(هذا هو جوهر القضية في الصراع بين السجين والسجّان، وقضبان السجن، وأنا كنت قد أقسمتُ أن لا تهزمني قضبان السجن أبداً … أبداً ….! فكنت أعمل منذ الصباح وحتى الظهيرة، ومن الظهيرة حتى العصر، ومن العصر حتى ساعات متأخرة من الليل، فكنتُ أقرأ وأكتب، وأقوم بتدريس النزلاء اللغة الألمانية، وقد صرفتُ في ذلك جهداً هائلاً.. ، إلاّ أنه جهد ممتع وان كان متعباً… وقد كنتُ مستمتعاً ، إلى الآخر ، بفكرة أن السجن لم يهزمني كإنسان، نعم لقد ألحق بي أضرار جسيمة، ولكنه لم يهزمني، فخرجت على قدمي صاحياً (أعني بدماغ صاحٍ)، أصافح نور الشمس، وأستمتع بنور القمر الذي غاب عني ستة عشر عاماً، أعانق الحرية… وأشرب من كأسها ممزوجة بالفخر…. فأنا لم أقتل يوماً ، ولم أسرق فلساً واحداً من مال الشعب، لقد تعرضتُ للإهانة والسحق إلى أقصى درجة، ولكني لم أُهِن، ولم أُسحَق…تعرضتُ للكثير الكثير.. وتطاول عليّ بعضهم، ولكن هذا غير مهم البتة، فلا يستطيع أحد أن يهينك إلا إذا كان بمستواك ، أو إذا كنت أنت سبباً لهذه الإهانة!)
ضرغام الدبّاغ
من كتاب “قمر ابو غريب كان حزيناً”
كتاب (قمر أبو غريب …. كان حزيناً – وقائع سجن (أبو غريب) قسم الأحكام الخاصة 1987 – 2002) للدكتور ضرغام الدباغ يتحدّث عن تجربته المريرة في سجن أبي غريب منتظراً تنفيذ حكم الإعدام فيه ثم رازحا – بعد سنوات ثقيلة مضنية – تحت مطارق المرور البطيء لأكثر من ستة عشر عاماً أمضاها كجزء من سنوات السجن المؤبد بعد “تخفيف” الحكم عليه ، هو كتاب يجب أن يقرأه كل عراقي ، وفي مقدّمتهم السياسيون والقادة الحزبيون – من أي حزب يمتلك سلطة – والعاملون في الأجهزة الأمنية بل حتى العاملين البسطاء في خدمات السجون ، والمختصون في علم النفس ، والباحثون في علم الإجتماع والقرّاء العامون وغيرهم .
* دروس لكلّ واحد منّا
كلّ واحد منا سيجد شيئا يخصّه في أعماق ذاته الهشّة ، ويكتشف قدراً من مسؤوليته عن الخراب الذي محق الحياة في وطننا . سيتعلّم الكثيرون منّا أن الإنسان فعلياً قد يتهدّم ويُحطّم لكنه لا يُهزم ، وهذا هو أعظم الدروس وأكثرها بهاءً . خذ الشرطي البسيط في السجن . إنّ ما يحيّر علماء النفس هو سلوك من يمكن أن نصطلح عليهم بـ “الجلّادون الصغار” ، وهؤلاء أدوات وسيطة تنفيذية لا ناقة لها ولا جمل في العذاب الذي يصبّونه على المعتقلين الضحايا ، بل قد يكونون هم بدورهم – في ظروف معيّنة – ضحايا للطغيان والقهر الذي لا يوفّر أحداً في العادة ، بل قد يأكل نفسه في كثير من الأحوال . لكن حين “يتبرّعون” بصبّ عذاب ومهانة مُضافين على الضحيّة فإن هذا لا يكشف سوى عن حقيقة أنّ هذا السلوك يؤكّد ما ألحّ عليه معلّم فيينا من وجود غريزة للعدوان والموت والدوافع السادية ، متأصّلة ، في النفس البشرية ، تنفلت عند أقرب فرصة مناسبة لاستخدام “السلطة” التي توفّرت بعد حرمان وإهمال وبحث عن دور ، وإلّا فإن هؤلاء البشر هم أناس بسطاء – في الحالات الإعتيادية – والمشكلة – أو الإمتياز حسب وجهة النظر التحليلية – هي أنّ الضحية المُعذّب – ضرغام ورفاقه هنا – لا يقسو عليهم قسوة مقابلة غير موضوعية وبردة فعل هوجاء كما يفعل الكثير من ضحايا القمع السياسي ، بل لم يصفهم بأوصاف مهينة وغير “مهنيّة” ، ويدعو إلى الفحص العلمي لسلوكياتهم المشينة هذه :
(الوقت كان ليلاً … فقد استغرقت الرحلة من كركوك إلى بغداد ردحاً من الزمن، وتمّت عملية استلامنا في ظروف لا يمكن وصفها بالإعتيادية، ولا تخلو من ضربات عشوائية لا معنى لها، مع شلّال من السباب والشتائم التي تفتقر بصورة تامة إلى الأدب والأخلاق العامة، ناهيك عن القانون الغائب ذكره وتطبيقه. والحقيقة أنني لم أكن أفهم مغزى ذلك . فقد نكون مذنبين من وجهة نظر السلطات (بهذا القدر أو ذاك)، وقد نستحق المحاكمة والعقاب، ولكني لا أفهم معنى الشتائم والضرب الذي لا ينطوي إلا على معنى واحد، هو أن هؤلاء الحراس قد اعتادوا الإهانة، أخذاً وعطاء، وفقدوا حتماً الكثير من صفات البشر المُحترمين، ولكن من يهتم …؟ فالأمر لا ينم عن احترام هنا، بل أنني كنت في كثير من الحالات أتطلع بعمق إلى وجوه القائمين بعمليات الضرب والتعذيب وحفلات الشتائم والإهانات، و أسائل نفسي ترى هل كنا نسير وإياهم في شوارع هذه المدينة ؟ وهل يضمّنا – جميعاً – هذا الوطن الحبيب ..؟ أم تُرى – ويا للفزع – ربما قد دخلنا مطاعم ومقاهي مشتركة. إن الأمر بحاجة حقاً إلى علماء في الهندسة الوراثية) (ص 15 و16).
وكإشارة سريعة أقول لمن يعملون في الوسط الفني إنّ من مجالات استثمار هذا الكتاب إبداعيا هو تحويله إلى مسلسل تلفزيوني أو فيلم يعرض للناس ما الذي يفعله الطغيان بالإنسان ، وكيف تجعل إرادة الصمود الفرد ينهض من تحت رماد الخراب ليسطّر ملحمة صموده في وجه القهر والموت والطغيان .
وهناك الدرس الأهم الموجّه للسياسيين أصحاب السلطة ، خصوصاً حينما يكونون قد انحدروا من سوح نضال يُفترض أنّها قد صقلت ضمائرهم وجعلتها أكثر رهافة وصحوا في ما يتعلّق بحقوق الناس الذين يزعمون خدمتهم ، وبكرامة ووجود رفاقهم حتى لو اختلفوا معهم . فخلف هذا الوصف الشاعري : (القمر الحزين) ، تتخفّى كلّ بشاعة الإنسان حين يصبح ذئباً لأخيه الإنسان ، وحين ينسى الله القدير وعدله ورحمته وهو فوقه ومحيط به وتحت أنظاره التي لا تنام .. حين يموت ضميره فيصبح حيواناً ساديّاً ، والفارق بين الإنسان والحيوان هو الضمير وليس اللغة أو انتصاب القامة أو الميل للإجتماع كما يعلن الفلاسفة . الضمير – أيّها السادة – الذي هو عين الله داخل الإنسان ، هو الذي يميّزنا عن باقي المخلوقات التي تقوم بأفعالها “الخيّرة” وفق الغريزة .
في تجربة ضرغام الدبّاغ الدرس التي ينبغي أن تُدرّس وتُلقّن للسياسيين ، ليروا كيف سيصبحون حيوانات بشرية حين يفقدون ضميرهم ، ويبطشون بأنقى رفاقهم الذين لا يبغون سوى الخير لهذا الشعب المُعذّب الذي يتشدقون بخدمته والحرص على مصالحه .
وللسجناء السياسيين السابقين يثير هذا الكتاب في أذهاننا هذا التساؤل : تُرى ، متى يكتب السياسيون العراقيون – وخصوصا المناضلون منهم – تجارب سجنهم وعذابهم ؟! الآلاف من العراقيين سُجنوا في سجن “نقرة السلمان” الرهيب مثلا ، ومع ذلك لم نقرأ غير كتاب أو كتابين عن الحياة في هذا السجن الرهيب والدروس المُستخلصة منها ، وبعض الذكريات المتناثرة .. هل هذا معقول ؟! . من الناحية النفسية – وكما قلتُ في المقدّمة – قد يكون سعي السجين السابق لتجنّب استعادة تفصيلات الشدّة الفاجعة الفظيعة واحداً من الأسباب ، ولكن على الجميع مسؤولية تجاه الأجيال الحاضرة والقادمة كي لا تسقط في الفخّ نفسه ، وها نحن نسقطُ فيه من جديد ، حيث انتعشت السجون السياسية في ظلّ الديمقراطية !!
أوّل ما تقوم به تجاربنا التي نبنيها بدمائنا ، هو أن تلتفت لتفترسنا نحن بناتها الذين أمضينا في إشادة أسسها سنوات طويلة من القهر والعوز والعناء ، وضيّعنا الأعمار والأحبة والآمال والأمنيات من أجل حمايتها . وذات مرّة وصف الكاتب الشهيد “عزيز السيد جاسم” الثورة الجزائرية في أحد كتبه بأنها (ثورة المليون شهيد ، ولكنها التجربة التي لم تحترم أي شهيد) ، وأرى أن هذا الوصف ينطبق على تجارب الحكم السياسي في العراق . فقد قدّم آلاف الشهداء أرواحهم على طريق المبادئ ومذبح النضال كما كانوا
يهتفون ، ولكن تجارب الحكم لم تحترم أيّ شهيد منهم ! بل أجحفت في حق الأحياء المخلصين منهم ، وكان د. ضرغام الدباغ منهم :
(كانت السلطات قد منعتني من السفر للعودة إلى ألمانيا حيث تقيم عائلتي، وكنت قبل ذلك قد قدّمتُ استقالتي من وزارة الخارجية احتجاجاً على سوء المعاملة، وبذلك قطعت كل صلة لي بأي دائرة من دوائر الدولة، كما حُرمت أيضاً من راتبي التقاعدي وباءت بالفشل كل الجهود للخروج من البلاد بصورة شرعية، بما في ذلك محاولات بذلها أصدقاء لي. وعلى الرغم من حصولي على عقد عمل ممتاز وفي إحدى دول الخليج، فقد كانت السلطات تصر على إبقائي في بغداد، وتعمل كل ما يضايقني لكي تحقق هذا الهدف : البقاء في العراق والعمل في دائرة حكومية تعيّنها هي، بما يؤدي إلى وضعي تحت أنظارها وسيطرتها، وكان أفضل ما توصلتُ إليه بهذا الشأن هو العمل في الجامعات العراقية، فيما كانت زوجتي وطفلاي (عائلتي) ما زالوا يقيمون في ألمانيا في ظروف صحية ومعيشية ونفسية يصعب فيها الانتقال إلى العراق، خاصة وقد تحوّل الأمر برمته إلى موقف مهين يصعب احتماله) (ص 13).
لقد رفض العلاقات المنافقة ، ولم يكن قادرا على السير في الدرب الأسود لحرق البخور للمتحكّمين .
ولنا جميعاً ، يحمل هذا الكتاب ميزة كبرى أواجهها للمرة الأولى في كتابة عراقية سياسية إنسانية عن الحياة في سجن أبي غريب ، هذه الميزة تتمثل في أنّها درس أنموذجي عن الكيفية التي يثبت فيها إنسان بأنه يحظى بإرادة أسطورية . إنسان لا يفرّط بإنسانيته ومبادئه ، وهو يقف بين شدقي الموت ، والموت صاحٍ ويقظ وليس نائما كما يقول المتنبي ، فكيف بهذا السجين وهو يلعب بأنياب الموت ؟! إنها قصيدة بطولة الإنسان الخالدة .. الإنسان الذي يؤمن بأنّ الله حقّاً قد نفخ فيه من روحه ، وأنّ عليه أن يكون في مستوى الحفاظ على هذه النفحة / اللُقية / العطية التي لا تُثمّن بكل كنوز الدنيا . لقد دخل ضرغام السجن وهو مرفوع الرأس بالرغم من أنه كان مهدّداً بالإعدام في أيّة لحظة ، ثم خرج – وهذه من الحالات النادرة – وهو أكثر قوّة – روحيّة – وأرفع شموخاً . ومن وجهة نظري – وهذا الدرس منه – فإن العامل الأساس في عدم إنهياره هو أنه تحصّن ولم يتفاجأ ؛ تحصّن بقناعة راسخة مفادها أنه من الممكن أن يموت في أيّة لحظة منذ أن وضع قدمه على طريق النضال الطويل ، وكان مؤمنا بأنه – حين يُشنق – فإن قدميه ستكون بمستوى رؤوس جلّاديه .
• التسلّح بالتوقّع
فمن الأمور التي تعزّز قدرة المناضل على مواجهة الجلّاد وضغوط تجربة الإعتقال والتحقيق والتعذيب ، هي مسألة “التوقّع – Expectancy” كما تُسمّى في علم نفس الشدائد ، فأي مصيبة تهون تأثيراتها حينما تكون متوقّعة بقدر ما ، ويتضاعف فعلها المدمّر حين تكون مباغتة ومفاجئة . على المناضل أن “يتوقّع” دائما أن الإعتقال والتعذيب والتجويع وفقدان الأحبة وغيرها مما يواجهه على أيدي السلطة القامعة الطغيانية هو أمر قد يحصل في اي لحظة وأن يكون مستعدّاً لمواجهته ، وحتى أن “يتخيّل” أحيانا حياته في السجن أو على منصة الإعدام . عن هذا الطريق لا يتفاجأ .. يتحطّم وينهار الذين “يتوقعون” أن طريق النضال نزهة وتحقيق أحلام مراهقة وأفعال إنقاذية مكبوتة . ولهذا كان ضرغام الدباغ يستقبل أعتى الضربات من جلّاده ممثلة بلحظة إصدار قرار الإعدام بروح واثقة وأعصاب متماسكة لأنه كان “يتوقّعه” .. الكتاب محمّل بالوصايا :
(ومن المُدهش أن الحرّاس والمأمورين يُصابون في بعض الاحيان برعب وهلع يعادل أو يفوق ما يصيب المحكومين أنفسهم، وكانت عملية تكبيل الأيادي إلى الخلف تتم في ظروف يعلو فيها الصراخ، والعصبية البالغة من الحرّاس، ويدهشهم كثيراً من يخرج من قاعة (المحكمة) وقد حُكم عليه بالإعدام، وهو هاديء الأعصاب متزن الخطوات. أما أنا، فقد كنت مستعداً أتمّ الاستعداد لمثل هذا اليوم الذي طالما تخيلته، وقد رضيتُ به دوماً، فأنتَ عندما تريد التغيير، فلا بدّ أن تضع في حسابك ردّ فعل الآخرين) (ص 23)
• مهزلة محكمة الثورة : المُتّهم مُتّهم إلى أن تثبت براءته
وكيف تمّ إصدار حكم الإعدام هذا بما يعنيه من اجتثاث لحياة إنسان ؟ يتحدّث د. ضرغام عن الموقف الذي تم تقديمهم – هو وثلاثة من رفاقه – فيه إلى محكمة الثورة حيث شهد مهزلة مهازل “العدالة” . ومع ذلك فهو مستعد للنسيان إذا كان هذا النسيان يخدم العراق .. الله :
(كانت محاكمة قصيرة كما أسلفنا، محاكمة فريدة من نوعها ، المُتهم فيها مُدان قبل بدء المحكمة. وأول حديث للقاضي مع المتهم بعد سماعه لأقوال المدّعي العام، التي هي في معظم الأحوال افتراضات وخرافات وتخيلات، يطرح القاضي سؤالاً: هل أنت متهم أم بريء ؟ وإذا أجاب المتهم بأنه بريء، يرد عليه القاضي : أثبت لنا براءتك …؟ وهذا بصورة غريبة تجاهل لقاعدة قانونية رئيسية ومتفق عليها في فقه القانون تنص على أن : المتهم بريء حتى تثبت أدانته، ولكن في محكمة الثورة كان الأمر معكوساً…! وجرت محاكمتنا بدون أي شاهد …! إنها محاكمة بدون شاهد، و مع ذلك أُعدم في نهايتها أربعة رجال !! ترى هل يمكن محو هذه الواقعة من الذاكرة والتأريخ ..؟ إذا كان في نسيانها خدمة للوطن.. سنمحوها لأجل العراق !) (ص 22).
وحين أقول مهزلة المهازل ، فإن هذا يشمل كل شيء من دخول المحكمة إلى الوقوف أمام القاضي وإلى سلوك ذلك القاضي وإصدار الحكم وضبطه وفق المواد القانونية :
(وتوصّل القاضي والمدّعي العام إلى تفصيل مدهش لنظرية الشروع البائسة، وقد فنّدتُها بسهولة ويُسر ، ويستطيع غيري أن يفعل ذلك أيضاً إذا كان مطّلعاً على القانون . ولم يكن بالإمكان مطلقاً تطبيق نظرية الشروع، ومضمونها هو: الشروع فعل إجرامي إنصرفت إرادة الفاعل له وبدأ تنفيذه ولم يتمكن من تحقيق نتيجة الجريمة بسبب خارج على إرادة الفاعل. وإن ثبت للمحكمة شروع المتهم يُدان ، و يُعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على الخمس سنوات، هذا إذا كان شروعاً بالقتل !! أما نحن فقد ألقي القبض علينا فجراً في بيت أستاذ جامعي، فحُكم علينا بالاستناد الى المواد 175 –157 ومادة إضافية بالنسبة لي هي 208 (بسبب مقال : النداء الأخير قبل غرق السفينة) ، والمادة الرئيسية التي حُكمنا بموجبها 157 تنص على : ” كل من قاتل قوات الجمهورية العراقية مع قوات أجنبية خارج العراق” .
ولن أُعلّق ولن أزيد، فالزيادة كالنقصان …!) (ص 22 و23).
هذه المهازل كنّا نسمعها كثيرا عن عمل محكمة الثورة . مرّة قال لي سجين سياسي كنت أعالجه من مرض الكآبة في عيادتي إنّه لم يتحطّم في المحاكمة الفعلية ، بل خلال مدّة الإنتظار بسبب بساطة إصدار أحكام الإعدام وسرعتها .. كلّ من يدخل ويخرج : إعدام .. إعدام .. إعدام !!
• الحرص على الدور التربوي وسط لهيب المحنة
وفي استخلاص التجارب يخرج د. ضرغام من دائرة اجترار البكائيات المرتبطة بالصور السيّئة لمن عايشهم ولم يتعدّوا سدّة التجربة ، ويحاول تأكيد الصور المشرقة أمام القارىء ، منطلقاً من الدور التربوي الدائم الذي على المناضل أن يعكسه في أدق تفصيلات حياته :
(لم أكن أريد أن أدون يوميات أو مذكرات عن تجربة سجن (أبو غريب) العميقة، وهي مؤلمة قبل أي وصف آخر، حقبةً وتجربةً طالت واستطالت حتى بلغت ست عشرة سنة، هي من أكثر حقب سجن (أبو غريب) ظلاماً وقهراً ، (قبل أن يزيدها الاحتلال الجائر ظلماً وسواداً أضعافاً مضاعفة) . لم أكن أشأ أن أكتب عن تلك السنين إذ لا شك أن ذاكرتي تحتفظ بذكريات مريرة … والمسيرة كانت تنطوي على صور مؤسفة إلى جانب الصور المشرقة، ولكننا نريد هنا تجاوز الصور المؤسفة لنركز في الصور المشرقة، وعلى الطيبين من أبناء شعبنا وهي الصورة العامة الغالبة) (ص 9).
• مفتاح الصمود : الإعتزاز بالذات
بعد نقلهم إلى بغداد بدأ التحقيق في اسوأ المعتقلات وهو موقف مديرية الإستخبارات االعسكرية ، وهنا درس لمن يتصوّرون أن الإنخذال والتوسّلات والدموع سوف تخفف نقمة الجلاد أو المحقق عنهم .. أبداً . لقد ثبت في علم النفس أن الناس تحترم الجريح المتماسك وتساعده وتحتقر الجريح البكأء .. الإعتزاز بالذات وعدم الإنهيار مفتاح للحصول على احترام مقابل حتى لو كان مغلّفا بالنقمة وبالمزيد من التعذيب :
(وفي أثناء التحقيق لا أنكر أنني كنتُ أحاول أن أحافظ على فارق في المستوى – من الناحية السياسية – بين مناضل ومُحقّق، أو بين دبلوماسي وأستاذ جامعي وكاتب ، وضابط غاوي ثقافة، مهنته الرئيسية الحرب والضرب. والمفروض ضرب أعداء البلاد، وليس إخضاع الناس إلى تحقيقات سياسية مهينة. نعم كان يحاول إهانتي ولكنه لم يبلغ ذلك قط، وكنت أبيّن له أنه أقل من أن يقدر على ذلك … أقل بكثير… فأنا ممتليء كبرياءً واعتزازا بنفسي وبما فعلت، وما يبديه هذا المحقق ليست سوى خربشات على جدار عالٍ، وأنا حريص على إبقائه عالياً) (ص 17).
• منتصب القامة أمشي وعلى كتفي نعشي
وقد سار هذا الإعتزاز وروح التعالي على السفاسف والمستلزمات المادية اليومية الحيوانية التي يبتز الجلاد بها ضحاياه طول سنوات التجربة المرعبة . وفي كل “فرضيّة” نظرية عن الحياة في ظلمات السجن الرهيبة وسُبل مقاومة الجلّاد يٌقدّم الكاتب أمثلة عمليّة تطبيقية لعل أكثرها تأثيراً وبلاغة في مجال احترام الذات والحفاظ على قامة الروح – وليس قامة الجسد حسب – منتصبة مرفوعة الهامة هو ما حصل مع مصوّر السجن:
(وهنا أشير الى أن السجّان يريد أن يقهر السجين، أن يدمّر فيه شيئاً… وأنت لا بُدّ أن تقبل خسارة بعض الأمور غير المهمة، وغير الجوهرية، ولكن عليك المحافظة وبإصرار على المهم والأهم ألا وهو : أن تبقى روحك نظيفة ونقيّة وأن لا تنهار.
حدث يوماً أن جاءو بمصوّر يلتقط لنا صور كتلك التي للسجناء التي يحمل فيها لوحة خشبية مكتوب عليها رقمه، وأنا لستُ ممن تزعجني أو تجرحني مثل هذه الخدوش، ولكن المصوّر ، وكان مفوضاً في الأمن، قصير القامة ، فطلب مني أن أثني ركبتي قليلاً ليتمكن من التقاط الصورة، فحرتُ ماذا أقول لهذا الشاب، اقتربت منه ، وقلت له هامساً :
“إنّ بقائي بطول قامتي هذه كلفني خمسة عشر عاماً هنا في السجن ، وأنت تريد مني – الآن – أن أنزل، أن أتنازل أو أخفض .. ألا ترى من العدل أن تضع طابوقة تحت قدميك لترتفع قليلاً من دون أن أخفض قامتي ؟ .. فبُهت الرجل .. ولكنه فعل ذلك، وأعتذر مني، مبدياً التفهم قائلاً : العفو أستاذ..!) (ص 98).
بهذا “التوقّع” للضريبة الباهضة ، وبهذه الإرادة الحديدية ، وبالتخطيط الواعي، والمقاومة الباسلة لضغوط السجن وتلاعبات الجلّاد ، صارت التجربة التي تخرّب روح الإنسان ، وتدمّر قواه الخلّأقة ، عادةً ، مصدراً لإثراء الذات ، وتحوّل جحيمها إلى فرصة للإبداع . وخذ هذه المقارنة بين ما أنتجه الرجل في حياة البيت المسالمة الرخيّة ، وما أنجزه تحت مطارق تجربة السجن الثقيلة المُقلقة والمُربكة :
(في بيتي، مثلاً ، في عام 1986 ، وهو آخر عام لي في الحرّية، كنت قد انجزتُ :
تأليف كتاب: استخدام القوة المسلحة في العلاقات الدولية.
ومسـرحية : الناس والأمل والمستقبل.
وترجمة كتاب: الحرب الأهلية الأسبانية.
ولكنني في أعوام سجني كنت أكثر نشاطاً على صعيد التأليف والترجمة. و على الرغم من تأثير السنين الطويلة، وذكرياتها المريرة التي قد تحفر أخاديد عميقة في طاقة الإنسان وصبره. فعلى سبيل المثال ، وفي السنة الأخيرة من السجن (السنة السادسة عشرة)، أنجزتُ تأليف عملٍ صعب ومعقّد بعنوان: “الاستهلال والاستكمال: دراسة في الفكر السياسي المقارن ـ الرافديني / الأغريقي ـ و العربي الإسلامي والمسيحي الليبرالي” ، في جزئين، كما أنني أنجزت ترجمة رواية : الجنتلمان، لهاينز كونزاليك، وترجمة كتاب عن عصر النهضة يضم تحليلاً لستة وأربعين تخطيطاً لمايكل أنجلو، وهي من أصعب ما تَرجمتُ، وترجمة لمقدمة القرآن الكريم، للبروفسورة آنا ماريا زيشل، وتأليف كتاب صغير (60) صفحة لتحليل عمل البعثة الدبلوماسية البريطانية في العراق1958 – 1959، وقصة قصيرة بعنوان: لعبة الكريات الحديدية) (ص 95).
• الإنتصار على وحش اسمه الزمن
إنّ العدوّ الأكبر للسجين – بعد صدمة الإعتقال الإبتدائية – هو : الزمن ، وذلك إذا حقق بنجاح عمليّة “التكيّف” مع ضغوط الحياة في السجن . الزمن ببطئه الثقيل المميت . حَسَبَ ضرغام هذا الزمن المدمّر وجمعه وقسمه فكان :
189 شهراً
813 أسبوعاً
5960 يوماً
13560 ساعة
8193600 دقيقة
وبعد شهور وأسابيع وأيام ودقائق العذاب المتطاولة الخانقة هذه ، يأتيه من يطلب منه أن “يبتسم” لكي تظهر الصورة أجمل :
(إبتسم … إبتسم … بعد شويّه … إبتسم … هكذا كان المصوّر يُصدر تعليماته لي كمصوّر محترف ومشهور في بغداد بكونه مصور اللقطات الجميلة والسعيدة. وكان ذلك بعد أيام قليلة فقط من خروجي من السجن، صورة تصلح لجواز سفر، للذكرى، أو تلبية لرغبة العائلة بوصفها الصورة الأولى في الحرّية. ولكن هذا المصور الماهر كان يجهل بالطبع ما الذي يعانيه إنسان مثلي، يتعرض للتهشيم بدون هوادة منذ عشرين عاماً ! ومن عذابات لا يمكن حتى تخيلها، منها : أنه لم يشاهد زوجته وأولاده طيلة هذه المدة، ستة عشر عاماً منها يرزح في سجن (أبو غريب)، لم يستلم فيها سوى رسائل معدودة لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة) (ص 9 – المقدّمة)
إنّ هذه الـ 8193600 دقيقة وهي تمر على السجين بالدقائق وليست بالساعات أو الأيام أو الشهور ، كفيلة بأن تدمّر القوى العقلية لأي إنسان .. تبلّد حواسه .. ويصبح آلة بشريّة (من لم يشاهد منكم فيلم “الفراشة” الشهير لستيف ماكوين وداستن هوفمان فليعد ويتأمله بهدوء) ولهذا تجد السجناء المزمنين هم أبرع الأشخاص في المهن التي تتطلب الأفعال الرتيبة المُكرّرة كالمنمنمات واللوحات التقليدية والأحذية وغيرها . فكيف استطاع هذا السجين التغلب على العدو المخيف : الزمن ، والإنتصار عليه ؟
• لعبة الكريّات الحديديّة
لقد ابتكر هذا السجين طريقة فذّة سمّاها “لعبة الكريّات الحديدية” (العنوان مشابه لعنوان رواية “هرمان هيسّه” الشهيرة “لعبة الكريات الزجاجية” ولكن شتّان بين العالمين) ، وكتبها على شكل قصّة طويلة بنفس العنوان وقاربت صفحاتها الخمسين صفحة ، وموجز هذه النظرية في جانبها النظري (أو فلسفتها) هو كما يقول د. ضرغام :
(أن السجن ينطوي على معنى رئيسي وهو : تعطيل عملية البناء أولاً، ثم تهديم ما كان الإنسان قد شيده قبل السجن من منجزات مادية، تتمثل بصورة رئيسية: بمصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة، وفقدان وتلف وسرقة ما تبقى مما تملك، و السجن من الناحية المعنوية، فيه خسارة الإنسان لمجتمعه وأحبابه وأصدقائه وعلاقاته الوجدانية. ثم أن السجين وبحكم كونه لا يعمل، فهو لا يطوّر نفسه لا مهنياً و لاعلمياً و لا ثقافياً، وبالتالي فأن كل منجزاته المادية و المعنوية معرضة للفقدان، لذلك على السجين أن يحاول:
التقليل من التهديم .
ثم أحداث تعادل بين الهدم والبناء.
وبعدها جعل وتيرة البناء تتجاوز وتيرة الهدم.
وأخيراً الوصول إلى نتيجة يكون فيها السجين رابحاً) (ص 94).
أمّا تفصيل هذه النظرية العملي فأتركه للسادة القراء للإطلاع عليه والتسلّح به في عالم يبدو أن السجون والمعتقلات صار من سماته الراسخة ومكوّناته الثابتة العصيّة على التغيير ، والتفاصيل موجودة بين الصفختين 94 و97. وكان من نتائج هذه النظرية – الطريقة في المقاومة أن ضرغام كان من السجناء السياسيين القلائل الذين أسمع أنهم خرجوا متماسكين وغير مهشّمي الروح والإرادة ، ولا يصبحون اتكاليين على عائلاتهم ولا يتقاعدون من النضال من أجل وطنهم بعذر الإنهاك أو الإحباط (شحصلنه !!) أو أن السجين قد قدّم ما عليه وأكثر :
(هذا هو جوهر القضية في الصراع بين السجين والسجّان، وبين قضبان السجن، وأنا كنت قد أقسمتُ أن لا تهزمني قضبان السجن أبداً … أبداً …! فكنتُ أعمل منذ الصباح وحتى الظهيرة، ومن الظهيرة حتى العصر، ومن العصر حتى ساعات متأخرة من الليل، فكنتُ أقرأ وأكتب، وأقوم بتدريس النزلاء اللغة الألمانية، وقد صرفتُ في ذلك جهداً هائلاً.. ، إلاّ أنه جهدٌ ممتعٌ وان كان متعباً… وقد كنتُ مستمتعاً إلى الآخِر بفكرة أن السجن لم يهزمني كإنسان، نعم لقد ألحق بي أضرار جسيمة، ولكنه لم يهزمني، فخرجتُ على قدميّ صاحياً (أعني بدماغ صاحٍ)، أصافح نور الشمس، وأستمتع بنور القمر الذي غاب عني ستة عشر عاماً، أعانق الحرّية… وأشرب من كأسها ممزوجة بالفخر…. فأنا لم أقتل يوماً ، ولم أسرق فلساً واحداً من مال الشعب والحزب، لقد تعرضتُ للإهانة والسحق إلى أقصى درجة، ولكني لم أُهِن، ولم أُسحَق…تعرضتُ للكثير الكثير.. وتطاول عليّ بعضهم، ولكن هذا غير مهم البتة، فلا يستطيع أحد أن يهينك إلا إذا كان بمستواك ، أو إذا كنت أنت سبباً لهذه الإهانة…!
وفي غضون مدة قصيرة… قصيرة للغاية في الحرّية، زال عني بصورة مدهشة ما كنت أعانيه من أمراض، وبقيت لي تلك الأعمال التي كتبتها… وأهم ما بقي هو أنا… لم ينقص طولي ولا سنتمتراً واحداً ، وما زلتُ أشعر أني قادر على العطاء وبسخاء، وبالفعل فأني عاودت الكتابة والإنتاج فور خروجي من السجن، على الرغم من أن هذه الحقبة كانت حافلة بظروف الانتقال و التغير من حال الى حال ) (ص 97).
• ضحايا المغارة
ويذكّرني هذا الموقف بنقيضه الذي يتمثل بحال الكثير من السجناء – خصوصا من السياسيين الذين عالجت بعضاً منهم في عيادتي النفسية قبل الإحتلال القذر عام 2003 – والذي يذكّرنا بالحكاية الخرافية عن تلك المغارة التي حين يدخلها أي شخص يخرج وقد فقد القدرة على الكلام ، فلا يستطيع إخبار من كانوا خارجاً بما شاهده . الكثير من السجناء السياسيين “يفقدون” القدرة على وصف أهوال التجربة المدمّرة التي عاشوها في حين أن “الحديث” عنها يتضمن جانباً علاجياً مهمّاً في التفريج والتفريغ وغمر الذات بويلاتها وصولا إلى التخفّف – ولو جزئياً – من آثارها التي تلتصق كالعلق الطفيلي اللزج بأغشية بالروح ؛ بالحديث يعيد السجين العيش في أتون التجربة ، والكثير منهم يتجنب ذلك الحديث أو يفقد القدرة عليه ، وعوائلنا تقول : لا تذكّروه .. هي لا تدرك – لبساطتها – أن الحديث عنها ومواجهتها من جديد ، وصولا إلى السيطرة عليها ، هي خطوة حاسمة في الشفاء من لعنات غيلانها خصوصا عند النوم والعزلة أو مواجهة حالات تذكّر بها كالوقوف في طابور مثلا . في بعض الأحوال تصبح إستعادة التجربة المهولة عملا بطولياً . وضرغام الدباغ لم يكتف باستعادة التجربة بل حوّلها إلى حكاية ، ليس بنوع من السرد العلاجي والفنّي الذي يؤهله لكتابة رواية مثلا ، بل “سيطر” عليها و”تحكّم” بها بخلاف حال الكثير من السجناء السياسيين الذين تسيطر عليهم التجربة المريرة وتتحكم بهم وتخرّب حتى حياتهم الشخصية والعائلية .
• مواجهة الإعدام والسجن المؤبّد .. “محطّة” على طريق طويل
وضمن مظاهر “سيطرة” ضرغام الدبّاغ على تجربته المدمّرة هي اعتبارها “محطّة” ، على الرغم من أنها “محطّة” مسكونة بالأشباح ومليئة بالإحباطات الشديدة المرارة ضيّعت سنوات طويلة من حياته وحياة عائلته . غالبية السجناء يفضّلون استعادة القوى عبر الإستراحات التي قد تكون دائمية ، وقد يتقاعدون نهائيا من النضال والهموم . قلّة جبّارة تعتبر تجربة السجن السياسي طريقاً لبناء الذات – خصوصا عندما تكون طويلة مليئة بالعذاب والخيبات – وتكون تلك العذابات فرديّة ؛ بمعنى عدم ارتباط السجين بقيادة ينتظر أن تقيّم تجربته وتضيفها إلى رصيده ، فضرغام دخل السجن وخرج منه كـ “تجربة فردية” في الواقع . بمعنى أنّه لم يكن يعمل بصورة تقليدية كعضو في حزب أوسع . حتى المحقّقين لم يكونوا يصدقوه حين كان يؤكّد لهم بأنه غير مُرتبط بقيادة وتنظيم ثابت .
ولهذا فإن اعتباره هذه التجربة المُرعبة “محطّة” على طريق طويل يتمثل في خدمة أمّته وشعبه التي يعلن أنها تنتظر منه تضحيات أكبر ، خصوصا وهو يرى حرائق الخراب الذي تسبب به المحتلون الغزاة لوطننا وتدميرهم المُخطّط والمسبق والمبيّت له وتحطيمهم لحاضره ومستقبله :
(لا أريد أن أشيد بأحد، أفرادا أو جماعات، كما أنني لا أريد أن أدين أحداً كفرد، همنا اليوم أكبر من ذلك بكثير، بكثير جداً، وما شهدته بلادنا بعد الاحتلال يفوق أضعافاً مضاعفة ما كان يحدث قبل ذلك، أريد القول كفى للحكام والمحكومين، كفى …… فقد تحطّم الإناء الذي يجمعنا، وصرنا بفضل سوء تقديرنا للأشياء أعداء بعضنا، فلنرغم أنفسنا على احترام ارادة وفكر الغير، فليس سوى ذلك يجنّبنا العذاب المستطير.
أردت من تسجيل هذه الأحداث كمصدر موثوق لما جرى، لكي لا تضيع هباءً التجارب، صغيرها أو كبيرها.
كل تضحية هي رخيصة من أجل بلادنا وشعبنا) (ص 10)
• لمحة عن عذابات سجناء “الخارج”
لم ينس ضرغام من نسمّيهم “سجناء الخارج” ، وهم أفراد عائلة السجين بصورة أساسية الذين يٌسجنون – نفسيّاً – مع السجين ، ويعانون ، ويتحطّمون ، ولكنهم يُعتبرون في “الخارج” . خذ تلك اللحظة التي جاءت فيها شقيقة السجين الذي انتحر لتقابله في الزيارة المُعتادة :
(وانتحار المرحوم أحمد الغزي، وسوف لن يفارقني إلى الأبد منظر شقيقته التي جاءت إلى السجن للمواجهة ففوجئت بوفاة شقيقها، ولا يمكنني مطلقاً أن أصف منظرها، وتغالبني الدموع كلما تذكرتها) (ص 10).
• عاشق بغداد
دائما يتكرّر الوصف التقليدي أن “المناضلين الكبار يجب أن يكونوا عشاقاً كبارا” . لا يمكن تصوّر مناضل كبير حقيقي لا يحمل قلباً كبيراً ينكسر لمرأى ابسط صور العذاب الإنساني . نحن لا نتحدّث عن مناضلي السلطة الذين يكون عشقهم عادة ومصلحة وجزءا من متطلبات العمل السياسي ، بل عن مناضلي الحياة الذين يجري عشق أوطانهم في عروقهم مَصلا مضافاً أخطر وأكثر تأثيرا من المَصل العضوي الفعلي . بعد أن تم إلقاء القبض عليه في السليمانية (كانون الثاني 1987) مع مجموعة من رفاقه وزملائه الذين خططوا للهرب خارج العراق ، ونُقلوا إلى بغداد :
(وبعد التأكد منّا ومبيت ليلة واحدة فقط ، جرى تسفيرنا الى بغداد لمديرية الاستخبارات العسكرية في الكاظمية. وقد تمكنتُ من معرفة الطرق والشوارع التي نمضي فيها، على الرغم من أن عيوننا كانت معصوبة، فبغداد هي روحنا وكيف لا يعرف المرء شرايين روحه) (ص 15).
وهذا هو العشق الكبير الذي نتحدّث عنه والذي يجعل المناضل ، بل أي إنسان مهما كان ، كبيرا .
• لمحة عن الجمال المذعور:
إنّ أعظم ما يؤثر في النفس ، ويلصق بالذاكرة حتى الموت ، هو الجمال المذعور ، والإحساس به وبالحياة عموما في حضرة الموت وتحت سوته ووعيده . تلك لحظات تُدمي الروح بجمالها الحاد الممزّق ؛ أن تأتيك الذكريات الجميلة ، وما حُرمت منه من متع روحيّة بعد مدة طويلة من الحرمان وتحت شعور مُمضّ حارقٍ بأن ما ستستمتع به وتعانقه روحك ، سيتطاير سريعا ، ويضيع ، ويُسلب منك بلا رحمة وفي أية لحظة بفعل الإرادة الغاشمة :
(وفي ظهيرة يوم كان قد ابتدأ فيه القيظ في العراق، كان أخي وسام في الزنزانة المقابلة لزنزانتي تماماً رقم (4)، يشير لي بالاقتراب من القضبان، وتناهت إلى سمعي أغنية كنت أحبّ سماعها، وكانت تلك متعة تفوق التصور في تلك الصحراء البادية، وتصورتُ أن أحداً من الحراس قد رفع صوت المذياع بدون قصد منه، على أي حال، كانت هذه هدية رائعة، وما لبثتُ أن علمت أن هذا الصوت الجميل ما هو إلا غناء سامي (شاب شيوعي محكوم بالإعدام كان يعمل في الوسط المسرحي) ، الذي ما أن أنتهى من الغناء حتى كلّمني من وراء القضبان بدون أن يراني، و قال لي : أنه فعل ذلك لأجلي ! آه …و آه … أين أنت يا سامي لكي أحتضنك اليوم ؟
لكن سامي أُعدم ، مع رفيقه حسين ، نهاية عام 1987 … فآهٍ .. ثم .. آه ..) (ص 21)
• الرجال الصناديد
وهناك جانب شديد الخطورة من الحياة في السجن السياسي ، خصوصا في سجن أبو غريب ، جانب تم التعتيم عليه بصورة غير مقصودة عادة ، من خلال الشكوى والبكائيات والتذمّر من قبل السجناء السياسيين الذين يُطلق سراحهم ، والذين يصوّرون لنا – نحن المستمعين في الخارج – أنّ لا شيء هناك سوى الخراب والإنهزام والإعدامات والركوع أمام ممثلي سلطة الموت . لم تكن تصل من هذا العالم سوى أخبار الموت والإندحار والجبن والهزيمة ، في حين أن هذا العالم المظلم الخانق يحفل بسلوكيات لا يقوم بها سوى الإنسان الأسطورة أو الإنسان الإنسان ، الذي يتصدّى لحمل المسؤولية التي عرضها الله على الجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ؛ هؤلاء الرجال الصناديد الذين يقفون في شدق الموت وهم يبتسمون ويداعبون أنيابه كما قلتُ سابقاً أو يحملون الموت من إبطيه وينظرون في عينيه كما يقول الشاعر جواد الحطّاب :
(لم أكن موجوداً في تلك المدة في قسم الإعدام، إلا أن الرفيق الشهيد البطل ثجيل جديع الشحماني (أبو شاكر) والرفيق طراد نصر الله والرفيق وداد، حدثوني بصورة تفصيلية عن تلك الأحداث وبدقة تامة، وهنا لابد أن أذكر بصفة خاصة رفاقنا ومنهم الرفيق ريحان خزعل (أبو لؤي) والرفاق خالد وسكران والآخرين وكانوا كلهم قمة في الشجاعة والبطولة، بل أنهم كانوا يواجهون الموت بكل رجولة ولم يفقد أي منهم اتزانه، وكانوا يتداولون الأحداث بموضوعية … وهنا أرى لزاماً عليّ أن أقف إجلالاً وتحية لهم ولذكراهم التي سوف لن تغيب عن البال … فلن أستطيع أن أنسى لحظة دخولي إلى قسم الإعدام، وكان بعضٌ منهم يعرفني، حيث هبّ هؤلاء الرفاق الأبطال لاستقبالي، وكان الشهيد البطل وداد يأبى أن أقوم بأي عمل فكان لي هذا الرفيق بمثابة الولد أو الأخ الصغير في ذلك المكان…
المجد والخلود لأبطال العراق الشجعان.) (ص 29).
وخذ هذه المشاهد والمواقف التي تسمو فوق كل بلاغة لغوية أو لعب بالمفردات قد نتشدّق بها . على سبيل المثال المشهد الذي يتحدث فيه ضرغام عن الكيفية التي يأتي بها الموت في أبو غريب ، والمقصود كيف يتم تنفيذ حكم الإعدام بالسجناء السياسيين المحكومين به :
(كان تنفيذ أحكام الإعدام للسياسيين يتم يومي الأحد والأربعاء، وكان النزلاء يتحايلون لمعرفة ما إذا كان هناك في ذلك اليوم تنفيذ أو لا ؟، بدفع مبالغ (لا أهمية للنقود إطلاقاً في زنزانات الإعدام، وهي مجرد ورق لا يمكن الحصول بها على أي شيء.. لأنه لا يوجد أي شيء) ، والمبالغ كانت تُعطى للعامل الذي كان يجلب الطعام ويوزّعه على الزنزانات، وهو نزيل من قسم الأحكام الطويلة (الأحكام الجنائية) الذي كان يقوم بتهيئة قاعة التنفيذ وهي تشتمل على ثمانية زنزانات وستة مشانق يفصل بين كل واحد منها جدار من السلك المشبك B R C ، ويتم تحضير القاعة والحبال منذ الصباح الباكر، وفي حوالي الساعة الثانية ظهراً يحضر المأمورون وبأيديهم القيود الحديدية، ويبدأون المناداة على الأسماء التي تم التصديق على أحكام إعدام أصحابها.
ويودع المغادرون زملاءهم وترتفع الأصوات بالدعاء وكلمات الوداع، وتقيد أياديهم ويغادرون القسم في موكب مؤلم، وإذا أقام المحكوم مدة طويلة هنا، فإن المنظر قد يصبح مألوفاً بعض الشيء، ويتناقل الناس أخبار رجال اقتيدوا من هنا إلى الموت، وكانوا في صورة رائعة من البطولة. فقد روى لي الأخ محمد الجبوري الذي أمضى خمس سنوات في قسم الإعدام ثم خفضت عقوبته إلى المؤبد، وكان قد شهد تنفيذ الإعدام بحوالي (500) فرد تقريباَ، أي بمعدل (100) فرد سنوياً بين الأعوام 1991 – 1995 ، وكان الأخ محمد قد تقاسم الزنزانة مع الرفيق البطل الشهيد محمد عبد الطائي، إلى لحظة المناداة للتنفيذ. وقال لي أنه لم يشهد رباطة جأش وشجاعة واستخفاف بالموت وبعبارات بليغة، كنت أطلب من الأخ محمد الجبوري أن يعيدها لي مراراً وتكراراً، ربما لعشرات المرات، وكم اشعر بالفخر والاعتزاز بهذا الرفيق والأخ والصديق، شعور بالفخر يغطي على مشاعر الحزن العميق. كان صديقاً لي منذ 1960 وقد عملنا معاً مرات عديدة في منظمات حزبية ، وقد بعث لي الشهيد محمد بتحياته من موقف المخابرات (الحاكمية) مع الأخ عبد العزيز الكبيسي الذي كان معه في زنزانة واحدة، وحـُكم عليه بالسـجن لمـدة (40) سنة) (ص 31).
أو هذا المشهد :
(كما روى لي أحد ضباط الدائرة الذين حضروا تنفيذ الإعدام بالمناضل “علي عليان” ، بأنه كان قمة من قمم البطولة والرجولة الفذة عندما واجه حبل المشنقة، رافضاً تعصيب عينيه، وقال مخاطباً الحاضرين من مكانه المرتفع (منصة الإعدام)، بأنه غير مكترث أبداً لما يحصل له، بل هو يأسف لأجلهم إذ ينفّذون بوعي أو بلا وعي أحكاماً بحق عراقيين مخلصين للوطن) (ص 31 و32).
• مشهد يُــقرأ بالدموع
أو هذا المشهد الذي لم استطع السيطرة على دموعي وأنا أقرأه بالرغم من أنني كنتُ “أتوقّعه” لأن الأخ د. باسم الياسري مدير دار ضفاف التي نشرت الكتاب حدّثني عنه ؛ عن هذا المشهد ، هاتفياً ، والعبرات تخنقه :
(وكان هناك شاب في العشرينات من عمره من أهالي البصرة، يُدعى فراس ! كان رائعاً نقياً صافيا كماء العين… وحينما أتذكره الآن أجد نفسي أكتب هذه السطور بصعوبة بالغة، فقد أحببته كثيراً، وكان يستحق هذه المحبة. ثم أن إسم فراس يداعب أوتار قلبي، وهو أسم إبني الكبير الذي يماثله سناً، كنت أحبّ أن أراه، وكأنني بذلك أسد نقص الحاجة إلى إبني… ولا يمكن أن يمضي اليوم من دون أن أراه مرة أو مرتين أو ثلاثة، أحييه وأناديه باسمه المحبّب : فرّوسي، تماماً كما كنت أنادي إبني فراس، وقد أدرك فراس محبتي له، وكان يجيبني، بلهجته الحبيبة : “ها يابه” . فأقول له : فراس هل تعرف أني أحبك، فيقول: ” نعم يابه “، يقولها بأدب وخجل، فأقول له : هل تعرف لماذا ؟. فيرد بخجل طفولي : “نعم يابه “لأن أبنك إسمه فراس، فأقول له : لا ليس من أجل ذلك فقط، فأنت أيضاً إبني!
يا إلهي ….. كان عليّ أن أشاهد فراس يأخذونه إلى الإعدام، ففي يوم من الأيام، ربما بعد سنة من الحكم عليه ووجوده معنا في قسم الأحكام الخاصة، نودي عليه : إعادة محاكمة ، وحُكم عليه بالإعدام، وجيء به إلى السجن ليأخذ فراشه وليمضي إلى قسم الإعدام، وهذا المنظر أقسى من أن يتحمله أبٌ يفقد أبنه. أخذوا “فرّوسي” ، وكان عليّ أن أشاهد هذا المنظر، لم أشأ الخروج من الغرفة، فقد سمعت اللغط، وعلمت أنه قد عاد من المحكمة وقد حُكم عليه بالإعدام، وهو الآن يأخذ فراشه ويودع أصدقاءه الذين تجمهروا حوله، كنتُ أُدرك أن هذا المنظر المؤلم إلى أقصى درجة سوف لن يفارق مخيلتي إلى الأبد، كنت أعلم أن هذا جرحٌ مؤلمٌ لا يشفى مطلقاً، وتجربة لا أقوى عليها. لكني بعد دقائق تخيلت فيها فراس الحبيب خارجاً وإنني سوف لن أراه بعد الآن، خرجت من غرفتي أسحب قدمي سحباً ، ورأيت فراس الحبيب في الطابق العلوي يودع أصدقاءه، وانهارت قواي، فأخذني أحد الأخوة (السيد عقيل) إلى غرفة مجاورة وأخذ يهوّن عني، وعندما خرجت من الغرفة كان فراس قد غادر القسم، خرجت إلى الممر، فشاهدته وقد وضعوا القيود في يديه، وهو يدخن سيكارة ، هتفتُ له، وأنا أحاول أن أتمالك نفسي : فرّوسي… أمانة عند الله . فنظر إليّ مبتسماً وقال: لا أقدر أن آتي إليك يابه (وهو يشير إلى قيوده)… في أمان الله…….!
وبطريقة نادرة لا يمكن أن تتكرر في السجن، أرسل لي وريقة رسالة، هي آخر اتصال وإّياه.. وها أنا أرفقها مصوّرة في ملحق هذا الكتاب… ولا أريد أن أثير أحزاني وأحزان أصدقائه… ولكنها وقفة محبة لفراس الذي لا يُنسى، هو وكل أصدقائنا وإخواننا وأحبائنا… لن ننساكم أبداً!) (ص 80 و81).
لا أدري كيف يضع البنيويون السخفاء العقل سجيناً للغة ، ويتطرف السيّد فوكو فيضع العقل اسيرا للمفردة ؟! . فوسط دموعي أشعر بأن أيّ كلمة إضافية سوف تأتي باهتة بل باردة وسخيفة .. بل مُهينة لهذا المدّ الهادر من العذاب والألم الإنسانيين ، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان ، فأقرّر أن أترك الكتاب بين أيديكم أيها السادة القرّاء .
رسالة العزيز فراس أو “فرّوسي” قبيل إعدامه :
هامش
_____
* (قمر أبو غريب …. كان حزيناً – وقائع سجن (أبو غريب) قسم الأحكام الخاصة 1987 – 2002) – الدكتور ضرغام الدباغ – دار ضفاف للطباعة والنشر – الشارقة/بغداد – الطبعة الأولى – 2014 .
www.alnaked-aliraqi.net
ضرغام الدبّاغ
من كتاب “قمر ابو غريب كان حزيناً”
كتاب (قمر أبو غريب …. كان حزيناً – وقائع سجن (أبو غريب) قسم الأحكام الخاصة 1987 – 2002) للدكتور ضرغام الدباغ يتحدّث عن تجربته المريرة في سجن أبي غريب منتظراً تنفيذ حكم الإعدام فيه ثم رازحا – بعد سنوات ثقيلة مضنية – تحت مطارق المرور البطيء لأكثر من ستة عشر عاماً أمضاها كجزء من سنوات السجن المؤبد بعد “تخفيف” الحكم عليه ، هو كتاب يجب أن يقرأه كل عراقي ، وفي مقدّمتهم السياسيون والقادة الحزبيون – من أي حزب يمتلك سلطة – والعاملون في الأجهزة الأمنية بل حتى العاملين البسطاء في خدمات السجون ، والمختصون في علم النفس ، والباحثون في علم الإجتماع والقرّاء العامون وغيرهم .
* دروس لكلّ واحد منّا
كلّ واحد منا سيجد شيئا يخصّه في أعماق ذاته الهشّة ، ويكتشف قدراً من مسؤوليته عن الخراب الذي محق الحياة في وطننا . سيتعلّم الكثيرون منّا أن الإنسان فعلياً قد يتهدّم ويُحطّم لكنه لا يُهزم ، وهذا هو أعظم الدروس وأكثرها بهاءً . خذ الشرطي البسيط في السجن . إنّ ما يحيّر علماء النفس هو سلوك من يمكن أن نصطلح عليهم بـ “الجلّادون الصغار” ، وهؤلاء أدوات وسيطة تنفيذية لا ناقة لها ولا جمل في العذاب الذي يصبّونه على المعتقلين الضحايا ، بل قد يكونون هم بدورهم – في ظروف معيّنة – ضحايا للطغيان والقهر الذي لا يوفّر أحداً في العادة ، بل قد يأكل نفسه في كثير من الأحوال . لكن حين “يتبرّعون” بصبّ عذاب ومهانة مُضافين على الضحيّة فإن هذا لا يكشف سوى عن حقيقة أنّ هذا السلوك يؤكّد ما ألحّ عليه معلّم فيينا من وجود غريزة للعدوان والموت والدوافع السادية ، متأصّلة ، في النفس البشرية ، تنفلت عند أقرب فرصة مناسبة لاستخدام “السلطة” التي توفّرت بعد حرمان وإهمال وبحث عن دور ، وإلّا فإن هؤلاء البشر هم أناس بسطاء – في الحالات الإعتيادية – والمشكلة – أو الإمتياز حسب وجهة النظر التحليلية – هي أنّ الضحية المُعذّب – ضرغام ورفاقه هنا – لا يقسو عليهم قسوة مقابلة غير موضوعية وبردة فعل هوجاء كما يفعل الكثير من ضحايا القمع السياسي ، بل لم يصفهم بأوصاف مهينة وغير “مهنيّة” ، ويدعو إلى الفحص العلمي لسلوكياتهم المشينة هذه :
(الوقت كان ليلاً … فقد استغرقت الرحلة من كركوك إلى بغداد ردحاً من الزمن، وتمّت عملية استلامنا في ظروف لا يمكن وصفها بالإعتيادية، ولا تخلو من ضربات عشوائية لا معنى لها، مع شلّال من السباب والشتائم التي تفتقر بصورة تامة إلى الأدب والأخلاق العامة، ناهيك عن القانون الغائب ذكره وتطبيقه. والحقيقة أنني لم أكن أفهم مغزى ذلك . فقد نكون مذنبين من وجهة نظر السلطات (بهذا القدر أو ذاك)، وقد نستحق المحاكمة والعقاب، ولكني لا أفهم معنى الشتائم والضرب الذي لا ينطوي إلا على معنى واحد، هو أن هؤلاء الحراس قد اعتادوا الإهانة، أخذاً وعطاء، وفقدوا حتماً الكثير من صفات البشر المُحترمين، ولكن من يهتم …؟ فالأمر لا ينم عن احترام هنا، بل أنني كنت في كثير من الحالات أتطلع بعمق إلى وجوه القائمين بعمليات الضرب والتعذيب وحفلات الشتائم والإهانات، و أسائل نفسي ترى هل كنا نسير وإياهم في شوارع هذه المدينة ؟ وهل يضمّنا – جميعاً – هذا الوطن الحبيب ..؟ أم تُرى – ويا للفزع – ربما قد دخلنا مطاعم ومقاهي مشتركة. إن الأمر بحاجة حقاً إلى علماء في الهندسة الوراثية) (ص 15 و16).
وكإشارة سريعة أقول لمن يعملون في الوسط الفني إنّ من مجالات استثمار هذا الكتاب إبداعيا هو تحويله إلى مسلسل تلفزيوني أو فيلم يعرض للناس ما الذي يفعله الطغيان بالإنسان ، وكيف تجعل إرادة الصمود الفرد ينهض من تحت رماد الخراب ليسطّر ملحمة صموده في وجه القهر والموت والطغيان .
وهناك الدرس الأهم الموجّه للسياسيين أصحاب السلطة ، خصوصاً حينما يكونون قد انحدروا من سوح نضال يُفترض أنّها قد صقلت ضمائرهم وجعلتها أكثر رهافة وصحوا في ما يتعلّق بحقوق الناس الذين يزعمون خدمتهم ، وبكرامة ووجود رفاقهم حتى لو اختلفوا معهم . فخلف هذا الوصف الشاعري : (القمر الحزين) ، تتخفّى كلّ بشاعة الإنسان حين يصبح ذئباً لأخيه الإنسان ، وحين ينسى الله القدير وعدله ورحمته وهو فوقه ومحيط به وتحت أنظاره التي لا تنام .. حين يموت ضميره فيصبح حيواناً ساديّاً ، والفارق بين الإنسان والحيوان هو الضمير وليس اللغة أو انتصاب القامة أو الميل للإجتماع كما يعلن الفلاسفة . الضمير – أيّها السادة – الذي هو عين الله داخل الإنسان ، هو الذي يميّزنا عن باقي المخلوقات التي تقوم بأفعالها “الخيّرة” وفق الغريزة .
في تجربة ضرغام الدبّاغ الدرس التي ينبغي أن تُدرّس وتُلقّن للسياسيين ، ليروا كيف سيصبحون حيوانات بشرية حين يفقدون ضميرهم ، ويبطشون بأنقى رفاقهم الذين لا يبغون سوى الخير لهذا الشعب المُعذّب الذي يتشدقون بخدمته والحرص على مصالحه .
وللسجناء السياسيين السابقين يثير هذا الكتاب في أذهاننا هذا التساؤل : تُرى ، متى يكتب السياسيون العراقيون – وخصوصا المناضلون منهم – تجارب سجنهم وعذابهم ؟! الآلاف من العراقيين سُجنوا في سجن “نقرة السلمان” الرهيب مثلا ، ومع ذلك لم نقرأ غير كتاب أو كتابين عن الحياة في هذا السجن الرهيب والدروس المُستخلصة منها ، وبعض الذكريات المتناثرة .. هل هذا معقول ؟! . من الناحية النفسية – وكما قلتُ في المقدّمة – قد يكون سعي السجين السابق لتجنّب استعادة تفصيلات الشدّة الفاجعة الفظيعة واحداً من الأسباب ، ولكن على الجميع مسؤولية تجاه الأجيال الحاضرة والقادمة كي لا تسقط في الفخّ نفسه ، وها نحن نسقطُ فيه من جديد ، حيث انتعشت السجون السياسية في ظلّ الديمقراطية !!
أوّل ما تقوم به تجاربنا التي نبنيها بدمائنا ، هو أن تلتفت لتفترسنا نحن بناتها الذين أمضينا في إشادة أسسها سنوات طويلة من القهر والعوز والعناء ، وضيّعنا الأعمار والأحبة والآمال والأمنيات من أجل حمايتها . وذات مرّة وصف الكاتب الشهيد “عزيز السيد جاسم” الثورة الجزائرية في أحد كتبه بأنها (ثورة المليون شهيد ، ولكنها التجربة التي لم تحترم أي شهيد) ، وأرى أن هذا الوصف ينطبق على تجارب الحكم السياسي في العراق . فقد قدّم آلاف الشهداء أرواحهم على طريق المبادئ ومذبح النضال كما كانوا
يهتفون ، ولكن تجارب الحكم لم تحترم أيّ شهيد منهم ! بل أجحفت في حق الأحياء المخلصين منهم ، وكان د. ضرغام الدباغ منهم :
(كانت السلطات قد منعتني من السفر للعودة إلى ألمانيا حيث تقيم عائلتي، وكنت قبل ذلك قد قدّمتُ استقالتي من وزارة الخارجية احتجاجاً على سوء المعاملة، وبذلك قطعت كل صلة لي بأي دائرة من دوائر الدولة، كما حُرمت أيضاً من راتبي التقاعدي وباءت بالفشل كل الجهود للخروج من البلاد بصورة شرعية، بما في ذلك محاولات بذلها أصدقاء لي. وعلى الرغم من حصولي على عقد عمل ممتاز وفي إحدى دول الخليج، فقد كانت السلطات تصر على إبقائي في بغداد، وتعمل كل ما يضايقني لكي تحقق هذا الهدف : البقاء في العراق والعمل في دائرة حكومية تعيّنها هي، بما يؤدي إلى وضعي تحت أنظارها وسيطرتها، وكان أفضل ما توصلتُ إليه بهذا الشأن هو العمل في الجامعات العراقية، فيما كانت زوجتي وطفلاي (عائلتي) ما زالوا يقيمون في ألمانيا في ظروف صحية ومعيشية ونفسية يصعب فيها الانتقال إلى العراق، خاصة وقد تحوّل الأمر برمته إلى موقف مهين يصعب احتماله) (ص 13).
لقد رفض العلاقات المنافقة ، ولم يكن قادرا على السير في الدرب الأسود لحرق البخور للمتحكّمين .
ولنا جميعاً ، يحمل هذا الكتاب ميزة كبرى أواجهها للمرة الأولى في كتابة عراقية سياسية إنسانية عن الحياة في سجن أبي غريب ، هذه الميزة تتمثل في أنّها درس أنموذجي عن الكيفية التي يثبت فيها إنسان بأنه يحظى بإرادة أسطورية . إنسان لا يفرّط بإنسانيته ومبادئه ، وهو يقف بين شدقي الموت ، والموت صاحٍ ويقظ وليس نائما كما يقول المتنبي ، فكيف بهذا السجين وهو يلعب بأنياب الموت ؟! إنها قصيدة بطولة الإنسان الخالدة .. الإنسان الذي يؤمن بأنّ الله حقّاً قد نفخ فيه من روحه ، وأنّ عليه أن يكون في مستوى الحفاظ على هذه النفحة / اللُقية / العطية التي لا تُثمّن بكل كنوز الدنيا . لقد دخل ضرغام السجن وهو مرفوع الرأس بالرغم من أنه كان مهدّداً بالإعدام في أيّة لحظة ، ثم خرج – وهذه من الحالات النادرة – وهو أكثر قوّة – روحيّة – وأرفع شموخاً . ومن وجهة نظري – وهذا الدرس منه – فإن العامل الأساس في عدم إنهياره هو أنه تحصّن ولم يتفاجأ ؛ تحصّن بقناعة راسخة مفادها أنه من الممكن أن يموت في أيّة لحظة منذ أن وضع قدمه على طريق النضال الطويل ، وكان مؤمنا بأنه – حين يُشنق – فإن قدميه ستكون بمستوى رؤوس جلّاديه .
• التسلّح بالتوقّع
فمن الأمور التي تعزّز قدرة المناضل على مواجهة الجلّاد وضغوط تجربة الإعتقال والتحقيق والتعذيب ، هي مسألة “التوقّع – Expectancy” كما تُسمّى في علم نفس الشدائد ، فأي مصيبة تهون تأثيراتها حينما تكون متوقّعة بقدر ما ، ويتضاعف فعلها المدمّر حين تكون مباغتة ومفاجئة . على المناضل أن “يتوقّع” دائما أن الإعتقال والتعذيب والتجويع وفقدان الأحبة وغيرها مما يواجهه على أيدي السلطة القامعة الطغيانية هو أمر قد يحصل في اي لحظة وأن يكون مستعدّاً لمواجهته ، وحتى أن “يتخيّل” أحيانا حياته في السجن أو على منصة الإعدام . عن هذا الطريق لا يتفاجأ .. يتحطّم وينهار الذين “يتوقعون” أن طريق النضال نزهة وتحقيق أحلام مراهقة وأفعال إنقاذية مكبوتة . ولهذا كان ضرغام الدباغ يستقبل أعتى الضربات من جلّاده ممثلة بلحظة إصدار قرار الإعدام بروح واثقة وأعصاب متماسكة لأنه كان “يتوقّعه” .. الكتاب محمّل بالوصايا :
(ومن المُدهش أن الحرّاس والمأمورين يُصابون في بعض الاحيان برعب وهلع يعادل أو يفوق ما يصيب المحكومين أنفسهم، وكانت عملية تكبيل الأيادي إلى الخلف تتم في ظروف يعلو فيها الصراخ، والعصبية البالغة من الحرّاس، ويدهشهم كثيراً من يخرج من قاعة (المحكمة) وقد حُكم عليه بالإعدام، وهو هاديء الأعصاب متزن الخطوات. أما أنا، فقد كنت مستعداً أتمّ الاستعداد لمثل هذا اليوم الذي طالما تخيلته، وقد رضيتُ به دوماً، فأنتَ عندما تريد التغيير، فلا بدّ أن تضع في حسابك ردّ فعل الآخرين) (ص 23)
• مهزلة محكمة الثورة : المُتّهم مُتّهم إلى أن تثبت براءته
وكيف تمّ إصدار حكم الإعدام هذا بما يعنيه من اجتثاث لحياة إنسان ؟ يتحدّث د. ضرغام عن الموقف الذي تم تقديمهم – هو وثلاثة من رفاقه – فيه إلى محكمة الثورة حيث شهد مهزلة مهازل “العدالة” . ومع ذلك فهو مستعد للنسيان إذا كان هذا النسيان يخدم العراق .. الله :
(كانت محاكمة قصيرة كما أسلفنا، محاكمة فريدة من نوعها ، المُتهم فيها مُدان قبل بدء المحكمة. وأول حديث للقاضي مع المتهم بعد سماعه لأقوال المدّعي العام، التي هي في معظم الأحوال افتراضات وخرافات وتخيلات، يطرح القاضي سؤالاً: هل أنت متهم أم بريء ؟ وإذا أجاب المتهم بأنه بريء، يرد عليه القاضي : أثبت لنا براءتك …؟ وهذا بصورة غريبة تجاهل لقاعدة قانونية رئيسية ومتفق عليها في فقه القانون تنص على أن : المتهم بريء حتى تثبت أدانته، ولكن في محكمة الثورة كان الأمر معكوساً…! وجرت محاكمتنا بدون أي شاهد …! إنها محاكمة بدون شاهد، و مع ذلك أُعدم في نهايتها أربعة رجال !! ترى هل يمكن محو هذه الواقعة من الذاكرة والتأريخ ..؟ إذا كان في نسيانها خدمة للوطن.. سنمحوها لأجل العراق !) (ص 22).
وحين أقول مهزلة المهازل ، فإن هذا يشمل كل شيء من دخول المحكمة إلى الوقوف أمام القاضي وإلى سلوك ذلك القاضي وإصدار الحكم وضبطه وفق المواد القانونية :
(وتوصّل القاضي والمدّعي العام إلى تفصيل مدهش لنظرية الشروع البائسة، وقد فنّدتُها بسهولة ويُسر ، ويستطيع غيري أن يفعل ذلك أيضاً إذا كان مطّلعاً على القانون . ولم يكن بالإمكان مطلقاً تطبيق نظرية الشروع، ومضمونها هو: الشروع فعل إجرامي إنصرفت إرادة الفاعل له وبدأ تنفيذه ولم يتمكن من تحقيق نتيجة الجريمة بسبب خارج على إرادة الفاعل. وإن ثبت للمحكمة شروع المتهم يُدان ، و يُعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على الخمس سنوات، هذا إذا كان شروعاً بالقتل !! أما نحن فقد ألقي القبض علينا فجراً في بيت أستاذ جامعي، فحُكم علينا بالاستناد الى المواد 175 –157 ومادة إضافية بالنسبة لي هي 208 (بسبب مقال : النداء الأخير قبل غرق السفينة) ، والمادة الرئيسية التي حُكمنا بموجبها 157 تنص على : ” كل من قاتل قوات الجمهورية العراقية مع قوات أجنبية خارج العراق” .
ولن أُعلّق ولن أزيد، فالزيادة كالنقصان …!) (ص 22 و23).
هذه المهازل كنّا نسمعها كثيرا عن عمل محكمة الثورة . مرّة قال لي سجين سياسي كنت أعالجه من مرض الكآبة في عيادتي إنّه لم يتحطّم في المحاكمة الفعلية ، بل خلال مدّة الإنتظار بسبب بساطة إصدار أحكام الإعدام وسرعتها .. كلّ من يدخل ويخرج : إعدام .. إعدام .. إعدام !!
• الحرص على الدور التربوي وسط لهيب المحنة
وفي استخلاص التجارب يخرج د. ضرغام من دائرة اجترار البكائيات المرتبطة بالصور السيّئة لمن عايشهم ولم يتعدّوا سدّة التجربة ، ويحاول تأكيد الصور المشرقة أمام القارىء ، منطلقاً من الدور التربوي الدائم الذي على المناضل أن يعكسه في أدق تفصيلات حياته :
(لم أكن أريد أن أدون يوميات أو مذكرات عن تجربة سجن (أبو غريب) العميقة، وهي مؤلمة قبل أي وصف آخر، حقبةً وتجربةً طالت واستطالت حتى بلغت ست عشرة سنة، هي من أكثر حقب سجن (أبو غريب) ظلاماً وقهراً ، (قبل أن يزيدها الاحتلال الجائر ظلماً وسواداً أضعافاً مضاعفة) . لم أكن أشأ أن أكتب عن تلك السنين إذ لا شك أن ذاكرتي تحتفظ بذكريات مريرة … والمسيرة كانت تنطوي على صور مؤسفة إلى جانب الصور المشرقة، ولكننا نريد هنا تجاوز الصور المؤسفة لنركز في الصور المشرقة، وعلى الطيبين من أبناء شعبنا وهي الصورة العامة الغالبة) (ص 9).
• مفتاح الصمود : الإعتزاز بالذات
بعد نقلهم إلى بغداد بدأ التحقيق في اسوأ المعتقلات وهو موقف مديرية الإستخبارات االعسكرية ، وهنا درس لمن يتصوّرون أن الإنخذال والتوسّلات والدموع سوف تخفف نقمة الجلاد أو المحقق عنهم .. أبداً . لقد ثبت في علم النفس أن الناس تحترم الجريح المتماسك وتساعده وتحتقر الجريح البكأء .. الإعتزاز بالذات وعدم الإنهيار مفتاح للحصول على احترام مقابل حتى لو كان مغلّفا بالنقمة وبالمزيد من التعذيب :
(وفي أثناء التحقيق لا أنكر أنني كنتُ أحاول أن أحافظ على فارق في المستوى – من الناحية السياسية – بين مناضل ومُحقّق، أو بين دبلوماسي وأستاذ جامعي وكاتب ، وضابط غاوي ثقافة، مهنته الرئيسية الحرب والضرب. والمفروض ضرب أعداء البلاد، وليس إخضاع الناس إلى تحقيقات سياسية مهينة. نعم كان يحاول إهانتي ولكنه لم يبلغ ذلك قط، وكنت أبيّن له أنه أقل من أن يقدر على ذلك … أقل بكثير… فأنا ممتليء كبرياءً واعتزازا بنفسي وبما فعلت، وما يبديه هذا المحقق ليست سوى خربشات على جدار عالٍ، وأنا حريص على إبقائه عالياً) (ص 17).
• منتصب القامة أمشي وعلى كتفي نعشي
وقد سار هذا الإعتزاز وروح التعالي على السفاسف والمستلزمات المادية اليومية الحيوانية التي يبتز الجلاد بها ضحاياه طول سنوات التجربة المرعبة . وفي كل “فرضيّة” نظرية عن الحياة في ظلمات السجن الرهيبة وسُبل مقاومة الجلّاد يٌقدّم الكاتب أمثلة عمليّة تطبيقية لعل أكثرها تأثيراً وبلاغة في مجال احترام الذات والحفاظ على قامة الروح – وليس قامة الجسد حسب – منتصبة مرفوعة الهامة هو ما حصل مع مصوّر السجن:
(وهنا أشير الى أن السجّان يريد أن يقهر السجين، أن يدمّر فيه شيئاً… وأنت لا بُدّ أن تقبل خسارة بعض الأمور غير المهمة، وغير الجوهرية، ولكن عليك المحافظة وبإصرار على المهم والأهم ألا وهو : أن تبقى روحك نظيفة ونقيّة وأن لا تنهار.
حدث يوماً أن جاءو بمصوّر يلتقط لنا صور كتلك التي للسجناء التي يحمل فيها لوحة خشبية مكتوب عليها رقمه، وأنا لستُ ممن تزعجني أو تجرحني مثل هذه الخدوش، ولكن المصوّر ، وكان مفوضاً في الأمن، قصير القامة ، فطلب مني أن أثني ركبتي قليلاً ليتمكن من التقاط الصورة، فحرتُ ماذا أقول لهذا الشاب، اقتربت منه ، وقلت له هامساً :
“إنّ بقائي بطول قامتي هذه كلفني خمسة عشر عاماً هنا في السجن ، وأنت تريد مني – الآن – أن أنزل، أن أتنازل أو أخفض .. ألا ترى من العدل أن تضع طابوقة تحت قدميك لترتفع قليلاً من دون أن أخفض قامتي ؟ .. فبُهت الرجل .. ولكنه فعل ذلك، وأعتذر مني، مبدياً التفهم قائلاً : العفو أستاذ..!) (ص 98).
بهذا “التوقّع” للضريبة الباهضة ، وبهذه الإرادة الحديدية ، وبالتخطيط الواعي، والمقاومة الباسلة لضغوط السجن وتلاعبات الجلّاد ، صارت التجربة التي تخرّب روح الإنسان ، وتدمّر قواه الخلّأقة ، عادةً ، مصدراً لإثراء الذات ، وتحوّل جحيمها إلى فرصة للإبداع . وخذ هذه المقارنة بين ما أنتجه الرجل في حياة البيت المسالمة الرخيّة ، وما أنجزه تحت مطارق تجربة السجن الثقيلة المُقلقة والمُربكة :
(في بيتي، مثلاً ، في عام 1986 ، وهو آخر عام لي في الحرّية، كنت قد انجزتُ :
تأليف كتاب: استخدام القوة المسلحة في العلاقات الدولية.
ومسـرحية : الناس والأمل والمستقبل.
وترجمة كتاب: الحرب الأهلية الأسبانية.
ولكنني في أعوام سجني كنت أكثر نشاطاً على صعيد التأليف والترجمة. و على الرغم من تأثير السنين الطويلة، وذكرياتها المريرة التي قد تحفر أخاديد عميقة في طاقة الإنسان وصبره. فعلى سبيل المثال ، وفي السنة الأخيرة من السجن (السنة السادسة عشرة)، أنجزتُ تأليف عملٍ صعب ومعقّد بعنوان: “الاستهلال والاستكمال: دراسة في الفكر السياسي المقارن ـ الرافديني / الأغريقي ـ و العربي الإسلامي والمسيحي الليبرالي” ، في جزئين، كما أنني أنجزت ترجمة رواية : الجنتلمان، لهاينز كونزاليك، وترجمة كتاب عن عصر النهضة يضم تحليلاً لستة وأربعين تخطيطاً لمايكل أنجلو، وهي من أصعب ما تَرجمتُ، وترجمة لمقدمة القرآن الكريم، للبروفسورة آنا ماريا زيشل، وتأليف كتاب صغير (60) صفحة لتحليل عمل البعثة الدبلوماسية البريطانية في العراق1958 – 1959، وقصة قصيرة بعنوان: لعبة الكريات الحديدية) (ص 95).
• الإنتصار على وحش اسمه الزمن
إنّ العدوّ الأكبر للسجين – بعد صدمة الإعتقال الإبتدائية – هو : الزمن ، وذلك إذا حقق بنجاح عمليّة “التكيّف” مع ضغوط الحياة في السجن . الزمن ببطئه الثقيل المميت . حَسَبَ ضرغام هذا الزمن المدمّر وجمعه وقسمه فكان :
189 شهراً
813 أسبوعاً
5960 يوماً
13560 ساعة
8193600 دقيقة
وبعد شهور وأسابيع وأيام ودقائق العذاب المتطاولة الخانقة هذه ، يأتيه من يطلب منه أن “يبتسم” لكي تظهر الصورة أجمل :
(إبتسم … إبتسم … بعد شويّه … إبتسم … هكذا كان المصوّر يُصدر تعليماته لي كمصوّر محترف ومشهور في بغداد بكونه مصور اللقطات الجميلة والسعيدة. وكان ذلك بعد أيام قليلة فقط من خروجي من السجن، صورة تصلح لجواز سفر، للذكرى، أو تلبية لرغبة العائلة بوصفها الصورة الأولى في الحرّية. ولكن هذا المصور الماهر كان يجهل بالطبع ما الذي يعانيه إنسان مثلي، يتعرض للتهشيم بدون هوادة منذ عشرين عاماً ! ومن عذابات لا يمكن حتى تخيلها، منها : أنه لم يشاهد زوجته وأولاده طيلة هذه المدة، ستة عشر عاماً منها يرزح في سجن (أبو غريب)، لم يستلم فيها سوى رسائل معدودة لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة) (ص 9 – المقدّمة)
إنّ هذه الـ 8193600 دقيقة وهي تمر على السجين بالدقائق وليست بالساعات أو الأيام أو الشهور ، كفيلة بأن تدمّر القوى العقلية لأي إنسان .. تبلّد حواسه .. ويصبح آلة بشريّة (من لم يشاهد منكم فيلم “الفراشة” الشهير لستيف ماكوين وداستن هوفمان فليعد ويتأمله بهدوء) ولهذا تجد السجناء المزمنين هم أبرع الأشخاص في المهن التي تتطلب الأفعال الرتيبة المُكرّرة كالمنمنمات واللوحات التقليدية والأحذية وغيرها . فكيف استطاع هذا السجين التغلب على العدو المخيف : الزمن ، والإنتصار عليه ؟
• لعبة الكريّات الحديديّة
لقد ابتكر هذا السجين طريقة فذّة سمّاها “لعبة الكريّات الحديدية” (العنوان مشابه لعنوان رواية “هرمان هيسّه” الشهيرة “لعبة الكريات الزجاجية” ولكن شتّان بين العالمين) ، وكتبها على شكل قصّة طويلة بنفس العنوان وقاربت صفحاتها الخمسين صفحة ، وموجز هذه النظرية في جانبها النظري (أو فلسفتها) هو كما يقول د. ضرغام :
(أن السجن ينطوي على معنى رئيسي وهو : تعطيل عملية البناء أولاً، ثم تهديم ما كان الإنسان قد شيده قبل السجن من منجزات مادية، تتمثل بصورة رئيسية: بمصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة، وفقدان وتلف وسرقة ما تبقى مما تملك، و السجن من الناحية المعنوية، فيه خسارة الإنسان لمجتمعه وأحبابه وأصدقائه وعلاقاته الوجدانية. ثم أن السجين وبحكم كونه لا يعمل، فهو لا يطوّر نفسه لا مهنياً و لاعلمياً و لا ثقافياً، وبالتالي فأن كل منجزاته المادية و المعنوية معرضة للفقدان، لذلك على السجين أن يحاول:
التقليل من التهديم .
ثم أحداث تعادل بين الهدم والبناء.
وبعدها جعل وتيرة البناء تتجاوز وتيرة الهدم.
وأخيراً الوصول إلى نتيجة يكون فيها السجين رابحاً) (ص 94).
أمّا تفصيل هذه النظرية العملي فأتركه للسادة القراء للإطلاع عليه والتسلّح به في عالم يبدو أن السجون والمعتقلات صار من سماته الراسخة ومكوّناته الثابتة العصيّة على التغيير ، والتفاصيل موجودة بين الصفختين 94 و97. وكان من نتائج هذه النظرية – الطريقة في المقاومة أن ضرغام كان من السجناء السياسيين القلائل الذين أسمع أنهم خرجوا متماسكين وغير مهشّمي الروح والإرادة ، ولا يصبحون اتكاليين على عائلاتهم ولا يتقاعدون من النضال من أجل وطنهم بعذر الإنهاك أو الإحباط (شحصلنه !!) أو أن السجين قد قدّم ما عليه وأكثر :
(هذا هو جوهر القضية في الصراع بين السجين والسجّان، وبين قضبان السجن، وأنا كنت قد أقسمتُ أن لا تهزمني قضبان السجن أبداً … أبداً …! فكنتُ أعمل منذ الصباح وحتى الظهيرة، ومن الظهيرة حتى العصر، ومن العصر حتى ساعات متأخرة من الليل، فكنتُ أقرأ وأكتب، وأقوم بتدريس النزلاء اللغة الألمانية، وقد صرفتُ في ذلك جهداً هائلاً.. ، إلاّ أنه جهدٌ ممتعٌ وان كان متعباً… وقد كنتُ مستمتعاً إلى الآخِر بفكرة أن السجن لم يهزمني كإنسان، نعم لقد ألحق بي أضرار جسيمة، ولكنه لم يهزمني، فخرجتُ على قدميّ صاحياً (أعني بدماغ صاحٍ)، أصافح نور الشمس، وأستمتع بنور القمر الذي غاب عني ستة عشر عاماً، أعانق الحرّية… وأشرب من كأسها ممزوجة بالفخر…. فأنا لم أقتل يوماً ، ولم أسرق فلساً واحداً من مال الشعب والحزب، لقد تعرضتُ للإهانة والسحق إلى أقصى درجة، ولكني لم أُهِن، ولم أُسحَق…تعرضتُ للكثير الكثير.. وتطاول عليّ بعضهم، ولكن هذا غير مهم البتة، فلا يستطيع أحد أن يهينك إلا إذا كان بمستواك ، أو إذا كنت أنت سبباً لهذه الإهانة…!
وفي غضون مدة قصيرة… قصيرة للغاية في الحرّية، زال عني بصورة مدهشة ما كنت أعانيه من أمراض، وبقيت لي تلك الأعمال التي كتبتها… وأهم ما بقي هو أنا… لم ينقص طولي ولا سنتمتراً واحداً ، وما زلتُ أشعر أني قادر على العطاء وبسخاء، وبالفعل فأني عاودت الكتابة والإنتاج فور خروجي من السجن، على الرغم من أن هذه الحقبة كانت حافلة بظروف الانتقال و التغير من حال الى حال ) (ص 97).
• ضحايا المغارة
ويذكّرني هذا الموقف بنقيضه الذي يتمثل بحال الكثير من السجناء – خصوصا من السياسيين الذين عالجت بعضاً منهم في عيادتي النفسية قبل الإحتلال القذر عام 2003 – والذي يذكّرنا بالحكاية الخرافية عن تلك المغارة التي حين يدخلها أي شخص يخرج وقد فقد القدرة على الكلام ، فلا يستطيع إخبار من كانوا خارجاً بما شاهده . الكثير من السجناء السياسيين “يفقدون” القدرة على وصف أهوال التجربة المدمّرة التي عاشوها في حين أن “الحديث” عنها يتضمن جانباً علاجياً مهمّاً في التفريج والتفريغ وغمر الذات بويلاتها وصولا إلى التخفّف – ولو جزئياً – من آثارها التي تلتصق كالعلق الطفيلي اللزج بأغشية بالروح ؛ بالحديث يعيد السجين العيش في أتون التجربة ، والكثير منهم يتجنب ذلك الحديث أو يفقد القدرة عليه ، وعوائلنا تقول : لا تذكّروه .. هي لا تدرك – لبساطتها – أن الحديث عنها ومواجهتها من جديد ، وصولا إلى السيطرة عليها ، هي خطوة حاسمة في الشفاء من لعنات غيلانها خصوصا عند النوم والعزلة أو مواجهة حالات تذكّر بها كالوقوف في طابور مثلا . في بعض الأحوال تصبح إستعادة التجربة المهولة عملا بطولياً . وضرغام الدباغ لم يكتف باستعادة التجربة بل حوّلها إلى حكاية ، ليس بنوع من السرد العلاجي والفنّي الذي يؤهله لكتابة رواية مثلا ، بل “سيطر” عليها و”تحكّم” بها بخلاف حال الكثير من السجناء السياسيين الذين تسيطر عليهم التجربة المريرة وتتحكم بهم وتخرّب حتى حياتهم الشخصية والعائلية .
• مواجهة الإعدام والسجن المؤبّد .. “محطّة” على طريق طويل
وضمن مظاهر “سيطرة” ضرغام الدبّاغ على تجربته المدمّرة هي اعتبارها “محطّة” ، على الرغم من أنها “محطّة” مسكونة بالأشباح ومليئة بالإحباطات الشديدة المرارة ضيّعت سنوات طويلة من حياته وحياة عائلته . غالبية السجناء يفضّلون استعادة القوى عبر الإستراحات التي قد تكون دائمية ، وقد يتقاعدون نهائيا من النضال والهموم . قلّة جبّارة تعتبر تجربة السجن السياسي طريقاً لبناء الذات – خصوصا عندما تكون طويلة مليئة بالعذاب والخيبات – وتكون تلك العذابات فرديّة ؛ بمعنى عدم ارتباط السجين بقيادة ينتظر أن تقيّم تجربته وتضيفها إلى رصيده ، فضرغام دخل السجن وخرج منه كـ “تجربة فردية” في الواقع . بمعنى أنّه لم يكن يعمل بصورة تقليدية كعضو في حزب أوسع . حتى المحقّقين لم يكونوا يصدقوه حين كان يؤكّد لهم بأنه غير مُرتبط بقيادة وتنظيم ثابت .
ولهذا فإن اعتباره هذه التجربة المُرعبة “محطّة” على طريق طويل يتمثل في خدمة أمّته وشعبه التي يعلن أنها تنتظر منه تضحيات أكبر ، خصوصا وهو يرى حرائق الخراب الذي تسبب به المحتلون الغزاة لوطننا وتدميرهم المُخطّط والمسبق والمبيّت له وتحطيمهم لحاضره ومستقبله :
(لا أريد أن أشيد بأحد، أفرادا أو جماعات، كما أنني لا أريد أن أدين أحداً كفرد، همنا اليوم أكبر من ذلك بكثير، بكثير جداً، وما شهدته بلادنا بعد الاحتلال يفوق أضعافاً مضاعفة ما كان يحدث قبل ذلك، أريد القول كفى للحكام والمحكومين، كفى …… فقد تحطّم الإناء الذي يجمعنا، وصرنا بفضل سوء تقديرنا للأشياء أعداء بعضنا، فلنرغم أنفسنا على احترام ارادة وفكر الغير، فليس سوى ذلك يجنّبنا العذاب المستطير.
أردت من تسجيل هذه الأحداث كمصدر موثوق لما جرى، لكي لا تضيع هباءً التجارب، صغيرها أو كبيرها.
كل تضحية هي رخيصة من أجل بلادنا وشعبنا) (ص 10)
• لمحة عن عذابات سجناء “الخارج”
لم ينس ضرغام من نسمّيهم “سجناء الخارج” ، وهم أفراد عائلة السجين بصورة أساسية الذين يٌسجنون – نفسيّاً – مع السجين ، ويعانون ، ويتحطّمون ، ولكنهم يُعتبرون في “الخارج” . خذ تلك اللحظة التي جاءت فيها شقيقة السجين الذي انتحر لتقابله في الزيارة المُعتادة :
(وانتحار المرحوم أحمد الغزي، وسوف لن يفارقني إلى الأبد منظر شقيقته التي جاءت إلى السجن للمواجهة ففوجئت بوفاة شقيقها، ولا يمكنني مطلقاً أن أصف منظرها، وتغالبني الدموع كلما تذكرتها) (ص 10).
• عاشق بغداد
دائما يتكرّر الوصف التقليدي أن “المناضلين الكبار يجب أن يكونوا عشاقاً كبارا” . لا يمكن تصوّر مناضل كبير حقيقي لا يحمل قلباً كبيراً ينكسر لمرأى ابسط صور العذاب الإنساني . نحن لا نتحدّث عن مناضلي السلطة الذين يكون عشقهم عادة ومصلحة وجزءا من متطلبات العمل السياسي ، بل عن مناضلي الحياة الذين يجري عشق أوطانهم في عروقهم مَصلا مضافاً أخطر وأكثر تأثيرا من المَصل العضوي الفعلي . بعد أن تم إلقاء القبض عليه في السليمانية (كانون الثاني 1987) مع مجموعة من رفاقه وزملائه الذين خططوا للهرب خارج العراق ، ونُقلوا إلى بغداد :
(وبعد التأكد منّا ومبيت ليلة واحدة فقط ، جرى تسفيرنا الى بغداد لمديرية الاستخبارات العسكرية في الكاظمية. وقد تمكنتُ من معرفة الطرق والشوارع التي نمضي فيها، على الرغم من أن عيوننا كانت معصوبة، فبغداد هي روحنا وكيف لا يعرف المرء شرايين روحه) (ص 15).
وهذا هو العشق الكبير الذي نتحدّث عنه والذي يجعل المناضل ، بل أي إنسان مهما كان ، كبيرا .
• لمحة عن الجمال المذعور:
إنّ أعظم ما يؤثر في النفس ، ويلصق بالذاكرة حتى الموت ، هو الجمال المذعور ، والإحساس به وبالحياة عموما في حضرة الموت وتحت سوته ووعيده . تلك لحظات تُدمي الروح بجمالها الحاد الممزّق ؛ أن تأتيك الذكريات الجميلة ، وما حُرمت منه من متع روحيّة بعد مدة طويلة من الحرمان وتحت شعور مُمضّ حارقٍ بأن ما ستستمتع به وتعانقه روحك ، سيتطاير سريعا ، ويضيع ، ويُسلب منك بلا رحمة وفي أية لحظة بفعل الإرادة الغاشمة :
(وفي ظهيرة يوم كان قد ابتدأ فيه القيظ في العراق، كان أخي وسام في الزنزانة المقابلة لزنزانتي تماماً رقم (4)، يشير لي بالاقتراب من القضبان، وتناهت إلى سمعي أغنية كنت أحبّ سماعها، وكانت تلك متعة تفوق التصور في تلك الصحراء البادية، وتصورتُ أن أحداً من الحراس قد رفع صوت المذياع بدون قصد منه، على أي حال، كانت هذه هدية رائعة، وما لبثتُ أن علمت أن هذا الصوت الجميل ما هو إلا غناء سامي (شاب شيوعي محكوم بالإعدام كان يعمل في الوسط المسرحي) ، الذي ما أن أنتهى من الغناء حتى كلّمني من وراء القضبان بدون أن يراني، و قال لي : أنه فعل ذلك لأجلي ! آه …و آه … أين أنت يا سامي لكي أحتضنك اليوم ؟
لكن سامي أُعدم ، مع رفيقه حسين ، نهاية عام 1987 … فآهٍ .. ثم .. آه ..) (ص 21)
• الرجال الصناديد
وهناك جانب شديد الخطورة من الحياة في السجن السياسي ، خصوصا في سجن أبو غريب ، جانب تم التعتيم عليه بصورة غير مقصودة عادة ، من خلال الشكوى والبكائيات والتذمّر من قبل السجناء السياسيين الذين يُطلق سراحهم ، والذين يصوّرون لنا – نحن المستمعين في الخارج – أنّ لا شيء هناك سوى الخراب والإنهزام والإعدامات والركوع أمام ممثلي سلطة الموت . لم تكن تصل من هذا العالم سوى أخبار الموت والإندحار والجبن والهزيمة ، في حين أن هذا العالم المظلم الخانق يحفل بسلوكيات لا يقوم بها سوى الإنسان الأسطورة أو الإنسان الإنسان ، الذي يتصدّى لحمل المسؤولية التي عرضها الله على الجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ؛ هؤلاء الرجال الصناديد الذين يقفون في شدق الموت وهم يبتسمون ويداعبون أنيابه كما قلتُ سابقاً أو يحملون الموت من إبطيه وينظرون في عينيه كما يقول الشاعر جواد الحطّاب :
(لم أكن موجوداً في تلك المدة في قسم الإعدام، إلا أن الرفيق الشهيد البطل ثجيل جديع الشحماني (أبو شاكر) والرفيق طراد نصر الله والرفيق وداد، حدثوني بصورة تفصيلية عن تلك الأحداث وبدقة تامة، وهنا لابد أن أذكر بصفة خاصة رفاقنا ومنهم الرفيق ريحان خزعل (أبو لؤي) والرفاق خالد وسكران والآخرين وكانوا كلهم قمة في الشجاعة والبطولة، بل أنهم كانوا يواجهون الموت بكل رجولة ولم يفقد أي منهم اتزانه، وكانوا يتداولون الأحداث بموضوعية … وهنا أرى لزاماً عليّ أن أقف إجلالاً وتحية لهم ولذكراهم التي سوف لن تغيب عن البال … فلن أستطيع أن أنسى لحظة دخولي إلى قسم الإعدام، وكان بعضٌ منهم يعرفني، حيث هبّ هؤلاء الرفاق الأبطال لاستقبالي، وكان الشهيد البطل وداد يأبى أن أقوم بأي عمل فكان لي هذا الرفيق بمثابة الولد أو الأخ الصغير في ذلك المكان…
المجد والخلود لأبطال العراق الشجعان.) (ص 29).
وخذ هذه المشاهد والمواقف التي تسمو فوق كل بلاغة لغوية أو لعب بالمفردات قد نتشدّق بها . على سبيل المثال المشهد الذي يتحدث فيه ضرغام عن الكيفية التي يأتي بها الموت في أبو غريب ، والمقصود كيف يتم تنفيذ حكم الإعدام بالسجناء السياسيين المحكومين به :
(كان تنفيذ أحكام الإعدام للسياسيين يتم يومي الأحد والأربعاء، وكان النزلاء يتحايلون لمعرفة ما إذا كان هناك في ذلك اليوم تنفيذ أو لا ؟، بدفع مبالغ (لا أهمية للنقود إطلاقاً في زنزانات الإعدام، وهي مجرد ورق لا يمكن الحصول بها على أي شيء.. لأنه لا يوجد أي شيء) ، والمبالغ كانت تُعطى للعامل الذي كان يجلب الطعام ويوزّعه على الزنزانات، وهو نزيل من قسم الأحكام الطويلة (الأحكام الجنائية) الذي كان يقوم بتهيئة قاعة التنفيذ وهي تشتمل على ثمانية زنزانات وستة مشانق يفصل بين كل واحد منها جدار من السلك المشبك B R C ، ويتم تحضير القاعة والحبال منذ الصباح الباكر، وفي حوالي الساعة الثانية ظهراً يحضر المأمورون وبأيديهم القيود الحديدية، ويبدأون المناداة على الأسماء التي تم التصديق على أحكام إعدام أصحابها.
ويودع المغادرون زملاءهم وترتفع الأصوات بالدعاء وكلمات الوداع، وتقيد أياديهم ويغادرون القسم في موكب مؤلم، وإذا أقام المحكوم مدة طويلة هنا، فإن المنظر قد يصبح مألوفاً بعض الشيء، ويتناقل الناس أخبار رجال اقتيدوا من هنا إلى الموت، وكانوا في صورة رائعة من البطولة. فقد روى لي الأخ محمد الجبوري الذي أمضى خمس سنوات في قسم الإعدام ثم خفضت عقوبته إلى المؤبد، وكان قد شهد تنفيذ الإعدام بحوالي (500) فرد تقريباَ، أي بمعدل (100) فرد سنوياً بين الأعوام 1991 – 1995 ، وكان الأخ محمد قد تقاسم الزنزانة مع الرفيق البطل الشهيد محمد عبد الطائي، إلى لحظة المناداة للتنفيذ. وقال لي أنه لم يشهد رباطة جأش وشجاعة واستخفاف بالموت وبعبارات بليغة، كنت أطلب من الأخ محمد الجبوري أن يعيدها لي مراراً وتكراراً، ربما لعشرات المرات، وكم اشعر بالفخر والاعتزاز بهذا الرفيق والأخ والصديق، شعور بالفخر يغطي على مشاعر الحزن العميق. كان صديقاً لي منذ 1960 وقد عملنا معاً مرات عديدة في منظمات حزبية ، وقد بعث لي الشهيد محمد بتحياته من موقف المخابرات (الحاكمية) مع الأخ عبد العزيز الكبيسي الذي كان معه في زنزانة واحدة، وحـُكم عليه بالسـجن لمـدة (40) سنة) (ص 31).
أو هذا المشهد :
(كما روى لي أحد ضباط الدائرة الذين حضروا تنفيذ الإعدام بالمناضل “علي عليان” ، بأنه كان قمة من قمم البطولة والرجولة الفذة عندما واجه حبل المشنقة، رافضاً تعصيب عينيه، وقال مخاطباً الحاضرين من مكانه المرتفع (منصة الإعدام)، بأنه غير مكترث أبداً لما يحصل له، بل هو يأسف لأجلهم إذ ينفّذون بوعي أو بلا وعي أحكاماً بحق عراقيين مخلصين للوطن) (ص 31 و32).
• مشهد يُــقرأ بالدموع
أو هذا المشهد الذي لم استطع السيطرة على دموعي وأنا أقرأه بالرغم من أنني كنتُ “أتوقّعه” لأن الأخ د. باسم الياسري مدير دار ضفاف التي نشرت الكتاب حدّثني عنه ؛ عن هذا المشهد ، هاتفياً ، والعبرات تخنقه :
(وكان هناك شاب في العشرينات من عمره من أهالي البصرة، يُدعى فراس ! كان رائعاً نقياً صافيا كماء العين… وحينما أتذكره الآن أجد نفسي أكتب هذه السطور بصعوبة بالغة، فقد أحببته كثيراً، وكان يستحق هذه المحبة. ثم أن إسم فراس يداعب أوتار قلبي، وهو أسم إبني الكبير الذي يماثله سناً، كنت أحبّ أن أراه، وكأنني بذلك أسد نقص الحاجة إلى إبني… ولا يمكن أن يمضي اليوم من دون أن أراه مرة أو مرتين أو ثلاثة، أحييه وأناديه باسمه المحبّب : فرّوسي، تماماً كما كنت أنادي إبني فراس، وقد أدرك فراس محبتي له، وكان يجيبني، بلهجته الحبيبة : “ها يابه” . فأقول له : فراس هل تعرف أني أحبك، فيقول: ” نعم يابه “، يقولها بأدب وخجل، فأقول له : هل تعرف لماذا ؟. فيرد بخجل طفولي : “نعم يابه “لأن أبنك إسمه فراس، فأقول له : لا ليس من أجل ذلك فقط، فأنت أيضاً إبني!
يا إلهي ….. كان عليّ أن أشاهد فراس يأخذونه إلى الإعدام، ففي يوم من الأيام، ربما بعد سنة من الحكم عليه ووجوده معنا في قسم الأحكام الخاصة، نودي عليه : إعادة محاكمة ، وحُكم عليه بالإعدام، وجيء به إلى السجن ليأخذ فراشه وليمضي إلى قسم الإعدام، وهذا المنظر أقسى من أن يتحمله أبٌ يفقد أبنه. أخذوا “فرّوسي” ، وكان عليّ أن أشاهد هذا المنظر، لم أشأ الخروج من الغرفة، فقد سمعت اللغط، وعلمت أنه قد عاد من المحكمة وقد حُكم عليه بالإعدام، وهو الآن يأخذ فراشه ويودع أصدقاءه الذين تجمهروا حوله، كنتُ أُدرك أن هذا المنظر المؤلم إلى أقصى درجة سوف لن يفارق مخيلتي إلى الأبد، كنت أعلم أن هذا جرحٌ مؤلمٌ لا يشفى مطلقاً، وتجربة لا أقوى عليها. لكني بعد دقائق تخيلت فيها فراس الحبيب خارجاً وإنني سوف لن أراه بعد الآن، خرجت من غرفتي أسحب قدمي سحباً ، ورأيت فراس الحبيب في الطابق العلوي يودع أصدقاءه، وانهارت قواي، فأخذني أحد الأخوة (السيد عقيل) إلى غرفة مجاورة وأخذ يهوّن عني، وعندما خرجت من الغرفة كان فراس قد غادر القسم، خرجت إلى الممر، فشاهدته وقد وضعوا القيود في يديه، وهو يدخن سيكارة ، هتفتُ له، وأنا أحاول أن أتمالك نفسي : فرّوسي… أمانة عند الله . فنظر إليّ مبتسماً وقال: لا أقدر أن آتي إليك يابه (وهو يشير إلى قيوده)… في أمان الله…….!
وبطريقة نادرة لا يمكن أن تتكرر في السجن، أرسل لي وريقة رسالة، هي آخر اتصال وإّياه.. وها أنا أرفقها مصوّرة في ملحق هذا الكتاب… ولا أريد أن أثير أحزاني وأحزان أصدقائه… ولكنها وقفة محبة لفراس الذي لا يُنسى، هو وكل أصدقائنا وإخواننا وأحبائنا… لن ننساكم أبداً!) (ص 80 و81).
لا أدري كيف يضع البنيويون السخفاء العقل سجيناً للغة ، ويتطرف السيّد فوكو فيضع العقل اسيرا للمفردة ؟! . فوسط دموعي أشعر بأن أيّ كلمة إضافية سوف تأتي باهتة بل باردة وسخيفة .. بل مُهينة لهذا المدّ الهادر من العذاب والألم الإنسانيين ، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان ، فأقرّر أن أترك الكتاب بين أيديكم أيها السادة القرّاء .
رسالة العزيز فراس أو “فرّوسي” قبيل إعدامه :
هامش
_____
* (قمر أبو غريب …. كان حزيناً – وقائع سجن (أبو غريب) قسم الأحكام الخاصة 1987 – 2002) – الدكتور ضرغام الدباغ – دار ضفاف للطباعة والنشر – الشارقة/بغداد – الطبعة الأولى – 2014 .
حسين سرمك خسن: كتاب "قمر أبو غريب كان حزيناً" لضرغام الدبّاغ : العنقاء ليس طائراً خرافيّاً بل إنساناً ينبعث من رماد أبي غريب (ملف أدب السجون العراقي/12) - الناقد العراقي
(هذا هو جوهر القضية في الصراع بين السجين والسجّان، وقضبان السجن، وأنا كنت قد أقسمتُ أن لا تهزمني قضبان السجن أبداً … أبداً ….! فكنت أعمل منذ الصباح وحتى الظهيرة، ومن الظهيرة حتى العصر، ومن العصر حتى ساعات متأخرة من الليل، فكنتُ أقرأ وأكتب، وأقوم بتدريس النزلاء اللغة الألمانية، وقد صرفتُ في ذلك...