لنقف أولا عند العتبة الأولى للرواية ، ونقصد بذلك غلافها وقراءة صورتها بحمولاتها الدلالية، ثم ما يرافق ذلك من كتابة، ونعني هنا اسم الرواية ، وكاتبها، وناشرها، تبدو صورة الغلاف جلية ومعبرة: حبل نشر الغسيل يقطع عرض الكتاب، وفوقه ملقط واحد فقط، دون أي شيء آخر، وتحت الصورة مباشرة ، عنوان الرواية مكتوب بشكل تراتبي كأدراج السّلم ،سواء كان هذا التراتب عن قصد أو دون قصد، فإنه يحيلنا على الأسماء التي تعاقبت عن تداول مثل هذا العنوان :
-أولهما : القديس يوحنا الصليب، (سجايا الطائر الوحيد)
-ثانيهما: غويتصولو ، ( فضائل الطائر الوحيد)
-ثالثهما: أبو يوسف طه، (عش الطائر المتوحد)
وتبقى رمزية الملقط الوحيد ،المتشبث ، بحبل نشر الغسيل؛ تحيل على ذاتية الكاتب التي تطهرت من كل أدران الحياة الشريرة، بعدما باحتْ بِما يُثقل صدرها وبقتْ مُتشبثة بحبل (الأمل ) المنشود.
إن رواية ضمير المتكلم ( التخييل الذاتي) تتصدر اليوم موجتها المشهد الأدبي الفرنسي،وكذلك الياباني، وتحتفي بها كبريات دور النشر العالمية والاعلام والقراء على حد السوء.
تعتبر رواية "عش الطائر المتوحد" واحدة من الروايات المتميزة الواعية بمرجعية الذات لا كموضوع، يكتب عنها، بل تكتب ذاتها،هذا الاستيعاب النبيه واليقظ يجعلها تضاهي نصوص هذه الموجة الإبداعية، بفنيتها الجمالية والابداعية باعتمادها على اللغة أكثر من اعتمادها على الذاكرة والذات نفسها.
نعرف أن أبو يوسف طه ، كاتب متعدد المواهب ، له حظ وافر في كتابات المسرح، هو ما جعله يستمد تقنية "الذاكرة الانفعالية" في استحضار كل الأحداث المؤلمة والموجعة، والمفجعة للنفس في حياة السارد بلغة كثيفة وشفافة ، والتمسك بخيط الحقيقة الرابط بين السارد والقارئ ، هذه الشروط بمثابة مدماك العمل ونجاحه، عند المنظر " للتخييل الذاتي" سيرج دوبروفسكي الفرنسي المولد والروسي الأصل.
تكسر هذه الرواية إشكاليات التجنيس، وتبقيه على ركنه الأساس،(القصة) كما يسميه ، إ. م. فورستر. نعم ، الركن الأساس الذي لايمكن أن تقوم الرواية بدونه - الرواية تروي قصة - إنه العامل المشترك في الرواية، وليته لم يكن كذلك.
نجد الكاتب في مفتتح الرواية لا يخفي هذا، ولايشعر معه بأي حرج يعيق تجنيس الرواية : " لما أطلع عزيز أبو الندى على قصتي
" الذئاب" المنشورة في مجلة " النورس" ،ثم لاحقا في مجموعتي
" الأعمى" اقترح علي تحويلها إلى رواية على غرار الفقراء لدوستويفسكي، بدا لي وقتئذ عسر ذلك".
إذا أمعنا النظر في الجملة الأخيرة من المقطع، ندرك وعي الكاتب في تحديد استعارة الرواية الكبرى، على حدّ تعبيره.
لقد كُتِبتْ هذه الرواية بضمير المتكلم ،وهو ما يعني "التخييل الذاتي" أي كتابة الذات؛ وليست الكتابة عن الذات، ونقصد تخليص الجسد من الذات ليصير موضوعا : ( سهوتُ عن أن أحدثكم عني، أنا طويل، نحيل، قمحي اللون، أذني اليسرى أكبر من اليمنى، لهذا أبدو للرائي كما لو يتداعى رأسي نحو كتفي . كفي الأيمن ملتصق الأصابع كرِجلِ إوزة. ) ص١٦.
ترفض هذه الرواية أن تبقي ( الواقعي) بعيدا، وتأخذ إليها القارئ ، بقوة إيقاعها وصياغتها،ونهجها الأسلوبي، إنها تسعى إلى مدّ جسر بين "أنا" وأنت" لتشكيل "أنا" نحن. وحتى نخرج من إشكالية التجنيس، فإن التخييل الذاتي والسيرة الذاتية هما نوعان من الرواية حول الذات ( سيرج دوبروفسكي ) لكن حكيهما على شاكلة القرن الثامن عشر مثل روسو، بضمير المتكلم وفق زمني .
أما أبو يوسف طه، القاص، المسرحي، الروائي، يدرك جيدا حيل السرد والتخفي وراء قناع (أنا) حدّ الإنمحاء ، أو "اللا أحد" يقول : ( أيّ يد آثمة رمت بي لأكون في أرذل العمر "اللاأحد".
هذه الأقواس التي تطوق (اللا أحد) في النص، تحيلنا إلى ما أشرنا إليه في تنظير وإبداع سرج دوبروفسكي ، - مع احتفاضهما بالأمانة العلمية - :
[ أنا في شقتي الصغيرة المستعارة، لست أحدا، بالكاد أوجد، أنا كائن تخيلي، أكتب تخييل ذاتي ]
يقول ، أبو يوسف طه: ( كأن كل واحد منا قصة يكتبها كاتب غير منظور)
إذن، من هو حائك الكلام في رواية "عش الطائر المتوحد" ؟
إن الأصل في الحكاية ابتداعها من مصادر مختلفة ونسجها،في شكل فني جديد وفق الحاجة إليها. ولهذا السبب نجد أن ديمومة حائك الكلام تمتد من رواية الحكايات إلى خلقها وصناعتها وتطوير أدواتها وتنويع نسيجها وصولا إلى مراقبة من يستعملها. (حائك الكلام، بنية المؤلف الغائب. ص١١٦. ياسين نصير)
تنتصر رواية " عش الطائر المتوحد" للعزلة ، والابتعاد عن الشرور والغرور ( اللوذ بالعزلة، في منأى عن الحشد... أنا الآن في ضيعة "عش الطائر المتوحد" بعيدا عن مرماكم، لغتكم، أحلامكم، أوهامكم.)
تبرأ السارد من كل مصادر الشر ، منذ تشكل وعيه بذاته، معيّرة معلم العربية ونعت كفه الملتصقة كرِجلِ إوزة، وهو آنذاك في سن التمدرس، هذه الندبة النفسية التي سيحملها معه السارد طوال حياته، هو ما جعله يعتزل الأقران وقتذاك، ويجعل جيوب سرواله ملاذا ( كما يقول الشاعر : " ملاذ الخجول جيوب سرواله." ) سيتحول محيطه إلى سجن .. "أنتم السجن الذي أهدمه لبنة لبنة في وحدتي الباذخة ... ها أنا الآن منكسر، ألتمس العزاء في البكاء ، وهذه الكف اللعينة التي تشبه القفاز ذا الأصبع الواحد، أهي بصمة وجودي الشاذ؟
هذه الحياة المليئة بالعذاب والفواجع : موت الأخ، الأب، الجدة، هروب الغالية، سادية زوجة الخال التي تريده سجينا بالمؤبد لارادتها .."ماتت الغالية، في أسوأ حال، ومات الخال، وهو الأب يموت ميتة ثانية بعد ميتة الخرف اللعين."
كانت الجدة التي توسمت الخير والبركة في الطفل قد أوصت في حياتها بالخلالة والقرط الذهبي هدية له.
سيكتشف الرجل/الطفل عن طريق الخال، بأن الغالية ، أخت جدته، هي من وهبت إليه الخلالة والقرط الذهبي.
من خلال قراءتنا نجد هذه الخلالة والقرط الذهبي سوى حيلة سردية تربط السابق باللاحق كخيط ناظم للسرد .. إننا في الصفحة ١٤٩ يخاطب السارد المتلقي المفترض : ( لكَ أن تدرك ، وأنا أسرُّ لَكَ بهذا، أنها وهبت لأختها (جدتي) الخلالة والقرط الذهبي، وهو ما تلقيته هدية منها. وأحسب أنا خالي الذي أصيب بالعمى هو من أخبرني بحكاية الخلالة والقرطين.
يعد التخييل الذاتي صوغا تيماتيا انشطاريا لضمير المتكلم "أنا" مفترض ، ميتا- لغة " أنا" ضمير المتكلم
واستعارة لفعل الحياة والادعاء ، بواسطتها يبني المؤلف لنفسه شخصية ووجوداً معا، للاحتفاض بهويته الحقيقية. إذا أردنا أن نتفق على التخييل الذاتي ليس تخييلا *إلا لكونه كتابة، وأن الواقع لايتكرر ولايعاد، وإنما اختلاق مراقب وإبداع لغوي، وبالتالي مغامرة اللغة التي لاتقول الحقيقة، الموضوعية ولكن تخبر عن الواقع الذاتي : ( حينما أحلم،أحلم أن كفي الشائهة زالت، وحل محلها كف على ظهرها عروق صغيرة خضراء،الأصابع رقيقة،بيضاء كأقلام العاج، وأفاجأ بأمي وهي تمسك الكف، متفحصة، تقول : "من أين جئت بهذا الكف، إنه يشبه كف النساء."
ثغرها يفتر عن ابتسامة ، وفي الصباح عند رؤية كفي التي أدسها في جيب السروال، أغدو محبطا، وماذا لو حاولت بترها؟ أسيكون ذلك أفضل؟ وأنا نفسي من أكون؟ ألست كفا شائها في جسد الوجود، أو ظلا مبسوطا على الأرض لا ينتمي إلى أي صورة؟ حياتي البا ئسة المحفوف بالعذبات، ما جدواها؟ ولما وجدت مادام ما يملأ بين ولادتي ومَمَاتِي في شقاء ، أنا اللاأحد، أهيم باحثا عني فأجد الخواء والسواد كجوزة فاسدة."
إن أسرار الجسد وأسرار الروح هنا هي اللغة ..اللغة الصادرة عن جسد واحد، إن لم تكن إفرازآ فريدآ كبصمة ، أو كما عبرت عنه ك. الوران : " (إنها إفراز يسمح بقول سر ،أو جزء من السر فقط،لأن قول السر كله غير ممكن ." إن كتابة التخييل الذاتي شيء خاص بالذات، تتوجه نحو صياغة ما تميل إليه، وما هو واقعي.)
من أسرار الروح ،أو البوح نقرأ هذا المقطع : " كأن ما يضنيني الجفاف الطارئ الذي أقعدني عن مواصلة الكتابة، وللأمر أعراض مثلما هي أعراض سن توقف الإنجاب عند المرأة ، إن لم أكن مغاليا."
في هذا البوح نجد الكاتب يقارنه بصورة شديدة الرهافة والحساسية ..صورة هي أشبه بغريق يتلقى إسعافات أولية عن طريق (بوش أ بوش ) لبث الروح في أنفاسه على استمرارية الحياة والكتابة معا... " أمسكت ببصلتي كتفيه لأحييه محانكة ، لكنه هجم على فمي ، اشمأززت، ونفرت، إلى الوراء مذهولا، موخوزا كما لو أنه دعك نوارة الخرشوف على فمي.
إذاً علي أن أعبر عن الوفاء والصداقة الفتية لخوان غويتصولو."
هذا التوظيف الذكي لهذا اللقاء يحسب للكاتب، كما يحسب له رمزية شخصية الغالية التي تمثل عالم الطهر والنقاء ، وحب الخير، وصراعها مع ما يمثل عالم الشر والعذاب في حياتها بدءا بزواجه القسري..الخ
إنها عكس ما تمثله سادية زوجة الخال في تعذيب زوجها الأعمى ، إنها تمثل عالم الشر. إن الكف الشائهة والغالية ،يمثلان "الذاكرة الإنفعالية" عند السارد في استحضار كل الفواجع والمعانات والعذاب، من موت واعتقال وتعسف حد الهرب والابتعاد عن الحشود والشرور والغرور والادعاء ، إلى اللوذ بالطبيعة " الأم" في ضيعة "عش طائر المتوحد."
* ("التخييل الذاتي" . لإيزابيل جريل)
**("حائك الكلام" لياسين نصير.)
-أولهما : القديس يوحنا الصليب، (سجايا الطائر الوحيد)
-ثانيهما: غويتصولو ، ( فضائل الطائر الوحيد)
-ثالثهما: أبو يوسف طه، (عش الطائر المتوحد)
وتبقى رمزية الملقط الوحيد ،المتشبث ، بحبل نشر الغسيل؛ تحيل على ذاتية الكاتب التي تطهرت من كل أدران الحياة الشريرة، بعدما باحتْ بِما يُثقل صدرها وبقتْ مُتشبثة بحبل (الأمل ) المنشود.
إن رواية ضمير المتكلم ( التخييل الذاتي) تتصدر اليوم موجتها المشهد الأدبي الفرنسي،وكذلك الياباني، وتحتفي بها كبريات دور النشر العالمية والاعلام والقراء على حد السوء.
تعتبر رواية "عش الطائر المتوحد" واحدة من الروايات المتميزة الواعية بمرجعية الذات لا كموضوع، يكتب عنها، بل تكتب ذاتها،هذا الاستيعاب النبيه واليقظ يجعلها تضاهي نصوص هذه الموجة الإبداعية، بفنيتها الجمالية والابداعية باعتمادها على اللغة أكثر من اعتمادها على الذاكرة والذات نفسها.
نعرف أن أبو يوسف طه ، كاتب متعدد المواهب ، له حظ وافر في كتابات المسرح، هو ما جعله يستمد تقنية "الذاكرة الانفعالية" في استحضار كل الأحداث المؤلمة والموجعة، والمفجعة للنفس في حياة السارد بلغة كثيفة وشفافة ، والتمسك بخيط الحقيقة الرابط بين السارد والقارئ ، هذه الشروط بمثابة مدماك العمل ونجاحه، عند المنظر " للتخييل الذاتي" سيرج دوبروفسكي الفرنسي المولد والروسي الأصل.
تكسر هذه الرواية إشكاليات التجنيس، وتبقيه على ركنه الأساس،(القصة) كما يسميه ، إ. م. فورستر. نعم ، الركن الأساس الذي لايمكن أن تقوم الرواية بدونه - الرواية تروي قصة - إنه العامل المشترك في الرواية، وليته لم يكن كذلك.
نجد الكاتب في مفتتح الرواية لا يخفي هذا، ولايشعر معه بأي حرج يعيق تجنيس الرواية : " لما أطلع عزيز أبو الندى على قصتي
" الذئاب" المنشورة في مجلة " النورس" ،ثم لاحقا في مجموعتي
" الأعمى" اقترح علي تحويلها إلى رواية على غرار الفقراء لدوستويفسكي، بدا لي وقتئذ عسر ذلك".
إذا أمعنا النظر في الجملة الأخيرة من المقطع، ندرك وعي الكاتب في تحديد استعارة الرواية الكبرى، على حدّ تعبيره.
لقد كُتِبتْ هذه الرواية بضمير المتكلم ،وهو ما يعني "التخييل الذاتي" أي كتابة الذات؛ وليست الكتابة عن الذات، ونقصد تخليص الجسد من الذات ليصير موضوعا : ( سهوتُ عن أن أحدثكم عني، أنا طويل، نحيل، قمحي اللون، أذني اليسرى أكبر من اليمنى، لهذا أبدو للرائي كما لو يتداعى رأسي نحو كتفي . كفي الأيمن ملتصق الأصابع كرِجلِ إوزة. ) ص١٦.
ترفض هذه الرواية أن تبقي ( الواقعي) بعيدا، وتأخذ إليها القارئ ، بقوة إيقاعها وصياغتها،ونهجها الأسلوبي، إنها تسعى إلى مدّ جسر بين "أنا" وأنت" لتشكيل "أنا" نحن. وحتى نخرج من إشكالية التجنيس، فإن التخييل الذاتي والسيرة الذاتية هما نوعان من الرواية حول الذات ( سيرج دوبروفسكي ) لكن حكيهما على شاكلة القرن الثامن عشر مثل روسو، بضمير المتكلم وفق زمني .
أما أبو يوسف طه، القاص، المسرحي، الروائي، يدرك جيدا حيل السرد والتخفي وراء قناع (أنا) حدّ الإنمحاء ، أو "اللا أحد" يقول : ( أيّ يد آثمة رمت بي لأكون في أرذل العمر "اللاأحد".
هذه الأقواس التي تطوق (اللا أحد) في النص، تحيلنا إلى ما أشرنا إليه في تنظير وإبداع سرج دوبروفسكي ، - مع احتفاضهما بالأمانة العلمية - :
[ أنا في شقتي الصغيرة المستعارة، لست أحدا، بالكاد أوجد، أنا كائن تخيلي، أكتب تخييل ذاتي ]
يقول ، أبو يوسف طه: ( كأن كل واحد منا قصة يكتبها كاتب غير منظور)
إذن، من هو حائك الكلام في رواية "عش الطائر المتوحد" ؟
إن الأصل في الحكاية ابتداعها من مصادر مختلفة ونسجها،في شكل فني جديد وفق الحاجة إليها. ولهذا السبب نجد أن ديمومة حائك الكلام تمتد من رواية الحكايات إلى خلقها وصناعتها وتطوير أدواتها وتنويع نسيجها وصولا إلى مراقبة من يستعملها. (حائك الكلام، بنية المؤلف الغائب. ص١١٦. ياسين نصير)
تنتصر رواية " عش الطائر المتوحد" للعزلة ، والابتعاد عن الشرور والغرور ( اللوذ بالعزلة، في منأى عن الحشد... أنا الآن في ضيعة "عش الطائر المتوحد" بعيدا عن مرماكم، لغتكم، أحلامكم، أوهامكم.)
تبرأ السارد من كل مصادر الشر ، منذ تشكل وعيه بذاته، معيّرة معلم العربية ونعت كفه الملتصقة كرِجلِ إوزة، وهو آنذاك في سن التمدرس، هذه الندبة النفسية التي سيحملها معه السارد طوال حياته، هو ما جعله يعتزل الأقران وقتذاك، ويجعل جيوب سرواله ملاذا ( كما يقول الشاعر : " ملاذ الخجول جيوب سرواله." ) سيتحول محيطه إلى سجن .. "أنتم السجن الذي أهدمه لبنة لبنة في وحدتي الباذخة ... ها أنا الآن منكسر، ألتمس العزاء في البكاء ، وهذه الكف اللعينة التي تشبه القفاز ذا الأصبع الواحد، أهي بصمة وجودي الشاذ؟
هذه الحياة المليئة بالعذاب والفواجع : موت الأخ، الأب، الجدة، هروب الغالية، سادية زوجة الخال التي تريده سجينا بالمؤبد لارادتها .."ماتت الغالية، في أسوأ حال، ومات الخال، وهو الأب يموت ميتة ثانية بعد ميتة الخرف اللعين."
كانت الجدة التي توسمت الخير والبركة في الطفل قد أوصت في حياتها بالخلالة والقرط الذهبي هدية له.
سيكتشف الرجل/الطفل عن طريق الخال، بأن الغالية ، أخت جدته، هي من وهبت إليه الخلالة والقرط الذهبي.
من خلال قراءتنا نجد هذه الخلالة والقرط الذهبي سوى حيلة سردية تربط السابق باللاحق كخيط ناظم للسرد .. إننا في الصفحة ١٤٩ يخاطب السارد المتلقي المفترض : ( لكَ أن تدرك ، وأنا أسرُّ لَكَ بهذا، أنها وهبت لأختها (جدتي) الخلالة والقرط الذهبي، وهو ما تلقيته هدية منها. وأحسب أنا خالي الذي أصيب بالعمى هو من أخبرني بحكاية الخلالة والقرطين.
يعد التخييل الذاتي صوغا تيماتيا انشطاريا لضمير المتكلم "أنا" مفترض ، ميتا- لغة " أنا" ضمير المتكلم
واستعارة لفعل الحياة والادعاء ، بواسطتها يبني المؤلف لنفسه شخصية ووجوداً معا، للاحتفاض بهويته الحقيقية. إذا أردنا أن نتفق على التخييل الذاتي ليس تخييلا *إلا لكونه كتابة، وأن الواقع لايتكرر ولايعاد، وإنما اختلاق مراقب وإبداع لغوي، وبالتالي مغامرة اللغة التي لاتقول الحقيقة، الموضوعية ولكن تخبر عن الواقع الذاتي : ( حينما أحلم،أحلم أن كفي الشائهة زالت، وحل محلها كف على ظهرها عروق صغيرة خضراء،الأصابع رقيقة،بيضاء كأقلام العاج، وأفاجأ بأمي وهي تمسك الكف، متفحصة، تقول : "من أين جئت بهذا الكف، إنه يشبه كف النساء."
ثغرها يفتر عن ابتسامة ، وفي الصباح عند رؤية كفي التي أدسها في جيب السروال، أغدو محبطا، وماذا لو حاولت بترها؟ أسيكون ذلك أفضل؟ وأنا نفسي من أكون؟ ألست كفا شائها في جسد الوجود، أو ظلا مبسوطا على الأرض لا ينتمي إلى أي صورة؟ حياتي البا ئسة المحفوف بالعذبات، ما جدواها؟ ولما وجدت مادام ما يملأ بين ولادتي ومَمَاتِي في شقاء ، أنا اللاأحد، أهيم باحثا عني فأجد الخواء والسواد كجوزة فاسدة."
إن أسرار الجسد وأسرار الروح هنا هي اللغة ..اللغة الصادرة عن جسد واحد، إن لم تكن إفرازآ فريدآ كبصمة ، أو كما عبرت عنه ك. الوران : " (إنها إفراز يسمح بقول سر ،أو جزء من السر فقط،لأن قول السر كله غير ممكن ." إن كتابة التخييل الذاتي شيء خاص بالذات، تتوجه نحو صياغة ما تميل إليه، وما هو واقعي.)
من أسرار الروح ،أو البوح نقرأ هذا المقطع : " كأن ما يضنيني الجفاف الطارئ الذي أقعدني عن مواصلة الكتابة، وللأمر أعراض مثلما هي أعراض سن توقف الإنجاب عند المرأة ، إن لم أكن مغاليا."
في هذا البوح نجد الكاتب يقارنه بصورة شديدة الرهافة والحساسية ..صورة هي أشبه بغريق يتلقى إسعافات أولية عن طريق (بوش أ بوش ) لبث الروح في أنفاسه على استمرارية الحياة والكتابة معا... " أمسكت ببصلتي كتفيه لأحييه محانكة ، لكنه هجم على فمي ، اشمأززت، ونفرت، إلى الوراء مذهولا، موخوزا كما لو أنه دعك نوارة الخرشوف على فمي.
إذاً علي أن أعبر عن الوفاء والصداقة الفتية لخوان غويتصولو."
هذا التوظيف الذكي لهذا اللقاء يحسب للكاتب، كما يحسب له رمزية شخصية الغالية التي تمثل عالم الطهر والنقاء ، وحب الخير، وصراعها مع ما يمثل عالم الشر والعذاب في حياتها بدءا بزواجه القسري..الخ
إنها عكس ما تمثله سادية زوجة الخال في تعذيب زوجها الأعمى ، إنها تمثل عالم الشر. إن الكف الشائهة والغالية ،يمثلان "الذاكرة الإنفعالية" عند السارد في استحضار كل الفواجع والمعانات والعذاب، من موت واعتقال وتعسف حد الهرب والابتعاد عن الحشود والشرور والغرور والادعاء ، إلى اللوذ بالطبيعة " الأم" في ضيعة "عش طائر المتوحد."
* ("التخييل الذاتي" . لإيزابيل جريل)
**("حائك الكلام" لياسين نصير.)