في الثناء على نهار الجسد الطويل نتخيل سيرته قبل أن نراه. لا يكون الجسد جاهزا تماما للتعرف على الدوام، فهناك صورته التي تخدع. سواء أحضر عاريا أم محتجبا فإن ما لا يرى منه يضعنا على الطريق التي تؤدي اليه: فكرته عن قداسته. ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بين تأويلات متناحرة. العري من جهة يقابله الحجب، وما بينهما يقف الجسد متسائلا وعاصفا وممتنعا. قد يكون في امكان الايرانية شادي قدريان، بنسائها القابعات خلف حجب أن تجيب عن اسئلة نساء الفرنسي باسكال رونو العاريات، العكس صحيح أيضا. لا بأس بالمحاولة اذاً.
1
نظرات المصور الفرنسي باسكال رونو لا تسيل على الجسد الانثوي مثل رغبة عابرة بل تحرثه بشهوات عارمة حتى ليبدو بعدها ذلك الجسد كما لو أنه قد استدرج إلى منطقة نائية من صفائه. جسد مصفّى يستعيد سحر النظرة الاولى التي ألقاها على الكون، يوم كان كل شيء مشدودا إلى البداية المبهمة. لا يلتفت رونو الى التعبير، فهناك ما يلهمه في الجسد، هناك ما يغذي شعوره بروعة الاكتشاف. لذلك نراه يرعى بعنف بطيء ما تصل اليه نظرته كما لو أنه يريد العثور على جهة مفقودة من هذا الكون السارح في تمرده على المرئي منه، وهي الجهة التي تصدر عنها صفات متناقضة، لا تقوى على حملها إلا الطبيعة: صلابة وهشاشة، رقة وقسوة، فجور وعفة، نبل ووضاعة. غير أن هذا التناقض كله لا ينفي عن كل صفة نوعا من القداسة المحيّرة، وهي قداسة لا تصل بالشكل إلى هيئته النهائية بقدر ما تشكل اعترافا بأن ما يُرى منه انما يمهد لانحراف تعرفنا اليه مادياً إلى طرق تبطل الحواس فيها.
للمصور الفرنسي رونو (43 سنة) طريقته الساحرة في تعطيل الحواس وهي تحيط بالجسد، ذلك لانه يرى في العري فضاء للتجريد، فضاء لا تنفصل عنه تأثيرات الجسد المباشرة، حيث يكون في امكان الحواس أن تتخلى عن صيغتها الابلاغية، فلا ترى في الجسد موقعا للوشاية.
شفافية النظر لدى رونو تعكس ما يحدثه مرآى جسد في عينه من تأثير بصري يكون ممتنعا عن الظهور في جسد آخر، بالرغم من أن كل هذا العري لا يقع صدفة، بل هو جزء من آلية التعرف التي يودّ الفنان تجريبها. هذا لا يعني أن مختبر رونو البصري يحاصر الجسد بنتائجه، وفي الوقت نفسه فإنه لا يطلق سراحه بشكل كامل. يراقب رونو المشهد الذي يصنعه بحساسية من يبتهل، هناك دائما صفة فالتة ينتظرها لتعينه على الفهم. وهذا ما يجعلنا نشعر بأنه يصنع صوره ببطء متوتر، كما لو أنه يستخرج لقيته اللامعة من بين ركام من الزجاج.
2
في الثناء على نهار الجسد الطويل هل يمكن أن ينفصل تخيل الجسد عن صورته؟ سؤال يمزج لذة النظر بالحلم الذي قد يعين على ارتجالها. وجود الـ"موديل" المباشر يضع سؤالنا على الحافة، ذلك لأنه يمتحنه من جهة قدرته على استبصار ما لا يرى، وهي مهمة تبدو بالنسبة الى الفوتوغراف، من وجهة من لا يعرفه، عسيرة ومضنية. ولكي نكون مطمئنين يمكننا القول: ان التصوير تغيّر هو الآخر، فهو لم يعد كما كان من قبل معنيا بما تراه العين بشكل مباشر، ذلك لان خياله لم يعد حكرا على المفاجأة التي تحدثها نظرة مجانية مفارقة، بل صار ذلك الخيال يزيح النظرة تلك عن مكانها ليقدم بدلا منها حلوله الجمالية الميتافيزيقية.
رونو يرى الجسد مقنعا بعريه، لذلك فإنه لا يستعرض ذلك العري، بل يتفادى الوقوع تحت اغرائه. نساء رونو يتحاشين الوقوع في لحظة غواية مجانية، لسن بضاعة، ولا الصور التي هنّ موضوع لها حيز لترويج دعائي. يتباهى رونو بكرامة كائناته كما لو أنه يضع بين أيدينا كتلا تجريدة لامعة التقطها لتوه من أعماق البحر. فرادة تلك الكائنات لا تفصح عن أي نوع من التأويل الجاهز للتعبير عن حالاتهن النفسية المختلفة. كل واحدة منهن تستجيب فكرتها عن الصورة التي سيكون في امكانها أن ترتجلها، هنا الـ"موديل" لا يأتمر بقدر ما يتآمر. هناك دسيسة يتعاون الـ"موديل" على صياغتها مع الفنان، حيث تنبعث الصورة من مكان خفي، هو أقدم الاماكن على الاطلاق: الجسد، وهو ليس صورته. هناك ما يكفي من التهريج الغرائزي لكي يتبرأ الجسد من صورته ويبرأ منها، وهي داؤه الذهني الذي يعادي كل فكر تصويري. وهو فكر مأخوذ بجغرافيا جسد لا يمس، هو المرآة المضادة لما نراه. حين يشفّ الجسد كله لدى رونو عن يد تمتد فلا تصل، فإن ذلك يعني السؤال الذي نعجز عن الاجابة عنه.
3
المصورة الايرانية شادي قدريان (ولدت في طهران عام 1974، وهي لا تزال تعيش وتعمل هناك)، يمكنها، وهي الناشطة في بلدها في مجال حقوق المرأة، أن تعثر على جواب موقت، جواب يسلّينا بتمرده السياسي غير أنه في الوقت عينه لا ينسى الجسد، في وصفه محورا لمشكلة لما يصل اليها النقاش في ايران على الاقل، وهو البلد المحكوم بنزعة دينية شمولية. لا تصور قدريان نساءها عاريات مثلما يفعل رونو بحرية منفعلة، بقدر ما تتخيلهن كذلك، وهن يقمن على مسافة من عريهن، مسافة هي مزيج من حجب بلاغية ومن تأوهات حرمان أسير.
في سلسلة جذابة من صورها، تستبدل قدريان الوجه الانثوي بواحدة من ادوات العمل المطبخي، لتحتج على حجب جسد المرأة. احتفال وحشي تأخذنا اليه الفنانة لا لتحيطنا علماً بما يجري هناك في بلد ظلامي فحسب، بل لتهبنا أيضا فكرة عن جسد انساني يشكل احتجابه نوعا من غياب المعنى. الاسطورة الغافية نفسها على كنوز من الذهب، فلا باسكال رونو عرّى نساءه ولا شادي قدريان حجبت نساءها. لعبة القدر تضع الانثوي دائما في مواجة المستحيل القادر على الاستبسال وحيدا. كان عري نساء رونو حجابا لأجسادهن، وكان حجاب نساء قدريان فكرة عري متطرفة في انغماسها بوعدها المنفي عن شروط حياتها. هذه المصورة التي ترغب في قول الحقيقة بطريقتها الشخصية، تصنع للانوثة مصيرا متخيلا يجد في عري نساء رونو خلاصته، حيث الجمال الخالص. وهذا ما تتمناه كل امرأة وجدت نفسها صدفة في مواجهة جسدها. يمكننا أن نتخيل رغبة رونو في تعرية نساء قدريان، وفي المقابل يمكننا أيضا أن نرى الحيرة في عيني قدريان وهي تقبض على الجانب الاستفهامي في عري نساء رونو، ذلك الجانب الذي لن تتلمس الطريق اليه في اجساد نسائها، لو عرّتهن يوما ما. رونو وقدريان يعرفان ما يريدان الوصول اليه: النظر الى الاشياء الحية، في وصفها وقودا لخيال بصري يقوى على الاعتراف برغبته في العودة الى الحالة الاولى، حيث يعكف الجسد على اسئلته، في نهار طويل بلا ظلال
ملحق " النهار "
الأحد 27 آب 2006
1
نظرات المصور الفرنسي باسكال رونو لا تسيل على الجسد الانثوي مثل رغبة عابرة بل تحرثه بشهوات عارمة حتى ليبدو بعدها ذلك الجسد كما لو أنه قد استدرج إلى منطقة نائية من صفائه. جسد مصفّى يستعيد سحر النظرة الاولى التي ألقاها على الكون، يوم كان كل شيء مشدودا إلى البداية المبهمة. لا يلتفت رونو الى التعبير، فهناك ما يلهمه في الجسد، هناك ما يغذي شعوره بروعة الاكتشاف. لذلك نراه يرعى بعنف بطيء ما تصل اليه نظرته كما لو أنه يريد العثور على جهة مفقودة من هذا الكون السارح في تمرده على المرئي منه، وهي الجهة التي تصدر عنها صفات متناقضة، لا تقوى على حملها إلا الطبيعة: صلابة وهشاشة، رقة وقسوة، فجور وعفة، نبل ووضاعة. غير أن هذا التناقض كله لا ينفي عن كل صفة نوعا من القداسة المحيّرة، وهي قداسة لا تصل بالشكل إلى هيئته النهائية بقدر ما تشكل اعترافا بأن ما يُرى منه انما يمهد لانحراف تعرفنا اليه مادياً إلى طرق تبطل الحواس فيها.
للمصور الفرنسي رونو (43 سنة) طريقته الساحرة في تعطيل الحواس وهي تحيط بالجسد، ذلك لانه يرى في العري فضاء للتجريد، فضاء لا تنفصل عنه تأثيرات الجسد المباشرة، حيث يكون في امكان الحواس أن تتخلى عن صيغتها الابلاغية، فلا ترى في الجسد موقعا للوشاية.
شفافية النظر لدى رونو تعكس ما يحدثه مرآى جسد في عينه من تأثير بصري يكون ممتنعا عن الظهور في جسد آخر، بالرغم من أن كل هذا العري لا يقع صدفة، بل هو جزء من آلية التعرف التي يودّ الفنان تجريبها. هذا لا يعني أن مختبر رونو البصري يحاصر الجسد بنتائجه، وفي الوقت نفسه فإنه لا يطلق سراحه بشكل كامل. يراقب رونو المشهد الذي يصنعه بحساسية من يبتهل، هناك دائما صفة فالتة ينتظرها لتعينه على الفهم. وهذا ما يجعلنا نشعر بأنه يصنع صوره ببطء متوتر، كما لو أنه يستخرج لقيته اللامعة من بين ركام من الزجاج.
2
في الثناء على نهار الجسد الطويل هل يمكن أن ينفصل تخيل الجسد عن صورته؟ سؤال يمزج لذة النظر بالحلم الذي قد يعين على ارتجالها. وجود الـ"موديل" المباشر يضع سؤالنا على الحافة، ذلك لأنه يمتحنه من جهة قدرته على استبصار ما لا يرى، وهي مهمة تبدو بالنسبة الى الفوتوغراف، من وجهة من لا يعرفه، عسيرة ومضنية. ولكي نكون مطمئنين يمكننا القول: ان التصوير تغيّر هو الآخر، فهو لم يعد كما كان من قبل معنيا بما تراه العين بشكل مباشر، ذلك لان خياله لم يعد حكرا على المفاجأة التي تحدثها نظرة مجانية مفارقة، بل صار ذلك الخيال يزيح النظرة تلك عن مكانها ليقدم بدلا منها حلوله الجمالية الميتافيزيقية.
رونو يرى الجسد مقنعا بعريه، لذلك فإنه لا يستعرض ذلك العري، بل يتفادى الوقوع تحت اغرائه. نساء رونو يتحاشين الوقوع في لحظة غواية مجانية، لسن بضاعة، ولا الصور التي هنّ موضوع لها حيز لترويج دعائي. يتباهى رونو بكرامة كائناته كما لو أنه يضع بين أيدينا كتلا تجريدة لامعة التقطها لتوه من أعماق البحر. فرادة تلك الكائنات لا تفصح عن أي نوع من التأويل الجاهز للتعبير عن حالاتهن النفسية المختلفة. كل واحدة منهن تستجيب فكرتها عن الصورة التي سيكون في امكانها أن ترتجلها، هنا الـ"موديل" لا يأتمر بقدر ما يتآمر. هناك دسيسة يتعاون الـ"موديل" على صياغتها مع الفنان، حيث تنبعث الصورة من مكان خفي، هو أقدم الاماكن على الاطلاق: الجسد، وهو ليس صورته. هناك ما يكفي من التهريج الغرائزي لكي يتبرأ الجسد من صورته ويبرأ منها، وهي داؤه الذهني الذي يعادي كل فكر تصويري. وهو فكر مأخوذ بجغرافيا جسد لا يمس، هو المرآة المضادة لما نراه. حين يشفّ الجسد كله لدى رونو عن يد تمتد فلا تصل، فإن ذلك يعني السؤال الذي نعجز عن الاجابة عنه.
3
المصورة الايرانية شادي قدريان (ولدت في طهران عام 1974، وهي لا تزال تعيش وتعمل هناك)، يمكنها، وهي الناشطة في بلدها في مجال حقوق المرأة، أن تعثر على جواب موقت، جواب يسلّينا بتمرده السياسي غير أنه في الوقت عينه لا ينسى الجسد، في وصفه محورا لمشكلة لما يصل اليها النقاش في ايران على الاقل، وهو البلد المحكوم بنزعة دينية شمولية. لا تصور قدريان نساءها عاريات مثلما يفعل رونو بحرية منفعلة، بقدر ما تتخيلهن كذلك، وهن يقمن على مسافة من عريهن، مسافة هي مزيج من حجب بلاغية ومن تأوهات حرمان أسير.
في سلسلة جذابة من صورها، تستبدل قدريان الوجه الانثوي بواحدة من ادوات العمل المطبخي، لتحتج على حجب جسد المرأة. احتفال وحشي تأخذنا اليه الفنانة لا لتحيطنا علماً بما يجري هناك في بلد ظلامي فحسب، بل لتهبنا أيضا فكرة عن جسد انساني يشكل احتجابه نوعا من غياب المعنى. الاسطورة الغافية نفسها على كنوز من الذهب، فلا باسكال رونو عرّى نساءه ولا شادي قدريان حجبت نساءها. لعبة القدر تضع الانثوي دائما في مواجة المستحيل القادر على الاستبسال وحيدا. كان عري نساء رونو حجابا لأجسادهن، وكان حجاب نساء قدريان فكرة عري متطرفة في انغماسها بوعدها المنفي عن شروط حياتها. هذه المصورة التي ترغب في قول الحقيقة بطريقتها الشخصية، تصنع للانوثة مصيرا متخيلا يجد في عري نساء رونو خلاصته، حيث الجمال الخالص. وهذا ما تتمناه كل امرأة وجدت نفسها صدفة في مواجهة جسدها. يمكننا أن نتخيل رغبة رونو في تعرية نساء قدريان، وفي المقابل يمكننا أيضا أن نرى الحيرة في عيني قدريان وهي تقبض على الجانب الاستفهامي في عري نساء رونو، ذلك الجانب الذي لن تتلمس الطريق اليه في اجساد نسائها، لو عرّتهن يوما ما. رونو وقدريان يعرفان ما يريدان الوصول اليه: النظر الى الاشياء الحية، في وصفها وقودا لخيال بصري يقوى على الاعتراف برغبته في العودة الى الحالة الاولى، حيث يعكف الجسد على اسئلته، في نهار طويل بلا ظلال
ملحق " النهار "
الأحد 27 آب 2006