّا، أو نَسْخًا مجازيًّا، لما انتهجَهُ المستشرقُ البريطانيُّ ديڤيد صامْويل مارْغُولْيَاوْثْ، من ناحيةٍ، وبينَ «الشَّكِّ الفلسفيِّ» الذي كانَ يبتغي بمنطقِهِ الرياضيِّ بُلوغَ النقيضِ اليقينيِّ المُطْلَقِ لهذا الشَّكِّ، منفصلاً بذلك عمَّا انتهجَهُ ابنُ خلدونٍ نفسُهُ من منهجيةٍ تاريخيةٍ تطوُّريَّةٍ (حلزونيةٍ)، تلك المنهجيةِ التي طوَّرَها من بعدهِ بزمنٍ مديدٍ الفيلسوفُ التاريخيُّ الإيطاليُّ جِيامْباتيستا ڤيكو، من ناحيةٍ أُخرى.
مرَّةً ثانيةً، «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، و«مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، أنَّ الفذَّ ابنَ خلدونٍ كانَ، من خلالِ نظرَتِهِ السَبَبِيَّةِ (الشَّكِّيَّةِ التي تختلفُ أيَّما اختلافٍ عنْ شَكيَّةِ الإغراقِ والغُلُوِّ بأيٍّ من أشكالِهَا)، كانَ يستدعي كافَّةَ القرائنِ التاريخيةِ الممكنةِ والمحتمَلةِ، وكانَ يُقاربُ من ثمَّ القرينةَ الأقربَ منها إلى الصِّحَّةِ والصَّحَاحِ، مثلما عُرِفَ عنهُ أيَّامَئِذٍ. لكنَّ ابنَ خلدونٍ لم يكنْ يَشُكُّ الشَّكَّ الإغْراقِيَّ المنشودَ في كلِّ شيءٍ، وذلك بسببٍ ممَّا كانَ يرغبهُ، أو لا يرغبهُ، من مُيُولِهِ الأشعريةِ، والأشعريةِ التقليديةِ منها، كما يؤكِّدُ الكثيرُ من الباحثينَ والمنظِّرينَ، في هذا الصَّدَدِ – وهذا الموقفُ الدينيُّ (الخفيفُ)، في حدِّ ذاتِهِ، ليسَ مصدرَ «زَلَلٍ» علميِّ فادحٍ في مجتمعٍ أبويٍّ ذُكُوريٍّ بدأ الطُّغيانُ السياسيُّ يتغَلْغَلُ في كلِّ ثَنِيَّةٍ من ثناياهُ، وفي كلِّ خَلِيَّةٍ من خلاياهُ. ديكارت، من طرفِهِ، كانَ فعلاً يَشُكُّ الشَّكَّ الإغْراقِيَّ المنشودَ في كلِّ شيءٍ: كانَ يَشُكُّ حتى في وُجُودِهِ في اليَقَاظِ وفي المَنَامِ، وكانَ يَشُكُّ حتى في دَرَجَاتِ غبطتِهِ وفي دَرَكَاتِ شُجُونِهِ، وكانَ يَشُكُّ حتى في وَمَضَاتِ عبقريَّتِهِ وفي لَحَظَاتِ جُنُونِهِ. إنَّ الشيءَ الوحيدَ الذي لمْ يَكُنْ ديكارت يشُكُّ فيهِ، على الإطلاقِ، لأنَّهُ كانَ على يقينٍ مُطْلَقٍ منهُ، ولا شَكَّ، إنَّما هو الشَّكُّ الإغْراقِيُّ المنشودُ بعَيْنِهِ. كان يهذي سَادِرًا وسَارِدًا بِهُذَائهِ العقلانيَّ الرياضيَّ، من هذا الخُصُوصِ، على هكذا مثابةٍ: أنا أشُكُّ في كلِّ شيءٍ خَلا في فعلِ الشَّكِّ ذاتِهِ الذي أشُكُّهُ الآنَ، في هذهِ اللحظةِ. وبما أنَّني أشُكُّ (في كلِّ شيءٍ خَلا في فعلِ الشَّكِّ ذاتِهِ)، أنا إذنْ أوقِنُ من فعلِ الشَّكِّ هذا في الآنِ ذاتِهِ. وبما أنَّني أوقِنُ (من فعلِ الشَّكِّ هذا)، أنا إذنْ أفكِّرُ بالشيءِ الذي أشكُّ فيهِ. وبما أنَّني أفكِّرُ (بالشيءِ الذي أشُكُّ فيهِ)، أنا إذنْ أُوجَدُ حيثُ أفكِّرُ (بالشيءِ الذي أشُكُّ فيهِ)، إلى آخرهِ، إلى آخرهِ. وهذا الهُذَاءُ العقلانِيُّ الرياضيُّ لا يعدو أنْ يكونَ، في جوهرِهِ الشَّكِّيِّ الإغراقيِّ الكَنِينِ، برهانًا مباشرًا، أو حتى غيرَ مباشرٍ، على صِحَّةِ وصَحَاحِ مبدأٍ «مثاليٍّ» (أي منسوبٍ إلى المذهبِ المُسَمَّى بـ«المثالية» Idealism، على النقيضِ الكاملِ من المذهبِ المدعوِّ بـ«المادِّية» Materialism)، مبدأٍ يسعى بدورِهِ، من خلالِ منهجهِ الفلسفيِّ الخاصِّ هذا، إلى أن يبرهنَ بُرْهَانًا على أسبقيةِ الفكرِ (أو الوَعْيِ) على الوُجُودِ (أو المَادَّةِ)، كما نوَّهَ عن ذلك المفكِّرُ اللبنانيُّ حسين مروة تنويهًا في كتابِهِ الشهيرِ «النزعاتُ المادِّيةُ في الفلسفةِ العربيةِ الإسلاميةِ». وهذا البُرْهَانُ الشَّكِّيُّ (الإغراقيُّ)، رغمَ وُصُولِهِ إلى هكذا «يقينٍ»، ليسَ، في حدِّ ذاتِهِ، يقينًا مُطْلَقًا، هو الآخَرُ.
مرَّةً ثالثةً، «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، و«مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، أنَّ ثَمَّةَ في الكونِ يَقِينيَّاتٍ عديدةً، من جهةٍ، وأنَّ ثَمَّةَ في هذا الكونِ شَكِّيَّاتٍ عديدةً، بلْ شَكِّيَّاتٍ لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، من جهةٍ أخرى. لنفرضْ، في سياقٍ سياسيٍّ قبيحٍ، أنَّ الاجتماعَ الثلاثيَّ الأمريكي-الروسي-الأردني الذي قيلَ إنَّهُ سيُعقدُ مُكَرَّسًا لصَوْنِ الهُدوءِ العسكريِّ في جنوبِ سوريا، لنفرضْ أنَّ هذا الاجتماعَ قد أفلحَ في مهمَّتهِ التكريسيةِ هذهِ إفلاحًا باهرًا، ولنفرضْ أنَّهُ، على النقيضِ، قد أخفقَ في مهمَّتهِ ذاتِها إخفاقًا ذريعًا. في هذهِ الحالةِ بالذاتِ، في كلٍّ من طرفَيْها، هلْ هناك شَكٌّ، أو حتى أدنى شَكٍّ، في «اليقينِ» من أكاذيبِ النظامِ «الجُمْلُوكِيِّ» الطائفيِّ الفُلوليِّ الذي لا يَنِي يتشدَّقُ بأوهامِ «السيادةِ الوطنيةِ»، دونَ أنْ يكونَ لهُ أيُّ دورٍ في إبرامِ الاتِّفاقِ المعنيِّ، ودونَ أنْ يكونَ لهُ حتى أيُّ تشارُكٍ في وَضْعِ أو صَوْغِ بُنودِ هذا الاتِّفاقِ، لا منْ قريبٍ ولا من بعيدٍ؟ – الجانبُ «السوريُّ» ليسَ لهُ فعلٌ فعليٌّ في ذاتِ الاجتماعِ، إذنْ هو غائبٌ غائبٌ؛ والجانبُ الإسرائيليٌّ ليس لهُ فعلٌ فعليٌّ في ذاتِ الاجتماعِ أيضًا، لكنَّهُ غائبٌ حاضرٌ، في حقيقةِ الأمرِ. لنفرضْ، في سياقٍ آخَرَ طبيعيٍّ أكثرَ جَمالاً بكثيرٍ، أنَّنا التقينا مَعًا في يومٍ ربيعيٍّ مُسِرٍّ ذِي أطيارٍ أخَّاذَةٍ خَلاَّبَةٍ غَنَّاءَ، يومٍ ربيعيٍّ مُشْرِقٍ ذِي سَماءٍ خَلِيَّةٍ منْ كلِّ غمامٍ صَافيةٍ كلَّ الصَّفاءِ. في هذهِ الحالةِ بالذاتِ، من طرفٍ، هلْ هناك شَكٌّ، أو حتى أدنى شَكٍّ، في «اليقينِ» من الإجابةِ بنوعيةِ زَرَاقِ «اللونِ الأزرقِ الفاتحِ»، مثلاً، حينَ السُّؤالُ عن لونِ السَّماءِ في هذا اليومِ، وحينَ النظرُ إلى هذهِ السَّماءِ بالعينِ البصريةِ، أو بالعينِ العينيةِ، دونَ غيرِها؟ وفي هذهِ الحالةِ بالذاتِ، من طرفٍ مقابلٍ، هلْ هناك شَكٌّ، أو حتى أدنى شَكٍّ، في «الشًّكِّ» في الإجابةِ بماهيةِ زَرَاقِ «اللونِ الأزرقِ الفاتحِ» ذاتِهِ، حينَ السُّؤالُ ذاتُهُ عن لونِ السَّماءِ في هذا اليومِ، وحينَ النظرُ إلى هذهِ السَّماءِ بالعينِ العقليةِ، أو بالعينِ العلميةِ، هذهِ المرَّةَ؟ – فالسَّماءُ ذاتُ البُرُوجِ، أيًّا كانتْ تلك البُرُوجُ واقعًا، لا لونَ لَهَا، في واقعِ الأمرِ.
مرَّةً رابعةً وأخيرةً، «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، و«مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، أنَّهُ حتى في القرآنِ الكريمِ ذاتِهِ، مَثَلُهُ كَمَثَلِ أيِّ كتابٍ كريمٍ سَبَقَهُ في الزَّمَانِ والمَكَانِ، ثَمَّةَ شكٌّ لا ريبَ فيهِ، منْ جانبٍ، وثَمَّةَ يقينٌ لا ريبَ فيهِ كذلك، منْ جانبٍ آخَرَ، شاءَ العَالِمُ العَلاَّمَةُ الحَصِيفُ النَّبِيهُ اللَّبِيبُ أمْ أبَى. فعلى سبيلِ التمثيلِ لا الحصْرِ، ها هنا: «مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ» (آل عمران: 7). وما «التشابُهُ»، ها هنا، سوى شكلٍ من أشكالِ «الشكِّ» أو «الرَّيْبِ» بعينِهِ، من ذاك الجانبِ الأوَّلِ، وما «الإحْكَامُ»، ها هنا، سوى نوعٍ من أنواعِ «اليقينِ» أو «اللارَيْبِ» بعينِ عينِهِ، من ذاك الجانبِ المقابلِ الثاني! ناهيكِ، بالطبعِ، عن وُقُوعِ الكاتبِ الصِّحَافيِّ المَعْنِيِّ، شاعرًا أو غيرَ شاعرٍ، في الشَّرَكِ الاِرْتِدَادِيِّ في الكتابةِ، حينما يتحدَّثُ ناقدًا وسَاخرًا عن عباراتٍ «يقينيَّةٍ» مُطْلَقَةٍ من على شاكلةِ «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، أو «مِمَّا لا يختلفُ فيهِ اثنانِ»، وحينما يستخدمُ في ذاتِ الحديثِ عباراتٍ «يقينيَّةً» مُطْلَقَةً تتشابهُ في المعنى وفي اجترارِ الفكراتِ من على هذه الشَّاكلةِ ذاتِها، ولكنَّها تتغايرُ في المبنى وفي اختيارِ المفرداتِ، وليسَ غيرَ ذلك. وعلى سبيلِ التمثيلِ لا الحصْرِ، كذلك، من تلك العباراتِ «اليقينيَّةِ» المُطْلَقَةِ، والجازمةِ كلَّ الجزْمِ، التي يكتظُّ بها أسلوبُهُ في ذلك المقالِ، والتي تبدأ بحُرُوفِ التوكيدِ المشبَّهةِ بالأفعالِ، ما يلي: «ما يجزمُ بأنَّ ما يتحكمُ في مثلِ هذهِ المواقفِ هو الترصُّدُ مع سبقِ الإصرارِ»، أو «لكنَّ اليقينَ ليسَ نعيمًا حتى لو شعرَ مَنْ أركنوا إليهِ بذلك»، أو «لأنَّ الشكَّ يدفعُ إلى استدعاءِ القرائنِ»، أو «فإنَّ احتمالَ الشكِّ ليسَ ميسورًا للجميعِ»، وغيرها، وغيرها.
وناهيكِ، بطبيعِةِ الحَالِ، والأنكى من ذلك كلِّهِ، عن وُقُوعِ الكاتبِ الصِّحَافيِّ المَعْنِيِّ، شاعرًا أو غيرَ شاعرٍ، في الشَّرَكِ الاِرْتِدَادِيِّ في الثقافةِ كذلك، حينما يتحدَّثُ واعظًا وواجسًا متوجِّسًا ومستشهِدًا بكلِّ ثقةِ نفسٍ بقولِ المُحَلِّلِ النفسانيِّ الألمانيِّ «أريش فروم» عن خوفِ الإنسانِ من الحريَّةِ ذاتِهَا، وعن هُروبِهِ من هذهِ الحريَّةِ لِمَا تقتضيهِ من مسؤوليةٍ كبيرةٍ، في حينِ أنَّ أريش فروم نفسَهُ كانَ قدِ استشهدَ، قَبْلَئِذٍ، بهذا القولِ عازيًا إيَّاهُ، بالحَقِّ والحَقيقِ، إلى مُعَلِّمِهِ الفَذِّ، المُحَلِّلِ النفسانيِّ النمسَاويِّ زيغموند فرويد!
*** *** ***
غياث المرزوق
لندن، 29 أيار 2018