كَيْفَ لِي أَنْ أُومِنَ بِإِلٰهٍ يَمْنَحُنِي عَقْلاً لِكَيْ أَدِلَّ بِظَاهِرِهِ دَلاًّ،
وَفي ذَاتِ ٱلآنِ يَمْنَعُنِي أَيَّمَا مَنْعٍ مِنْ أَنْ أَسْتَدِلَّ بِبَاطِنِهِ مُسْتَدِلاًّ؟
غَالِيلِيُو غَالِيلِيهْ
بَلَغَنِي بالأَمْسِ القريبِ كذلك، مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ على المَلأِ الأدْنَى، أَنَّ ثَمَّةَ العديدَ من فِصَاحِ الإعلاميينَ الذينَ تثيرُ أخلاقيَّاتُ مواقفِهم كلاميًّا، أو جُلِّها، من جَرَائِرِ هذا النظامِ الطُّغيانيِّ الجِسَامِ، أو ذاكَ، في هذا العالَمِ العربيِّ اللَّهِيفِ، إعجابًا شعبيًّا وجماهيريًّا لافتًا للعيانِ وللانتباهِ، يعمدونَ إلى التعبيرِ عن شيءٍ من أخلاقيَّاتِ مواقفِهم هذهِ تعبيرًا كتابيًّا، فيعمدونَ من ثمَّ إلى نشرِهِ في صحيفةٍ، أو أكثرَ، من تلك الصَّحَائفِ السياسيةِ اليوميةِ «المستقلَّةِ»، أو «غيرِ المستقلَّةِ»، بينَ الحينِ والآخَرِ. ومن أبرزِ هؤلاءِ الإعلاميينَ الفِصَاحِ في جَدَا هذا الزمانِ العربيِّ المُكْفَهِرِّ، زمنِ الرَّيْهِ والثوراتِ الشعبيةِ «الربيعيةِ» والثوراتِ المضادَّةِ «الخريفيةِ»، مَبْنًى (أو «السُّقُوطيةِ»، مَعْنًى)، مقدِّمُ البرنامجِ «الجَزْرَاوِيِّ» الشهيرِ «الاتِّجَاهُ المُعَاكِسُ»، فيصل القاسم، ذلكَ اللاَّسِنُ الفذُّ الغنيُّ عن التعريفِ بجَرَاءَةٍ وجَسَارَةٍ ليسَ لهما فعلٌ سوى أنْ تَشْرَحَا وأنْ تُثْلِجَا صُدورَ الكثيرِ من الغُضَابَى والسُّخَاطَى والحُناقَى من طاغيةٍ عتيٍّ مُصْطَنَعٍ معيَّنٍ، كمثلِ بشار الأسد أو عبد الفتاح السيسي أو خليفة بلقاسم حفتر، أو مَنْ شابَهَهُمْ. ومِنْ قبيلِ تساؤلٍ إرْدافيٍّ عابرٍ في شيءٍ يُشابهُ ما يُسمَّى بـ«اللاَّمُفَكَّر فيهِ» The Unthinkable، حَسْبَ مفهومِهِ «التحريميِّ» الظاهريِّ، أو الباطنيِّ، الواردِ في علمِ الاجتماعِ (أو السوسيولوجيا)، أو حتى في علمِ الإنسانِ (أو الأنثروݒولوجيا)، ثَمَّةَ أيضًا العديدُ من بِطَاحِ الإدغاميينَ الذينَ يميلونَ إلى طَرْحِ فحوى تساؤلِهِمْ بمثابةٍ من المثاباتِ، دونَ غيرِها: تُرى كيفَ وأنَّى لِلاسِنٍ فذٍّ غنيٍّ عن التعريفِ أنْ يأتيَ جَائحًا بهكذا جَرَاءَةٍ وهكذا جَسَارَةٍ، في جَدَا هذا الزمانِ العربيِّ المُكْفَهِرِّ بالذاتِ، وعلى الأخصِّ في مجتمعٍ يَرْسُفُ كلَّ الرَّسِيفِ والرَّسَفَانِ، شائيًا أمْ آبيًا، في أغلالِ القَمْعِ والقَسْرِ والقَهْرِ، على اختلافِ أشكالِها «الخِفَافِ» و«الثِّقَالِ» وما بينهما، مجتمعٍ رَسُوفٍ مَرْسُوفٍ قدْ تؤدِّي حتى سَقْطَةُ يَرَاعٍ، أو فَلْتَةُ لسانٍ (أو حتى زَلَّةُ أُذُنٍ، أو هَفْوَةُ عَيْنٍ)، بفردٍ «عزيزٍ» من أفرادِهِ إلى الاعتقالِ أو إلى الإقصاءِ أو حتى إلى القتلِ بعَيْنِهِ؟ – لا أحدَ مِنَّا، بطبيعةِ الحالِ، يعلمُ الجوابَ الصَّحيحَ إلاَّ «اللهُ»، إنْ لَمْ يمنعْنا أيَّ مَنْعٍ من أنْ نستدلَّ عليهِ بباطنِ العقلِ ذاتِهِ ولِذَاتِهِ استدلالاً جَليلاً، وَ/أوِ «الجَزْرَاوِيُّونَ» المَرْئِيُّونَ الذينَ يُقَيِّلُونَ على جَهْرِيَّةِ كلٍّ من الجانبِ الاقتصاديِّ والجانبِ الإداريِّ تَقْيِيلاً، وَ/أوِ «الجَزْرَاوِيُّونَ» اللامَرْئِيُّونَ الذينَ يسهرونَ على سِرِّيَّةِ كلٍّ من الجوانبِ الأُخرى سَهَرًا طويلاً – ويُقْصَدُ من هذهِ الجوانبِ الأخرى، والحالُ هذهِ، كلٌّ من الجانبِ الأمنيِّ الداخليِّ والجانبِ الأمنيِّ الخارجيِّ وما بينهما كذلك.
نعلمُ أوْ لا نعلمُ، ها هنا، ذاك هو التَّسَاؤلُ: هَلْ يكونُ نبيلاً لـ«العقلِ» حقًّا أنْ يشقى بسِهَامِ البَهِيتَةِ والتحيُّرِ والاِلتباسِ، أمْ يكونُ أنْبَلَ، لا بلْ أكثرَ نُبْلاً، لهذا «العقلِ» حقيقًا أن يرقى بأسِنَّةِ الرَّوْزِ والتنقُّبِ والتمعُّنِ في مسائلَ، دونَ ذلك، صَعْبَةِ المِراسِ؟ ففي كلٍّ من هٰتَيْنِ الحالتَيْنِ، مهما جارَ الزمانُ بجَوْرِهِ، لا أحدَ مِنَّا، بمُسَلَّمِ الأمرِ، خَلا أولئك السُّفَهَاءِ والمُرائينَ والمتملِّقينَ والمتزلِّفينَ الذينَ أُشِيرَ إليهم في موضعٍ آخَرَ، يَرْضَى صَاغِرًا مُتَضَعْضِعًا مُتَّضَعًا مُسْتكِينًا لِطُغْيانِ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ، أينما تواجدوا في هذا العالَمِ المُصَنَّفِ «عالَمًا ثالثًا» من لَدُنْ لَفِيفِ أسيادِهِمْ من المستعمِرينَ أصْلاً. نَعَمْ – مسألةُ «انبثاقِ الشَّيْءِ من نقيضِ الشَّيْءِ»، وما تقتضيهِ من ذاك الرَّوْزِ ومن ذينك التنقُّبِ والتمعُّنِ، كانتْ مثارَ سِجَالٍ ومِرَاءٍ ونِزَاعٍ بين الأفذاذِ من فلاسفةِ المُصُورِ منذ سالفِ العُصُورِ. نَعَمْ – من رَحِمِ الارتعادِ تنبثقُ الجَراءَةُ، ومن كَبِدِ الارتعاشِ تنبثقُ الجَسارَةُ، وحتى من قلبِ الحَياءِ تنبثقُ الوَقاحَةُ والصَّفاقَةُ والسَّلاقَةُ والسَّلاطةُ. وها هو الفيلسوفُ اليونانيُّ القديمُ أفلاطونُ مُدْرِكٌ هذه الحقيقةَ الشَّامِسَ الجَامِحَ حقَّ إدراكِها، ها هو مُدْرِكٌ إيَّاها في جَنَانِ ذلك المجتمعِ الأثينيِّ «ثابتِ الجَنَانِ»، قبلَ أكثرَ من أربعةٍ وعشرينَ قرنًا من الزمانِ، حينما قالَ قولتَهُ الشهيرةَ، ما معناه هنا: «مِنَ البَدِيهِيِّ جِدًّا أَنْ يَنْشَأَ الغَدْرُ مِنَ الوَفَاءِ، مِثْلَمَا يَنْشَأُ الاسْتِبْدَادُ مِنَ العَدْلِ، وَمِثْلَمَا يَنْشَأُ الاسْتِعْبَادُ مِنَ التَّحَرُّرِ». وليس لنا في هذا السياقِ، بالبداهةِ أيضًا، سوى أنْ نفهمَ من هذهِ القولةِ الشهيرةِ فهمًا بفحواءِ وُرُودِها العكسيِّ، على النحوِ التالي: «مِنَ البَدِيهِيِّ جِدًّا أَنْ يَنْشَأَ الوَفَاءُ مِنَ الغَدْرِ، مِثْلَمَا يَنْشَأُ العَدْلُ مِنَ الاسْتِبْدَادِ، وَمِثْلَمَا يَنْشَأُ التَّحَرُّرُ مِنَ الاسْتِعْبَادِ». حتى في القرآنِ الكريمِ، سَواءً كانَتْ قارِئَتُهُ الكريمةُ مُؤْمِنَةً أم مُلْحِدَةً أمْ في منزلةٍ بينَ المنزلتَيْنِ حتى، فإنَّ مسألةَ «انبثاقِ الشَّيْءِ من نقيضِ الشَّيْءِ» تلك لَمسألةٌ تكادُ أنْ تَسْتَبِيءَ مكانَ الصَّدارةِ في كلٍّ من العَالَمَيْنِ الغَيْبِيِّ واللاغَيْبِيِّ، على أكثرَ من صعيدٍ، بدءًا من «إعجازيَّاتِ» إخراجِ الحيِّ من الميِّتِ وإخراجِ الميِّتِ من الحيِّ (الروم: 19، إلخ)، ومرورًا بـ«جماليَّاتِ» إيلاجِ الليلِ في النهارِ وإيلاجِ النهارِ في الليلِ (فاطر: 13، إلخ)، وانتهاءً بـ«أخلاقياتِ» الحُبِّ واحْتِمالِ كَوْنِهِ شَرًّا والكُرْهِ واحْتِمالِ كَوْنِهِ خَيْرًا (البقرة: 216، إلخ)، من طرفٍ، وبـ«أخلاقياتِ» أصحابِ المَيْمَنَاتِ بماهيَّتِهِمْ وَعْدًا وأصحابِ المَشْأمَاتِ بماهيَّتِهِمْ وَعِيدًا (الواقعة: 8-9، إلخ)، من طرفٍ آخَرَ. من هنا، يتجلَّى ما جرتْ عَنْونَتُهُ، عن درايةٍ، مرارًا وتكرارًا بِـ«كتاب الأضدادِ» كلَّ التَّجلِّي كعنوانِ مؤلَّفٍ واحدٍ، أو أكثرَ، من بينِ مؤلَّفاتِ كلٍّ من جَهابذةِ اللسانِ والكَلِمِ البارزينَ والمُبَرِّزينَ، في العصرِ الوسيطِ، من مثلِ: قُطْرُب بن محمد المُسْتَنِير، وعبد الملك بن قريب الأصْمَعِيّ، والقاسم بن سَلاَّم الهَرَوِيّ، وعبد الله بن محمد التَّوَّزِيّ، ويعقوب بن إسْحَاق بن السِّكِّيت، وسهل بن محمد السِّجِسْتَانِيّ، ومحمد بن القاسم الأنْبَارِيّ، والحسن بن محمد الصَّغَانِيّ، وعبد الواحد بن علي العَسْكَرِيّ (المعروف بأبي الطيب اللغوي)، وسعيد بن الدهَّان البَغْدَادِيّ (المعروف بأبي محمد النحوي)، وغيرهم.
غيرَ أنَّ أخطرَ إشْكَالٍ وإعْضَالٍ جوهريَّيْنِ كامنَيْنِ في الوَعْيِ والإدراكِ العربيَّيْنِ، على الأقلِّ مدى القرنَيْنِ الأخيرَيْنِ من هذا الزمنِ الكالحِ، لا يتجسَّدانِ في حقيقةِ أنَّ هٰذَيْنِ الوَعْيَ والإدراكَ العربيَّيْنِ مشوَّهانِ ومشنَّعانِ في الصَّميمِ وحتى النُّخاعِ بسببٍ من ارتكابِ الخطأِ الجَسيمِ (عن قصدٍ أو عن غيرِ قصدٍ) في التفسيرِ والتأويلِ فحسبْ، بلْ يتجسَّمانِ كذلك في حقيقةِ أنَّ ثَمَّةَ في عُقولِ الكثيرِ من «ذوي العُقولِ» المُتَرَائينَ المُعَاصِرينَ حِرَانًا وتَصَلُّبًا لاعقلانيَّيْنِ مَرَضِيَّيْنِ في استمرارِ وفي دَيْمُومَةِ هذا الخطأِ الجَسيمِ بذاتهِ، وإلى حدِّ الذِّيَادِ المُسْتَقْتِلِ أيَّما استقْتالٍ عنهُ بلغةٍ طُغيانيةٍ مستبدَّةٍ لا تقبلُ الجدالَ ولا تقبلُ النقاشَ بأيِّ نحوٍ كانَ، ولا تختلفُ بالتالي أيَّ اختلافٍ عن لغةِ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ أنفسِهِمْ. ومن بينِ «ذوي العُقولِ» المُتَرَائينَ المُعَاصرينَ هؤلاءِ، يبرُزُ، في هذا العالَمِ الحَرْفيِّ الغريبِ والرَّقميِّ العجيبِ، مَنْ ينصِّبُ نفسَهُ آمِنًا مُطْمَئِنًّا بمنصبِ «كبيرِ العلماءِ اللغويِّينَ المَرْجِعيِّينَ»، أولئك الذين لا يُشَقُّ لهم أيُّ غبارٍ في قضايا التفسيرِ والتأويلِ وما إليهما، وبشهادةِ «حُسْنِ تفكيرٍ» منهُ هُوَ بالذاتِ وَهْوَ بكاملِ قدراتِهِ العقليةِ «التحليليةِ»، قبلَ كلِّ شيءٍ، وبشهاداتِ «حُسْنِ سُلوكٍ» من ثُلَّةِ مُريديهِ من المُتَوَازِرينَ والمُتَشَايِخِينَ والمُتَجامِعينَ وهُمْ بكاملِ قدراتِهِم العقليةِ «التركيبيةِ»، بعدَ كلِّ شيءٍ – «كبيرِ العلماءِ اللغويِّينَ المَرْجِعيِّينَ» ذاك الذي لا يتوانى ولا يمانعُ أيَّ ممانعةٍ، قطُّ، في تقديمِ نفسِهِ في كلِّ المناسباتِ، قيامًا وقعودًا، هكذا: ذو العقلِ «الباحثُ الجامعيُّ الألمعيُّ»، و/أو ذو الحِجَى «الݒروفيسور الإستيراتيجيُّ»، و/أو ذو النُّهَى «الدكتور التكتيكيُّ»، هادي حسن حمودي، الخبيرُ الأريبُ القديرُ الرَّهيبُ في «النَّأيِ كلِّ النَّأْيِ بالنفسِ عن تقويلِ القرآنِ ما لمْ يقُلْهُ» من ذاتِ اليمينِ، من جهةٍ، وفي «الدُّنُوِّ كلِّ الدُّنُوِّ بالنفسِ نفسِها من تخطِيءِ مَنْ يُخَطِّئُونَ القرآنَ ما لمْ يُخْطِئْهُ» من ذاتِ الشمالِ، من جهةٍ أُخرى. ومع ذلك، أيتها القارئةُ الكريمةُ، وبالرَّغْمِ من كلِّ ذلك، أيها القارئُ الكريمُ، تَرَيَانِهِ بكلِّ كينُونتِهِ وكِيَانِهِ أوَّلَ مَنْ يقوِّلونَ القرآنَ ما لمْ يقُلْهُ تقويلاً، وأوَّلَ مَنْ يُخَطِّئُونَ القرآنَ ما لمْ يُخْطِئْهُ تخطيئًا، دونَ أن يدريَ، في مُتونِ كتاباتِهِ «العَصْمَاءِ» أو حتى في حواشيها، لا بما كانَ يُقَوِّلُهُ من تقويلٍ، حقًّا، ولا حتى بما كانَ يُخَطِّئُهُ من تخطيءٍ، حقيقًا.
وقد تأوَّجتْ لادِرايةُ الباحثِ الجامعيِّ المُتَبَرْفِسِ والمُتَدَكْتِرِ المعنيِّ هذهِ في منهجِهِ العلميِّ الخارقِ للطبعِ والتطبُّعِ والمُخالفِ لكلِّ ما هو مألوفٌ، أو حتى لامألوفٌ، علميًّا في «تَفْسِيلِهِ» الاشتقاقيِّ المُزَنَّمِ (عن صُلْبَيِ «التفسيرِ» و«التأويل» كليهما، في آنٍ واحدٍ) لحُدوثِ حالةِ الرَّفْعِ في كلمةِ «الصَّابِئُونَ» بعدَ حُدوثِ الحرفِ المشبَّهِ بالفعلِ «إِنَّ» بعينهِ، خالطًا كلَّ الخلطِ بين ما يُسَمَّيانِ بـ«المعنى النحويِّ» وبـ«المعنى اللغويِّ» في الأدبِ والنقدِ الأدبيِّ (على الأقلِّ، بمُقتضى مفهومِ المعنى الأولِ عندَ العلاَّمةِ الفذِّ عبد القاهر الجُرْجَاني)، ومُقْحِمًا كلَّ الإقحامِ في المعنى الثاني «كلَّ مَنْ صَبَؤوا عن عبادةِ الأصنامِ (بمنْ فيهم الصَّابِئونَ من معشرِ المسلمينَ أنفسِهِم)»، كما في المثالِ التالي: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى» (المائدة: 69) – على الخلافِ كلِّهِ، مبنًى ومعنًى، من حُدوثِ حالةِ النَّصْبِ في الكلمةِ ذاتِها بعدَ حُدوثِ الحرفِ المشبَّهِ بالفعلِ ذاتِهِ، كما في المثالَيْن التاليَيْنِ: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ» (البقرة: 62)، و«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى» (الحج: 17). أقولُ «لادِرايةً»، ها هنا، لأنهُ لو كانَ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ «داريًا» بالفعلِ لَمَا راقَ لهُ في الظاهرِ استنفارُ مُريديهِ من المُتَوَازِرينَ والمُتَشَايِخِينَ والمُتَجامِعينَ وهُمْ بكاملِ قدراتِهِم العقليةِ «التلفيقيةِ» هذهِ المرَّةَ، ولَمَا راقَ لهُ في الباطنِ من ثمَّ استعداءُ هؤلاءِ المُريدينَ كافَّتِهِم على مَنْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ على المَلأِ الأدْنَى، وذلك من أجلِ اتِّهَامِهِ بكافَّةِ التُّهَمِ الإقصائيةِ والنهائيةِ والمُسْتَحْضَرَةِ استحضارًا مُسبقًا في أفئدتِهِمْ قبلَ أدمغتِهِمْ، من جُرْمِ «الرِّدَّةِ» إلى جُرْمِ «التَّكْفيرِ» إلى جَريمةِ «التَّهْويدِ» حتى (أي القولُ التلفيقيُّ بـ«يهوديَّةِ» القرآنِ، حسبَ مصطلحاتِهِم الببَّغائيةِ)، لمجرَّدِ أنهُ نوَّهَ بالحقِّ تنويهًا إلى تلك «اللادِرايةِ»، من خلالِ ما أبداهُ من مُلاحظاتٍ نقديةٍ بَنَّاءَةٍ كلَّ البناءِ وجَادَّةٍ كلَّ الجدِّ على حُزْمَةِ «إشراقاتٍ» ممَّا يُسَمَّى بـ«ثقافةِ التعليبِ الجاهزِ»، على النقيض من أيَّةِ حُزْمَةٍ مقابلةٍ أُخرى منْ «إرْهَاصَاتِ» ما يُمْكنُ أنْ يُدْعَى بـ« ثقافةِ التَّشْكِيكِ الرَّائزِ».
مرَّةً أٌخرى (للتأكيدِ الوَكِيدِ بأسلوبٍ مغايرٍ بعضَ الشيءِ)، أقولُ، وقد تأوَّجتْ لادِرايةُ الباحثِ الجامعيِّ المُتَبَرْفِسِ والمُتَدَكْتِرِ المعنيِّ، هادي حسن حمودي، في منهجِهِ العلميِّ الخارقِ للطبعِ والتطبُّعِ والمُخالفِ لكلِّ ما هو مألوفٌ، أو حتى لامألوفٌ، علميًّا في «تَفْسِيلِهِ» الاشتقاقيِّ المُزَنَّمِ (عن حَقْوَيِ «التفسيرِ» و«التأويل» كليهما، في آنٍ واحدٍ) لحُدوثِ حالةِ الرَّفْعِ في كلمةِ «الصَّابِئُونَ» بعدَ حُدوثِ الحرفِ المشبَّهِ بالفعلِ «إِنَّ» بعينهِ، خالطًا كلَّ الخلطِ بين ما يُسَمَّيانِ بـ«المعنى النحويِّ» وبـ«المعنى اللغويِّ» في الأدبِ والنقدِ الأدبيِّ (على الأقلِّ، بمُقتضى مفهومِ المعنى الأولِ عندَ العلاَّمةِ الفذِّ عبد القاهر الجُرْجَاني)، ومُقْحِمًا كلَّ الإقحامِ في المعنى الثاني «كلَّ مَنْ صَبَؤوا عن عبادةِ الأصنامِ (بمنْ فيهم الصَّابِئونَ من معشرِ المسلمينَ أنفسِهِم)»، كما في المثالِ التالي: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى» (المائدة: 69) – على الخلافِ كلِّهِ، مبنًى ومعنًى، من حُدوثِ حالةِ النَّصْبِ في الكلمةِ ذاتِها بعدَ حُدوثِ الحرفِ المشبَّهِ بالفعلِ ذاتِهِ، كما في المثالَيْن التاليَيْنِ: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ» (البقرة: 62)، و«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى» (الحج: 17). أقولُ «لادِرايةً»، ها هنا، لأنهُ لو كانَ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ المعنيُّ «داريًا» بالفعلِ لَمَا راقَ لهُ، في الظاهرِ، استنفارُ كلٍّ من مُريديهِ من المُتَوَازِرينَ والمُتَشَايِخِينَ والمُتَجامِعينَ وهُمْ بكاملِ قدراتِهِم العقليةِ «التلفيقيةِ» هذهِ المرَّةَ، ولَمَا راقَ لهُ، في الباطنِ، من ثمَّ استعداءُ هؤلاءِ المُريدينَ كافَّتِهِم على مَنْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ على المَلأِ الأدْنَى، وذلك من أجلِ اتِّهَامِهِ بكافَّةِ التُّهَمِ الإقصائيةِ والنهائيةِ والمُسْتَحْضَرَةِ استحضارًا مُسبقًا في أفئدتِهِمْ قبلَ أدمغتِهِمْ، من جُرْمِ «الرِّدَّةِ» إلى جُرْمِ «التَّكْفيرِ» إلى جَريمةِ «التَّهْويدِ» حتى (أي القولُ التلفيقيُّ بـ«يهوديَّةِ» القرآنِ، حسبَ مصطلحاتِهِم الببَّغائيةِ الجوفاءِ)، لمجرَّدِ أنهُ نوَّهَ بالحقِّ تنويهًا إلى تلك «اللادِرايةِ»، من خلالِ ما أبداهُ من مُلاحظاتٍ نقديةٍ بَنَّاءَةٍ كلَّ البناءِ وجَادَّةٍ كلَّ الجدِّ على حُزْمَةِ «إشراقاتٍ» ممَّا يُسَمَّى بـ«ثقافةِ التعليبِ الجاهزِ»، على النقيض الكاملِ من أيَّةِ حُزْمَةٍ مقابلةٍ أُخرى منْ «إرْهَاصَاتِ» ما يُمْكنُ أنْ يُدْعَى بـ« ثقافةِ التَّشْكِيكِ الرَّائزِ». وقد تبدَّتْ حُزْمَةُ «الإشراقاتِ» تلك أيَّما تَبَدٍّ في حلقاتِ ما كانَ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ ذاتُهُ يُسَمِّيهِ بـ«شيءٌ مِنَ اللغةِ»، حلقاتٍ نُشِرَتْ تباعًا في صحيفةِ «القدس العربي» منذُ حَوالي حَوْلٍ من الزمانِ، فكانتْ بالتالي مَدْعاةً حَمَاسِيَّةً، لا بلْ تَحَمُّسِيَّةً، في لجُوءِ المُتَشَايِخِينَ «الوَرِعينَ» و«الأتقياءِ» من أولئك المُريدينَ، دونَ سواهُم، إلى الاستشهادِ الجَهُولِ والحَرونِ على طريقةِ «انصُرْ أخاكَ ظالمًا، أو ظالمًا، لا مظلومًا» بأحاديثَ نبويَّةٍ، تقريظًا وتَلَهْوُقًا لـ«أهلِ العراقِ» باعتبارِ الباحثِ الجامعيِّ المُتَبَرْفِسِ والمُتَدَكْتِرِ ذاتِهِ متحدِّرًا كلَّ التحدُّرِ منهم، على الرَّغمِ من أنَّ تلك الأحاديثَ النبويَّةَ ذواتِها لَأحاديثُ مُخْتَلَقَةٌ (أو موضوعةٌ، بالاصطلاحِ) قدْ ثَبُتَ بطلانُها وزيفُها ونكرانُها منذ قرونٍ وقرونٍ، كالحديثِ الذي يزعمُ نقلاً عن دُعاءِ محمدٍ بأنَّ اللهَ قالَ مخاطبًا إبراهيمَ إنَّهُ (أي الله) «قدْ جعلَ خزائنَ علمِهِ في أهلِ العراقِ، دونَ غيرهِمْ»! – ولَكُمَا أنْ تتخيَّلا، أيَّتُها القارئةُ الكريمةُ وأيُّها القارئُ الكريمُ، في هذهِ القرينةِ بالذاتِ، مدى انتفاشِ أرياشِ المَعْنيِّينَ بالأمرِ من هكذا تقريظٍ منقُولٍ، ومدى انتفاخِ أرْؤُسِهِمْ من هكذا تَلَهْوُقٍ مصقُولٍ، وعلى رأسِهِم، بطبيعِةِ الحالِ، الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ المعنيُّ بـ«التَفْسِيلِ» الاشتقاقيِّ «المعقُولِ».
ليسَ المَرَامُ من هذا المقالِ البسيطِ أنْ يُماطَ اللثامُ عن قضايا «تَفْسِيلِيَّةٍ» قدْ عَفَّسَ فيها هذا الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ تَعْفيسًا إلى حدِّ الامتهانِ والابتذالِ، بحرفيَّتَيْهِمَا (وعلى فكرةٍ، فإنَّ معنَيَيِ «الامتهانِ» و«الابتذالِ» لَمَعْنَيَانِ أساسيَّانِ من معاني الفعلِ الثلاثيِّ المُجَرَّدِ «عَفَسَ»، في اللغةِ العربيةِ) – هذهِ القضايا «التَّفْسِيلِيَّةُ» بالذَّوَاتِ، إنْ جاءَ للحقِّ وللحقيقِ، إنَّما تحتاجُ إلى مقالاتٍ تفصيليَّةٍ معمَّقةٍ جِدِّ خاصَّةٍ، وإلى مجالاتٍ تأصيليَّةٍ موثَّقةٍ جِدِّ خاصَّةٍ كذلك. ليسَ المَرَامُ، إذنْ، في معرضِ الكلامِ عن هكذا لُغَةٍ نموذجيَّةٍ أن تُشْرَحَ بعضَ الشَّرْحِ من حيثُ استقصاءُ جانبِها اللسانيِّ، بَلْ المَرَامُ هنا أن تُشَرَّحَ هكذا لُغَةٌ نموذجيَّةٌ بعضَ التَّشْرِيحِ من حيثُ استكْنَاهُ جانبِها النفسانيِّ، في الحَيِّزِ الأوَّلِ. بصريحِ العبارَةِ، أوَّلاً وآخرًا، هكذا لُغَةٌ نموذجيَّةٌ يجيءُ بها جيئةً هكذا باحثٌ جامعيٌّ مُتَبَرْفِسٌ مُتَدَكْتِرٌ لا تعدو أن تكونَ، في أرقى وأسمى هيئاتِها، تمثيلاً «واقعيًّا» ملمُوسًا هو أدنى وأزرى ما يُمكنُ أنْ يكونَ تمثيلاُ، على أرضِ الواقع، لِمَا يُسَمِّيهِ المحلِّلُ النفسانيُّ الفرنسيُّ جاكْ لاكانُ اصطلاحًا بـ«الخطاب الجامعيّ» University Discourse، أو ما يدعوهُ كذلك في كثيرٍ من الأحايينِ تهكُّمًا واستهجانًا واستخفافًا بـ«الخطاب الأكاديميّ» Academic Discourse، وذلك في إطارِ نظريَّتِهِ «اللغويةِ-النفسيةِ» الشهيرةِ عن بِنَى «الخطاباتِ الأربعةِ» وعن تجلِّيها في الحَيَواتِ الذهنيةِ، أو حتى في الحَيَواتِ العاطفيةِ، جُلِّها. وبناءً على ذلك، تتميَّزُ هذهِ الخطاباتُ الأربعةُ عن بعضِها البعضِ تميُّزًا سُكُونِيًّا لاكشفيًّا، إنْ جازَ القولُ، ولكنَّها تتواشَجُ فيما بينَها تواشُجًا حَرَكِيًّا كَشْفِيًّا: إذْ يَبِينُ الخطابُ الجامعيُّ (أو الأكاديميُّ) هذا، فيما لهُ مِسَاسٌ بترتيبهِ المبنيِّ على شدَّةِ تأثيرِهِ واشتدادِ هيمنتِهِ في تلك الحَيَواتِ الذهنيةِ (أو العاطفيةِ)، بيانًا لَحْقِيًّا بعدَ «الخطابِ السِّيادِيِّ» (الأوَّلِ) تحديدًا، من زاويةٍ، ويَبِينُ علاوةً عليهِ بيانًا سَبْقِيًّا قبلَ كلٍّ من «الخطابِ الهُرَاعِيِّ (أو الهستيريِّ)» (الثالثِ) و«الخطابِ العُصَابيِّ (أو التحليليِّ)» (الرابعِ)، من زاويةٍ أُخرى. وإنْ دلَّ هذا الترتيبُ التأثيريُّ الهَيْمَنِيُّ على شيءٍ فإنَّهُ يدُلُّ على استنادِ تداعياتِ الخطابِ الجامعيِّ (أو الأكاديميِّ) استنادًا ضمنيًّا مباشرًا، أو غيرَ مباشرٍ، إلى تداعياتِ الخطابِ السِّيادِيِّ تحديدًا، كذلك. وقد عَمَدَ لاكانُ نفسُهُ إلى اشتقاقِ مفهومِ هذا الخطابِ السِّيادِيِّ بدورهِ، في الأصلِ، من ذلك التعالقِ الجدليِّ التَّنَافَوِيِّ ما بينَ السيِّدِ الآمِرِ والعَبْدِ المأمُورِ – أيْ أنَّ كلاًّ منهما يَسْعَى إلى ابتناءِ الآخَرِ وإلى انتقاضِهِ في آنٍ واحدٍ، حسبما كانَ يرتئيهِ الفيلسوفُ الألمانيُّ جورج فريدْريك هيغِل. ويقتضي هذا الارتئاءُ بدورِهِ، هو الآخَرُ، منطقًا جدليًّا تَنَافَوِيًّا بأنَّ كلاًّ من السيِّدِ الآمِرِ والعَبْدِ المأمُورِ مسلوبُ الحُريَّةِ، في آخِرِ المطافِ: العبدُ المأمُورُ مسلوبةٌ حُريَّتُهُ بمقتضى دَوَامِ سيطرةِ السيِّدِ الآمِرِ عليهِ، من ناحيةٍ أولى، والسيِّدُ الآمِرُ مسلوبةٌ حُريَّتُهُ كذلك بمقتضى سَعْيِهِ (الاسْتِرْقاقيِّ) الدَّؤوبِ إلى صَوْنِ دَوَامِ هذه السيطرةِ على العبدِ المأمُورِ، من ناحيةٍ أُخرى – تمامًا مثلما أنَّ كلاًّ من السَّجَّانِ الناظِرِ والسَّجِينِ المنظُورِ مسلوبُ الحريَّةِ بمُوجبِ المنطقِ الجدليِّ التَّنَافَوِيِّ عينِهِ، وتمامًا مثلما أنَّ كلاًّ من الطاغيةِ العتيِّ والشعبِ المَعْتِيِّ (عليهِ) مسلوبُ الحريَّةِ بمُوجبِ المنطقِ الجدليِّ التَّنَافَوِيِّ عينِ عينِهِ، المنطقِ الذي لا يني يبرهنُ، في جوهرِهِ الاستدلاليِّ الكَنِينِ، على حتميَّةِ مسألةِ «انبثاقِ الشَّيْءِ من نقيضِ الشَّيْءِ» الآنفةِ الذكرِ في بداية هذا المقالِ، في سياقِ انبثاقِ جَرَاءَةِ وجَسَارةِ ذاك الإعلاميِّ اللاَّسِنِ المعنيِّ من صُلْبِ مجتمعٍ مقيَّدٍ ومكبَّلٍ، من قمَّةِ الرأسِ إلى أخمصِ القدمينِ، ولكنْ من منظارٍ فلسفيٍّ منطقيٍّ آخَرَ.
وهكذا، وبمثابةٍ نفسيَّةٍ لا تختلفُ عن تلك المثابةِ الفلسفيةِ التي سبقتْها للتوِّ، من حيثُ المبدأُ، تتبدَّى إرهاصاتُ «المنطقِ الجدليِّ التَّنَافَوِيِّ» المُتَكَلَّمِ عنهُ، في هذا السياقِ، على النحوِ التالي: فمن جانبٍ أوَّلَ، ينبثقُ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ ذاتُهُ من «آخَرِهِ» هَائجًا أيَّمَا اهتياجٍ، حينما يُعلنُ، أو يظنُّ أنَّهُ يُعلنُ، استنطاقَ واستجوابَ ما بحوزتِهِ عنِ الحَقِّ من علمٍ ذاتيٍّ، أو من علمٍ موضوعيٍّ، من أجلِ الحَقِّ ذاتِهِ، وذلك التماسًا للوقوفِ بعقلانيَّةٍ لامَرَضِيَّةٍ وقوفًا «حَرُونًا» «متصلِّبًا» في وجهِ الطُّغيانِ بكلِّ أشكالِهِ قدَّامَ العراقِ وقدَّامَ العالَمِ، على حَدٍّ سَوَاءٍ؛ ومن جانبٍ ثانٍ، ينبثقُ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ ذاتُهُ من «ذاتِهِ» حَائجًا أيَّما احتياجٍ هذهِ المرةَ، حينما يُعلنُ ها هنا، دونَ أنْ يظنَّ أنَّهُ يُعلنُ، استغلاقَ واستطباقَ ما بجعبتهِ عن «النَّحْوِ» من علمٍ ذاتيٍّ، أو من علمٍ موضوعيٍّ، من أجلِ «النَّحْوِ» ذاتِهِ، وذلك التماسًا للوقوفِ بلاعقلانيَّةٍ مَرَضِيَّةٍ وقوفًا «حَرُونًا» «متصلِّبًا» في وجهِ «تخطيءِ» القرآنِ و«تقويلِهِ»، رغمَ جهلِهِ الأَتَمِّ بما ارتكبَهُ هو ذاتُهُ من تخطيءٍ وتقويلٍ، ورغمَ ذَوْدِهِ الأَشَدِّ حِرَانًا والأَشَدِّ تصلُّبًا عن هذا الجهلِ، وبلغةٍ أكثرَ طُغيانيَّةً حتى من لغةِ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ أنفسِهِمْ. أقولُ «حَائجًا أيَّما احتياجٍ هذهِ المرةَ»، من هذا الجانبِ الآخَرِ بالذاتِ، لماذا؟ – لأنَّ الباحثَ الجامعيَّ المُتَبَرْفِسَ والمُتَدَكْتِرَ ذاتَهُ، من خلالِ «خروجهِ» المزعومِ عن طاعةِ الطاغيةِ العراقيِّ المعيَّنِ، أيًّا كانَ، إنَّما هو في أمسِّ حاجةٍ إلى اختلاقِ طاغيةٍ عراقيٍّ، أو لاعراقي، آخَرَ من ذاتِهِ ولِذاتِهِ في التعنُّتِ في الرَّأْيِ النحويِّ والتشبُّثِ بهذا الرَّأْيِ، وذلك سَعْيًا وراءَ مَلْءِ فراغٍ أو سَدِّ نقصٍ في تكوينهِ النفسانيِّ إجمالاً، أو سَعْيًا وراءَ استجلابِ توازنٍ نفسانيٍّ من نوعٍ يترتَّبُ على نوعيةِ عيشِ الحياةِ اللامألوفةِ في «البُعادِ»، سواءً كانَ هذا «السَّعْيُ» الازدواجيُّ سَعْيًا واعيًا أم سَعْيًا لاواعيًا، وسواءً كانَ ذاك «الخروجُ عنِ الطاعةِ» المزعومُ خروجًا حقيقيًّا أم خروجًا مُزَيَّفًا. وهكذا، أيضًا، ينجلي ما يَخالُ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ أنَّ «اجتهادَهُ» المَدِيدَ والسَّدِيدَ في التقويمِ العلميِّ (أو المعرفيِّ) في قضايا «التَفْسِيلِ» الاشتقاقيِّ الآنفةِ الذكرِ إنَّما هو «اجتهادٌ بنائيٌّ تشييدِيٌّ» في صَالحِ كلٍّ من «اللغةِ العربيةِ التليدةِ» و«الأُمَّةِ الأرَبِيَّةِ العتيدةِ»، بوصفِها ناطقةً على مَرِّ الزمانِ وجَرِّ المكانِ بهذهِ اللغةِ المجيدةِ، ينجلي كلَّ الانجلاءِ أنَّهُ، من وراءِ هكذا «اجتهادٍ جَهيدٍ» مَدِيدٍ وسَديدٍ في التَّعْوِيجِ العلميِّ (أو المعرفيِّ) في قضايا «التَفْسِيلِ» الاشتقاقيِّ ذاتِها، لا يعدو أن يكونَ، ها هنا في المقابلِ، «اجتهادًا هَدْمِيًّا تقويضيًّا» في طالحِ كلٍّ من هذه «اللغةِ التليدةِ» بذاتها وهذه «الأُمَّةِ العتيدةِ» في حَدِّ ذاتِها، في حقيقةِ الأمر. ذلك لأنَّ تداعياتِ الخطابِ الجامعيِّ (أو الأكاديميِّ) المُتَحَدَّثِ عنهُ، بوصْفِهِ خطابًا قائمًا، في الأساسِ، على تداعياتِ ما يُسَمَّى صَحًّا بـ«الخطابِ المُؤَسْأَسِ» Institutionalized Discourse تحديدًا، لا تقومُ أساسًا على نقلِ تَنْوِيرَاتِ العِلْمِ (أو المعرفةِ) من عقلٍ تفكُّرِيٍّ مُرْسِلٍ إلى عقلٍ تفكُّرِيٍّ مستقبِلٍ نقلاً إنتاجيًّا إيجابيًّا وإبداعيًّا، بلْ تقومُ أساسًا على نقلِ تَظْلِيمَاتِ القُوَّةِ (أو السُّلْطةِ) من آلةٍ تَفَوُّهِيَّةٍ فاعلةٍ إلى آلةٍ تَفَوُّهِيَّةٍ منفعلةٍ (أو، بالحَرِيِّ، مفعولٍ بها) نقلاً استهلاكيًّا سلبيًّا وإخفاقيًّا (أو حتى «إهْلاكِيًّا» و«إبَادِيًّا» و«إفْنائِيًّا»، بكل ما تحملهُ هذهِ الكلماتُ من معنى دليلٍ، أو من معانٍ دليلةٍ). بوجيزِ العبارةِ، بعدَ كلِّ هذا الاسترسالِ وكلِّ هذا الإسهابِ المقصُودَيْنِ، فإنَّ الباحثَ الجامعيَّ المُتَبَرْفِسَ والمُتَدَكْتِرَ ذاتَهُ إنْ هو إلاَّ تجسيدٌ لِذاتِ الآلةِ التَفَوُّهِيَّةِ الفاعلةِ ذاتِها، في أحسنِ أحوالِهِ، وإنَّ مُريديهِ من المُتَوَازِرينَ والمُتَشَايِخِينَ والمُتَجامِعينَ كافَّتِهِمْ إنْ هُمْ إلاَّ تجسيماتٌ لِذواتِ الآلاتِ التَفَوُّهِيَّةِ المنفعلةِ (أو المفعولِ بها) ذواتِها، في أحسنِ أحوالهم، كذلك.
ناهيكُما، بالطبعِ، عن وقوعِ الباحثِ الجامعيِّ المُتَبَرْفِسِ والمُتَدَكْتِرِ ذاتِهِ، شاعرًا أو غيرَ شاعرٍ، في الشَّرَكِ الاِرْتِدَادِيِّ في التناقضِ بين ما ظَهَرَ من الإيمانِ وما بَطَنَ من الكُفْرِ، من طرفٍ، حينما يحمِّلُ القرآنَ ما لا يحمِلُهُ بأيِّ نَحْوٍ كانَ بتاتًا من جرَّاءِ ما انتهجَهُ من منهجٍ «تَفْسِيلِيٍّ» غرائبيٍّ وعجائبيٍّ. وناهيكُما، بطبيعةِ الحالِ، عن وقوعِ الإعلاميِّ اللاَّسِنِ الفذِّ ذاتِهِ، شاعرًا أو غيرَ شاعرٍ، في الشَّرَكِ الاِرْتِدَادِيِّ في التناقضِ بين ما جَلِيَ من الإيمانِ وما خَفِيَ من الإلحادِ، من طرفٍ آخَرَ، عندما يقولُ، في سياقِ نقدِهِ الجَزْمِيِّ للتعصُّبِ الأيديولوجيِّ (الدينيِّ)، قولاً لاهوتيَّا جَازمًا بأنَّهُ «لا أحدَ يملكُ ناصيةَ الحقيقةِ كاملةً غيرُ اللهِ»، وعندما يستشهدُ استشهادًا، في الوقتِ نفسِهِ، برأيٍ فلسفيٍّ أكثرَ جَزْمًا من ارْتِئَاءِ الفيلسوفِ الألمانيِّ فريدْريك نيتشه عن فَشَلِ المرءِ في التخلِّي عن أوهامٍ عاشَ عليها طوالَ عمرهِ، وذلك خوفًا من الانهيارِ كلِّهِ وخوفًا من التردِّي والسُّقُوطِ في حَضيضِ الهَاويةِ.
ومَنْ مِنَّا الآنَ، في هذا الزمانِ الفُضُوليِّ الخَاطِفِ، لا يعلمُ أنَّ هذا الفيلسوفَ عينَهُ كانَ من أوائلِ الملحدينَ بوُجُودِ اللهِ أصلاً، لا بلْ كانَ من أوائلِ المؤمنينَ بـ«مَوْتِ اللهِ»، بعبارةٍ فلسفيةٍ (عدميةٍ) أقربَ إليهِ – خُصُوصًا وأنَّهُ كانَ يشيرُ بتلك «الأوهامِ» التي حَيِيَ الإنسانُ عليها مَدَى حياتِهِ إلى «أوهامِ الإيمانِ بوُجُودِ اللهِ»، في حَدِّ ذاتِهَا؟
*** *** ***
غياث المرزوق
دبلن، 19 حزيران 2018
وَفي ذَاتِ ٱلآنِ يَمْنَعُنِي أَيَّمَا مَنْعٍ مِنْ أَنْ أَسْتَدِلَّ بِبَاطِنِهِ مُسْتَدِلاًّ؟
غَالِيلِيُو غَالِيلِيهْ
بَلَغَنِي بالأَمْسِ القريبِ كذلك، مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ على المَلأِ الأدْنَى، أَنَّ ثَمَّةَ العديدَ من فِصَاحِ الإعلاميينَ الذينَ تثيرُ أخلاقيَّاتُ مواقفِهم كلاميًّا، أو جُلِّها، من جَرَائِرِ هذا النظامِ الطُّغيانيِّ الجِسَامِ، أو ذاكَ، في هذا العالَمِ العربيِّ اللَّهِيفِ، إعجابًا شعبيًّا وجماهيريًّا لافتًا للعيانِ وللانتباهِ، يعمدونَ إلى التعبيرِ عن شيءٍ من أخلاقيَّاتِ مواقفِهم هذهِ تعبيرًا كتابيًّا، فيعمدونَ من ثمَّ إلى نشرِهِ في صحيفةٍ، أو أكثرَ، من تلك الصَّحَائفِ السياسيةِ اليوميةِ «المستقلَّةِ»، أو «غيرِ المستقلَّةِ»، بينَ الحينِ والآخَرِ. ومن أبرزِ هؤلاءِ الإعلاميينَ الفِصَاحِ في جَدَا هذا الزمانِ العربيِّ المُكْفَهِرِّ، زمنِ الرَّيْهِ والثوراتِ الشعبيةِ «الربيعيةِ» والثوراتِ المضادَّةِ «الخريفيةِ»، مَبْنًى (أو «السُّقُوطيةِ»، مَعْنًى)، مقدِّمُ البرنامجِ «الجَزْرَاوِيِّ» الشهيرِ «الاتِّجَاهُ المُعَاكِسُ»، فيصل القاسم، ذلكَ اللاَّسِنُ الفذُّ الغنيُّ عن التعريفِ بجَرَاءَةٍ وجَسَارَةٍ ليسَ لهما فعلٌ سوى أنْ تَشْرَحَا وأنْ تُثْلِجَا صُدورَ الكثيرِ من الغُضَابَى والسُّخَاطَى والحُناقَى من طاغيةٍ عتيٍّ مُصْطَنَعٍ معيَّنٍ، كمثلِ بشار الأسد أو عبد الفتاح السيسي أو خليفة بلقاسم حفتر، أو مَنْ شابَهَهُمْ. ومِنْ قبيلِ تساؤلٍ إرْدافيٍّ عابرٍ في شيءٍ يُشابهُ ما يُسمَّى بـ«اللاَّمُفَكَّر فيهِ» The Unthinkable، حَسْبَ مفهومِهِ «التحريميِّ» الظاهريِّ، أو الباطنيِّ، الواردِ في علمِ الاجتماعِ (أو السوسيولوجيا)، أو حتى في علمِ الإنسانِ (أو الأنثروݒولوجيا)، ثَمَّةَ أيضًا العديدُ من بِطَاحِ الإدغاميينَ الذينَ يميلونَ إلى طَرْحِ فحوى تساؤلِهِمْ بمثابةٍ من المثاباتِ، دونَ غيرِها: تُرى كيفَ وأنَّى لِلاسِنٍ فذٍّ غنيٍّ عن التعريفِ أنْ يأتيَ جَائحًا بهكذا جَرَاءَةٍ وهكذا جَسَارَةٍ، في جَدَا هذا الزمانِ العربيِّ المُكْفَهِرِّ بالذاتِ، وعلى الأخصِّ في مجتمعٍ يَرْسُفُ كلَّ الرَّسِيفِ والرَّسَفَانِ، شائيًا أمْ آبيًا، في أغلالِ القَمْعِ والقَسْرِ والقَهْرِ، على اختلافِ أشكالِها «الخِفَافِ» و«الثِّقَالِ» وما بينهما، مجتمعٍ رَسُوفٍ مَرْسُوفٍ قدْ تؤدِّي حتى سَقْطَةُ يَرَاعٍ، أو فَلْتَةُ لسانٍ (أو حتى زَلَّةُ أُذُنٍ، أو هَفْوَةُ عَيْنٍ)، بفردٍ «عزيزٍ» من أفرادِهِ إلى الاعتقالِ أو إلى الإقصاءِ أو حتى إلى القتلِ بعَيْنِهِ؟ – لا أحدَ مِنَّا، بطبيعةِ الحالِ، يعلمُ الجوابَ الصَّحيحَ إلاَّ «اللهُ»، إنْ لَمْ يمنعْنا أيَّ مَنْعٍ من أنْ نستدلَّ عليهِ بباطنِ العقلِ ذاتِهِ ولِذَاتِهِ استدلالاً جَليلاً، وَ/أوِ «الجَزْرَاوِيُّونَ» المَرْئِيُّونَ الذينَ يُقَيِّلُونَ على جَهْرِيَّةِ كلٍّ من الجانبِ الاقتصاديِّ والجانبِ الإداريِّ تَقْيِيلاً، وَ/أوِ «الجَزْرَاوِيُّونَ» اللامَرْئِيُّونَ الذينَ يسهرونَ على سِرِّيَّةِ كلٍّ من الجوانبِ الأُخرى سَهَرًا طويلاً – ويُقْصَدُ من هذهِ الجوانبِ الأخرى، والحالُ هذهِ، كلٌّ من الجانبِ الأمنيِّ الداخليِّ والجانبِ الأمنيِّ الخارجيِّ وما بينهما كذلك.
نعلمُ أوْ لا نعلمُ، ها هنا، ذاك هو التَّسَاؤلُ: هَلْ يكونُ نبيلاً لـ«العقلِ» حقًّا أنْ يشقى بسِهَامِ البَهِيتَةِ والتحيُّرِ والاِلتباسِ، أمْ يكونُ أنْبَلَ، لا بلْ أكثرَ نُبْلاً، لهذا «العقلِ» حقيقًا أن يرقى بأسِنَّةِ الرَّوْزِ والتنقُّبِ والتمعُّنِ في مسائلَ، دونَ ذلك، صَعْبَةِ المِراسِ؟ ففي كلٍّ من هٰتَيْنِ الحالتَيْنِ، مهما جارَ الزمانُ بجَوْرِهِ، لا أحدَ مِنَّا، بمُسَلَّمِ الأمرِ، خَلا أولئك السُّفَهَاءِ والمُرائينَ والمتملِّقينَ والمتزلِّفينَ الذينَ أُشِيرَ إليهم في موضعٍ آخَرَ، يَرْضَى صَاغِرًا مُتَضَعْضِعًا مُتَّضَعًا مُسْتكِينًا لِطُغْيانِ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ، أينما تواجدوا في هذا العالَمِ المُصَنَّفِ «عالَمًا ثالثًا» من لَدُنْ لَفِيفِ أسيادِهِمْ من المستعمِرينَ أصْلاً. نَعَمْ – مسألةُ «انبثاقِ الشَّيْءِ من نقيضِ الشَّيْءِ»، وما تقتضيهِ من ذاك الرَّوْزِ ومن ذينك التنقُّبِ والتمعُّنِ، كانتْ مثارَ سِجَالٍ ومِرَاءٍ ونِزَاعٍ بين الأفذاذِ من فلاسفةِ المُصُورِ منذ سالفِ العُصُورِ. نَعَمْ – من رَحِمِ الارتعادِ تنبثقُ الجَراءَةُ، ومن كَبِدِ الارتعاشِ تنبثقُ الجَسارَةُ، وحتى من قلبِ الحَياءِ تنبثقُ الوَقاحَةُ والصَّفاقَةُ والسَّلاقَةُ والسَّلاطةُ. وها هو الفيلسوفُ اليونانيُّ القديمُ أفلاطونُ مُدْرِكٌ هذه الحقيقةَ الشَّامِسَ الجَامِحَ حقَّ إدراكِها، ها هو مُدْرِكٌ إيَّاها في جَنَانِ ذلك المجتمعِ الأثينيِّ «ثابتِ الجَنَانِ»، قبلَ أكثرَ من أربعةٍ وعشرينَ قرنًا من الزمانِ، حينما قالَ قولتَهُ الشهيرةَ، ما معناه هنا: «مِنَ البَدِيهِيِّ جِدًّا أَنْ يَنْشَأَ الغَدْرُ مِنَ الوَفَاءِ، مِثْلَمَا يَنْشَأُ الاسْتِبْدَادُ مِنَ العَدْلِ، وَمِثْلَمَا يَنْشَأُ الاسْتِعْبَادُ مِنَ التَّحَرُّرِ». وليس لنا في هذا السياقِ، بالبداهةِ أيضًا، سوى أنْ نفهمَ من هذهِ القولةِ الشهيرةِ فهمًا بفحواءِ وُرُودِها العكسيِّ، على النحوِ التالي: «مِنَ البَدِيهِيِّ جِدًّا أَنْ يَنْشَأَ الوَفَاءُ مِنَ الغَدْرِ، مِثْلَمَا يَنْشَأُ العَدْلُ مِنَ الاسْتِبْدَادِ، وَمِثْلَمَا يَنْشَأُ التَّحَرُّرُ مِنَ الاسْتِعْبَادِ». حتى في القرآنِ الكريمِ، سَواءً كانَتْ قارِئَتُهُ الكريمةُ مُؤْمِنَةً أم مُلْحِدَةً أمْ في منزلةٍ بينَ المنزلتَيْنِ حتى، فإنَّ مسألةَ «انبثاقِ الشَّيْءِ من نقيضِ الشَّيْءِ» تلك لَمسألةٌ تكادُ أنْ تَسْتَبِيءَ مكانَ الصَّدارةِ في كلٍّ من العَالَمَيْنِ الغَيْبِيِّ واللاغَيْبِيِّ، على أكثرَ من صعيدٍ، بدءًا من «إعجازيَّاتِ» إخراجِ الحيِّ من الميِّتِ وإخراجِ الميِّتِ من الحيِّ (الروم: 19، إلخ)، ومرورًا بـ«جماليَّاتِ» إيلاجِ الليلِ في النهارِ وإيلاجِ النهارِ في الليلِ (فاطر: 13، إلخ)، وانتهاءً بـ«أخلاقياتِ» الحُبِّ واحْتِمالِ كَوْنِهِ شَرًّا والكُرْهِ واحْتِمالِ كَوْنِهِ خَيْرًا (البقرة: 216، إلخ)، من طرفٍ، وبـ«أخلاقياتِ» أصحابِ المَيْمَنَاتِ بماهيَّتِهِمْ وَعْدًا وأصحابِ المَشْأمَاتِ بماهيَّتِهِمْ وَعِيدًا (الواقعة: 8-9، إلخ)، من طرفٍ آخَرَ. من هنا، يتجلَّى ما جرتْ عَنْونَتُهُ، عن درايةٍ، مرارًا وتكرارًا بِـ«كتاب الأضدادِ» كلَّ التَّجلِّي كعنوانِ مؤلَّفٍ واحدٍ، أو أكثرَ، من بينِ مؤلَّفاتِ كلٍّ من جَهابذةِ اللسانِ والكَلِمِ البارزينَ والمُبَرِّزينَ، في العصرِ الوسيطِ، من مثلِ: قُطْرُب بن محمد المُسْتَنِير، وعبد الملك بن قريب الأصْمَعِيّ، والقاسم بن سَلاَّم الهَرَوِيّ، وعبد الله بن محمد التَّوَّزِيّ، ويعقوب بن إسْحَاق بن السِّكِّيت، وسهل بن محمد السِّجِسْتَانِيّ، ومحمد بن القاسم الأنْبَارِيّ، والحسن بن محمد الصَّغَانِيّ، وعبد الواحد بن علي العَسْكَرِيّ (المعروف بأبي الطيب اللغوي)، وسعيد بن الدهَّان البَغْدَادِيّ (المعروف بأبي محمد النحوي)، وغيرهم.
غيرَ أنَّ أخطرَ إشْكَالٍ وإعْضَالٍ جوهريَّيْنِ كامنَيْنِ في الوَعْيِ والإدراكِ العربيَّيْنِ، على الأقلِّ مدى القرنَيْنِ الأخيرَيْنِ من هذا الزمنِ الكالحِ، لا يتجسَّدانِ في حقيقةِ أنَّ هٰذَيْنِ الوَعْيَ والإدراكَ العربيَّيْنِ مشوَّهانِ ومشنَّعانِ في الصَّميمِ وحتى النُّخاعِ بسببٍ من ارتكابِ الخطأِ الجَسيمِ (عن قصدٍ أو عن غيرِ قصدٍ) في التفسيرِ والتأويلِ فحسبْ، بلْ يتجسَّمانِ كذلك في حقيقةِ أنَّ ثَمَّةَ في عُقولِ الكثيرِ من «ذوي العُقولِ» المُتَرَائينَ المُعَاصِرينَ حِرَانًا وتَصَلُّبًا لاعقلانيَّيْنِ مَرَضِيَّيْنِ في استمرارِ وفي دَيْمُومَةِ هذا الخطأِ الجَسيمِ بذاتهِ، وإلى حدِّ الذِّيَادِ المُسْتَقْتِلِ أيَّما استقْتالٍ عنهُ بلغةٍ طُغيانيةٍ مستبدَّةٍ لا تقبلُ الجدالَ ولا تقبلُ النقاشَ بأيِّ نحوٍ كانَ، ولا تختلفُ بالتالي أيَّ اختلافٍ عن لغةِ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ أنفسِهِمْ. ومن بينِ «ذوي العُقولِ» المُتَرَائينَ المُعَاصرينَ هؤلاءِ، يبرُزُ، في هذا العالَمِ الحَرْفيِّ الغريبِ والرَّقميِّ العجيبِ، مَنْ ينصِّبُ نفسَهُ آمِنًا مُطْمَئِنًّا بمنصبِ «كبيرِ العلماءِ اللغويِّينَ المَرْجِعيِّينَ»، أولئك الذين لا يُشَقُّ لهم أيُّ غبارٍ في قضايا التفسيرِ والتأويلِ وما إليهما، وبشهادةِ «حُسْنِ تفكيرٍ» منهُ هُوَ بالذاتِ وَهْوَ بكاملِ قدراتِهِ العقليةِ «التحليليةِ»، قبلَ كلِّ شيءٍ، وبشهاداتِ «حُسْنِ سُلوكٍ» من ثُلَّةِ مُريديهِ من المُتَوَازِرينَ والمُتَشَايِخِينَ والمُتَجامِعينَ وهُمْ بكاملِ قدراتِهِم العقليةِ «التركيبيةِ»، بعدَ كلِّ شيءٍ – «كبيرِ العلماءِ اللغويِّينَ المَرْجِعيِّينَ» ذاك الذي لا يتوانى ولا يمانعُ أيَّ ممانعةٍ، قطُّ، في تقديمِ نفسِهِ في كلِّ المناسباتِ، قيامًا وقعودًا، هكذا: ذو العقلِ «الباحثُ الجامعيُّ الألمعيُّ»، و/أو ذو الحِجَى «الݒروفيسور الإستيراتيجيُّ»، و/أو ذو النُّهَى «الدكتور التكتيكيُّ»، هادي حسن حمودي، الخبيرُ الأريبُ القديرُ الرَّهيبُ في «النَّأيِ كلِّ النَّأْيِ بالنفسِ عن تقويلِ القرآنِ ما لمْ يقُلْهُ» من ذاتِ اليمينِ، من جهةٍ، وفي «الدُّنُوِّ كلِّ الدُّنُوِّ بالنفسِ نفسِها من تخطِيءِ مَنْ يُخَطِّئُونَ القرآنَ ما لمْ يُخْطِئْهُ» من ذاتِ الشمالِ، من جهةٍ أُخرى. ومع ذلك، أيتها القارئةُ الكريمةُ، وبالرَّغْمِ من كلِّ ذلك، أيها القارئُ الكريمُ، تَرَيَانِهِ بكلِّ كينُونتِهِ وكِيَانِهِ أوَّلَ مَنْ يقوِّلونَ القرآنَ ما لمْ يقُلْهُ تقويلاً، وأوَّلَ مَنْ يُخَطِّئُونَ القرآنَ ما لمْ يُخْطِئْهُ تخطيئًا، دونَ أن يدريَ، في مُتونِ كتاباتِهِ «العَصْمَاءِ» أو حتى في حواشيها، لا بما كانَ يُقَوِّلُهُ من تقويلٍ، حقًّا، ولا حتى بما كانَ يُخَطِّئُهُ من تخطيءٍ، حقيقًا.
وقد تأوَّجتْ لادِرايةُ الباحثِ الجامعيِّ المُتَبَرْفِسِ والمُتَدَكْتِرِ المعنيِّ هذهِ في منهجِهِ العلميِّ الخارقِ للطبعِ والتطبُّعِ والمُخالفِ لكلِّ ما هو مألوفٌ، أو حتى لامألوفٌ، علميًّا في «تَفْسِيلِهِ» الاشتقاقيِّ المُزَنَّمِ (عن صُلْبَيِ «التفسيرِ» و«التأويل» كليهما، في آنٍ واحدٍ) لحُدوثِ حالةِ الرَّفْعِ في كلمةِ «الصَّابِئُونَ» بعدَ حُدوثِ الحرفِ المشبَّهِ بالفعلِ «إِنَّ» بعينهِ، خالطًا كلَّ الخلطِ بين ما يُسَمَّيانِ بـ«المعنى النحويِّ» وبـ«المعنى اللغويِّ» في الأدبِ والنقدِ الأدبيِّ (على الأقلِّ، بمُقتضى مفهومِ المعنى الأولِ عندَ العلاَّمةِ الفذِّ عبد القاهر الجُرْجَاني)، ومُقْحِمًا كلَّ الإقحامِ في المعنى الثاني «كلَّ مَنْ صَبَؤوا عن عبادةِ الأصنامِ (بمنْ فيهم الصَّابِئونَ من معشرِ المسلمينَ أنفسِهِم)»، كما في المثالِ التالي: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى» (المائدة: 69) – على الخلافِ كلِّهِ، مبنًى ومعنًى، من حُدوثِ حالةِ النَّصْبِ في الكلمةِ ذاتِها بعدَ حُدوثِ الحرفِ المشبَّهِ بالفعلِ ذاتِهِ، كما في المثالَيْن التاليَيْنِ: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ» (البقرة: 62)، و«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى» (الحج: 17). أقولُ «لادِرايةً»، ها هنا، لأنهُ لو كانَ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ «داريًا» بالفعلِ لَمَا راقَ لهُ في الظاهرِ استنفارُ مُريديهِ من المُتَوَازِرينَ والمُتَشَايِخِينَ والمُتَجامِعينَ وهُمْ بكاملِ قدراتِهِم العقليةِ «التلفيقيةِ» هذهِ المرَّةَ، ولَمَا راقَ لهُ في الباطنِ من ثمَّ استعداءُ هؤلاءِ المُريدينَ كافَّتِهِم على مَنْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ على المَلأِ الأدْنَى، وذلك من أجلِ اتِّهَامِهِ بكافَّةِ التُّهَمِ الإقصائيةِ والنهائيةِ والمُسْتَحْضَرَةِ استحضارًا مُسبقًا في أفئدتِهِمْ قبلَ أدمغتِهِمْ، من جُرْمِ «الرِّدَّةِ» إلى جُرْمِ «التَّكْفيرِ» إلى جَريمةِ «التَّهْويدِ» حتى (أي القولُ التلفيقيُّ بـ«يهوديَّةِ» القرآنِ، حسبَ مصطلحاتِهِم الببَّغائيةِ)، لمجرَّدِ أنهُ نوَّهَ بالحقِّ تنويهًا إلى تلك «اللادِرايةِ»، من خلالِ ما أبداهُ من مُلاحظاتٍ نقديةٍ بَنَّاءَةٍ كلَّ البناءِ وجَادَّةٍ كلَّ الجدِّ على حُزْمَةِ «إشراقاتٍ» ممَّا يُسَمَّى بـ«ثقافةِ التعليبِ الجاهزِ»، على النقيض من أيَّةِ حُزْمَةٍ مقابلةٍ أُخرى منْ «إرْهَاصَاتِ» ما يُمْكنُ أنْ يُدْعَى بـ« ثقافةِ التَّشْكِيكِ الرَّائزِ».
مرَّةً أٌخرى (للتأكيدِ الوَكِيدِ بأسلوبٍ مغايرٍ بعضَ الشيءِ)، أقولُ، وقد تأوَّجتْ لادِرايةُ الباحثِ الجامعيِّ المُتَبَرْفِسِ والمُتَدَكْتِرِ المعنيِّ، هادي حسن حمودي، في منهجِهِ العلميِّ الخارقِ للطبعِ والتطبُّعِ والمُخالفِ لكلِّ ما هو مألوفٌ، أو حتى لامألوفٌ، علميًّا في «تَفْسِيلِهِ» الاشتقاقيِّ المُزَنَّمِ (عن حَقْوَيِ «التفسيرِ» و«التأويل» كليهما، في آنٍ واحدٍ) لحُدوثِ حالةِ الرَّفْعِ في كلمةِ «الصَّابِئُونَ» بعدَ حُدوثِ الحرفِ المشبَّهِ بالفعلِ «إِنَّ» بعينهِ، خالطًا كلَّ الخلطِ بين ما يُسَمَّيانِ بـ«المعنى النحويِّ» وبـ«المعنى اللغويِّ» في الأدبِ والنقدِ الأدبيِّ (على الأقلِّ، بمُقتضى مفهومِ المعنى الأولِ عندَ العلاَّمةِ الفذِّ عبد القاهر الجُرْجَاني)، ومُقْحِمًا كلَّ الإقحامِ في المعنى الثاني «كلَّ مَنْ صَبَؤوا عن عبادةِ الأصنامِ (بمنْ فيهم الصَّابِئونَ من معشرِ المسلمينَ أنفسِهِم)»، كما في المثالِ التالي: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى» (المائدة: 69) – على الخلافِ كلِّهِ، مبنًى ومعنًى، من حُدوثِ حالةِ النَّصْبِ في الكلمةِ ذاتِها بعدَ حُدوثِ الحرفِ المشبَّهِ بالفعلِ ذاتِهِ، كما في المثالَيْن التاليَيْنِ: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ» (البقرة: 62)، و«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى» (الحج: 17). أقولُ «لادِرايةً»، ها هنا، لأنهُ لو كانَ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ المعنيُّ «داريًا» بالفعلِ لَمَا راقَ لهُ، في الظاهرِ، استنفارُ كلٍّ من مُريديهِ من المُتَوَازِرينَ والمُتَشَايِخِينَ والمُتَجامِعينَ وهُمْ بكاملِ قدراتِهِم العقليةِ «التلفيقيةِ» هذهِ المرَّةَ، ولَمَا راقَ لهُ، في الباطنِ، من ثمَّ استعداءُ هؤلاءِ المُريدينَ كافَّتِهِم على مَنْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ على المَلأِ الأدْنَى، وذلك من أجلِ اتِّهَامِهِ بكافَّةِ التُّهَمِ الإقصائيةِ والنهائيةِ والمُسْتَحْضَرَةِ استحضارًا مُسبقًا في أفئدتِهِمْ قبلَ أدمغتِهِمْ، من جُرْمِ «الرِّدَّةِ» إلى جُرْمِ «التَّكْفيرِ» إلى جَريمةِ «التَّهْويدِ» حتى (أي القولُ التلفيقيُّ بـ«يهوديَّةِ» القرآنِ، حسبَ مصطلحاتِهِم الببَّغائيةِ الجوفاءِ)، لمجرَّدِ أنهُ نوَّهَ بالحقِّ تنويهًا إلى تلك «اللادِرايةِ»، من خلالِ ما أبداهُ من مُلاحظاتٍ نقديةٍ بَنَّاءَةٍ كلَّ البناءِ وجَادَّةٍ كلَّ الجدِّ على حُزْمَةِ «إشراقاتٍ» ممَّا يُسَمَّى بـ«ثقافةِ التعليبِ الجاهزِ»، على النقيض الكاملِ من أيَّةِ حُزْمَةٍ مقابلةٍ أُخرى منْ «إرْهَاصَاتِ» ما يُمْكنُ أنْ يُدْعَى بـ« ثقافةِ التَّشْكِيكِ الرَّائزِ». وقد تبدَّتْ حُزْمَةُ «الإشراقاتِ» تلك أيَّما تَبَدٍّ في حلقاتِ ما كانَ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ ذاتُهُ يُسَمِّيهِ بـ«شيءٌ مِنَ اللغةِ»، حلقاتٍ نُشِرَتْ تباعًا في صحيفةِ «القدس العربي» منذُ حَوالي حَوْلٍ من الزمانِ، فكانتْ بالتالي مَدْعاةً حَمَاسِيَّةً، لا بلْ تَحَمُّسِيَّةً، في لجُوءِ المُتَشَايِخِينَ «الوَرِعينَ» و«الأتقياءِ» من أولئك المُريدينَ، دونَ سواهُم، إلى الاستشهادِ الجَهُولِ والحَرونِ على طريقةِ «انصُرْ أخاكَ ظالمًا، أو ظالمًا، لا مظلومًا» بأحاديثَ نبويَّةٍ، تقريظًا وتَلَهْوُقًا لـ«أهلِ العراقِ» باعتبارِ الباحثِ الجامعيِّ المُتَبَرْفِسِ والمُتَدَكْتِرِ ذاتِهِ متحدِّرًا كلَّ التحدُّرِ منهم، على الرَّغمِ من أنَّ تلك الأحاديثَ النبويَّةَ ذواتِها لَأحاديثُ مُخْتَلَقَةٌ (أو موضوعةٌ، بالاصطلاحِ) قدْ ثَبُتَ بطلانُها وزيفُها ونكرانُها منذ قرونٍ وقرونٍ، كالحديثِ الذي يزعمُ نقلاً عن دُعاءِ محمدٍ بأنَّ اللهَ قالَ مخاطبًا إبراهيمَ إنَّهُ (أي الله) «قدْ جعلَ خزائنَ علمِهِ في أهلِ العراقِ، دونَ غيرهِمْ»! – ولَكُمَا أنْ تتخيَّلا، أيَّتُها القارئةُ الكريمةُ وأيُّها القارئُ الكريمُ، في هذهِ القرينةِ بالذاتِ، مدى انتفاشِ أرياشِ المَعْنيِّينَ بالأمرِ من هكذا تقريظٍ منقُولٍ، ومدى انتفاخِ أرْؤُسِهِمْ من هكذا تَلَهْوُقٍ مصقُولٍ، وعلى رأسِهِم، بطبيعِةِ الحالِ، الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ المعنيُّ بـ«التَفْسِيلِ» الاشتقاقيِّ «المعقُولِ».
ليسَ المَرَامُ من هذا المقالِ البسيطِ أنْ يُماطَ اللثامُ عن قضايا «تَفْسِيلِيَّةٍ» قدْ عَفَّسَ فيها هذا الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ تَعْفيسًا إلى حدِّ الامتهانِ والابتذالِ، بحرفيَّتَيْهِمَا (وعلى فكرةٍ، فإنَّ معنَيَيِ «الامتهانِ» و«الابتذالِ» لَمَعْنَيَانِ أساسيَّانِ من معاني الفعلِ الثلاثيِّ المُجَرَّدِ «عَفَسَ»، في اللغةِ العربيةِ) – هذهِ القضايا «التَّفْسِيلِيَّةُ» بالذَّوَاتِ، إنْ جاءَ للحقِّ وللحقيقِ، إنَّما تحتاجُ إلى مقالاتٍ تفصيليَّةٍ معمَّقةٍ جِدِّ خاصَّةٍ، وإلى مجالاتٍ تأصيليَّةٍ موثَّقةٍ جِدِّ خاصَّةٍ كذلك. ليسَ المَرَامُ، إذنْ، في معرضِ الكلامِ عن هكذا لُغَةٍ نموذجيَّةٍ أن تُشْرَحَ بعضَ الشَّرْحِ من حيثُ استقصاءُ جانبِها اللسانيِّ، بَلْ المَرَامُ هنا أن تُشَرَّحَ هكذا لُغَةٌ نموذجيَّةٌ بعضَ التَّشْرِيحِ من حيثُ استكْنَاهُ جانبِها النفسانيِّ، في الحَيِّزِ الأوَّلِ. بصريحِ العبارَةِ، أوَّلاً وآخرًا، هكذا لُغَةٌ نموذجيَّةٌ يجيءُ بها جيئةً هكذا باحثٌ جامعيٌّ مُتَبَرْفِسٌ مُتَدَكْتِرٌ لا تعدو أن تكونَ، في أرقى وأسمى هيئاتِها، تمثيلاً «واقعيًّا» ملمُوسًا هو أدنى وأزرى ما يُمكنُ أنْ يكونَ تمثيلاُ، على أرضِ الواقع، لِمَا يُسَمِّيهِ المحلِّلُ النفسانيُّ الفرنسيُّ جاكْ لاكانُ اصطلاحًا بـ«الخطاب الجامعيّ» University Discourse، أو ما يدعوهُ كذلك في كثيرٍ من الأحايينِ تهكُّمًا واستهجانًا واستخفافًا بـ«الخطاب الأكاديميّ» Academic Discourse، وذلك في إطارِ نظريَّتِهِ «اللغويةِ-النفسيةِ» الشهيرةِ عن بِنَى «الخطاباتِ الأربعةِ» وعن تجلِّيها في الحَيَواتِ الذهنيةِ، أو حتى في الحَيَواتِ العاطفيةِ، جُلِّها. وبناءً على ذلك، تتميَّزُ هذهِ الخطاباتُ الأربعةُ عن بعضِها البعضِ تميُّزًا سُكُونِيًّا لاكشفيًّا، إنْ جازَ القولُ، ولكنَّها تتواشَجُ فيما بينَها تواشُجًا حَرَكِيًّا كَشْفِيًّا: إذْ يَبِينُ الخطابُ الجامعيُّ (أو الأكاديميُّ) هذا، فيما لهُ مِسَاسٌ بترتيبهِ المبنيِّ على شدَّةِ تأثيرِهِ واشتدادِ هيمنتِهِ في تلك الحَيَواتِ الذهنيةِ (أو العاطفيةِ)، بيانًا لَحْقِيًّا بعدَ «الخطابِ السِّيادِيِّ» (الأوَّلِ) تحديدًا، من زاويةٍ، ويَبِينُ علاوةً عليهِ بيانًا سَبْقِيًّا قبلَ كلٍّ من «الخطابِ الهُرَاعِيِّ (أو الهستيريِّ)» (الثالثِ) و«الخطابِ العُصَابيِّ (أو التحليليِّ)» (الرابعِ)، من زاويةٍ أُخرى. وإنْ دلَّ هذا الترتيبُ التأثيريُّ الهَيْمَنِيُّ على شيءٍ فإنَّهُ يدُلُّ على استنادِ تداعياتِ الخطابِ الجامعيِّ (أو الأكاديميِّ) استنادًا ضمنيًّا مباشرًا، أو غيرَ مباشرٍ، إلى تداعياتِ الخطابِ السِّيادِيِّ تحديدًا، كذلك. وقد عَمَدَ لاكانُ نفسُهُ إلى اشتقاقِ مفهومِ هذا الخطابِ السِّيادِيِّ بدورهِ، في الأصلِ، من ذلك التعالقِ الجدليِّ التَّنَافَوِيِّ ما بينَ السيِّدِ الآمِرِ والعَبْدِ المأمُورِ – أيْ أنَّ كلاًّ منهما يَسْعَى إلى ابتناءِ الآخَرِ وإلى انتقاضِهِ في آنٍ واحدٍ، حسبما كانَ يرتئيهِ الفيلسوفُ الألمانيُّ جورج فريدْريك هيغِل. ويقتضي هذا الارتئاءُ بدورِهِ، هو الآخَرُ، منطقًا جدليًّا تَنَافَوِيًّا بأنَّ كلاًّ من السيِّدِ الآمِرِ والعَبْدِ المأمُورِ مسلوبُ الحُريَّةِ، في آخِرِ المطافِ: العبدُ المأمُورُ مسلوبةٌ حُريَّتُهُ بمقتضى دَوَامِ سيطرةِ السيِّدِ الآمِرِ عليهِ، من ناحيةٍ أولى، والسيِّدُ الآمِرُ مسلوبةٌ حُريَّتُهُ كذلك بمقتضى سَعْيِهِ (الاسْتِرْقاقيِّ) الدَّؤوبِ إلى صَوْنِ دَوَامِ هذه السيطرةِ على العبدِ المأمُورِ، من ناحيةٍ أُخرى – تمامًا مثلما أنَّ كلاًّ من السَّجَّانِ الناظِرِ والسَّجِينِ المنظُورِ مسلوبُ الحريَّةِ بمُوجبِ المنطقِ الجدليِّ التَّنَافَوِيِّ عينِهِ، وتمامًا مثلما أنَّ كلاًّ من الطاغيةِ العتيِّ والشعبِ المَعْتِيِّ (عليهِ) مسلوبُ الحريَّةِ بمُوجبِ المنطقِ الجدليِّ التَّنَافَوِيِّ عينِ عينِهِ، المنطقِ الذي لا يني يبرهنُ، في جوهرِهِ الاستدلاليِّ الكَنِينِ، على حتميَّةِ مسألةِ «انبثاقِ الشَّيْءِ من نقيضِ الشَّيْءِ» الآنفةِ الذكرِ في بداية هذا المقالِ، في سياقِ انبثاقِ جَرَاءَةِ وجَسَارةِ ذاك الإعلاميِّ اللاَّسِنِ المعنيِّ من صُلْبِ مجتمعٍ مقيَّدٍ ومكبَّلٍ، من قمَّةِ الرأسِ إلى أخمصِ القدمينِ، ولكنْ من منظارٍ فلسفيٍّ منطقيٍّ آخَرَ.
وهكذا، وبمثابةٍ نفسيَّةٍ لا تختلفُ عن تلك المثابةِ الفلسفيةِ التي سبقتْها للتوِّ، من حيثُ المبدأُ، تتبدَّى إرهاصاتُ «المنطقِ الجدليِّ التَّنَافَوِيِّ» المُتَكَلَّمِ عنهُ، في هذا السياقِ، على النحوِ التالي: فمن جانبٍ أوَّلَ، ينبثقُ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ ذاتُهُ من «آخَرِهِ» هَائجًا أيَّمَا اهتياجٍ، حينما يُعلنُ، أو يظنُّ أنَّهُ يُعلنُ، استنطاقَ واستجوابَ ما بحوزتِهِ عنِ الحَقِّ من علمٍ ذاتيٍّ، أو من علمٍ موضوعيٍّ، من أجلِ الحَقِّ ذاتِهِ، وذلك التماسًا للوقوفِ بعقلانيَّةٍ لامَرَضِيَّةٍ وقوفًا «حَرُونًا» «متصلِّبًا» في وجهِ الطُّغيانِ بكلِّ أشكالِهِ قدَّامَ العراقِ وقدَّامَ العالَمِ، على حَدٍّ سَوَاءٍ؛ ومن جانبٍ ثانٍ، ينبثقُ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ ذاتُهُ من «ذاتِهِ» حَائجًا أيَّما احتياجٍ هذهِ المرةَ، حينما يُعلنُ ها هنا، دونَ أنْ يظنَّ أنَّهُ يُعلنُ، استغلاقَ واستطباقَ ما بجعبتهِ عن «النَّحْوِ» من علمٍ ذاتيٍّ، أو من علمٍ موضوعيٍّ، من أجلِ «النَّحْوِ» ذاتِهِ، وذلك التماسًا للوقوفِ بلاعقلانيَّةٍ مَرَضِيَّةٍ وقوفًا «حَرُونًا» «متصلِّبًا» في وجهِ «تخطيءِ» القرآنِ و«تقويلِهِ»، رغمَ جهلِهِ الأَتَمِّ بما ارتكبَهُ هو ذاتُهُ من تخطيءٍ وتقويلٍ، ورغمَ ذَوْدِهِ الأَشَدِّ حِرَانًا والأَشَدِّ تصلُّبًا عن هذا الجهلِ، وبلغةٍ أكثرَ طُغيانيَّةً حتى من لغةِ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ أنفسِهِمْ. أقولُ «حَائجًا أيَّما احتياجٍ هذهِ المرةَ»، من هذا الجانبِ الآخَرِ بالذاتِ، لماذا؟ – لأنَّ الباحثَ الجامعيَّ المُتَبَرْفِسَ والمُتَدَكْتِرَ ذاتَهُ، من خلالِ «خروجهِ» المزعومِ عن طاعةِ الطاغيةِ العراقيِّ المعيَّنِ، أيًّا كانَ، إنَّما هو في أمسِّ حاجةٍ إلى اختلاقِ طاغيةٍ عراقيٍّ، أو لاعراقي، آخَرَ من ذاتِهِ ولِذاتِهِ في التعنُّتِ في الرَّأْيِ النحويِّ والتشبُّثِ بهذا الرَّأْيِ، وذلك سَعْيًا وراءَ مَلْءِ فراغٍ أو سَدِّ نقصٍ في تكوينهِ النفسانيِّ إجمالاً، أو سَعْيًا وراءَ استجلابِ توازنٍ نفسانيٍّ من نوعٍ يترتَّبُ على نوعيةِ عيشِ الحياةِ اللامألوفةِ في «البُعادِ»، سواءً كانَ هذا «السَّعْيُ» الازدواجيُّ سَعْيًا واعيًا أم سَعْيًا لاواعيًا، وسواءً كانَ ذاك «الخروجُ عنِ الطاعةِ» المزعومُ خروجًا حقيقيًّا أم خروجًا مُزَيَّفًا. وهكذا، أيضًا، ينجلي ما يَخالُ الباحثُ الجامعيُّ المُتَبَرْفِسُ والمُتَدَكْتِرُ أنَّ «اجتهادَهُ» المَدِيدَ والسَّدِيدَ في التقويمِ العلميِّ (أو المعرفيِّ) في قضايا «التَفْسِيلِ» الاشتقاقيِّ الآنفةِ الذكرِ إنَّما هو «اجتهادٌ بنائيٌّ تشييدِيٌّ» في صَالحِ كلٍّ من «اللغةِ العربيةِ التليدةِ» و«الأُمَّةِ الأرَبِيَّةِ العتيدةِ»، بوصفِها ناطقةً على مَرِّ الزمانِ وجَرِّ المكانِ بهذهِ اللغةِ المجيدةِ، ينجلي كلَّ الانجلاءِ أنَّهُ، من وراءِ هكذا «اجتهادٍ جَهيدٍ» مَدِيدٍ وسَديدٍ في التَّعْوِيجِ العلميِّ (أو المعرفيِّ) في قضايا «التَفْسِيلِ» الاشتقاقيِّ ذاتِها، لا يعدو أن يكونَ، ها هنا في المقابلِ، «اجتهادًا هَدْمِيًّا تقويضيًّا» في طالحِ كلٍّ من هذه «اللغةِ التليدةِ» بذاتها وهذه «الأُمَّةِ العتيدةِ» في حَدِّ ذاتِها، في حقيقةِ الأمر. ذلك لأنَّ تداعياتِ الخطابِ الجامعيِّ (أو الأكاديميِّ) المُتَحَدَّثِ عنهُ، بوصْفِهِ خطابًا قائمًا، في الأساسِ، على تداعياتِ ما يُسَمَّى صَحًّا بـ«الخطابِ المُؤَسْأَسِ» Institutionalized Discourse تحديدًا، لا تقومُ أساسًا على نقلِ تَنْوِيرَاتِ العِلْمِ (أو المعرفةِ) من عقلٍ تفكُّرِيٍّ مُرْسِلٍ إلى عقلٍ تفكُّرِيٍّ مستقبِلٍ نقلاً إنتاجيًّا إيجابيًّا وإبداعيًّا، بلْ تقومُ أساسًا على نقلِ تَظْلِيمَاتِ القُوَّةِ (أو السُّلْطةِ) من آلةٍ تَفَوُّهِيَّةٍ فاعلةٍ إلى آلةٍ تَفَوُّهِيَّةٍ منفعلةٍ (أو، بالحَرِيِّ، مفعولٍ بها) نقلاً استهلاكيًّا سلبيًّا وإخفاقيًّا (أو حتى «إهْلاكِيًّا» و«إبَادِيًّا» و«إفْنائِيًّا»، بكل ما تحملهُ هذهِ الكلماتُ من معنى دليلٍ، أو من معانٍ دليلةٍ). بوجيزِ العبارةِ، بعدَ كلِّ هذا الاسترسالِ وكلِّ هذا الإسهابِ المقصُودَيْنِ، فإنَّ الباحثَ الجامعيَّ المُتَبَرْفِسَ والمُتَدَكْتِرَ ذاتَهُ إنْ هو إلاَّ تجسيدٌ لِذاتِ الآلةِ التَفَوُّهِيَّةِ الفاعلةِ ذاتِها، في أحسنِ أحوالِهِ، وإنَّ مُريديهِ من المُتَوَازِرينَ والمُتَشَايِخِينَ والمُتَجامِعينَ كافَّتِهِمْ إنْ هُمْ إلاَّ تجسيماتٌ لِذواتِ الآلاتِ التَفَوُّهِيَّةِ المنفعلةِ (أو المفعولِ بها) ذواتِها، في أحسنِ أحوالهم، كذلك.
ناهيكُما، بالطبعِ، عن وقوعِ الباحثِ الجامعيِّ المُتَبَرْفِسِ والمُتَدَكْتِرِ ذاتِهِ، شاعرًا أو غيرَ شاعرٍ، في الشَّرَكِ الاِرْتِدَادِيِّ في التناقضِ بين ما ظَهَرَ من الإيمانِ وما بَطَنَ من الكُفْرِ، من طرفٍ، حينما يحمِّلُ القرآنَ ما لا يحمِلُهُ بأيِّ نَحْوٍ كانَ بتاتًا من جرَّاءِ ما انتهجَهُ من منهجٍ «تَفْسِيلِيٍّ» غرائبيٍّ وعجائبيٍّ. وناهيكُما، بطبيعةِ الحالِ، عن وقوعِ الإعلاميِّ اللاَّسِنِ الفذِّ ذاتِهِ، شاعرًا أو غيرَ شاعرٍ، في الشَّرَكِ الاِرْتِدَادِيِّ في التناقضِ بين ما جَلِيَ من الإيمانِ وما خَفِيَ من الإلحادِ، من طرفٍ آخَرَ، عندما يقولُ، في سياقِ نقدِهِ الجَزْمِيِّ للتعصُّبِ الأيديولوجيِّ (الدينيِّ)، قولاً لاهوتيَّا جَازمًا بأنَّهُ «لا أحدَ يملكُ ناصيةَ الحقيقةِ كاملةً غيرُ اللهِ»، وعندما يستشهدُ استشهادًا، في الوقتِ نفسِهِ، برأيٍ فلسفيٍّ أكثرَ جَزْمًا من ارْتِئَاءِ الفيلسوفِ الألمانيِّ فريدْريك نيتشه عن فَشَلِ المرءِ في التخلِّي عن أوهامٍ عاشَ عليها طوالَ عمرهِ، وذلك خوفًا من الانهيارِ كلِّهِ وخوفًا من التردِّي والسُّقُوطِ في حَضيضِ الهَاويةِ.
ومَنْ مِنَّا الآنَ، في هذا الزمانِ الفُضُوليِّ الخَاطِفِ، لا يعلمُ أنَّ هذا الفيلسوفَ عينَهُ كانَ من أوائلِ الملحدينَ بوُجُودِ اللهِ أصلاً، لا بلْ كانَ من أوائلِ المؤمنينَ بـ«مَوْتِ اللهِ»، بعبارةٍ فلسفيةٍ (عدميةٍ) أقربَ إليهِ – خُصُوصًا وأنَّهُ كانَ يشيرُ بتلك «الأوهامِ» التي حَيِيَ الإنسانُ عليها مَدَى حياتِهِ إلى «أوهامِ الإيمانِ بوُجُودِ اللهِ»، في حَدِّ ذاتِهَا؟
*** *** ***
غياث المرزوق
دبلن، 19 حزيران 2018