أدب السجون بولص آدم - مَوجات إذاعية..

حَلَّ المساء، المطر في الخارج يهطل، الضوء الشاحب يتسربُ من الشباك ويمنحني لقاء قطرات تتجمعُ في الساحة الرصاصية، إمكانية التأمل في لوحة خافتة تَرتَج، أنبُشُ فيها عُقوداً ماضية، فتنكسرُ زُجاجةُ الذكريات، أصابعي الممدودة الى أقصاها في ثغور الشباك، لن تتبلل مثلما تمنيت، فجدران السجون سميكة وكلُّ ثغر في الشباك نفَق! يُكِملُ معالم هذه الصورة من حولي، معابر، مُنحنياتُ ومُرتفعاتُ الحكايا..
سَجينُ يحكي والفواقُ يُلازمه، وآخَرَ يسمَعُ مُتلهفا، مُرغماً على السماع كُنت طالما لَم أنَم، أسمعُ ولا أرى الحُكاة، تصلني الحكايا بصوت عالٍ أو مُنخفض وحسب بُعد المساجين عني، حكايات مُتداخلة، لكأنها تُذاع عبر الأثير، تأخُذُ أمواجُه المتكلمين من مكان الى آخر ثم تُعيد المستمع الى نفس محطة المذياع وعلى موجات مُختلفة الأطوال:
ـ عندَ انتقالنا من البادية الى المدينة.. وجدتنا في وضع حرج وكريه الى أبعد الحدود، لم نَكُن نعرفٍ إنسانا هُناك.
ـ المُستمع مقاطعاً : لا بالله
ـ أي والله، لَم يَكُن في جيب أبي ولو درهم.
ـ لا بالله؟
ـ أي والله، وصلنا الميناء، يَلُف الظلامُ تلال المُعِدات ورأيت أول مرة في حياتي باخرة.
ــ لا بالله؟
ــ أي والله، ثُم عُدنا، نبحث بين الأبنية عن مأوى ووجبة تسد الرمق..
.. في أستراحة لنا، بين حصص تعليم قيادة الطائرات في النادي، حكى لنا مَسؤول، حضرَ لمتابعة تطور إبنته المُشتركة في الدورة، حكاية مَرِحة دارَت بين الأصمعي وهارون الرشيد..
..كُنا مجموعة عزابية، سافرنا الى بُلغاريا في السبعينيات، تخَيَّل أخي، كُنا في العصرية، نرتدي دشاديشنا، نشتري رَقية مُدورة، ليس الرقي هناك كما هو عندنا، لم نكن نَشُقها بالسكين عند الشط كما هو عندنا، بل على قارب مهجور عند البحر.
ـ السامعُ جنبه : هل كانت حَمراء؟
ـ أي والله، رَقي بُلغاري أحمر طبعاً!.. سامحني أرجوك، أشعُر بتأنيب الضمير، أنا أدفعك الى إشتهاء العنب البعيد عن اليد!
ــ أكمل أرجوك ولا يهمك.
ـ أقصد، لب الرقية كان أحمر بحُمرة الشمس وهي تغطس في البحر
ـ لا، لا بالله؟
ـ أي والله، ثمَ.. ثمَّ ، لا والله، أعتذر عن تكملة ال.. لأن
ـ أخي، الله يخليك، نحن في السجن ولسنا في محكمة، أكمل ولاتخف!
ـ من هناك والى المراقص، ونعود الى الفندق هَلكانين.
ـ طبعاً، لم تذهبوا الى هناك لدفن ميت، أليس كذلك؟
ـ يَعني، شئ من هذا القبيل أخي، كُنا في عز الشباب…
..تخيَّل.. المتاهة التي قذفتنا في الميناء، لكأنها كانت فأل خير على أبي، ففي نهاية المطاف، إشتغلَ في الحمالة هُناك، صَدق بأننا كُنا نسألُ أنفسنا بعد العودة من الميناء الى مدينة الجمهورية: ياتُرى ما الذي تحويه هذه الدكاكين المُغلقة التي نمر بها؟
ـ لا بالله
ـ أي والله…
… يا محفوظ السلامة، فنادق بٍلغاريا مُختَلَط، مَصيف فارنا مُختَلط، يعني الكُل هُناك مُختلط !
ـ لا بالله، حتى عند البحر؟
ـ طبعاً أخي، رَمل البحر أصلا، كيف له أن يعرف بأنكَ حُرمة أم رجُل؟ـ
.. ( قال الأصمعي للرشيد: بلغني يا أمير المؤمنين أنّ رجلاً من العرب طلّق في يوم خمس نسوة، فقال: إنّما يجوز مُلك الرجل على أربعة نسوة، فكيف طلق خمساً؟؟ قلت: كان لرجل أربعة نسوة، فدخل عليهنّ يوماً فوجدهنّ متلاحيات متنازعات، وكان الرجل سيء الخلق، فقال: إلى متى هذا التنازع؟ ونظر إلى واحدة منهنّ وقال: ما أخال هذا الأمر إلا من قبلك، اذهبي فأنت طالق، فقالت له صاحبتها: عجِلتَ عليها بالطلاق، ولو أنت أدّبتها بغير ذلك لكنت حقيقاً، فقال لها: وأنتِ أيضاً طالق!)..
.. وبعدين، إلتقينا بناس طيبة من أمثالكم، ساعَدَتنا، وليس كما حذرنا عمي المرحوم الله يسامحه من الناس في المدن، وقال بأنهم وخاصة الرجال، كُلهم أدنياء..
… وأنت، ألم تُسافر؟
ـ عشت وصادفت ماصادفت في تنقلات الجيش، بالأضافة الى السجون وهُنا في ابو غريب، خاتمة السَفَر..
..(فقالت له الثالثة: قبّحك الله، فوالله لقد كانتا لك من المحسنين، وعليك من المفضّلين، فقال وأنتِ أيتها المُعدّدة طالق أيضاً، فقالت له الرابعة: ضاق صدرك على أن تؤدب نساءك إلّا بالطلاق؟! فقال: وانتِ طالق أيضاً، وكان ذلك بمسمع جارة له، فأشرفت عليه وقد سمعت كلامه فقالت: والله ما شهدت العرب مثلك، أبيتَ إلأّ طلاق نسائك في ساعة واحدة!! فقال: وأنت أيّتها المؤنِّبة المتكلفة طالق إن أجاز ذلك زوجك!! فأجابه زوجها من الداخل: قد أجزت قد أجزت.)..
هذه الحكايات وغيرها أسمعها حَوالَيَّ، تُعادُ مرارا وحسب مؤشر المذياع تحت تأثير الجو العام في السجن، ليست أكثر من رغبة في عدم الشيخوخة والخرف .. هكذا أعتقدت في الأيام الأولى منقولا من زنزانة أُخرى الى ردهة الحكايا الغامضة هذه، لكنها ليست كذلك وفق أبو زياد، الخفي من أفكاره عنها والمُعلن منها، جولاته المكوكية وجلسات الشاي والتدخين مع شتى مجاميع المسجونين في الردهة، لم تكُن للوقوف على طبيعة الأحوال، ليُقابَل من جانبهم بأمتداح فضائله المتواضعة و ارتياح غير المُلمين بالأمور له تبعا لذلك ..
كمُراقب في الردهة، كان لهُ كُل الوقت للتفكير في كُل جُزئية مهما كانت تافهة، المعلومات تُفيده وتحليلها أختصاصه، يُستحسَن معرفة الموقف، ما حيلتنا عندما يتمكن المنافسين، من ادارة اللعبة بكُل حَذَق وتمكنوا من إستغلال أقل الهفوات، وذلك سيُكلِّفه موقعه كمراقب هنا، وفي ذلك ضعف وثغرة لايَسمَح بها، فقد كان مُراقبا لكل الأقسام التي شهدت له بالمُراقبية وكيفية الحصول عليها بأسرع وقت في المكان الجديد المنقول اليه.. غارق في التفكير كان في هذه الأ ُمور يُسجل في دفتر، أنصاف كلمات وأسهم ودوائر حول أسماء، أرقام وإشارات غامضة، لكأنه صحفي يُتابع مؤتمرا هاماً، وحكايته حول بلغاريا، سمعتها منه بنُسَخ مُختلفة، فمع المرضى، كان سبب تلك السفرة للعلاج، ومع التجار في السجن، فقد كانت السفرة لدواعي الأستيراد، لكنه حصل على لقب (الجاسوس) بنُسخة كونه صائد جواسيس كرجُل مُخابرات لغرض التطبيق في بُلغاريا، ولكنه لم يُكمل تعليمُه الأستخباري في كُلية الأمن القومي، عند ضبطه في العشق مع زميلة وهذا الشئ ممنوع ولذلك هو يقضي المحكومية هُنا!
في حكايته للقصة المؤلمة للمرة العشرين رُبما، عن مدينة الميناء وهجرة العائلة اليها والتقائهم بأناس طيبين والخ، كانت هرباً فالوالد كان مُلاحقاً..
ـ بحثنا عن الستر، وتمكنا في النهاية بعد تعب وكَد، أن نبني لنا بيتاً صغيراً ، بمواصفات سليمة، وليس غش في المواصفات، مثل الجاسوس!
ما أن سمع أبو زيد المُلقب بالطيار، حتى وثب على قائميه وسأل:
ــ هل أنت مُتأكد؟
ــ طبعاً، والده العميد المُتقاعد، هو الذي قال لنا في غياب مؤقت للجاسوس، أثناء المواجهة.
ـ كَيف؟
ـ مُكلفاً كان وهو ضابط في مديرية إنشاءات، بتنفيذ مشروع توسيع المُديرية، فقام بعملية غش مواصفات واسعة في مواد البناء وفرق قيمة الشراء، دَخَلَ في جيبه..
ـ معنى ذلك، أبو بُلغاريا هذا، كَذاب؟
ــ طبعاً، الرقي المُدور والشمس الحمراء الغاطسة والرقص والبحر والمُختلط، كُلَّها، أفيال طائرة!
..بعد مُضي حوالي الساعة، أنتشر الخبَر، وتحول الجاسوس الى مَسخرة..
بيد أنه، وبجولاته المكوكية الماهرة، عَرى حقيقة الطيار، حافظ قصة الأصمعي وهارون الرشيد والزوجات الخمسة، قائلا:
ـ ياجماعة، ياأخوان، هذا الطيار، حقيقتهُ عندي! مثلما تعلمون، بأنني كمُراقب مُخضرم في أبو غريب، لدي حُضوة لدى سُلطات السجن، وأن كاتباً في الأدارة، كشف لي بأن الطيار الذي لُفقت لهُ تُهمة التحرُّش بإبنة مسؤؤل تتلقى دروساً في قيادة طائرة المحرك الواحد في ذلك النادي، ماهي الا كذبة، فقد جمَعَ الأخ الطيار زوجاته الأربع في غِرفة وأنهال عليهُن ضرباً، بعد كشف نيته تطليق واحدة منهُن والزواج من خامسة، تمَّ نقلُهُنَّ مُضرجاتُ بدمائهُن الى المُستشفى، ولذلك هُو هُنا!


* من ملف أدب السجون العراقي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...